بسم الله الرحمن الرحيم
(((من شرح الطحاوية للدكتور سفر الحوالي)))
(((من شرح الطحاوية للدكتور سفر الحوالي)))
يقول المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ:
[وهذا الذي أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، منها: أن يُقَالَ: لا ريب أن الإِنسَان قد يحصل له من الاعتقادات والإرادات ما يكون حقاً، وتارة ما يكون باطلاً، وهو حساس متحرك بالإرادة، فلا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما. ونعلم أنه إذا عرض عَلَى كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر، مال بفطرته إِلَى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع والإيمان به هو الحق أو نقيضه.
والثاني فاسد قطعاً، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به، وبعد ذلك: إما أن تكون محبته أنفع للعبد أو لا.
والثاني فاسد قطعاً، فوجب أن يكون في فطرته محبة ما ينفعه.
ومنها: أنه مفطور عَلَى جلب المنافع ودفع المضار بحسبه وحينئذ وإن لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إِلَى سبب معين للفطرة، كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.
ومنها: أن يقَالَ: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا.
ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك. فإذا كَانَ المقتضي قائماً في النفس وقُدِّر عدم المعارض، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها من يفسدها، كانت مقرة بالصانع عابدة له.
ومنها: أن يقَالَ: إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج، ولا المصلح الخارج كانت الفطرة مقتضية للصلاح لأن المقتضي فيها للعلم والإرادة قائم، والمانع منتف] اهـ.
الشرح:
[وهذا الذي أخبر به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه] هذه الأدلة العقلية التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ فيها صعوبة، ولا يستطيع أي إنسان أن يفهمها إلا أن تؤخذ كلمة كلمة، ومع ذلك فإن فائدتها النهائية واضحة، وهي ما سبق أن قلناه، ونحب أن ننبه بهذه المناسبة أنه ستأتي موضوعات في شرح هذه العقيدة من مثل هذا النوع، فنقول: إننا -إن شاء الله تعالى- سوف نقتصر عَلَى الأمور التي يكون إيضاحها:
أولاً: الأمور النقلية التي جاءت في الآيات والأحاديث.
ثانياً الأمور العقلية التي تكون واضحة وجلية، أما القضايا الكلامية التي فيها تعقيدات، أو التي فيها بحوث متعمقة جداً نضيع من أجلها ساعات وراء ساعات، وقد يكون في الحاضرين من لا يستطيع أن يفهم هذه المصطلحات ولا يدركها، فهذه إن شاء الله سوف نضرب عنها صفحاً، ولأن هذه الموضوعات معقدة أو بعضها معقدة جداً، ويحتاج الإِنسَان أن يبين كل كلمة وكل مصطلح، فتضيع الفائدة العامة عَلَى الجميع، وهذا الأمر ليس بدعياً من عندنا، بل حتى في الجامعات كما هو معلوم أن هذا الكتاب مقرر في كليات المملكة جميعاً -تقريباً- وأن هناك مقاطع تحذف من المنهج إذا كانت في مثل هذه الأمور،
لكن نقول: إن هذه التفصيلات ليست صعبة جداً لكن نَحْنُ ننبه إِلَى ما بعدها، وإلا ففي الإمكان أن تفهم وسنوضح هذه الوجوه التي ذكرها المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا إن شاء الله، بكلام إذا فهم تفهم جميعاً بإذن الله
فنقول: كل إنسان عنده إرادة وإحساس، فهو حساس ومريد، وكما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام}؛ لأن كل إنسان من البشر هو حارث وهمام، مؤمناً كَانَ أو كافراً، غبياً أو ذكياً، ما دام أنه إنسان فهو حارث وهمام، أي له إرادات واعتقادات وتصورات، ويقوم بأعمال يعملها بناءً عَلَى هذه الإرادات والإحساسات، والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قد فطر كل إنسان أن تكون إراداته وهمه وحرثه فيما ينفعه لا فيما يضره، فأي إنسان عندما يعمل أي عمل إنما يجتهد في عمل ما ينفعه، وإن كَانَ قد يكون ضاراً في الحقيقة، مثل الكافر الذي يجتهد في عبادة الأصنام فهذا شيء آخر، المهم أن يكون اجتهاده حسب ما يعتقد هو ويرى أنه نافع له، فهذه حقيقة واضحة فإذا كانت الفطرة بهذا الشيء، وكان الإِنسَان حارثاً وهماماً، وأنه لا يعمل ولا يكدح إلا فيما يعتقد أنه ينفعه، لا فيما يعتقد أنه يضره.
فالمشاهد والمحسوس الآن عند النَّاس جميعاً أنهم يتجهون إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن كل البشر الذين يولدون، يولدون وهم يريدون أن يتبعوا ديناً ما، ويتجهون إِلَى ربٍّ ما، كما سبق أن بينا شبه من يقول: إن الشيوعيين لا يتجهون إِلَى إله، بأن الشيوعي قبل أن يلقن مبادئ الحزب، وقبل أن يعرف أن مصلحته الدنيوية هي في اتباع هذا الحزب، هو أيضاً متجه إِلَى الإله بأي شكل من الأشكال، ولا يوجد عَلَى الإطلاق في أي عصر من العصور، وفي أي أمة من الأمم لا يوجد أبداً مجتمع بلا دين أبداً، حقاً كَانَ أو باطلاً، المهم أن هناك اتجاه إِلَى أن يكون هناك دين، وإله معبود.
وقد قلنا إن أكبر الملاحدة من أمثال ألبير كامو الذي هو من المدرسة العدنية -كما يسمونها- وهي مدرسة فلسفية أوروبية قال هذا الملحد: "إن مشكلة الإِنسَان المعاصر تتلخص في كلمة واحدة، وهي البحث عن الإله.
إذاً فكل إنسان وكل مجتمع وكل أمة تتجه وتبحث عن إله، وتبحث عن دين، وهذا دليل عَلَى وجود الفطرة، وعلى أن هذه الفطرة تتجه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ لكن قد تضل وقد تصيب، ولنضرب عَلَى ذلك أمثلة واقعية حسية من واقع الحيوان، فالحيوان إذا رأى النَّار ابتعد عنها، ولا يمكن أن يأتي حيوان ويدخل في النار، إلا إذا وقع طريق الخطأ، مثل الفراشة لأنها عندما ترى النَّار تظن أن هذه ألوان الطيف من الجمال، مثل الأزهار الجميلة، فالجمال يجعل الفراشة تقع في النار، مع أنها لا تريد أن تعذب نفسها، ولذلك إذا وقعت في النَّار واحترق جناح من أجنحتها تهرب وتحاول أن تتحرك لتبتعد عن النار، فكل إنسان متجه إِلَى ما ينفعه لا إِلَى ما يضره.
فإن زين له، أو لبس عليه، أو أغري فوقع فيما يضر، فإنه سرعان ما يحاول الخروج، وذلك مثل الكفار، عندما تزين لهم الشبهات فيعبدون غير الله، فالاتجاه إِلَى الإله موجود، لكن زينت لهم الشبهات والشهوات، وسول لهم الشيطان أن يعبدوا غير الله، فعبدوا غير الله ووقعوا في النَّار فعندما يقولون: ((رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)) [المؤمنون:107] يدعون الله ويتمون أن يخرجهم من النَّار لأنهم قد وقعوا فيها بسبب التلبيس؛ لكن هل المُشْرِكُونَ والكفار عبدوا غير الله ليدخلوا النار؟
لا؛ بل قالوا:((مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر:3] فهم لا يريدون أن يدخلوا النار، ولا يعبدون أصنامهم إلا لتدخلهم الجنة إن كَانَ هناك بعث.
وقد قالوا لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن افترضنا عَلَى كلامك أن هناك جنة وناراً.
فنحن أهل الجنة لأننا أكثر أموالاً وأولاداً في هذه الدنيا، وقالوا مرة أخرى نَحْنُ الذين بنينا البيت ونحن الذين نعظم الحرم، ونسقي الحجاج، فإن كَانَ هناك من جزاء ومن عمل يحاسب عليه الإِنسَان جزاؤه الجنة، فنحن من أهل الجنة.
فالشاهد مما سبق أن كل إنسان يتجه إِلَى ما ينفعه، وإلى ما يعتقد أن فيه مصلحته، ما لم يأت صارف فيصرفه عن ذلك، مثل ما جاءت الشياطين فاجتالت بني آدم عن دينهم وقالت: إن عبدتم غير الله فهذا خير لكم، مثل ما زين الشيطان لأبوينا عندما قال لهما: ((مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ)) [الأعراف:20] سُبْحانَ اللَّه! آدم عَلَيْهِ السَّلام نسي ما أخذه الله عليه من العهد، ووقع في المعصية؛ لأنه طمع أن يكون من الملائكة أو أن يكون من الخالدين.
ونسي أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تكفل له ما دام فيها ولم يأكل منها، أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يضحى ولا يمسه أي أذى أو نصب أو ألم، لكنه نسي طمعاً في لذة أعظم من اللذة الموجودة، فالإِنسَان حساس ومتحرك وله إرادات، ولا يعمل أي عمل إلا وفيه مصلحته، وإن عمل غير ذلك فلأنه في تصوره يسعى إِلَى لذة أعلا، وإلى مصلحة أعظم، فهذا دليل عَلَى وجود الفطرة وأن الفطرة تتجه في طبيعتها إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولو خلي الإِنسَان -الذي يبحث عن الحق مع نفسه- لاتجه إِلَى عبادة الله وحده لا شريك له، لكن تأتيه شياطين الجن والإنس، فتلبس له الشرك وتزينه له.
وإذا قلنا: إن توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هو الحق وهو النافع، فلو عرض عَلَى أي إنسان يهودي أو نصراني أو مجوسي فإنه يتجه إليه، ويترك التكذيب الذي يؤدي به إِلَى النار، وإنما يقع الشرك؛ لأنه يلبس عَلَى الإِنسَان الذي ينفعه بالذي يضره، لكن لو خليت الفطرة.
ولو جئنا إِلَى هذا الإِنسَان، وأقنعناه أن يترك تقليده الذي مشى عليه، ويترك الفلسفات التي ورثها، ويتخلى عن حقده للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لدين الإسلام، ويتخلى عن تعصبه، أي لو قلنا له: أزل هذه الموانع الخارجية جميعاً.
ثُمَّ انظر إِلَى نفسك فاختر الدين الذي تريد، ثُمَّ أزال هذه جميعاً، وأخذ يقرأ القُرْآن وبدأ بالفاتحة مثلاً ثُمَّ بالبقرة، وقرأ في الأحاديث، فإنه سيجد أن هذا هو الدين الحق، وسوف يؤمن به، وإذا قرأتم قصص الذين دخلوا في الإسلام، وما كتبوه، لوجدتم هذا الكلام تصديقا لما قَالَ المُصنِّفُ -رَحِمَهُ اللَّهُ- هنا؛ أنه إذا خليت النفس عن الموانع الخارجية، من التقليد أو الاتباع فإنها تهتدي إِلَى الدين الحق.
تجد الواحد منهم يقول: قرأت أديان الهند، وقرأت أديان الصين، ودخلت في دين كذا ودين كذا، ثُمَّ لم أقتنع بها، وأخذت أبحث عن الدين الحق وهنا جَاءَ ما يقوله المُصنِّف أن الفطرة تبحث، وأنها لو تركت لاهتدت، يقول أحدهم: في أثناء البحث تعرفت عَلَى شاب مسلم، أو وقع بيدي نسخة من القرآن، فلما قرأت عرفت أن هذا هو الدين الحق، فاهتدى الرجل فأسلم، فهذا دليل عَلَى وجود الفطرة.
لكن الفطرة وحدها لا تهتدي فقد تضل، والذي يقوم الطريق ويمنع الفطرة من الخطأ هو الوحي، ولذلك لم يؤاخذنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ولم يحاسبنا بمقتضى العهد الذي أخذه علينا في عالم الذر، ولم يحاسبنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أو يؤاخذنا بمقتضى الفطرة التي فطرها في أنفسنا، وإنما بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب، لئلا يكون للناس عَلَى الله حجة بعد الرسل، -أي: أن الحجة والبلاغ إنما هي بدعوى الأنبياء- فهذا من حكمة الله، ومن فضله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى علينا؛ أنه لا يعذب أحداً ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً))[الاسراء:15] مع قيام الحجج في الفطرة، وقيام الحجج في العقل، ومع الميثاق الذي أخذه الله في عالم الذر، والبراهين التي جعلها في الكون والنفس والآفاق، مع ذلك كله فإن العذاب ودخول النَّار لا يكون إلا عَلَى ما يبلغ الإِنسَان من العلم النبوي.
فهذا ملخص لهذه للأوجه التي ذكر المُصنِّف رَحِمَهُ اللَّهُ هنا، وهو أن الفطرة تتجه إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وأن الإِنسَان لديه قابلية الاتباع، كما أن لدى كل إنسان قابلية التعلم والعبادة لله، والاهتداء بهديه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فما لم يحل حائل، أو يأتي حجاب من الحجب يحجب الإِنسَان عن التوحيد، فإن بني آدم جميعاً يتجهون إِلَى التوحيد.
وكل مسلم عَلَى ظهر الأرض فليس مقلداً؛ لأنه مؤمن بالله بمقتضى الميثاق في عالم الذر، وبمقتضى الفطرة التي خلقه الله تَعَالَى عليها، وبمقتضى الإيمان بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الإيمان البدهي الذي هو أقوى من البراهين النظرية العقلية، ومع ذلك فلكل مؤمن براهينه وحجته التي أعطاه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إياها عَلَى قدر علمه وعلى قدر ما بلغه.
تعليق