شيخ الإسلام ابن تيمية
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . سورة الإخلاص سئل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد ابن تيمية رضي الله عنه عما ورد في سورة { قل هو الله أحد } أنها تعدل ثلث القرآن وكذلك ورد في سورة ( الزلزلة و { قل يا أيها الكافرون } و ( الفاتحة هل ما ورد في هذه المعادلة ثابت في المجموع أم في البعض ؟ ومن روى ذلك ؟ وما ثبت من ذلك ؟ وما معنى هذه المعادلة وكلام الله واحد بالنسبة إليه عز وجل ؟ وهل هذه المفاضلة - بتقدير ثبوتها - متعدية إلى الأسماء والصفات أم لا ؟ والصفات القديمة والأسماء القديمة هل يجوز المفاضلة بينها مع أنها قديمة ؟ ومن القائل بذلك وفي أي كتبه قال ذلك ووجه الترجيح في ذلك بما يمكن من دليل عقلي ونقلي ؟
فأجاب رضي الله عنه الحمد لله .
أما الذي أخرجه أصحاب الصحيح - كالبخاري ومسلم - فأخرجوا فضل { قل هو الله أحد } وروي عن الدارقطني أنه قال : لم يصح في فضل سورة أكثر مما صح في فضلها . وكذلك أخرجوا فضل ( فاتحة الكتاب قال صلى الله عليه وسلم فيها { إنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها } لم يذكر فيها أنها تعدل جزءا من القرآن كما { قال في { قل هو الله أحد } إنها تعدل ثلث القرآن } ففي صحيح البخاري عن الضحاك المشرقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : { أيعجز أحدكم أن يقرأ بثلث القرآن في ليلة ؟ فشق ذلك عليهم وقالوا : أينا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ قال الله الواحد الصمد ثلث القرآن } . وفي صحيح مسلم عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء عن { النبي صلى الله عليه وسلم قال أيعجز أحدكم أن يقرأ في ليلة ثلث القرآن ؟ قالوا : وكيف يقرأ ثلث القرآن ؟ قال { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن } . وروى مسلم أيضا عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { إن الله جزأ القرآن ثلاثة أجزاء فجعل { قل هو الله أحد } جزءا من أجزاء القرآن } . وفي صحيح البخاري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة عن { أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ { قل هو الله أحد } يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وكان الرجل يتقالها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن } . وأخرج عن أبي سعيد قال : أخبرني أخي قتادة بن النعمان { أن رجلا قام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ من السحر { قل هو الله أحد } لا يزيد عليها . . الحديث } بنحوه . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم احشدوا فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن قال : فحشد من حشد ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ { قل هو الله أحد } ثم دخل فقال بعضنا لبعض : إني أرى هذا خبرا جاءه من السماء فذاك الذي أدخله . ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن ألا إنها تعدل ثلث القرآن } وفي لفظ له { قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أقرأ عليكم ثلث القرآن فقرأ { قل هو الله أحد } { الله الصمد } حتى ختمها . } وأما حديث " الزلزلة " و ( { قل يا أيها الكافرون } فروى الترمذي
عن أنس بن مالك قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ إذا زلزلت عدلت له نصف القرآن . ومن قرأ قل يا أيها الكافرون عدلت له ربع القرآن } . وعن ابن عباس قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا زلزلت } تعدل نصف القرآن و { قل يا أيها الكافرون } تعدل ربع القرآن } رواهما الترمذي وقال عن كل منهما : غريب . وأما حديث ( الفاتحة فروى البخاري في صحيحه { عن أبي سعيد ابن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي . قال ألم يقل الله : { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } ثم قال لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن قال { الحمد لله رب العالمين } هي السبع المثاني والقرآن العظيم } . وفي السنن والمسانيد من حديث العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب ألا أعلمك سورة ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها - قال - فإني أرجو أن لا تخرج من هذا الباب حتى تعلمها وقال فيه كيف تقرأ في الصلاة ؟ فقرأت عليه أم القرآن فقال والذي نفسي بيده ما أنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أعطيته } . ورواه مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي سعيد مولى عامر بن كريز مرسلا . وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير مثلهن قط { قل أعوذ برب الفلق } و { قل أعوذ برب الناس } } . وفي لفظ : { قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل علي آيات لم ير مثلهن قط المعوذتان } فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم ير مثل المعوذتين كما أخبر أنه لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثل الفاتحة وهذا مما يبين فضل بعض القرآن على بعض .
فصل
وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة مع الاشتراك في كون الجميع كلام الله فهذا السؤال يتضمن شيئين : أحدهما :
أن كلام الله هل بعضه أفضل من بعض أم لا ؟ والثاني : ما معنى كون ( { قل هو الله أحد } تعدل ثلث القرآن ؟ وما سبب ذلك ؟ فنقول : أما الأول فهو " مسألة كبيرة " والناس متنازعون فيها نزاعا منتشرا فطوائف يقولون : بعض كلام الله أفضل من بعض كما نطقت به النصوص النبوية : حيث أخبر عن ( الفاتحة أنه لم ينزل في الكتب الثلاثة مثلها . وأخبر عن سورة ( الإخلاص أنها تعدل ثلث القرآن وعدلها لثلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف . وجعل ( آية الكرسي أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح أيضا وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أن { النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب يا أبا المنذر أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم . قال : يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله أعظم ؟ قال : فقلت : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } قال : فضرب في صدري وقال : ليهنك العلم أبا المنذر } . ورواه ابن أبي شيبة في مسنده بإسناد مسلم وزاد فيه { والذي نفسي بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش } .
وروي أنها { سيدة آي القرآن . } وقال في المعوذتين : { لم ير مثلهن قط } وقد قال تعالى { ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها } فأخبر أنه يأتي بخير منها أو مثلها . وهذا بيان من الله لكون تلك الآية
قد يأتي بمثلها تارة أو خير منها أخرى فدل ذلك على أن الآيات تتماثل تارة وتتفاضل أخرى . وأيضا فالتوراة والإنجيل والقرآن جميعها كلام الله مع علم المسلمين بأن القرآن أفضل الكتب الثلاثة . قال تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } . وقال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقال تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } وقال تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } فأخبر أنه أحسن الحديث فدل على أنه أحسن من سائر الأحاديث المنزلة من عند الله وغير المنزلة .
وقال تعالى { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } . وسواء كان المراد بذلك الفاتحة أو القرآن كله فإنه يدل على أن القرآن العظيم له اختصاص بهذا الوصف على ما ليس كذلك . وقد سمى الله القرآن كله مجيدا وكريما وعزيزا . وقد تحدى الخلق بأن يأتوا بمثله أو بمثل عشر سور منه أو بمثل سورة منه فقال : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } . وقال { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } . وقال : { فأتوا بسورة من مثله } وخصه بأنه لا يقرأ في الصلاة إلا هو فليس لأحد أن يقرأ غيره مع قراءته ولا بدون قراءته ولا يصلي بلا قرآن فلا يقوم غيره مقامه مع القدرة عليه . وكذلك لا يقوم غير الفاتحة مقامها من كل وجه باتفاق المسلمين سواء قيل بأنها فرض تعاد الصلاة بتركها أو قيل بأنها واجبة يأثم تاركها ولا إعادة عليه أو قيل إنها سنة فلم يقل أحد إن قراءة غيرها مساو لقراءتها من كل وجه . وخص القرآن بأنه لا يمس مصحفه إلا طاهر كما ثبت ذلك عن الصحابة - مثل سعد وسلمان وابن عمر - وجماهير السلف والخلف الفقهاء الأربعة وغيرهم . ومضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم الذي لا ريب في أنه كتبه له ودل على ذلك كتاب الله . وكذلك لا يقرأ الجنب القرآن عند جماهير العلماء الفقهاء الأربعة وغيرهم كما دلت على ذلك السنة .
وتفضيل أحد الكلامين بأحكام توجب تشريفه يدل على أنه أفضل في نفسه وإن كان ذلك ترجيحا لأحد المتماثلين بلا مرجح وهذا خلاف ما علم من سنة الرب تعالى في شرعه بل وفي خلقه وخلاف ما تدل عليه الدلائل العقلية مع الشرعية . وأيضا فقد قال تعالى : { واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم } وقال تعالى : { فبشر عبادي } { الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وقال تعالى : { فخذها بقوة وأمر قومك يأخذوا بأحسنها } . فدل على أن فيما أنزل حسن وأحسن سواء كان الأحسن هو والناسخ الذي يجب الأخذ به دون المنسوخ إذ كان لا ينسخ آية إلا يأتي بخير منها أو مثلها أو كان غير ذلك . والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة مثل ما سيأتي ذكره عن أبي العباس ابن سريج في تفسيره لهذا الحديث بأن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام : ثلث منه أحكام وثلث منه وعد ووعيد وثلث منه الأسماء والصفات . وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات . ومثل ما ذكره أصحاب الشافعي وأحمد في مسألة تعيين الفاتحة في الصلاة قال أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي في كتابه " الاصطلام " وأما قولهم : إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة قلت : سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم وهذا على الخصوص بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين مشروعة على الوجوب وعندكم على السنة . قال : وقد قال أصحابنا إن قراءة الفاتحة لما وجبت في الصلاة وجب أن تتعين الفاتحة لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة وهذه السورة أشرف السور لأنها السبع المثاني ولأنها تصلح عوضا عن جميع السور ولا تصلح جميع السور عوضا عنها ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل سورة ما على قدرها من الآيات وذلك من الثناء والتحميد للرب والاستعانة والاستعاذة والدعاء من العبد .
فإذا صارت هذه السورة أشرف السور وكانت الصلاة أشرف الحالات فتعينت أشرف السور في أشرف الحالات . هذا لفظه فقد نقل عن أصحاب الشافعي أن هذه السورة أشرف السور كما أن الصلاة أشرف الحالات وبينوا من شرفها على غيرها ما ذكروه . وكذلك ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أحمد كالقاضي أبي يعلى بن القاضي أبي حازم بن القاضي أبي يعلى بن الفراء قال في تعليقه - ومن خطه نقلت - قال في مسألة كون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة : أما الطريق المعتمد في المسألة فهو أنا نقول : الصلاة أشرف العبادات وجبت فيها القراءة فوجب أن يتعين لها أشرف السور والفاتحة أشرف السور فوجب أن تتعين . قال : واعلم أنا نحتاج في تمهيد هذه الطريقة إلى شيئين :
أحدهما : أن الصلاة أشرف العبادات والثاني : أن الحمد أشرف السور . واستدل على ذلك بما ذكره قال : وأما الدليل على أن فاتحة الكتاب أشرف فالنص والمعنى والحكم : أما النص فما تقدم من أنها عوض من غيرها . وعن أبي سعيد الخدري عن { النبي صلى الله عليه وسلم قال : فاتحة الكتاب شفاء من السم } . وقال الحسن البصري : أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب من السماء أودع علومها أربعة منها : التوراة والإنجيل والزبور والفرقان ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان ثم أودع علوم القرآن المفصل ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب . فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة ومن قرأها فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن . وأما المعنى فهو أن الله قابلها بجميع القرآن فقال : { ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم } . وهذه حقيقة لا يدانيها غيرها فيها قلت : هذا على قول من جعلها هي السبع المثاني وجعل القرآن العظيم جميع القرآن . قال : ولأنها تسمى " أم القرآن " وأم الشيء أصله ومادته ولهذا سمى الله مكة " أم القرى " لشرفها عليهن . ولأنها السبع المثاني ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل عليه سورة من الثناء والتحميد للرب تعالى والاستعانة به والاستعاذة والدعاء من العبد على ما { قال النبي صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي } الحديث المشهور . قال : ولأنه لم ينزل مثلها في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في شيء من الكتب يدل عليه أنها تيسر قراءتها على كل أحد ما لا يتيسر غيرها من القرآن . وتضرب بها الأمثال ولهذا يقال : فلان يحفظ الشيء مثل الفاتحة وإذا كانت بهذه المثابة فغيرها لا يساويها في هذا فاختصت بالشرف ولأنها السبع المثاني قال أهل التفسير : معنى ذلك أنها تثنى قراءتها في كل ركعة . قال بعضهم : ثني نزولها على النبي صلى الله عليه وسلم قلت : وفيه أقوال أخر . قال : وأما الحكم فلأنه تستحب قراءتها في كل ركعة ويكره الإخلال بها ولولا أنها أشرف لما اختصت بهذا المعنى يدل عليه أن عند المنازعين - يعني أصحاب أبي حنيفة - أن من أخل بقراءتها وجب عليه سجود السهو . فنقول : لا يخلو إما أن تكون ركنا أو ليست بركن فإن كانت ركنا وجب أن لا تجبر بالسجود وإن لم تكن ركنا وجب أن لا يجب عليه سجود . قلت : يعني بذلك أن السجود لا يجب إلا بترك واجب في حال العمد فإذا سها عنه وجب له السجود وما كان واجبا فإذا تعمد تركه وجب أن تبطل صلاته لأنه لم يفعل ما أمر به بخلاف من سها عن بعض الواجبات فإن هذا يمكن أن يجبر ما تركه بسجود السهو . ومذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة أن سجود السهو واجب لأن من الواجبات عندهم ما إذا تركه سهوا لم تبطل الصلاة . كما لا تبطل بالزيادة سهوا باتفاق العلماء ولو زاد عمدا لبطلت الصلاة . لكن مالكا وأحمد في المشهور عنهما يقولان : ما كان واجبا إذا تركه عمدا بطلت صلاته وإذا تركه سهوا فمنه ما يبطل الصلاة ومنه ما ينجبر بسجود السهو فترك الركوع والسجود والقراءة يبطل الصلاة مطلقا وترك التشهد الأول عندهما يبطل الصلاة عمده ويجب السجود لسهوه . وأما أبو حنيفة فيقول : الواجب الذي ليس بفرض - كالفاتحة - إذا تركه كان مسيئا ولا يبطل الصلاة . والشافعي لا يفرق في الصلاة بين الركن والواجب . ولكن فرق بينهما في الحج هو وسائر الأئمة . والمقصود هنا ذكر بعض من قال إن الفاتحة أشرف من
غيرها . وقال أبو عمر بن عبد البر : وأما { قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي . هل تعلم سورة ما أنزل الله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها ؟ } فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير لأن فيها الثناء على الله عز وجل بما هو أهله وما يستحقه من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره لأن كل نعمة وخير منه لا من سواه فهو الخالق الرازق لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع وهو محمود على ذلك وإن حمد غيره فإليه يعود الحمد . وفيها التعظيم له وأنه الرب للعالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة وهو المعبود والمستعان . وفيها تعليم الدعاء والهدى ومجانبة طريق من ضل وغوى . والدعاء لباب العبادة فهي أجمع سورة للخير ليس في الكتب مثلها على هذه الوجوه . قال : وقد قيل إن معنى ذلك أنها تجزئ الصلاة بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها عنها . وليس هذا بتأويل مجتمع عليه . قلت : يعني بذلك أن في هذا نزاعا بين العلماء وهو كون الصلاة لا تجزئ إلا بها وهذا يدل على أن الوصف الأول متفق عليه بين العلماء وهو أنها أفضل السور .
ومن هذا الباب ما في الكتاب والسنة من تفضيل القرآن على غيره من كلام الله التوراة والإنجيل وسائر الكتب وأن السلف كلهم كانوا مقرين بذلك ليس فيهم من يقول الجميع كلام الله فلا يفضل القرآن على غيره قال الله تعالى : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني } فأخبر أنه أحسن الحديث وقال تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين } . " وأحسن القصص " قيل إنه مصدر وقيل إنه مفعول به . قيل : المعنى نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص كما يقال نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان . قال الزجاج : نحن نبين لك أحسن البيان . والقاص الذي يأتي بالقصة على حقيقتها . قال وقوله : { بما أوحينا إليك هذا القرآن } أي بوحينا إليك هذا القرآن ومن قال هذا قال بما أوحينا إليك هذا القرآن وعلى هذا القول فهو كقوله : نقرأ عليك أحسن القراءة ونتلوا عليك أحسن التلاوة والثاني أن المعنى نقص عليك أحسن ما يقص أي أحسن الأخبار المقصوصات كما قال في السورة الأخرى : { الله نزل أحسن الحديث } وقال : { ومن أصدق من الله قيلا } . ويدل على ذلك قوله في قصة موسى : { فلما جاءه وقص عليه القصص } وقوله : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } المراد خبرهم ونبؤهم وحديثهم ليس المراد مجرد المصدر . والقولان متلازمان في المعنى كما سنبينه ولهذا يجوز أن يكون هذا المنصوب قد جمع معنى المصدر ومعنى المفعول به لأن فيه كلا المعنيين بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به فإنه إذا انتصب بهذا المعنى امتنع المعنى الآخر . ومن رجح الأول من النحاة - كالزجاج وغيره - قالوا : القصص مصدر يقال قص أثره يقصه قصصا ومنه قوله تعالى : { فارتدا على آثارهما قصصا } . وكذلك اقتص أثره وتقصص وقد اقتصصت الحديث : رويته على وجهه وقد اقتص عليه الخبر قصصا . وليس القصص بالفتح جمع قصة كما يظنه بعض العامة . فإن ذلك يقال في قصص بالكسر واحده قصة والقصة هي الأمر والحديث الذي يقص فعلة بمعنى مفعول وجمعه قصص بالكسر . وقوله : { نحن نقص عليك أحسن القصص } بالفتح لم يقل أحسن القصص بالكسر ولكن بعض الناس ظنوا أن المراد أحسن القصص بالكسر وأن تلك القصة قصة يوسف وذكر هذا طائفة من المفسرين . ثم ذكروا : لم سميت أحسن القصص ؟ فقيل : لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة . وقيل : لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها . وقيل لحسن محاورة يوسف وإخوته وصبره على أذاهم وإغضائه عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء وكرمه في العفو . وقيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن وفيها أيضا ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا والسياسة
والمعاشرة وتدبير المعاش فصارت أحسن القصص لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا . وقيل فيها ذكر الحبيب والمحبوب . وقيل " أحسن " بمعنى أعجب . والذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص منهم من يعلم أن " القصص " بالفتح هو النبأ والخبر ويقولون هي أحسن الأخبار والأنباء وكثير منهم يظن أن المراد أحسن القصص بالكسر وهؤلاء جهال بالعربية وكلا القولين خطأ وليس المراد بقوله : ( أحسن القصص قصة يوسف وحدها بل هي مما قصه الله ومما يدخل في أحسن القصص ولهذا قال تعالى في آخر السورة : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون } { حتى إذا استيئس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } فبين أن العبرة في قصص المرسلين وأمر بالنظر في عاقبة من كذبهم وعاقبتهم بالنصر . ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعون وغيره أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن ثناها الله أكثر من غيرها وبسطها وطولها أكثر من غيرها ؛ بل قصص سائر الأنبياء - كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين - أعظم من قصة يوسف ولهذا ثنى الله تلك القصص في القرآن ولم يثن قصة يوسف وذلك لأن الذين عادوا يوسف لم يعادوه على الدين بل عادوه عداوة دنيوية وحسدوه على محبة أبيه له وظلموه فصبر واتقى الله وابتلي صلوات الله عليه بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة فصبر واتقى الله في هذا وفي هذا وابتلي أيضا بالملك فابتلي بالسراء والضراء فصبر واتقى الله في هذا وهذا فكانت قصته من أحسن القصص وهي أحسن من القصص التي لم تقص في القرآن فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك لكن ليس من لم يذكر في القرآن ممن اتقى الله وصبر مثل يوسف ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف . وهذا كما أن قصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين كل منهما هي في جنسها أحسن من غيرها . فقصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة . فقوله تعالى : { نحن نقص عليك أحسن القصص } يتناول كل ما قصه في كتابه فهو أحسن مما لم يقصه ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قص في القرآن . وأين ما جرى ليوسف مما جرى لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل وأين ما عودي أولئك مما عودي فيه يوسف وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف - صلوات الله عليهم أجمعين ؟ وأين نصر أولئك من نصر يوسف ؟ فإن يوسف كما قال الله تعالى : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين } وأذل الله الذين ظلموه ثم تابوا فكان فيها من العبرة أن المظلوم المحسود إذا صبر واتقى الله كانت له العاقبة وأن الظالم الحاسد قد يتوب الله عليه ويعفو عنه وأن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه . وبهذا { اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء - فقال : ماذا أنتم قائلون ؟ فقالوا : نقول أخ كريم وابن عم كريم . فقال : إني قائل لكم كما قال يوسف لإخوته : { لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين } } . وكذلك { عائشة لما ظلمت وافتري عليها وقيل لها : إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت في كلامها : أقول كما قال أبو يوسف { فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون } } . ففي قصة يوسف أنواع من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلى بدواعي الفواحش والذنوب وغير ذلك . لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به ؟ فإن هؤلاء أوذوا اختيارا منهم لعبادة الله فعودوا وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا وهذا بخلاف من
أوذي بغير اختياره كما أخذ يوسف من أبيه بغير اختياره ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز واختياره السجن على معصية الله أعظم من إيمانه ودرجته عند الله وأجره من صبره على ظلم إخوته له ؛ ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك ولهذا قال تعالى فيه : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } وهذا كالصبر عن المعاصي مع الصبر على المصائب فالأول أعظم وهو صبر المتقين أولياء الله . قال سهل بن عبد الله التستري : أفعال البر يفعلها البر والفاجر ولن يصبر عن المعاصي إلا صديق ويوسف صلوات الله عليه كان صديقا نبيا . وأما من يظلم بغير اختياره ويصبر فهذا كثير ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلو البهائم . وكذلك إذا مكن المظلوم وقهر ظالمه فتاب الظالم وخضع له فعفوه عنه من المحاسن والفضائل لكن هذا يفعله خلق كثير من أهل الدين وعقلاء الدنيا فإن حلم الملوك والولاة أجمع لأمرهم وطاعة الناس لهم وتأليفهم لقلوب الناس وكان معاوية من أحلم الناس وكان المأمون حليما حتى كان يقول : لو علم الناس محبتي في العفو تقربوا إلي بالذنوب ولهذا لما قدر على من نازعه في الملك - وهو عمه إبراهيم بن المهدي - عفا عنه . وأما الصبر عن الشهوات والهوى الغالب لله لا رجاء لمخلوق ولا خوفا منه مع كثرة الدواعي إلى فعل الفاحشة واختياره الحبس الطويل على ذلك كما قال يوسف : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } فهذا لا يوجد نظيره إلا في خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين كما قال تعالى : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين } فهذا من عباد الله المخلصين الذين قال الله تعالى فيهم : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ولهذا لم يصدر من يوسف الصديق ذنب أصلا بل الهم الذي هم به لما تركه لله كتب له به حسنة ولهذا لم يذكر عنه سبحانه توبة واستغفارا كما ذكر توبة الأنبياء كآدم وداود ونوح وغيرهم وإن لم يذكر عن أولئك الأنبياء فاحشة ولله الحمد وإنما كانت توباتهم من أمور أخر هي حسنات بالنسبة إلى غيرهم ولهذا لا يعرف ليوسف نظير فيما ابتلي به من دواعي الفاحشة وتقواه وصبره في ذلك . وإنما يعرف لغيره ما هو دون ذلك كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { سبعة يظلهم الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجل معلق قلبه بالمسجد إذا خرج حتى يعود إليه ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه } وإذا كان الصبر على الأذى لئلا يفعل الفاحشة أعظم من صبره على ظلم إخوته فكيف بصبر الرسل على أذى المكذبين لئلا يتركوا ما أمروا به من دعوتهم إلى عبادة الله وحده وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ؟ فهذا الصبر هو من جنس الجهاد في سبيل الله إذ كان الجهاد مقصودا به أن تكون كلمة الله هي العليا وأن الدين كله لله فالجهاد والصبر فيه أفضل الأعمال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم { رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله } وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه وهو من حديث معاذ بن جبل الطويل - وهو أحب الأعمال إلى الله - فالصبر على تلك المعصية صبر المهاجر الذي هجر ما نهي عنه وصبر المجاهد الذي جاهد نفسه في الله وجاهد عدو الله الظاهر والباطن والمهاجر الصابر على ترك الذنب إنما جاهد نفسه وشيطانه ثم يجاهد عدو الله الظاهر لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله وصبر المظلوم صبر المصاب . لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظم كصبر يوسف صلوات الله عليه وسلامه وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية ويكون أيضا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين وليسلم قلبه من الغل للناس وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه وهو
تعليق