إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضلَّ له، ومن يضلل، فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]؛ أما بعد:
فيا أيها المسلمون، إن النفس الإنسانية بطبعها تميل إلى تحقيق مصلحتها وشهواتها، ولو كان في الوصول إلى ذلك مخالفة شرع ربها، والتعدي على حقِّ غيرها، إلا من عَصَمَهُ الله من ذلك بإيمانه وخوفه من ربه، أو أخلاق كريمة تستكِنُّ في نفسه.
ولأجل هذا الْمَيل الجائر؛ شَرَعَ الله تعالى الشهادةَ لإثبات الحقوق والاستيثاق للأملاك، وصلاح العقود، واستحقاق العقوبات؛ حتى لا تتعرض تلك الأمورُ للجُحُود والخِصام، والفساد والبطلان، وحتى لا يُظلَم إنسان بعقوبة لا يستحقها، ولا يترك الحبل على الغارب لعادٍ، فيتعدَّى حدود الله تعالى.
فجاءت الشهادة للحفاظ على الدماء والأموال، والأعراض والأنساب، وجاءت لإنصاف المظلومين، وردع الظالمين، وإرساء دعائم العدل والأمن، وقَطْعِ دابرِ النِّزاع.
ومن تتبَّع أبواب الفقه الإسلامي، وجد الشهادة حاضرةً في عدد من أبوابه؛ كإثبات شهر رمضان وانقضائه، وفي المعاملات المالية؛ من بيع وشراء، ووديعة وإجارة، ومضاربة وقرض، وإثبات ملك أو حق، ووصية، وغير ذلك، ويجدها الإنسان كذلك في أحكام الأسرة؛ من عقد نكاح، ورجعة، وطلاق، وخلع، ونسب، وعيوب النساء المستورة، وفي الولادة والرضاع، واستهلال المولود، ونحو ذلك، ويجد الشهادة أيضًا في أبواب الحدود والجنايات؛ كحدِّ القتل والسرقة، والزنا والخمر والجروح، وغيرها.
وهذه الأبواب منها ما تكون الشهادة واجبة فيه، ومنها ما تكون مستحبة، وفيها كذلك ما تُقْبَل فيه شهادة الشاهد، ومنها ما يُشترَط فيه شاهدان، ومنها ما يُشترَط فيه أربعة شهود من الرجال.
ومنها ما يُقبَل فيه شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين؛ كالأمور المالية.
ومنها ما يُقبَل فيه شاهدان من الرجال، ولا تُقبَل فيه شهادة النساء؛ كالنكاح والطلاق والرجعة، والظهار والنسب، ونحو ذلك.
ومنها ما تُقبَل فيه شهادة النساء فقط؛ كالثيوبة والبكارة، والولادة والرضاع، واستهلال المولود، ونحو ذلك، وتكفي فيه شهادة امرأة واحدة عدل، كما قال أهل العلم.
يقول الله تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2]، ويقول: ﴿ لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ﴾ [النور: 13]، ويقول: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 4، 5].
ويقول: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282]، ويقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ﴾ [المائدة: 106].
وفي الصحيحين عن الأشعث بن قيس رضي الله عنه قال: ((كان بيني وبين رجل خصومة في شيء، فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: شاهداك أو يمينه، فقلت له: إنه إذًا يحلِف ولا يبالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من حَلَفَ على يمين يستحق بها مالًا، وهو فيها فاجر، لقِيَ الله عز وجل وهو عليه غضبانُ)).
أيها المؤمنون، إن الشهادة أمرها عظيم، وأثرها كبير؛ فلذلك شُرِعت لتحقيق المصالح الدينية والدنيوية المشروعة.
وحتى تُحقِّقَ تلك الغايات النافعة، فإنه يُشترَط في القائمين بالشهادة شروط؛ منها:
أن يكون الشاهد من أهل العدل بأن يكون مستقيمَ الظاهر على دين الإسلام، لم يُعرَف عنه القيام بأسباب الفسق والإصرار عليها.
قال تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2]، وقال سبحانه: ﴿ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ ﴾ [البقرة: 282].
فمن كان خائنًا، لا يكُن أهلًا للشهادة، وهذه الخيانة تشمل الكبائر عمومًا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجوز شهادةُ خائن ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غِمْرٍ على أخيه))[2].
قال أبو عبيد رحمه الله: "لا نراه خصَّ به الخيانة في أمانات الناس، دون ما فرض الله على عباده وائتمنهم عليه؛ فإنه قد سمَّى ذلك كله أمانة؛ فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27]، فمن ضيَّع شيئًا مما أمر الله، أو ركِب شيئًا مما نهاه الله عنه، فليس بعدل؛ لأنه قد لزمه اسم الخيانة"[3].
عن عمران بن حصين رضي الله عنهما، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يُؤتَمنون، وينذرون ولا يُوفُّون، ويظهر فيهم السَّمْنُ))[4].
قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: "وفيه بيان من تُرَدُّ شهادتهم، وهم من اتصف بالصفات المذكورة"[5].
فمن خان في شهادته، أو خُشِيَت خيانته، فليس أهلًا للشهادة، بل يُستبدل به غيره؛ قال تعالى: ﴿ فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ﴾ [المائدة: 107، 108].
ومن شروط الشاهد: ألَّا يميلَ في شهادته عن الحق؛ فلا يشهد بالباطل لأحد؛ لقرابته، أو صداقته، أو رابطة به، أو لغِناه، أو للخوف منه، أو للرحمة به لفقره أو ضعفه، ولا يشهد على أحد بالكذب لعداوته أو بغضه له.
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 135].
وقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8].
عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رد شهادة الخائن، والخائنة، وذي الغِمْرِ على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت، وأجازها على غيرهم))[6].
وذو الغِمْرِ: صاحب العداوة والشحناء، والقانع: الأجير الخاص لأهل البيت والموظف لديهم؛ لاحتمال التهمة.
ومن شروط الشاهد: ألَّا يكون أصلًا ولا فرعًا أو زوجًا للمشهود له؛ لوجود الميل في الفطرة لمنفعة هؤلاء، فلا يصح أن يشهد الأب لابنه، ولا الابن لأبيه، ولا الزوج لزوجته، ولا الزوجة لزوجها.
ومن شروط الشاهد: أن يكون ضابطًا لشهادته، متحققًا فيما يشهد فيه تحقُّقًا تامًّا، فلا يشهد إلا عن يقين بلا شك ولا ظنٍّ، فما كان مستنده الرؤية فلْيَشْهَدْ فيه، وما كان مستنده السماع فليشهد إن سمِع؛ قال الله: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ [الإسراء: 36]، وقال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزخرف: 86].
ومن شروط الشاهد: أن تكون شهادته في أمر مباح شرعًا، فلا يشهد شهادة لإتمام عقد أو سند أو صفقة محرَّمة، أو تُعِين على مُحرَّم وهو يعلم ذلك، ولا يشهد شهادة فيها أمرٌ محرم أو ظلم وهو يدري بذلك؛ فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: ((سألت أمي أبي بعضَ الموهبة لي من ماله، ثم بدا له فوهبها لي، فقالت: لا أرضى حتى تُشهِدَ النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ بيدي وأنا غلام، فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إن أمَّه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا، قال: ألك ولد سواه؟ قال: نعم، قال: فأراه، قال: لا تُشْهِدني على جَورٍ))[7].
ومن شروط الشاهد كذلك: أن تكون شهادته ابتغاء وجه الله، لا لرغبة ولا لرهبة؛ فإن الشهادة عمل صالح فلا يُباع بعَرَضٍ من الدنيا؛ قال تعالى: ﴿ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [الطلاق: 2].
فاتقوا الله - عباد الله - في شهادتكم؛ فأقيموها على هذه الشروط، وعلى القضاة والمحكِّمين أن يتحرَّوا في أحوال الشهود؛ فقد رُوِيَ عن عمر، أنه أُتِيَ بشاهدين، فقال لهما عمر: لستُ أعرفكما، ولا يضركما إن لم أعرفكما، جِيئا بمن يعرفكما، فأتيا برجل، فقال له عمر: تعرفهما؟ فقال: نعم، فقال عمر: صحِبتَهما في السفر الذي تَبِين فيه جواهر الناس؟ قال: لا، قال: عاملتهما في الدنانير والدراهم التي تُقطَع فيها الرحم؟ قال: لا، قال: كنت جارًا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا، قال: يا بن أخي، لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما"[8].
أيها الأحبة الفضلاء، إن الشهادة بالحق من المعروف، ومن حق المسلم على أخيه المسلم؛ إذ بها قد يصل إلى حقه، أو يدفع عن نفسه أو ماله ظلمُ ظالمٍ؛ لذلك لا يحِلُّ كتمانُ أدائها ممن تحمَّلها، بل يُستحَب تحمُّلها في الحق، وقد جاء النهي عن كتمان الحق؛ فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 42]، والشهادة من الحق الذي نُهِيَ الإنسان عن كتمه.
وجاء الوعيد في حقِّ مَن كتم الشهادة؛ فقال سبحانه: ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 283]، وقال جل وعلا: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 140].
قال ابن عباس وغيره: "شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك؛ ولهذا قال: ﴿ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ [البقرة: 283]"[9].
فعليك – أيها المسلم - أن تبادر إلى أداء الشهادة الصادقة بشروطها الماضية، ولو أدَّيتَ شهادتك قبل أن تُسْأَلَها، فإن ذلك من علامات الخيرية في الشاهد؛ فعن زيد بن خالد الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ألا أخبركم بخير الشهداء؛ الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسأَلها))[10].
وهذا الحديث "محمول على من عنده شهادة لإنسان بحقٍّ، ولا يعلم ذلك الإنسان أنه شاهد، فيأتي إليه فيخبره بأنه شاهد له"[11].
واعلموا - رحمكم الله - أن أداء الشهادة على وجهها من أعمال الإيمان الموصِّلة إلى الجنة؛ قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ [المعارج: 33 - 35].
فالحذرَ الحذرَ من كتمان الشهادة المشروعة مع القدرة على أدائها؛ وتأملوا حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يمنعَن أحدَكم هيبةُ الناس أن يقول في حقٍّ إذا رآه، أو شهِده، أو سمِعه))[12].
نسأل الله أن يجعلنا المؤمنين الصادقين في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
أيها المسلمون، إن من الذنوب الكبار، والمصائب العِظام التي تساهل في اقترافها بعضُ المسلمين عن جهل بحكمها وأخطارها، أو عن رغبة في مصلحة دنيوية منها - ذنبَ شهادة الزور؛ وهي الشهادة الكاذبة لأحد أو عليه، بداعٍ من العطف والرحمة، أو حامل من الرغبة أو الرهبة أو العداوة.
وإذا أردتم أن تعرفوا عِظَمَ هذه الخطيئة؛ فاسمعوا هذا الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ فقلنا: بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس، فقال: ألَا وقول الزور، وشهادة الزور، ألا وقول الزور، وشهادة الزور، قال: فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكررها حتى قلنا: ليته سكت[13]))[14].
أرأيتم كيف كرَّرها رسول الله، وغيَّر هيئة جِلسته عند الحديث عنها؛ اهتمامًا بها، وتعظيمًا لشأنها؟
وروى الطبراني في معجمه الكبير بإسناد حسن، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((عَدلَتْ شهادةُ الزور الشركَ بالله؛ وقرأ: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ [الحج: 30]".
ولا تظنوا - معشر المسلمين - أن شهادة الزور لا تكون إلا قولًا ملفوظًا فحسب، ليس الأمر كذلك، بل قد تكون أيضًا إشارة بالموافقة بأُصبُع الإبهام، أو توقيعًا في أسفل ورقة كُتبت ظلمًا على شخص أو أشخاص، وكان الموقِّعون شاهدين على ذلك عن علمٍ.
ولا تظنوا أيضًا أن شهادة الزور مقصورة على الشهادة في المحاكم وأقسام الشرطة وإدارات الضبط، ليس الأمر كذلك، بل شهادة الزور هناك، وشهادة الزور قد تكون في كذلك الإدارات والشركات والوظائف بصلاح شخص للتوظيف وهو غير صالح، أو جودة عمل موظف أو مواظبته وليس كذلك، أو الكذب بأمور تضمن له البقاء في الوظيفة، أو الحصول على الترقية فيها، وليس أهلًا لذلك، وقد تكون شهادة الزور على موظف مُتقِن أمين بخلاف ذلك عداوة وظلمًا؛ حتى يحصل عليه ضرر.
وشهادة الزور قد تكون في البيوت والأُسَرِ عند حدوث مشكلات عائلية، فيشهد شاهد زورٍ على زوجٍ، أو على زوجة، أو يشهد قريبٌ بالباطل على قريبه عند الخصومة.
وشهادة الزور قد تكون بين الجيران في خصوماتهم ومشكلات أولادهم، فيشهد جار على جاره، أو جارة على جارتها، أو على الأولاد أنهم قالوا كذا، أو فعلوا كذا، وهم لم يكن منهم ذلك.
وشهادة الزور قد تكون في الأسواق بالشهادة الكاذبة بجودة سلعة؛ إغراءً لمشترٍ، ونفعًا للبائع، وقد تكون بالتحذير من رداءة السلعة وهي ليست كذلك؛ انتقامًا من البائع، أو ترغيبًا للمشتري بالشراء من الكاذب، أو تفويتًا للسلعة الجيدة عليه.
وشهادة الزور قد تكون في تزكية مكتوبة أو ملفوظة، في شفاعة لطالب في دراسة، أو لطالب وظيفة من غير معرَّفة له، أو من دون صلاحيته لتلك الجهة.
وشهادة الزور قد تكون شهادة تخرُّج من مدرسة أو جامعة، أو معهد أو مركز تدريب، نالها شخص عن غير استحقاق، وإنما حصل عليها بشراء أو وساطة، أو حيلة أو غش إداري.
فاتقوا الله - عباد الله - في شهاداتكم للناس أو عليهم، فتحمَّلوها بحقٍّ، وأدُّوها بصدق، وإياكم وشهادة الزور، حتى لو كان الموضوع تافهًا أو يسيرًا، فاليسير طريق إلى الكبير.
فبشهادة الزور فساد الدين والدنيا؛ فبها الوزر الكبير، وعصيان الرب القدير.
وبشهادة الزور قد يُعان الظالم، ويُهضم حق المظلوم، وتذهب الحقوق إلى غير أصحابها، وبشهادة الزور تفسُد العلاقات، وتُقطَع الصِّلات، وتذهب الأمانة والإتقان، ويحصل الغش والخَلَلُ وغلط الأحكام لدى القضاة.
وبشهادة الزور قد تُقتَل نفوس ظلمًا، أو تُحَدُّ الحدَّ الشرعيَّ جَورًا.
فيا أيها الناس، اعلموا أهمية الشهادة وعِظَمَها، وشروطَ تحمُّلها وأدائها، وإياكم وكتمانها في الحق، واحذروا - رحمكم الله - شهادة الزور؛ فإنها سيئة العاقبة على الدين والدنيا، وبوابة لكثير من الأضرار على المستويين: الخاص والعام.
نسأل الله تعالى أن يصلح قلوبنا، ويسدد ألسنتنا، ويعمر بالخير جوارحنا.
هذا، وصلوا وسلموا على خير البرية...
[1] أُلقِيَتْ في مسجد الشوكاني في: 26 /12 /1444هـ، 14 /7 /2023م.
[2] رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، وهو حسن.
[3] معالم السنن (4/ 168).
[4] معالم السنن (4/ 168).
[5] فتح الباري (7/7).
[6] رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني بإسناد حسن.
[7] متفق عليه.
[8] المغني لابن قدامة (10/ 57).
[9] تفسير ابن كثير (1/ 415).
[10] رواه مسلم.
[11] شـرح النووي على مسلم (11 – 12/243).
[12] رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وهو صحيح.
[13] قال النووي: "فَجُلُوسُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِاهْتِمَامِهِ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ يُفِيدُ تَأْكِيدَ تَحْرِيمِهِ، وَعِظَمَ قُبْحِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَيْتَهُ سَكَتَ، فَإِنَّمَا قَالُوهُ وَتَمَنَّوْهُ شَفَقَةً عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَرَاهَةً لِمَا يُزْعِجُهُ وَيُغْضِبُهُ"؛ [شرح النووي على مسلم (2/ 88)].
[14] متفق عليه.
عبدالله بن عبده نعمان العواضي
شبكة الالوكة