وهان عليهم الإسلام
أ/ أحمد فهمي
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
في شهر ربيعٍ الأول اعتاد كثيرٌ من المسلمين الاحتفال بذكرى مولد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقد قلنا وكتبنا كثيرًا أن احتفالاتِ الموالد بدعةٌ أحدَثها الخلفاء الفاطميون في منتصف القرن الرابع الهجري، وتمسَّك بها أكثرُ المسلمين بعد ذلك تقليدًا واتباعًا لسَننِ غير المسلمين؛ كما أخبَر بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث قال فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة: ((لا تقوم الساعةُ حتى تأخذَ أمتي بأَخْذِ القرون قبلها، شبرًا بشِبر، وذراعًا بذراع))، فقيل: يا رسول الله، كفارسَ والروم؟ فقال: ((ومَنِ الناسُ إلا أولئك؟))، وما رواه البخاريُّ أيضًا من حديث أبي سعيد الخدري: ((لتتبعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخَلوا جُحْرَ ضبٍّ تبِعْتموهم))، قلنا: يا رسول الله، اليهودُ والنصارى؟ قال: ((فمن؟))خلاصة حكم المحدث : [صحيح]- يعني: فمن غيرهم؟ فإذا كان النصارى يحتفلون بميلادِ المسيح عليه السلام، إلا أن الفَرْقَ بين المسلمين والنصارى في هذه الاحتفالاتِ أن النَّصارى يعتبِرون احتفالاتهم بعيدِ الميلاد أمرًا دنيويًّا لا علاقة له بالدِّين، فيقيمون الحفلات الصاخبةَ الماجنة؛ حيث يرقُصون ويشرَبون الخمر على أنغامِ الموسيقا، أما المسلمون فهم يربِطون بين الدِّين وهذه الاحتفالات بمولدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث يعتبِرون الاحتفالَ بذِكْرى مولدِه أمرًا يُقرِّبُهم إلى الله عز وجل، ويَزيد من رصيد حَسَناتهم.
ومع تسليمِنا الكامل بأن هذه الاحتفالاتِ بدعةٌ نشأَتْ على أيدي الحكَّام الفاطميين، فإنَّ المتتبعَ لهذه الاحتفالات يراها تنحدِرُ من سيئٍ إلى أسوأ، فحينما بدأَتْ في عصر الفاطميين كان الخليفة الفاطمي يركَبُ دابته في أول ليلة من ليالي ربيع الأول، وحوله الوزراء والعُلَماء والمستشارون، ويطُوف البلدَ كلها مُعلنًا بدءَ الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يعود بموكبه إلى قصره؛ حيث تمد الموائدُ وعليها من المآكِلِ ما لذَّ وطاب، ويتناوله الحاضرون على كثرتِهم، ثم توزَّع عليهم قناطير الحلوى، أما برنامج الاحتفال فيتلخَّص في قراءة القرآن، وأحاديث للعلماء عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وشمائله، ثم يقومون إلى حلقات الرَّقْص الصُّوفي الذي يسمُّونه ذِكرًا، وهكذا حتى يحينَ وقت الصلاة، فيُصلي بهم الخليفةُ صلاة الفجر، ثم ينصرِفون، وهكذا كلَّ ليلة حتى ينتهيَ شهر ربيع الأول.
وظل الفاطميون يُقيمون هذه الاحتفالات إلى أن جاء أحدُ خلفائهم، وهو (المستعلي بالله) الذي كان متغاليًا في التشيُّع، إلا أنه كان ضعيفًا أمام رئيس وزرائه وأمير جيوشه (بدر الجمالي)، وكان بدر الجمالي من المتمسِّكين بالسُّنَّة، فأصدَر أمره بإلغاء هذه الاحتفالاتِ بالموالد بصفة عامة، واستمر الحالُ هكذا إلى أن مات بدر الجمالي؛ حيث عادت الاحتفالاتُ مرة أخرى، حتى جاء عهدُ صلاح الدين الأيوبي الذي كان متمسِّكًا بالسُّنَّة، فأصدَر أوامرَه إلى جميع الولايات بمنعِ كل الاحتفالات بالموالد، وتم تنفيذُ هذه الأوامر في كل أنحاء الدولة الأيوبية، ما عدا ولاية واحدة كان يحكُمُها الملكُ (مظفر الدين) الذي توفِّي عام 630 هجرية، فقد كان ذلك الحاكم متصوفًا، فرفَض أمر السلطان، واستمرَّ على إقامة الاحتفالات التي روى المؤرِّخون أنه كان يُنفِق عليها سنويًّا ما يزيد على ثلاثِمائة ألف دينار، (حوالي: ثلث مليون جنيه ذهبًا).
وانتقلت عدوى هذه الاحتفالاتِ بعد ذلك إلى المماليك؛ حيث يروي المؤرِّخون ما يعجَبُ له المرءُ من كثرة البذخ والسَّفه في الإنفاق على هذه الاحتفالات، مما لا تتسعُ له هذه الصفحات.
إلى أن وصَلْنا إلى عصرنا الحاضر؛ حيث رأينا من المفاسِدِ والمُوبِقات التي تُصاحِبُ الاحتفالات بالموالد ما يحز في نفس كل مسلم غيورٍ على دِينه، مساخر ومفاسدُ من يراها يحكم بأنها جاءت لهَدْمِ الإسلام بكل أحكامِه وتقاليده ومبادئه، فبالإضافة إلى ما يُذاعُ في المولد من قصائد المديح الذي نهى عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ووَصْفِه صلوات الله وسلامه عليه كذبًا وزورًا بأنه أولُ خَلْقِ الله، والقول على الله تعالى كذبًا وبُهتانًا بأنه قبَض قبضةً من نوره وقال لها: كوني محمدًا، فكانت، وأن آدمَ عليه السلام توسَّل إلى الله بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، إلى آخِرِ هذا الرُّكام الهائل من الأكاذيب والمفتَرَيات والشِّركيات التي تجد لها مرتعًا خصبًا في احتفالات المولد - فبالإضافة إلى هذا كلِّه تجد اجتماعَ الرجال حول المنشدات، وتجد اختلاطَ النساء بالرجال، وتعاطي المخدِّرات، والزنا، واللواط، وكل أنواع الموبِقات، والجرائم الأخلاقية، كل ذلك وأكثرُ منه يحدُثُ باسم الموالد، ويحدُثُ داخل المساجد، حتى أصبَحَتْ كلمة (مولد) دلالةً على الفِسْقِ والفجور، والتحلُّلِ من الدِّين.
ويستمرُّ هذا الوضعُ مع الموالد بصفة عامة، ولكن يبدو أن بعضَ المسؤولين في وسائل الإعلام عندنا رأَوْا أننا بعيدون عن حديثِ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتتبعُنَّ سَنَنَ مَن كان قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخَلوا جُحرَ ضبٍّ تبِعْتموهم))خلاصة حكم المحدث : [صحيح]، رأَوْا - رغم كل ما يحدُثُ في الموالد - أن الحديثَ لا ينطبِقُ علينا، فجمَعوا كيدَهم، ثم أتَوْا يعرضون على الملأ وبئس ما عرَضوا، فقد احتفلت إذاعتُنا المصرية - إذاعة البلد المسلم - بمولدِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على مسرحِ الجمهورية؛ حيث حشَدَت جمعًا كبيرًا من المطربين والمطربات، يغنُّون لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وقد بلَغَت بهم الوقاحةُ أن يسمُّوا هذه الليلة التي عرضوا فيها فِسْقَهم وفجورهم (الليلة المحمدية)، وذهَب ناس من المسلمين وغير المسلمين للاستمتاع والتَّرويح عن النَّفْس في هذه (الليلة المحمدية)، واحتفلوا بمولد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على مسرحِ الجمهورية على أنغام الموسيقا والطَّرَب والخلاعة، وربما يأتي العامُ القادم ويكونون قد ازدادوا حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضيفون الخمرَ والرَّقص إلى احتفالاتهم؛ تعبيرًا عن هذا الحب!
يا قومِ، أين الغَيرةُ على دِين الله؟! هل وصَل الاستهزاء بالدِّين إلى هذا الحد؟! أيها العلماء الرَّسميون ذَوو الوجاهة والمناصب، لماذا لا تعترضون ولو بتوجيه النصيحةِ، وذلك أضعفُ الإيمان بالنسبة لكم؟! أم أنكم تخافون على الكراسيِّ التي تجلِسون عليها، أو أنكم توافِقون على الإساءة إلى الإسلام، وإلى رسول الإسلام؟! أليس الأمرُ بالمعروفِ والنهي عن المنكَرِ مِن أولى وظائفكم؟! أم صغُر أمامكم الخَطبُ، وهان عليكم الإسلامُ؟!
ربنا، افتَحْ بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خيرُ الفاتحين.
وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
المصدر: مجلة التوحيد، عدد ربيع الثاني، سنة 1407هـ، الصفحة الأولى
تعليق