مقتطفات من شرح حديث الافتراق
ليوسف الغفيص.
مذهب السلف .. حقيقته وكيفية ضبطه:ليوسف الغفيص.
إن الناظر في منهج السلف الذي بدأ ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم والمتأمل في سيرة السلف الأول وأخصهم الصحابة الذين قال الله فيهم:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]
يجد عليه سؤالين فاضلين:
السؤال الأول: ماذا يقصد بالقول عن قولٍ ما، أو فعلٍ، أو تصديقٍ، إنه مذهبٌ للسلف؟
السؤال الثاني: بم يضبط مذهب السلف؟
هذان سؤالان لابد لطالب العلم أن يكون على فقهٍ متين فيهما؛ لأن ثمة فواتاً لفقه هاتين المسألتين -ولا سيما في هذا العصر- عند كثيرٍ من السلفيين، وعن هذا ترى أن السلفيين -ولا سيما في بعض الأمصار- صار لهم تجمعات متعددة، وصار كل جمعٍ يسير يعتبر أنه هو المحقق للسلفية.
والسلفية لم تكن يوماً ما مسألة معقدة، أو مسألة من دقائق الحقائق، أو من دقائق المعارف، أو التراتيب، بل هي مسألةٌ بينة، فهي الإسلام والحق الذي بُعثَ به محمد صلى الله عليه وسلم، هي هدي صاحب الرسالة الذي كان يقول: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور مُحدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة) فكل ما خالف هديه صلى الله عليه وسلم، فهو الخارج عن ذلك.
ولفظ السلفية لفظٌ قد استعمل في كلام أهل السنة، وإن لم يطرد القصد إليه في كلام السلف أو محققي أهل السنة، وهو نسبةٌ فاضلة، حيث إنه إضافةٌ إلى السلف الأول الذين أثنى الله عليهم وامتدحهم، وأمر باتباعهم بإحسان، وهم الصحابة رضي الله عنهم، أو: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ..
كما هو حرف القرآن.
حقيقة مذهب السلف والأمور المترتبة على نسبة فعل ما إليه:
إذا أخذنا السؤال الأول، وهو: ماذا يقصد بالقول عن قولٍ ما، أو فعلٍ، أو تصديق: إنه مذهب للسلف؟
قيل: هذا السؤال يترتب على إجابته عدة أمور فيها تعدد: قد يكون مترادفاً، وقد يكون متنوعاً:
الأمر الأول: أن هذه المسألة سنةٌ لازمة لا يجوز لأحدٍ أن يخالفها، وأن ما خالفها يكون بدعةً وضلالة.
الأمر الثاني: أن من تقمص مخالفة هذه المسألة فقد تقمص ضلالةً، ومن دعا إليها فقد دعا إلى ضلالة.
الأمر الثالث: أنه لا يجوز الاجتهاد بخلاف ما قيل عنه أنه قولٌ أو مذهب للسلف.
هذه حقائق لابد أن تكون بينةً لطالب العلم، وهي تترتب على القول عن قولٍ ما أو فعلٍ ما: إن هذا مذهبٌ للسلف، أو من مذهب السلف كذا، أو السلف يقولون كذا، فضلاً عن القول: إن قولاً ما أو فعلاً ما مخالفٌ للسلف، فإن هذا آكد في التصريح، حيث إن وصف المخالفة بأنها مخالفةٌ للسلف أو لمذهب السلف -سواء كانت مخالفةً قولية أو فعلية أو تصديقية- يعني أن هذه المخالفة من البدع، ومن الضلال، ومما لا يعذر أحد بمخالفته، ولا يجوز أن يقال عن صاحبها أنه على الاجتهاد المأذون فيه، بل لابد أن يكون عند صاحبها -وإن سميّ مجتهداً من وجهٍ آخر- تفريط، وتقصير في تحقيق الحق، وفي اتباع السنة
إلى غير ذلك من اللوازم، والمتضمنات لهذه الجملة.
إذا عرف هذا المعنى؛ تبين أن ما يقال فيه: إنه مذهب للسلف، فإن معناه: أنه من جنس مسائل الإجماع، أي أنه إجماعٌ وهديٌ ولزومٌ لا يجوز لأحد الاجتهاد بخلافه، حتى لو فرض أن مبنى الاجتهاد ظاهر من الكتاب أو السنة، فإن هذا الاجتهاد لابد أن يكون غلطاً، ولابد أن يكون هذا الفهم لما استُدل به من الكتاب أو السنة فهماً باطلاً، وضلالاً عن الحق ..
إلى غير ذلك من اللوازم.
وهذه المسألة لابد من ضبطها على هذا التقدير، وإذا تم ضبطها تبين أنه لا يجوز القول عن مسألةٍ من مسائل الخلاف بين الأئمة: إن هذا القول هو طريقة السلف؛ مع العلم أن في المسألة خلافاً بين فقهاء السلف أنفسهم.
وعليه: فإن عامة المسائل المتعلقة بالعبادات وتفاصيلها وإن رجَّح المرجحُ فيها، وإن كان قوله قد نطقت به جملة من النصوص إلى درجةٍ تحاكي الظاهر عنده أو الصريح، ورأى أن القول الثاني بعيدٌ عن هدي السنة أو ظاهرها أو عما يتعلق بذلك من أوجه الاستدلال، مع هذا كله لا يجوز له أن يقول عن هذا القول: إنه مذهبٌ للسلف، أو هذه سنة السلفيين، ومن خالفها فقد خالف طريقة السلف أو السنة السلفية.
وأضرب لذلك مثلاً قد يستعمل كثيراً في هذا العصر، ولابد من التنبيه إلى مثله، مثال ذلك: الإشارة بالإصبع في التشهد ..
هذه المسألة الجمهور من علماء السلف على شرعيتها، وإن اختلفوا في تحديد ما يتعلق به المقام من الإشارة، فهذه مسألة خلافٍ بينهم، ولكن من الفقهاء المتقدمين من لا يذهب إلى ذلك.
فهذا الفعل يصح أن يقال فيه: إن هذا ثابتٌ بسنةٍ صريحة، وأن من خالفها فقد خالف ظاهر هذه السنة إما لكونها لم تبلغه أو لم تصح عنده، وأن قوله غير معتبر، أي لا يصار إليه، ولا يفتى به، ولا يدعى إليه، مع بيان أن السنة هي الإشارة وإن اختلف في تحديد مقامها.
لكن أن يقال: إن هذه من السنن السلفية، وأنه لا يتركها إلا من هو خارج عن مذهب السلف ..
فهذا غلط.
وهذا وإن تعلق ببعض الأحناف إلا أن له مثالاً في سائر الأئمة، بمعنى: أنه إذا تتبعت أقوال الأئمة -كالأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد - فإننا نجد أن لكل إمامٍ في الجملة بعض المسائل التي تخالف بعض ظواهر النصوص البينة، وهذا لكون هذه النصوص إما أنها لم تبلغه أو لم تصح عنده، أو لسبب من أسباب التردد فيها، أو عدم الأخذ بظاهرها أو ما إلى ذلك.
من أمثلة ذلك: أن الإمام مالكاً يذهب إلى أنه لا يستفتح بدعاء الاستفتاح المعروف في الصلاة، مع أن دعاء الاستفتاح روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أوجه متعددة محققة في الصحيحين وغيرهما، فهذا لا شك أنه مخالف لظاهر السنة، لكنه لا يجوز أن يقال: إن ترك الاستفتاح مخالفة لمذهب السلف.
حكم إضافة القول في المسألة المختلف فيها إلى مذهب السلف:
وعليه: فكل مسألةٍ تنازع فيها المتقدمون كالأئمة الأربعة أو من قبلهم، ولم يغلط المنازع بالتبديع أو بوصف قوله بكونه بدعة فإنه لا يجوز إضافتها إلى مذهب السلف المطلق، أي أن يقال: هذه مسألةٌ من مذهب السلف؛ لأن معنى هذا أن هذه مسألةٌ لازمة، وأن الاجتهاد بخلافها اجتهادٌ محرم، وأن من اجتهد وخالف ولو كان إماماً كـ الشافعي أو مالك أو أحمد فإن اجتهاده غلط، وأن عنده تفريطاً في تحقيق الحق واتباع النصوص، ويعني هذا أيضاً: أن المالكية من بعد مالك أو من يقتدي بـ مالك لا يجوز له أن يعتبر قوله
إلى غير ذلك من اللوازم.
ومن الأمثلة كذلك: أن الإمام أحمد نُقل عنه روايات في بعض المسائل تخالف ظواهر من النصوص، وإن كانت الرواية لا تطرد في الغالب في مسائل أحمد، بل يأتي عنه رواية توافق الظاهر من النصوص، وهذا كقوله في إحدى الروايتين عنه: إن الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم ينعقد ..
فهذه روايةٌ معروفة عن أحمد، وإن كانت رواية مخالفة للصواب، ومخالفة كذلك للرواية الثانية عن الإمام أحمد نفسه.
القصد: أن مسائل الفقه التي حصل فيها نزاع لا تضاف إلى السلف، ولو كان الخلاف يسيراً، فضلاً عن أن بعض المسائل التي يضيفها بعض طلبة العلم أو الشيوخ الفضلاء من السلفيين اليوم إلى السلفية مسائل هي على خلاف قول الجمهور من فقهاء السلف، فقد يظهر لهم ظاهرٌ من بعض النصوص يستدلون به على هذا القول، مع أن ظاهر أقوال السلف تكون بخلاف هذا القول، وهذا أكثر إشكالاً.
مخالفة قول الجماهير للظاهر الذي يراه بعض المتأخرين:
ننبه هنا -وإن كان المقام لا يستدعي؛ لأن هذا في منهج الاستدلال الفقهي- إلى مسألة لبيان صحة هذا:
مسألة الاستدلال على الأقوال الفقهية هي مسألة فيها قدر من الإغلاق -أي: من جهة ضبطها- ويراد بهذا الإغلاق أنه أحياناً تظهر بعض الظواهر من النصوص، ومع ذلك الجماهير من أئمة السلف على خلاف هذا الظاهر الذي بلغ المتأخرين، وصار عندهم من صريح الاستدلال.
وأضرب لذلك مثلاً: طلاق الثلاث، من المعلوم أن مسلماً رحمه الله وغيره روى في صحيحه من حديث طاوس عن ابن عباس أنه قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة.
فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمرٍ قد كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم.
فأمضاه عليهم" فظاهر السياق أن عمر فعل ذلك من باب التعزير، وعمر لم يستقر عند هذا المذهب؛ لأن طلاق الثلاث في صدر خلافته كما يروي طاوس عن ابن عباس واحدة.
وهنا سؤال على هذه المسألة: هل هناك سنةٌ صريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك في كتاب الله أن طلاق الثلاث ثلاث؟ أي: إذا طلق الرجل ثلاثاً في مجلسٍ واحد أو نحو ذلك من الصور هل يكون ثلاثاً؟
أو هل هناك سنةٌ صريحة تعارض ما رواه طاوس عن ابن عباس؟
ليست هناك سنةٌ صريحة.
ومن هنا: قد يظهر لطالب العلم أن السلفية النبوية الصديقية العمرية أن طلاق الثلاث واحدة، وأن عمر إنما فعل ما فعل تعزيراً؛ وهذا إذا سلِّم يكون من باب حقوق السلطان في تقرير مسألة التعازير واجتماعه بالفقهاء وتشاوره معهم.
لكن الذي نراه: أن الجمهور من أئمة السلف يقولون: إن طلاق الثلاث ثلاث.
وهنا السؤال: لماذا ترك الجماهير من السلف ظاهر حديث ابن عباس؟
هنا أجوبة يستعملها بعض طلبة العلم ولا سيما المبتدئين في الطلب، يقول: نحن متعبدون بالحق لا بقول الرجال ..
وهذا الجواب جوابٌ إيمانيٌ صحيح لا جدل فيه، ومن أنكره فقد خرج عن السنة، ولربما لو التزمه التزاماً مطرداً قد يخرج إلى حد الكفر؛ فإن من قال: إننا متعبدون بالرجال لا بالحق؛ فهذا كافر.
فهذا جوابٌ سلفي أو إيماني أو شرعي لا جدل حوله، ولكنه متأخر عن التحقيق من جهة أن السؤال ليس عن هذا، إنما السؤال: ما الذي جعل الأئمة المحققين السلفيين الكبار من الطبقة الأولى المتقدمة لا يعملون بهذا الحديث؟
إن كنت تقول: نحن متعبدون باتباع الكتاب، فهم كذلك متعبدون، ولا يستطيع أحد أن يزعم أنه أضبط تحقيقاً للتعبد بالكتاب والسنة من الأئمة لا علماً ولا عملاً ..
وإن كان هذا في الجملة، ولا ينبغي أن يلتزم في الأعيان، فقد يكون من المعاصرين من هو أتقى عند الله سبحانه وتعالى وأكثر تحقيقاً من بعض المتقدمين، أي: أن هذا ليس بلازم.
فهذا الجواب جوابٌ صحيح في نفسه، لكنه ليس في محل النزاع.
وهذا التوارد مسألة مهمة؛ لأن طالب العلم ولا سيما الدارس في الفقهيات يقف أمام هذا الحديث على أنه تسليم، ولذلك يقول: الصواب أن طلاق الثلاث واحدة، وهذا سنة النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر خلافة عمر، والقول بأن طلاق الثلاث ثلاث لا دليل عليه ..
فنقول: هذا منهج غلط، ولا ينبغي أن يعبر عن قولٍ درج عليه الأكابر من جمهور السلف أنه قولٌ لا دليل عليه؛ فإن في هذا تعدياً على السلف؛ فإنه لا يمكن أن يجتمع جمهورهم مع اختلاف أمصارهم على قول يكون عرياً عن الدليل، قد يقال: إنه مرجوح ..
هذا لا بأس، لكن أن يصادر بالقول: هذا قولٌ لا دليل عليه، أو خلاف السنة أو خلاف الهدي ..
فهذا تجنٍ وغلط كبير.
القصد: أن المسألة تأخذ بعداً إلى درجة أن ابن رجب رحمه الله قال: "اعلم أنه لم يصح عن أحد من الصحابة ولا التابعين ولا الأئمة المتبوعين أنه جعل طلاق الثلاث واحدة".
فهو رحمه الله يميل إلى أن هذا من قول الشيعة، وأنه دخل على بعض المتأخرين من أهل السنة.
وليس المقصود هنا الترجيح في المسألةٍ، لكن القصد: أن مسألة الاستدلال مسألة فيها إغلاق على المتأخر في الغالب، بمعنى أن لها استقراءً.
وقد شاع في هذا العصر بين طلبة العلم بحوثٌ فاضلة في مسألة الفرق بين منهج المتقدمين ومنهج المتأخرين في مسألة الحديث والتصحيح والتضعيف والإعلال إلى غير ذلك، ويقال مثله أو أجل منه: الفرق بين منهج المتقدمين والمتأخرين في مفهوم ونظم الاستدلال الفقهي.
وننبه إلى أن مذهب الأئمة الأربعة والسواد من فقهاء السلف أن طلاق الثلاث ثلاث، وأن الجمهور من الأئمة جاءوا لأثرٍ آخر قال فيه ابن عباس: "من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً".
فأيهما أصرح من جهة السنة: كلمته في الطلاق أو كلمته في النُسك؟
كلمته في الطلاق؛ لأنه كان يقول: "على عهد رسول الله .."
وهنا ما قال كل هذا، إنما قال: "من نسي من نسكه شيئاً أو تركه فليهرق دماً".
وكأنه اجتهاد من ابن عباس، فهو لم يضفها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا إلى أبي بكر ولا إلى عمر، ومع ذلك الجمهور من الأئمة بما فيهم الأئمة الأربعة أطبقوا على أن من ترك واجباً في الحج فإنه يلزمه دم، وترددهم في جواباتهم -أعني: جوابات المتقدمين- على قول ابن عباس.
فهذه المسائل وإن لم يكن هذا محلاً لذكرها، لكن الذي ينبه إليه هو: أنه إذا قيل عن مسألةٍ ما أنها مذهب للسلف فهذا يعني اللزوم، ولهذا إذا اختلف فقهاؤهم لا يجوز أن يقال عن أحد الأقوال المرجَّحة: إنه مذهبٌ للسلف.
وعليه: ما أدخله بعض السلفيين اليوم في بعض حركات الصلاة، أو العبادات، أو اللباس، أو نحو ذلك من مسائل النزاع والخلاف بين السلف، وإن ظهر لها دليلٌ ما فإنها ترجح بظاهر الدليل لا بكون هذا من مذهب السلف، وأن من لم يفعل ذلك فليس سلفياً؛ فإن هذا هو التقرير الغلط والصعب، بل هو من التكلف، الذي لم يدرج عليه السلف رحمهم الله، فقد كان فقهاؤهم يختلفون، حتى إنه قد اختلف الصحابة رضي الله عنهم، ولم يصرح أحدهم أن من خالفه فقد خرج عن السلفية.
يتبع إن شاء الله.
تعليق