لجواب عن شبهات المعطلة اهل البدع الذين يستعملون الالفاظ المجملة
الجواب عن هذه الشبهات:
لأئمة السنة عن شبهاتهم جوابان: إجمالي، وتفصيلي:
أما الجواب الإجمالي:
فهو أن هذه الألفاظ المجملة المتشابهة المحدثة الفلسفية الكلامية لا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً قبل أن يعلم مراد قائلها.
بل لابد أن يستفسر قائلها؛ فإن أراد معنًى حقاً موافقاً للكتاب والسنة - قيل قوله وإلا يرد قوله، وينبذ نبذ النواة.
قال شيخ الإسلام (728هـ) والإمام ابن القيم (751هـ) وابن أبي العز الحنفي (792هـ) ونعمان الآلوسي الحنفي (1317هـ) واللفظ للثالث:
"للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال:
فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف... لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية.
فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي.
ولهذا كانت النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً... وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف...
وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً وإنما نحن متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات فما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفيناه... وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها.
فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب به ونحو ذلك" (7) .
وقال ابن أبي العز أيضاً بعد ما أكد أن يجعل الكتاب والسنة أصلاً ودليلاً وبرهاناً:
"ويجعل أقوال الناس التي توافقه أو تخالفه متشابهة مجملة، فيقال: لأصحابها هذه الألفاظ يحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد، وهذا مثل لفظ المركب والجسم، والحيز، والجوهر والجهة، والحيز، والعرض، ونحو ذلك... وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل".
ثم ذكر رحمه الله أننا لا نوافق هؤلاء على هذه التسميات ولا كرامة فإن سموا إثبات الصفات تركيباً مثلا، فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ سموه ما شئتم، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً لم يحرم بهذه التسمية (8) .
قلت: بناء على ذلك نقول: للماتريدية سموا صفات الله تعالى من العلو والنزول والاستواء والوجه واليد، والقدم، والغضب، والرضا، والمحبة، والكراهية، ما شئتم فلا يجوز إبطال صفات الله تعالى بالتسميات المبتدعة والألقاب الشنيعة المدهشة من الحد، والحيز، والجهة، والمكان، والأفول، وحلول الأعراض، والتشبيه، والتجسيم ونحوها؛ فالعبرة للمعاني لا للمباني.
وأما الجواب التفصيلي فهو ما يلي:
1- "الحد".
إننا قد بينا قاعدة مهمة من قواعد السلف في باب الصفات حول الألفاظ المجملة المتشابهة الكلامية آنفاً في الجواب الإجمالي.
فنقول: في ضوء القاعدة:- إن لفظ "الحد" يطلق على معنيين:
الأول: بمعنى الإحاطة بالله علماً فلا شك أن "الحد" بهذا المعنى منفي عن الله تعالى فلا منازعة بين أهل السنة، لأن الله تعالى غير مدرك بالإحاطة، وقد عجز الخلق عن الإحاطة به، وعلى هذا يحمل قول من نفى "الحد" من السلف.
والثاني: بمعنى أن الله تعالى متميز عن خلقه منفصل عنهم مبائن لهم عال عليهم غير مخلوط بهم ولا حال فيهم فهذا المعنى حق فـ"الحد" بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر، فإنه ليس وراء نفيه إلا وجود الرب، ونفي حقيقته وعلى هذا يحمل قول من أثبت " الحد" لله تعالى من السلف (9) .
لذا نرى كثيراً من السلف كسفيان الثوري وشعبه وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وشريك وأبو عوانه وأبو داود الطيالسي والطحاوي (10) ، وغيرهم نفوا "الحد".
وفي رواية عن الإمام أحمد أيضاً (11) .
وبجانب ذلك نرى كثيراً من السلف يثبتون "الحد" لله تعالى.
كعبد الله بن المبارك (12) - وهو حنفي عند الحنفية - ورواية عن الإمام أحمد (13) .
والإمام عثمان الدارمي (14) وغيرهم.
فالذين نفوا "الحد" قصدوا المعنى الأول، وهو الباطل الذي يجب نفيه عن الله تعالى، والذين أثبتوا "الحد" قصدوا المعنى الثاني وهو الحق الذي يجب الإيمان به وهو "العلو" (15) .
ولكن الطامة الكبرى أن طوائف المعطلة أدخلوا في معنى "الحد" حقاً وباطلاً فنفوها جميعاً فنفوا ضمن نفيهم "للحد" فوقية الله تعالى على عباده وعلوه على عرشه (16) .
قال الإمام الذهبي (748هـ):
وقد سئل أبو القاسم التيمي رحمه الله: هل يجوز أن يقال: لله حدٌّ أو لا؟
وهل جرى هذا الخلاف في السلف؟ فأجاب: هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها، وقلة وقوفي على غرض السائل منها؛ لكني أشير إلى بعض ما بلغني، تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة، محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره، فإن كان غرض القائل: ليس لله حد: لا يحيط علم الحقائق به، فهو مصيب، وإن كان غرضه بذلك: لا يحبط علمه تعالى بنفسه فهو ضال، أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضاً ضال" (17) .
وعلق عليه الذهبي قائلاً:
"قلت: الصواب الكف عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفاً من أن يدخل القلب شيء من البدعة اللهم احفظ علينا إيماننا" (18) .
2- "الجهة":
هذه اللفظة أيضاً من الألفاظ المبتدعة الكلامية المتشابهة المجملة التي يجب التفصيل فيها، حتى يتميز الحق من الباطل، فيقبل الحق ويرد الباطل، وقبل التفصيل لا يحكم عليها نفياً ولا إثباتاً لئلا ينفى الحق ضمن النفي العام، لأن أهل البدع من طوائف المعطلة ينفون "الجهة" ويريدون بذلك نفي "علو الله تعالى" على عرشه، وفوقيته على خلقه (19) .
وإذا فصلنا في معنى الجهة، علمنا أن "الجهة" تطلق على معنيين: حقٍ، وباطلٍ.
فنظراً إلى المعنى الباطل يجب نفي الجهة عن الله تعالى، ونظراً إلى المعنى الحق يجب إثباته لله تعالى.
قال شيخ الإسلام، والإمام ابن أبي العز، والعلامة محمود الآلوسي، وابنه نعمان، وحفيده شكري، وكلهم حنفية غير الأول، واللفظ له:
"فلفظ "الجهة" قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما أريد بالجهة ما فوق العالم.
ومعلوم أنه ليس في نص إثبات لفظ "الجهة" ولا نفيه.
كما فيه إثبات "العلو" و"الاستواء" و"الفوقية" و"العروج إليه" ونحو ذلك...، وقد علم أنه ما تم موجود إلا الخالق، والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق - سبحانه وتعالى ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى "الجهة": أتريد بالجهة أن شيء موجود مخلوق؟.
فالله ليس داخلاً في المخلوقات.
أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟.
فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟.
فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل" (20) .
قلت: لفظ "الجهة" بالمعنى الصحيح، أعني بمعنى "العلو" لله تعالى على خلقه، هو مقتضى الكتب السماوية والأحاديث النبوية، وعلى ذلك العقل الصريح والفطرة السليمة ولذلك يوجد في كلام أئمة السنة، لفظة "الجهة" بهذا المعنى، ولا غبار عليها، ومع ذلك الأفضل التقيد بالألفاظ المأثورة.
وإثبات "الجهة" لله تعالى بهذا المعنى مما اعترف به كثير من كبار المتفلسفة، والمتكلمة.
1-3- القاضي عياض (544هـ) والإمام النواوي (676هـ) والزبيدي الحنفي (1205هـ):
فقد صرحوا بأن المحدثين والفقهاء والمتكلمين بإثبات "جهة" الفوق وأن معنى في السماء عندهم "على السماء" وأما دهماء المتكلمين فينفون الجهة (21) .
4- وقال أبو الوليد محمد بن أحمد المعروف بابن "رشد" الحفيد المتفلسف (595هـ):
"القول بالجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية... وظواهر الشرع كلها تقتضى إثبات الجهة".
ثم ذكر عدة أدلة على ذلك كما ضرب مثالاً مهما للمؤولين المحرفين (22) .
5- وقال القرطبي المفسر (671هـ) بعد ما ذكر مذهب المتكلمين النفاة لعلو الله تعالى:
"وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي "الجهة" ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة... وإما جهلوا كيفية الاستواء".
ثم ذكر مقالة الإمام مالك المشهورة في الاستواء ثم قال: "وهذا القدر كاف...، والاستواء في كلام الرب: هو العلو والارتفاع23) .
6- وقال القرطبي أيضاً "وأظهر الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، وقاله الفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات" (24) .
قلت: بعد هذا كله تبين بلا ريب للمسلمين طالبي الحق والإنصاف أن الكوثري كذاب بهات أفاك فيما يفتري على الله ورسوله وأئمة الإسلام وغيرهم حيث يقول متحدياً:
"ولم يقع ذكر الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله وصفاته من الفرق سوى أقحاح المجسمة، وأتحدى من يدعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح فلن يجد إلى ذلك سبيلاً فضلاً عن أن يتمكن من إسناده إلى الجمهور بأسانيد صحيحة..." (25) .
ويقرر الكوثري قول السبكي ويسكت عليه بعد ما ذكر قول الإمام ابن القيم "إن الله فوق سماواته... نقول ما قاله ربنا".
فقال السبكي وأقره الكوثري: "أين قال: ربنا أنه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته؟ فقد نسبت إلى قول الله ما لم يقله" (26) .
قلت: عار وشنار على الكوثري وبعض الديوبندية حيث يبالغون في الثناء على هذا الخائن الظنين الذي غالب كلامه ثرثرة وكذب وطنين، ثم يصفونه بالتثبت والاحتياط والأمانة وأنه لا فلة فيه دراية ورواية وأنه لا لجواده كبوة ولا لصارمه نبوة.
مع أن نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف هذه الأمة وأئمة السنة بل نصوص كثير من أئمة الكلام صريحة في "الفوقية".
3- "الحَيِزّ":
وكذلك لفظة "الحيز" فالقول فيها كالقول في أخواتها من ألفاظهم الكلامية المجملة المدهشة التي يردون بها الحق أيضا ضمن ردهم للباطل.
قال شيخ الإسلام: "وكذلك لفظ "المتحيز" إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل وسع كرسيه السموات والأرض..، وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها، منفصل عنها ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة، فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه" (27) .
4- "المكان":
وهكذا لفظ "المكان" لا ننفيه ولا نثبته حسب قاعدة السلف المذكورة بل نفصل فيه ونستفسر قائله فنقبل المعنى الحق ونرد المعنى الباطل، ولا نفعل كما يفعل طوائف المعطلة من نفيهم علو الله تعالى على خلقه ضمن نفيهم للمكان عن الله تعالى.
قال شيخ الإسلام: "... ومنهم من لا يفهم قول الجهمية بل يفهم من النفي معنى صحيحاً... مثل أن يفهم من قولهم: "ليس في جهة" ولا له "مكان" ولا هو "في السماء".
أنه ليس في جوف السماوات - وهذا معنى صحيح وإيمانه بذلك حق - ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك، وليس كذلك بل مرادهم، أنه ما فوق العرش شيء أصلاً ولا فوق السماوات إلا عدم محض، وليس هناك إله يعبد، ولا رب يدعى ويسأل، ولا خالق خلق الخلائق، ولا عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه أصلاً هذا مقصودهم" (28) .
وقال العلامة نعمان الألوسي الحنفي: "وأما القائل الذي يقول: إن الله لا ينحصر في مكان إن أراد به أن الله لا ينحصر في جوف المخلوقات، وأنه لا يحتاج إلى شيء منها فقد أصاب، وإن أراد أن الله تعالى ليس فوق السماوات، ولا هو مستو على العرش استواء لائقاً بذاته وليس هناك إله يعبد، "ومحمد صلى الله عليه وسلم" لم يعرج إلى ربه تعالى، فهذا جهمي فرعوني معطل".
ثم ذكر قاعدة السلف في الألفاظ المجملة (29) .
فلا يلزم من ذلك تشبيه يخالف التنزيه.
ولا يلزم الحد والجهة، والحيز والمكان بالمعاني التي يقصدها هؤلاء المعطلة ولا يلزم كون الله محدوداً متبعضاً متجزياً متناهياً جوهراً وجسماً.
ولا يلزم كون الله محلاً للحوادث ولا لزوم الانتقال ولا التجزي ولا الانقسام.
كما لا يلزم أن يكون كل واحد من الحد والجهة، والحيز، والمكان، قديماً مع الله تعالى لأن الحيز والمكان عند هؤلاء المتكلمين يعد موهوم لا شيء محض كما تقدم.
فلا يلزم تعدد القدماء، وقد تقدم أيضاً أن المراد من الجهة ما فوق العالم غير الله تعالى، وما فوق العالم غير الله تعالى هو أمر معدوم؛ لأن الموجود إما خالق، وإما مخلوق وفوق المخلوق ليس إلا الخالق، فلا يتصور كون الخالص في شيء موجود، إذاً لا يتصور كون موجود قديماً مع الله تعالى، فلا يلزم قدم الحد والجهة والحيز والمكان بالمعنى الذي يريد الماتريدية.
قال شيخ الإسلام: "فقوله: يلزم قدم الجهة أو الانتقال، إنما يصح لو قيل: إنه موجود في سواه، وإما إذا أريد بذلك أنه فوق العالم، أو وراء العالم، وليس هناك غيره، وليس هناك شيء موجود آخر، حتى يقال: إنه قديم.
وأما العدم فإن قيل: إنه قديم بهذا التفسير، فهو كعدم سائر المخلوقات، وقدم العدم بهذا التفسير ليس بممتنع..." (31) .
قلت: ما ذكرنا في هذه المباحث في هذا الفصل من إقامة الحجج الباهرة والبراهين القاهرة على علو الله تعالى على خلقه - من صحيح المنقول وصريح المعقول والإجماع المحقق والفطرة السليمة لنسف شبهات الماتريدية وبيان أنهم خالفوا النقل والعقل والإجماع والفطرة في آن واحد، وأنهم ليسوا من أهل السنة بل هم من الفرق الجهمية - فيه كفاية لطلاب الحق والإنصاف،، والله حسب عصبة التعصب والاعتساف،،
فإنهم لا يدفعون حماقتهم بالندامة،، ولو أطلبت لهم الملامة،،
فهم كما قيل:
وشيخ عن الحمق لا ينتهي أطلتَ له اللومَ أم لم تطل
موقع الدرر
قال الشيخ في تعليقه على مصرع التصوف البقاعي
في التصريح بنفي الاتصال والانفصال معا في آن واحد، وعن ذات واحدة خلل منطقي. فهما يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فيلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر. وفيهما أيضا إجمال واشتباه، فقد يعني بالانفصال أنه سبحانه بائن من خلقه مستو على عرشه، ليس كمثله شيء. وهذا حق يؤمن به من أسلم قلبه لله، ووحده توحيدا صادقا في ربوبيته وآمن بأسمائه وصفاته كما هي في القرآن والسنة.
وقد يعني بالانفصال أنه سبحانه لا يتصل بالعالم صلة خلق أو تدبير، أو علم منه سبحانه، أعني نفي كونه خالقا عليما يدبر الأمر, أو أنه سبحانه ليس لإرادته، أو قدرته أثر في مقادير الوجود، وغير ذلك مما يدين به الفلاسفة، ومرادهم منه =
(1/30)
قلت: فكيف بمن يصرح بأنه 1 عين كل شيء؟ قال: "والرضى بالكفر كفر". قلت: فكيف بمن يصوب كل كفر، وينسب ذلك التصويب إلى نقل الله تعالى له عن نبيه هود عليه السلام؟
ويقول: إن الضلال أهدى من الهدى؛ لأن الضال حائر، والحائر دائر
__________
= نفى الخالق القادر المريد المختار. وهذا كف ر يجحد بالربوبية والإلهية.
وكذلك الاتصال: فقد يراد به أن سبحانه يدبر الكون، ويصرف الليل والنهار، ويسخر الشمس والقمر، ويحيط علمه بكل شيء كليا كان أو جزئيا، وتشمل قدرته كل شيء، وغير هذا مما يشهد بكمال الربوبية. وهذا حق لا يتم الإيمان إلا به. وقد يعني به مفهومه الصوفي، أي: إنه سبحانه حال في كل شيء، أو متحد بكل شيء، أو إنه عين كل شيء، أو إنه هو الوجود الساري في كل موجود، ومن يدين بهذا فهو زنديق، أو مجوسي، أو بتعبير أدق: صوفي. فالصوفية مرادفة لكل ما يناقض الإيمان الحق، والتوحيد الحق. لذا يجب على كل من يخبر عن الله أو صفاته أو أسمائه أن يلتزم حدود ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر الرسول به عن ربه. وإلا تزندق، أو تمجس كالصوفية، وألحد كالفلاسفة، وضل كالمتكلمين, ألم تر إلينا نحن البشر كيف نعيب فلانا بأنه لم يكن دقيق التعبير عن المذهب الفلسفي أو الأخلاقي، أو الفنى لفلان، أولم يكن مهذبا فيما تحدث به عن فلان، أوخاطب به فلانا، بل قد نذهب في مذمته كل مذهب، حتى نتهمه بالعي والفهاهة والسفه، فكيف -ولله المثل الأعلى- نطلق للقلم العنان فيما يكتب عن الله، مما يصوره له الأفن والوهم عن ذات الله وصفاته؟ وكيف نستبيح -سادرين- الإخبار عن الله سبحانه بما لا يجب، وما لا يرضي، وما لم يخبر به عن نفسه. ونصف هذه الجرأة الكافرة بأنها حرية فكرية أو تجاوب مع العقل، أو استيحاء من الذوق!! ولقد كان من نتائج هذه الحرية المزعومة -والحق أنها عبودية للوهم وللشيطان- أن آمن بعض الناس برب لا يوصف إلا بالسلب، أي: بالعدم نعتوه ربا. أو برب هو عين العبد. أو بإله يجب أن يعبد في كل شي؛ لأنه عين كل شي، فلتمجد العبودية ربوبية الله، بما يحب سبحانه وحده أن تمجد به.
أنا أبو جعفر محمد بن عثمان بن محمد بن أبي شيبة قال:
ذكروا أن الجهمية يقولون أن ليس بين الله عز وجل وبين خلقه حجاب وأنكروا العرش وأن يكون هو فوقه وفوق السماوات وقالوا إن الله في كل مكان وأنه لا يتخلص من خلقه ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم فلا يبقى من خلقه شئ وهو مع الآخر فالآخر من خلقه ممتزج به فإذا أفنى خلقه تخلص منهم وتخلصوا منه تبارك الله وتعالى عما يقولون علوا كبيراً، ومن قال بهذه المقالة فإلى التعطيل يرجع قولهم وقد علم العالمون أن الله قبل أن يخلق خلقه قد كان متخلصا من خلقه بائنا منهم فكيف دخل فيهم تبارك وتعالى أن يوصف بهذه الصفة بل هو فوق العرش كما قال، محيط بالعرش متخلص من خلقه بين منهم علمه في خلقه لا يخرجون من علمه.
وقد أخبرنا الله عز وجل أن العرش كان قبل أن يخلق السماوات والأرض على الماء وأخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش فقال جل وعز {وكان عرشه على الماء} [هود 7] وقال {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت 11] ثم قال جل وعز {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم} [المجادلة 7] وقال {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم} [الحديد 4] ففسر العلماء قوله "وهو معكم" يعني علمه وقال عز وجل {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] فالله تعالى استوى على العرش يرى كل شئ في السماوات والأرضين ويعلم ويسمع كل ذلك بعينه وهو فوق العرش لا الحجب التي احتجب بها من خلقه يحجبه من أن يرى ويسمع ما في الأرض السفلى ولكنه خلق الحجب وخلق العرش كما خلق الخلق لما شاء وكيف شاء وما يجمله إلا عظمته فقال {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة 5] وقال جل وعز {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر 10] وقال جل وعز {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [ آل عمران 55 ] وقال {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء 158].
وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم في الأرض ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسماوات فصار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا منهم علمه في خلقه لا يخرجون من علمه
الجواب عن هذه الشبهات:
لأئمة السنة عن شبهاتهم جوابان: إجمالي، وتفصيلي:
أما الجواب الإجمالي:
فهو أن هذه الألفاظ المجملة المتشابهة المحدثة الفلسفية الكلامية لا تقبل مطلقاً ولا ترد مطلقاً قبل أن يعلم مراد قائلها.
بل لابد أن يستفسر قائلها؛ فإن أراد معنًى حقاً موافقاً للكتاب والسنة - قيل قوله وإلا يرد قوله، وينبذ نبذ النواة.
قال شيخ الإسلام (728هـ) والإمام ابن القيم (751هـ) وابن أبي العز الحنفي (792هـ) ونعمان الآلوسي الحنفي (1317هـ) واللفظ للثالث:
"للناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال:
فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف... لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام كغيرها من الألفاظ الاصطلاحية.
فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي.
ولهذا كانت النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً... وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلاً مخالفاً لقول السلف...
وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصف به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً وإنما نحن متبعون لا مبتدعون، فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات فما أثبته الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نفيناه... وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا إثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها.
فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص دون الألفاظ المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب به ونحو ذلك" (7) .
وقال ابن أبي العز أيضاً بعد ما أكد أن يجعل الكتاب والسنة أصلاً ودليلاً وبرهاناً:
"ويجعل أقوال الناس التي توافقه أو تخالفه متشابهة مجملة، فيقال: لأصحابها هذه الألفاظ يحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد، وهذا مثل لفظ المركب والجسم، والحيز، والجوهر والجهة، والحيز، والعرض، ونحو ذلك... وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل".
ثم ذكر رحمه الله أننا لا نوافق هؤلاء على هذه التسميات ولا كرامة فإن سموا إثبات الصفات تركيباً مثلا، فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ سموه ما شئتم، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم، فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً لم يحرم بهذه التسمية (8) .
قلت: بناء على ذلك نقول: للماتريدية سموا صفات الله تعالى من العلو والنزول والاستواء والوجه واليد، والقدم، والغضب، والرضا، والمحبة، والكراهية، ما شئتم فلا يجوز إبطال صفات الله تعالى بالتسميات المبتدعة والألقاب الشنيعة المدهشة من الحد، والحيز، والجهة، والمكان، والأفول، وحلول الأعراض، والتشبيه، والتجسيم ونحوها؛ فالعبرة للمعاني لا للمباني.
وأما الجواب التفصيلي فهو ما يلي:
1- "الحد".
إننا قد بينا قاعدة مهمة من قواعد السلف في باب الصفات حول الألفاظ المجملة المتشابهة الكلامية آنفاً في الجواب الإجمالي.
فنقول: في ضوء القاعدة:- إن لفظ "الحد" يطلق على معنيين:
الأول: بمعنى الإحاطة بالله علماً فلا شك أن "الحد" بهذا المعنى منفي عن الله تعالى فلا منازعة بين أهل السنة، لأن الله تعالى غير مدرك بالإحاطة، وقد عجز الخلق عن الإحاطة به، وعلى هذا يحمل قول من نفى "الحد" من السلف.
والثاني: بمعنى أن الله تعالى متميز عن خلقه منفصل عنهم مبائن لهم عال عليهم غير مخلوط بهم ولا حال فيهم فهذا المعنى حق فـ"الحد" بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر، فإنه ليس وراء نفيه إلا وجود الرب، ونفي حقيقته وعلى هذا يحمل قول من أثبت " الحد" لله تعالى من السلف (9) .
لذا نرى كثيراً من السلف كسفيان الثوري وشعبه وحماد بن زيد وحماد بن سلمة، وشريك وأبو عوانه وأبو داود الطيالسي والطحاوي (10) ، وغيرهم نفوا "الحد".
وفي رواية عن الإمام أحمد أيضاً (11) .
وبجانب ذلك نرى كثيراً من السلف يثبتون "الحد" لله تعالى.
كعبد الله بن المبارك (12) - وهو حنفي عند الحنفية - ورواية عن الإمام أحمد (13) .
والإمام عثمان الدارمي (14) وغيرهم.
فالذين نفوا "الحد" قصدوا المعنى الأول، وهو الباطل الذي يجب نفيه عن الله تعالى، والذين أثبتوا "الحد" قصدوا المعنى الثاني وهو الحق الذي يجب الإيمان به وهو "العلو" (15) .
ولكن الطامة الكبرى أن طوائف المعطلة أدخلوا في معنى "الحد" حقاً وباطلاً فنفوها جميعاً فنفوا ضمن نفيهم "للحد" فوقية الله تعالى على عباده وعلوه على عرشه (16) .
قال الإمام الذهبي (748هـ):
وقد سئل أبو القاسم التيمي رحمه الله: هل يجوز أن يقال: لله حدٌّ أو لا؟
وهل جرى هذا الخلاف في السلف؟ فأجاب: هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها لغموضها، وقلة وقوفي على غرض السائل منها؛ لكني أشير إلى بعض ما بلغني، تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة، محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره، فإن كان غرض القائل: ليس لله حد: لا يحيط علم الحقائق به، فهو مصيب، وإن كان غرضه بذلك: لا يحبط علمه تعالى بنفسه فهو ضال، أو كان غرضه أن الله بذاته في كل مكان فهو أيضاً ضال" (17) .
وعلق عليه الذهبي قائلاً:
"قلت: الصواب الكف عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله خوفاً من أن يدخل القلب شيء من البدعة اللهم احفظ علينا إيماننا" (18) .
2- "الجهة":
هذه اللفظة أيضاً من الألفاظ المبتدعة الكلامية المتشابهة المجملة التي يجب التفصيل فيها، حتى يتميز الحق من الباطل، فيقبل الحق ويرد الباطل، وقبل التفصيل لا يحكم عليها نفياً ولا إثباتاً لئلا ينفى الحق ضمن النفي العام، لأن أهل البدع من طوائف المعطلة ينفون "الجهة" ويريدون بذلك نفي "علو الله تعالى" على عرشه، وفوقيته على خلقه (19) .
وإذا فصلنا في معنى الجهة، علمنا أن "الجهة" تطلق على معنيين: حقٍ، وباطلٍ.
فنظراً إلى المعنى الباطل يجب نفي الجهة عن الله تعالى، ونظراً إلى المعنى الحق يجب إثباته لله تعالى.
قال شيخ الإسلام، والإمام ابن أبي العز، والعلامة محمود الآلوسي، وابنه نعمان، وحفيده شكري، وكلهم حنفية غير الأول، واللفظ له:
"فلفظ "الجهة" قد يراد به شيء موجود غير الله فيكون مخلوقاً كما إذا أريد بالجهة نفس العرش، أو نفس السموات، وقد يراد به ما ليس بموجود غير الله تعالى، كما أريد بالجهة ما فوق العالم.
ومعلوم أنه ليس في نص إثبات لفظ "الجهة" ولا نفيه.
كما فيه إثبات "العلو" و"الاستواء" و"الفوقية" و"العروج إليه" ونحو ذلك...، وقد علم أنه ما تم موجود إلا الخالق، والمخلوق، والخالق مباين للمخلوق - سبحانه وتعالى ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى "الجهة": أتريد بالجهة أن شيء موجود مخلوق؟.
فالله ليس داخلاً في المخلوقات.
أم تريد بالجهة ما وراء العالم؟.
فلا ريب أن الله فوق العالم بائن من المخلوقات.
وكذلك يقال لمن قال: إن الله في جهة: أتريد بذلك أن الله فوق العالم؟ أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات؟.
فإن أردت الأول فهو حق، وإن أردت الثاني فهو باطل" (20) .
قلت: لفظ "الجهة" بالمعنى الصحيح، أعني بمعنى "العلو" لله تعالى على خلقه، هو مقتضى الكتب السماوية والأحاديث النبوية، وعلى ذلك العقل الصريح والفطرة السليمة ولذلك يوجد في كلام أئمة السنة، لفظة "الجهة" بهذا المعنى، ولا غبار عليها، ومع ذلك الأفضل التقيد بالألفاظ المأثورة.
وإثبات "الجهة" لله تعالى بهذا المعنى مما اعترف به كثير من كبار المتفلسفة، والمتكلمة.
1-3- القاضي عياض (544هـ) والإمام النواوي (676هـ) والزبيدي الحنفي (1205هـ):
فقد صرحوا بأن المحدثين والفقهاء والمتكلمين بإثبات "جهة" الفوق وأن معنى في السماء عندهم "على السماء" وأما دهماء المتكلمين فينفون الجهة (21) .
4- وقال أبو الوليد محمد بن أحمد المعروف بابن "رشد" الحفيد المتفلسف (595هـ):
"القول بالجهة: وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى نفتها المعتزلة ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشعرية... وظواهر الشرع كلها تقتضى إثبات الجهة".
ثم ذكر عدة أدلة على ذلك كما ضرب مثالاً مهما للمؤولين المحرفين (22) .
5- وقال القرطبي المفسر (671هـ) بعد ما ذكر مذهب المتكلمين النفاة لعلو الله تعالى:
"وقد كان السلف الأول لا يقولون بنفي "الجهة" ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها، كما نطق كتابه وأخبرت رسله، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة... وإما جهلوا كيفية الاستواء".
ثم ذكر مقالة الإمام مالك المشهورة في الاستواء ثم قال: "وهذا القدر كاف...، والاستواء في كلام الرب: هو العلو والارتفاع23) .
6- وقال القرطبي أيضاً "وأظهر الأقوال في ذلك ما تظاهرت عليه الآي والأخبار، وقاله الفضلاء الأخيار أن الله على عرشه كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف بائن من خلقه، هذا مذهب السلف الصالح فيما نقل عنهم الثقات" (24) .
قلت: بعد هذا كله تبين بلا ريب للمسلمين طالبي الحق والإنصاف أن الكوثري كذاب بهات أفاك فيما يفتري على الله ورسوله وأئمة الإسلام وغيرهم حيث يقول متحدياً:
"ولم يقع ذكر الجهة في حق الله سبحانه في كتاب الله ولا في سنة رسوله ولا في لفظ صحابي أو تابعي، ولا في كلام أحد ممن تكلم في ذات الله وصفاته من الفرق سوى أقحاح المجسمة، وأتحدى من يدعي خلاف ذلك أن يسند هذا اللفظ إلى أحد منهم بسند صحيح فلن يجد إلى ذلك سبيلاً فضلاً عن أن يتمكن من إسناده إلى الجمهور بأسانيد صحيحة..." (25) .
ويقرر الكوثري قول السبكي ويسكت عليه بعد ما ذكر قول الإمام ابن القيم "إن الله فوق سماواته... نقول ما قاله ربنا".
فقال السبكي وأقره الكوثري: "أين قال: ربنا أنه بائن من خلقه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته؟ فقد نسبت إلى قول الله ما لم يقله" (26) .
قلت: عار وشنار على الكوثري وبعض الديوبندية حيث يبالغون في الثناء على هذا الخائن الظنين الذي غالب كلامه ثرثرة وكذب وطنين، ثم يصفونه بالتثبت والاحتياط والأمانة وأنه لا فلة فيه دراية ورواية وأنه لا لجواده كبوة ولا لصارمه نبوة.
مع أن نصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف هذه الأمة وأئمة السنة بل نصوص كثير من أئمة الكلام صريحة في "الفوقية".
3- "الحَيِزّ":
وكذلك لفظة "الحيز" فالقول فيها كالقول في أخواتها من ألفاظهم الكلامية المجملة المدهشة التي يردون بها الحق أيضا ضمن ردهم للباطل.
قال شيخ الإسلام: "وكذلك لفظ "المتحيز" إن أراد به أن الله تحوزه المخلوقات فالله أعظم وأكبر بل وسع كرسيه السموات والأرض..، وإن أراد به أنه منحاز عن المخلوقات، أي مباين لها، منفصل عنها ليس حالاً فيها، فهو سبحانه كما قال أئمة السنة، فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه" (27) .
4- "المكان":
وهكذا لفظ "المكان" لا ننفيه ولا نثبته حسب قاعدة السلف المذكورة بل نفصل فيه ونستفسر قائله فنقبل المعنى الحق ونرد المعنى الباطل، ولا نفعل كما يفعل طوائف المعطلة من نفيهم علو الله تعالى على خلقه ضمن نفيهم للمكان عن الله تعالى.
قال شيخ الإسلام: "... ومنهم من لا يفهم قول الجهمية بل يفهم من النفي معنى صحيحاً... مثل أن يفهم من قولهم: "ليس في جهة" ولا له "مكان" ولا هو "في السماء".
أنه ليس في جوف السماوات - وهذا معنى صحيح وإيمانه بذلك حق - ولكن يظن أن الذين قالوا هذا النفي اقتصروا على ذلك، وليس كذلك بل مرادهم، أنه ما فوق العرش شيء أصلاً ولا فوق السماوات إلا عدم محض، وليس هناك إله يعبد، ولا رب يدعى ويسأل، ولا خالق خلق الخلائق، ولا عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه أصلاً هذا مقصودهم" (28) .
وقال العلامة نعمان الألوسي الحنفي: "وأما القائل الذي يقول: إن الله لا ينحصر في مكان إن أراد به أن الله لا ينحصر في جوف المخلوقات، وأنه لا يحتاج إلى شيء منها فقد أصاب، وإن أراد أن الله تعالى ليس فوق السماوات، ولا هو مستو على العرش استواء لائقاً بذاته وليس هناك إله يعبد، "ومحمد صلى الله عليه وسلم" لم يعرج إلى ربه تعالى، فهذا جهمي فرعوني معطل".
ثم ذكر قاعدة السلف في الألفاظ المجملة (29) .
فلا يلزم من ذلك تشبيه يخالف التنزيه.
ولا يلزم الحد والجهة، والحيز والمكان بالمعاني التي يقصدها هؤلاء المعطلة ولا يلزم كون الله محدوداً متبعضاً متجزياً متناهياً جوهراً وجسماً.
ولا يلزم كون الله محلاً للحوادث ولا لزوم الانتقال ولا التجزي ولا الانقسام.
كما لا يلزم أن يكون كل واحد من الحد والجهة، والحيز، والمكان، قديماً مع الله تعالى لأن الحيز والمكان عند هؤلاء المتكلمين يعد موهوم لا شيء محض كما تقدم.
فلا يلزم تعدد القدماء، وقد تقدم أيضاً أن المراد من الجهة ما فوق العالم غير الله تعالى، وما فوق العالم غير الله تعالى هو أمر معدوم؛ لأن الموجود إما خالق، وإما مخلوق وفوق المخلوق ليس إلا الخالق، فلا يتصور كون الخالص في شيء موجود، إذاً لا يتصور كون موجود قديماً مع الله تعالى، فلا يلزم قدم الحد والجهة والحيز والمكان بالمعنى الذي يريد الماتريدية.
قال شيخ الإسلام: "فقوله: يلزم قدم الجهة أو الانتقال، إنما يصح لو قيل: إنه موجود في سواه، وإما إذا أريد بذلك أنه فوق العالم، أو وراء العالم، وليس هناك غيره، وليس هناك شيء موجود آخر، حتى يقال: إنه قديم.
وأما العدم فإن قيل: إنه قديم بهذا التفسير، فهو كعدم سائر المخلوقات، وقدم العدم بهذا التفسير ليس بممتنع..." (31) .
قلت: ما ذكرنا في هذه المباحث في هذا الفصل من إقامة الحجج الباهرة والبراهين القاهرة على علو الله تعالى على خلقه - من صحيح المنقول وصريح المعقول والإجماع المحقق والفطرة السليمة لنسف شبهات الماتريدية وبيان أنهم خالفوا النقل والعقل والإجماع والفطرة في آن واحد، وأنهم ليسوا من أهل السنة بل هم من الفرق الجهمية - فيه كفاية لطلاب الحق والإنصاف،، والله حسب عصبة التعصب والاعتساف،،
فإنهم لا يدفعون حماقتهم بالندامة،، ولو أطلبت لهم الملامة،،
فهم كما قيل:
وشيخ عن الحمق لا ينتهي أطلتَ له اللومَ أم لم تطل
موقع الدرر
قال الشيخ في تعليقه على مصرع التصوف البقاعي
في التصريح بنفي الاتصال والانفصال معا في آن واحد، وعن ذات واحدة خلل منطقي. فهما يتقابلان تقابل السلب والإيجاب، فيلزم من انتفاء أحدهما ثبوت الآخر. وفيهما أيضا إجمال واشتباه، فقد يعني بالانفصال أنه سبحانه بائن من خلقه مستو على عرشه، ليس كمثله شيء. وهذا حق يؤمن به من أسلم قلبه لله، ووحده توحيدا صادقا في ربوبيته وآمن بأسمائه وصفاته كما هي في القرآن والسنة.
وقد يعني بالانفصال أنه سبحانه لا يتصل بالعالم صلة خلق أو تدبير، أو علم منه سبحانه، أعني نفي كونه خالقا عليما يدبر الأمر, أو أنه سبحانه ليس لإرادته، أو قدرته أثر في مقادير الوجود، وغير ذلك مما يدين به الفلاسفة، ومرادهم منه =
(1/30)
قلت: فكيف بمن يصرح بأنه 1 عين كل شيء؟ قال: "والرضى بالكفر كفر". قلت: فكيف بمن يصوب كل كفر، وينسب ذلك التصويب إلى نقل الله تعالى له عن نبيه هود عليه السلام؟
ويقول: إن الضلال أهدى من الهدى؛ لأن الضال حائر، والحائر دائر
__________
= نفى الخالق القادر المريد المختار. وهذا كف ر يجحد بالربوبية والإلهية.
وكذلك الاتصال: فقد يراد به أن سبحانه يدبر الكون، ويصرف الليل والنهار، ويسخر الشمس والقمر، ويحيط علمه بكل شيء كليا كان أو جزئيا، وتشمل قدرته كل شيء، وغير هذا مما يشهد بكمال الربوبية. وهذا حق لا يتم الإيمان إلا به. وقد يعني به مفهومه الصوفي، أي: إنه سبحانه حال في كل شيء، أو متحد بكل شيء، أو إنه عين كل شيء، أو إنه هو الوجود الساري في كل موجود، ومن يدين بهذا فهو زنديق، أو مجوسي، أو بتعبير أدق: صوفي. فالصوفية مرادفة لكل ما يناقض الإيمان الحق، والتوحيد الحق. لذا يجب على كل من يخبر عن الله أو صفاته أو أسمائه أن يلتزم حدود ما أخبر الله به عن نفسه، وأخبر الرسول به عن ربه. وإلا تزندق، أو تمجس كالصوفية، وألحد كالفلاسفة، وضل كالمتكلمين, ألم تر إلينا نحن البشر كيف نعيب فلانا بأنه لم يكن دقيق التعبير عن المذهب الفلسفي أو الأخلاقي، أو الفنى لفلان، أولم يكن مهذبا فيما تحدث به عن فلان، أوخاطب به فلانا، بل قد نذهب في مذمته كل مذهب، حتى نتهمه بالعي والفهاهة والسفه، فكيف -ولله المثل الأعلى- نطلق للقلم العنان فيما يكتب عن الله، مما يصوره له الأفن والوهم عن ذات الله وصفاته؟ وكيف نستبيح -سادرين- الإخبار عن الله سبحانه بما لا يجب، وما لا يرضي، وما لم يخبر به عن نفسه. ونصف هذه الجرأة الكافرة بأنها حرية فكرية أو تجاوب مع العقل، أو استيحاء من الذوق!! ولقد كان من نتائج هذه الحرية المزعومة -والحق أنها عبودية للوهم وللشيطان- أن آمن بعض الناس برب لا يوصف إلا بالسلب، أي: بالعدم نعتوه ربا. أو برب هو عين العبد. أو بإله يجب أن يعبد في كل شي؛ لأنه عين كل شي، فلتمجد العبودية ربوبية الله، بما يحب سبحانه وحده أن تمجد به.
أنا أبو جعفر محمد بن عثمان بن محمد بن أبي شيبة قال:
ذكروا أن الجهمية يقولون أن ليس بين الله عز وجل وبين خلقه حجاب وأنكروا العرش وأن يكون هو فوقه وفوق السماوات وقالوا إن الله في كل مكان وأنه لا يتخلص من خلقه ولا يتخلص الخلق منه إلا أن يفنيهم فلا يبقى من خلقه شئ وهو مع الآخر فالآخر من خلقه ممتزج به فإذا أفنى خلقه تخلص منهم وتخلصوا منه تبارك الله وتعالى عما يقولون علوا كبيراً، ومن قال بهذه المقالة فإلى التعطيل يرجع قولهم وقد علم العالمون أن الله قبل أن يخلق خلقه قد كان متخلصا من خلقه بائنا منهم فكيف دخل فيهم تبارك وتعالى أن يوصف بهذه الصفة بل هو فوق العرش كما قال، محيط بالعرش متخلص من خلقه بين منهم علمه في خلقه لا يخرجون من علمه.
وقد أخبرنا الله عز وجل أن العرش كان قبل أن يخلق السماوات والأرض على الماء وأخبرنا أنه صار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فاستوى على العرش فقال جل وعز {وكان عرشه على الماء} [هود 7] وقال {أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [فصلت 11] ثم قال جل وعز {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا وهو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا وهو معهم} [المجادلة 7] وقال {ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم} [الحديد 4] ففسر العلماء قوله "وهو معكم" يعني علمه وقال عز وجل {الرحمن على العرش استوى} [طه 5] فالله تعالى استوى على العرش يرى كل شئ في السماوات والأرضين ويعلم ويسمع كل ذلك بعينه وهو فوق العرش لا الحجب التي احتجب بها من خلقه يحجبه من أن يرى ويسمع ما في الأرض السفلى ولكنه خلق الحجب وخلق العرش كما خلق الخلق لما شاء وكيف شاء وما يجمله إلا عظمته فقال {يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون} [السجدة 5] وقال جل وعز {إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه} [فاطر 10] وقال جل وعز {إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا} [ آل عمران 55 ] وقال {وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه} [النساء 158].
وأجمع الخلق جميعا أنهم إذا دعوا الله جميعا رفعوا أيديهم إلى السماء فلو كان الله عز وجل في الأرض السفلى ما كانوا يرفعون أيديهم إلى السماء وهو معهم في الأرض ثم تواترت الأخبار أن الله تعالى خلق العرش فاستوى عليه بذاته ثم خلق الأرض والسماوات فصار من الأرض إلى السماء ومن السماء إلى العرش فهو فوق السماوات وفوق العرش بذاته متخلصا من خلقه بائنا منهم علمه في خلقه لا يخرجون من علمه
تعليق