الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلي وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإنَّ دراسة السنَّة من أهم العلوم وأفضلها وأشرفها عند الله سبحانه وتعالى، وإنَّ من أعظم ما يتقرَّب به المُتقربون إلى الله سبحانه وتعالى ويسعى إليه الساعون هو طلب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك العناية بصحيحِها وسقيمها، فإنَّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه وتعالى، أوحاهُ إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بواسطة جبريل وهي قرينة للقرآن من جهة الاحتِجاج، ولذا فإنّه قد أجمع أهل السنة على أنَّ سنة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه وتعالى، وقد قال الله جل وعلا في كتابه العظيم، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}(سورة النجم3-4)، وهذا بيان من الله سبحانه وتعالى على أنّ سنة النبي وحي من الله جل وعلا، وعلى هذا أهل العلم وكذلك صنيعهم دلّ على ذلك في مصنَّفاتِهم، فالإمام البخاري عليه رحمة الله قد عقد أول كتاب في صحيحه: (كتاب بدء الوحي)، إشارة إلى أنّ ما يليه من هذا الكتاب إنّما هو وحي من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم، ولذا قال مشيراً إلى ذلك في كتاب التوحيد من صحيحه: باب ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه، وهذا محل اتفاق عند أهل العلم أيضاً فقد أخرج الدارمي في سننه وأبو داود في كتاب المراسيل والخطيب في الكفاية والفقيه والمتفقه وابن عبد البر في كتابه الجامع والمروزي في "كتاب السنة" عن الأوزاعي عن حسان قال: كان جبريل عليه السلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في السُنّة كما ينزل عليه بالقرآن.
وقد أخرج الخطيب في كتابه "الكفاية" عن أحمد بن زيد بن هارون قال: إنّما هو صالح، عن صالح، وصالح، عن تابع، وتابع عن صاحب، وصاحب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله عن جبريل، وجبريل عن الله عز وجل، أي فهذه شريعة الله سبحانه وتعالى من كتاب وسنة، إنّما يرويها حتى وصلت إلينا صالح عن صالح وصالح عن تابع وتابع عن صاحب وصاحب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل وجبريل عن الله عز وجل، فلا يقف شيء من وحي الله سبحانه وتعالى عند أحد من هؤلاء دون الله سبحانه وتعالى والنبي صلى الله عليه وسلم فيما يقوله ويفعله، كله وحي من الله جل وعلا، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا سُئِل في شيء من شرع الله سبحانه وتعالى وكان لديه وحي من الله تعالى سابق أخبر به، وإن لم يكن لديه وحي من الله جل وعلا فإنّه حينئذٍ ينتظر خبر السماء ولا يتكلم من دون الله سبحانه وتعالى.
وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أخبار تبين وقوف النبي صلى الله عليه وسلم وعدم كلامه من تِلقاء نفسه، ومن ذلك ما أخرج الشيخان من حديث إسماعيل عن ابن جريج عن عطاء عن صفوان بن أميه عن أبيه أنه كان يقول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ليتني أرى نبي الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، قال: فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وعلى النبي صلى الله عليه وسلم ثوب قد أظل به عليه مع أناس من أصحابه فيهم عمر، إذ جاءه رجل عليه جبة صوف متضمخ بطيب، فقال: يا رسول الله كيف ترى في رجل قد أحرم بعمرة في جُبَّة بعدما تضمخ بطيب؟ قال: فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة ثم سكت، فجاءه الوحي ولم يكن حينئذٍ لدى النبي صلى الله عليه وسلم علماً من الله جل وعلا ووحي سابق، فأشار عمر بيديه إلى يعلى بن أميه أن تعال، فجاء يعلى فأدخل رأسه فإذا النبي صلى الله عليه وسلم محمر الوجه يغط ساعة ثم سرّيَ عنه، فقال: ((أين الذي سألني عن العمرة؟))، فالتُمِس الرجل فجيء به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك))[رواه البخاري1789 ومسلم1180]، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه ذلك الرجل الذي قد تلبس بعمرة، جاءه ولم يكن لديه علم عما تلبس به، فإنه قد لبس المخيط وهي: الجبة وتضمخ بطيب وهما من محظورات الإحرام، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولم يكن لدى النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله جل وعلا سابق، فانتظر الوحي الذي جاءه به جبريل عليه السلام، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن أخباره وأقواله وأحكامه التي يقولها ويفعلها من أمر ونهي أو فعل وترك ونحو ذلك إنَّما هي وحي من الله سبحانه وتعالى بل هي من كتاب الله جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى قد قرن طاعة نبيه صلى الله عليه وسلم بطاعته في غير ما موضع من كتابه سبحانه وتعالى، بل أخبر أنَّ من يعصي رسول الله صلى الله عليه وسلم إنَّما يعصي الله جل وعلا.
أخرج الشيخان قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قال: جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اقضِ بيننا بكتاب الله، قال: فقام خصمه الأعرابي الآخر، فقال: صدق يا رسول الله، اقضِ بيننا بكتاب الله، فقال ذلك الأعرابي: إنَّ ابني كان عسيفاً على هذا - يعني أجيراً يرعى له غنمه - فزنى بامرأته، فقالوا لي على ابنك الرجم، قال: ففديت ابني منه بمائة من الغنم ووليدة، ثم سألت أهل العلم فقالوا إنَّما على ابنك جلد مائة وتغريب عام، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:((لأقضينَّ بينكما بكتاب الله، أما الوليدة والغنم فردٌّ عليك، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، وأما أنت يا أنيس، فاغدُ إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها))، فغدا أنيس إليها فرجمها.[رواه البخاري2696 ومسلم1698].
ومن تأمل أحكام النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأعرابي وخصمه فإنّه يجد النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم أحكاماً ليست في القرآن الكريم بنصها، وإنّما هي من النبي صلى الله عليه وسلم من وحي الله جل وعلا، الذي هو يعد من سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي قرينة القرآن الكريم من جهة الاحتجاج، فالنبي صلى الله عليه وسلم حكم عليه بأنَّ الغنم والوليدة رد عليه ؛ لأنَّها ليست من حكم الله سبحانه وتعالى، وكذلك قد حكم على ابنه جلد مائة، والجلد قد ثبت في كتاب الله سبحانه وتعالى في سورة النور في قوله جل وعلا: {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ}(سورة النور2)، وكذلك قد حكم على ابنه بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام، وتغريب العام أيضاً هو ليس مما نُص عليه في كتاب الله سبحانه وتعالى، وإنَّما هو من سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لأقضين بينكما))، وهذا قَسَمٌ منه صلى الله عليه وسلم: ((لأقضين بينكما بكتاب الله))، وحكم بأن يجلد مائة جلدة ويغرّب عام، وذلك يدل على أنَّ أحكام النبي صلى الله عليه وسلم قرينة لكتاب الله سبحانه وتعالى، الذي هو القرآن الكريم من جهة الاحتجاج.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر في غير ما موضع أنَّ سنَّته وما يرد عنه صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أنّها قرينة لكتاب الله سبحانه وتعالى يحرم ردّها ويحرم الإعراض عنها لقول أحد من الناس، بل أخبر الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم أنَّ عدم توقير أقوال النبي صلى الله عليه وسلم إيذان بإحباط العمل، وقد قال الله جل وعلا في سورة الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(سورة الحجرات2)، فإحباط العمل هنا ليس من الذي تسبب فيه الكفر، فمعلوم أنَّ الكفر بالله سبحانه وتعالى يحبط العمل، ولكن هنا من يرفع صوته عند النبي صلى الله عليه وسلم قد يكونون هم من أهل الإيمان وارتكبوا هذه المعصية، التي رُبَّما تشعر بعدم إجلال لأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع الصوت عند أقوال النبي صلى الله عليه وسلم سواء كان في حياته أو بعد مماته عند سماعِها ممن يتحدَّث بها الحكم واحد، فإنَّ ذلك مظنَّة حُبوط العمل والعياذ بالله، وإن لم يكن كفراً، فما الظَّن إذاً بمن قدَّم على قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهجه وهديه قول غيره ونهجه وهديه، أليس هذا قد حبط عمله من غير أن يشعر!!
أخرج الشيخان من طريق صالح عن بن شهاب قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة عن أبيها الصديق قال: "لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلاَّ عملت به إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ".
وهذا الصّديق يخاف إن ترك السنَّة أن يزيغ فماذا عسى أن يكون من وقت وزمان أضحى أهله يستهزِئون بنبيهم وبأوامره ونهيه، ويتنافسون في مخالفته، بل ويسخرون من نهجه..
وقد أجمع المسلمون على أن من ظهر له من السنة شيء لم يحل له أن يدعها لقول أحد كان.
وإذا علم هذا علم عظمة التعبُّد بالعناية بالوحي وكذلك الاعتناء بما يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم والتعبُّد بما فيه، وإذا علم أنَّ سنّة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله جل وعلا، فإنّه حينئذٍ يعلم شرف ذلك العلم وفضله عند الله سبحانه وتعالى.
وقد كان السلف الصالح عليهم رحمة الله كثيراً ما يعتنون بمعرِفة أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحواله، وكذلك فإنّ مجالس الذِّكر إنَّما هي مجالس الحلال والحرام ليست هي مجالس القصاص ونحوها، إنَّما هي مجالس الحلال والحرام، معرفة الفقه ومعرفة أحكام القرآن وتفسيره ونحو ذلك، فقد أخرج أبو نعيم في كتابه الحِلية من حديث أبي عبد الملك قال: حدثنا يزيد بن سمرة أبو هزان قال: سمعت عطاء الخراساني يقول: "مجالس الذِّكر هي مجالس الحلال والحرام".
وقد أخرج أيضاً أبو نعيم من حديث يحيى بن كثير قال: "تعلّم الفقه صلاة، ودراسة القرآن صلاة".
فإذن إذا علم أنَّ سنَّة النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله سبحانه وتعالى فإنَّه يُعلم شرف ذلك العلم وعظمة الأجر عند الله سبحانه وتعالى لمن تتبع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وتفقه فيها، وسعى في حفظها وفي معرفة صحيحها من سقيمها، والذَّب عنها، وهذا من أرفع الدرجات عند الله لمن رزق الإخلاص والنيّة الصالحة، وقد قال يحيى بن يحيى النيسابوري: "الذَّب عن السنّة أفضل من الجِهاد في سبيل الله". قيل له: الرجل يُنفِق ماله ويتعب نفسه ويجاهد، فهذا أفضل منه؟، قال: "نعم بكثير".
وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "المتّبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو عندي اليوم أفضل من الضرب بالسيوف في سبيل الله".
وهذا يدل على فضل الجهاد كما يدل على فضل السنَّة حيث وقع التفضيل بينهما لِعلُو شأنهِما في الإسلام.
تعليق