الصوفية
كلمة الصوفية مأخوذة من كلمة (سوفيا) ومعناها في اللغتين اليونانية والهندية القديمة (الحكمة)، ومنها اشتقت كلمة (فيلاسوفيا) (فيلسوف) ومعناها (محب الحكمة)، كما أن كلمة (ثير صوفية) معناها الحكمة المتعلقة بالإله، وهي مذهب معروف قديماً وحديثاً.
والهندوس يطلقون كلمة الصوفية على رهبان البراهمة، وحكمائهم الروحانيين الذين يهيمون في الغابات عراة، باحثين عن الحكمة والمعرفة -بزعمهم- والغاية عندهم الاتحاد بالله والفناء في ذاته، تعالى الله عما يصفون.
وفي الإسلام لم يسمع هذا المصطلح -أي: مصطلح الصوفية - إلا في نهاية القرن الثاني للهجرة، وكان يطلق حينئذٍ على أفراد شاذين اعتزلوا الناس منقطعين في رهبانية مخالفة لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في التعبد.
وكان علماء الجرح والتعديل والمؤلفون الأوائل في الفرق يطلقون عليهم وصف (الزنادقة) وكان بعضهم لا صلة له بالإسلام أصلاً، وإنما هم رهبان غامضون يسيحون في الأرض ويعيشون في المغارات والأودية المقفرة.
وانتشرت الصوفية في القرنين الثالث والرابع، ولكن زعماءها ظلوا متهمين بالزندقة، وجرت محاكمتهم على ذلك مراراً، وكان ممن حوكم الجنيد، والنوري، وذو النون المصري، ومنهم من قتل كـالحلاج .
وفي القرن الخامس ظهر أبو حامد الغزالي (المتوفى سنة 505) فكان له أكبر الأثر في نشر الصوفية في العالم الإسلامي وإلباسها بلباس الإسلام.
والغزالي فقيه ومتكلم ذو سمعة وشهرة، وقد خلط في مؤلفاته بين هذه العلوم وبين ما نقل عن الصوفية قبله كـالمحاسبي، وأبي طالب المكي، وأضاف إليها من آرائه وفلسفته، فانتشر التصوف وقبله الناس.
(( والصوفية حكَّموا ما يسمونه الكشف، أو الوجد، أو الذوق، وقسموا الدين إلى حقيقة وشريعة، فالشريعة هي ما جاء في الكتاب والسنة، وكلام السلف والفقهاء، ويسمونها: (علم الظاهر)! والحقيقة هي ما يأتي من طريق الإلهامات والرياضات الروحية والمنامات، ويسمون ذلك (العلم الباطن) أو (العلم اللَّدُنِّي).
ويرمزون للعلم الظاهر بعلم الوَرَق، والعلم الباطن بعلم الخِرَق! ولهذا ورد عن بعض أئمتهم قوله: (تأخذون -يعني: علماء السنة- علمكم ميتاً من ميت، فتقولون: حدثنا فلان عن فلان.. ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت، فنقول: (حدثني قلبي عن ربي) !!
وإيماناً بهذا المصدر، لم يكن الصوفية يرحلون في طلب العلم، أو يهتمون بكتب السنة والفقه، وإنما كانوا يرحلون إلى الخلوات والأديرة، ويقابلون الرهبان من النصارى والبوذيين وغيرهم، فيسألونهم عن دقائق المعرفة والأحوال. كما أنهم اشتغلوا بالأشعار وسماع الأغاني؛ لإثارة الوجدان وتحريك القلب، وأعرضوا عن سماع القرآن وتلاوته. ))
من أسباب انتشار التصوف.
مما مهد لذلك أن الأمة الإسلامية كانت مرهقة بثورات الباطنية وسيطرة الحكومات الرافضية، وكان علماء السنة يتعرضون للأذى من دول الرفض، ويحاربون الاعتزال والكلام والباطنية على المستوى الثقافي، في حين كانت الصوفية تنهش في الطبقات الدنيا من الناس.
وواكب ذلك تدفق الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي، فتكاثر أهل الباطل ونشطت سائر أحزابه على كل صعيد.
ومما أسهم في انتشار التصوف من غير قصد انتشار علم الكلام بما فيه من جفاف وتعقيد وتحكيم العقل والرأي والبحث المجرد، فوجد الناس من التصوف بما فيه من ابتعاد عن التعقيد الفلسفي واعتماد على الكشف والأحلام والإلهامات... إلخ، ملجأً ومهرباً من علم الكلام وأهله.
هل التصوف خاص بالمسلمين؟
يتفق الباحثون في الأديان والمذاهب على أن التصوف فلسفة عالمية واتجاه إنساني عام يوجد في جميع الأديان والأوطان، وأنه أشبه شيء بالديانة الهندوسية في غاياته ووسائلة وكثرة طرقه وتناقض معتقداته.
والاتجاهات الصوفية على اختلاف أسمائها وطرقها ظهرت وما تزال تظهر في أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها.
أما التصوف المنتسب للإسلام فهو طرق كثيرة وشُعب متباينة، وللتيسير على القارئ نقسمه كالتالي:
أقسام التصوف
أولاً التصوف الغالي:
وهو الذي غلا أصحابه حتى خرجوا من الإسلام بالكلية (أو لم يدخلوه أصلاً، وإنما تلبسوا به ليهدموه أو ليسلموا من عقوبة أهله) وهو اتجاهان رئيسيان:
1- التصوف الفلسفي:
وهو المبني على فلسفة اليونان والهند وأصحابه أقرب شيء إلى الباطنية، وهم يهتمون بالخوض في المباحث الإلهية والكونية على الطريق الفلسفية، ولهذا نجد كتاباتهم تفيض بالمصطلحات الفلسفية، مثل: (العقل الكلي، النفس الكلية، الأعراض، الجواهر، الصورة والهيولي).
وهم يؤمنون بالاتحاد (اتحاد الخالق بالمخلوق) ووحدة الوجود.
ومن أشهر المنتسبين للإسلام منهم: ابن عربي، وابن الفارض .
2- التصوف الرهباني:
نسبة إلى الرهبانية ويطلق عليه التصوف البوذي وهو المبني على الرياضات والخلوات والمجاهدات والخيالات. وأصحابه أقرب شيء إلى البوذية، وهم يهتمون بالخوض في الوساوس والخطرات وقمع النفس مستخدمين السياحة في الأرض والانقطاع في الفلوات، ويكثرون من الأشعار والقصص والذكر بطريق الرقص والتمايل، كما يهتمون بالخوارق والكرامات، ويستخدمون السحر والجن لذلك.
وعقائد هذا القسم كثيرة، منها: الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ومنها التفويض وهي: (أن الله يفوض تدبير العالم إلى الأقطاب والأولياء).
ومعظم الطرق الصوفية في العالم الإسلامي تنتمي لهذا الاتجاه على تفاوت فيما بينها مع خلطه ببعض ما عند القسم الأول، فالتصوف -كما سبقت الإشارة- ليس فكرة محددة، ولكنه اتجاه واسع وطرق متناقضة، والصوفي يؤمن بمتناقضات كثيرة في آن واحد.
ثانياً: التصوف البدعي:
ينتمي بعض المسلمين قديماً وحديثاً إلى التصوف عن حسن نية، ظناً منهم أنه مجرد اصطلاح يطلق على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المراقبة والمحاسبة، والرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، ولكن يندر وجود من ينتسب إلى التصوف مع الخلو من البدع صغيرة أو كبيرة، وأكثرهم تفسد عقائده في الصفات والقدر، ونظرته للدنيا وغيرها، مما كان له أثر واضح في انحطاط الأمة اعتقاداً وعلماً وحضارة كما سيأتي.
ومما كان صحيح العقيدة والعبادة من المسلمين، فلا يجوز أن ينتسب أو ينسب إلى التصوف ولا إلى غيره، وإنما يكون الانتساب إلى الإسلام والسنة كما أسلفنا.
علاقة التصوف بالفرق:
أكثر الفرق علاقة بـالصوفية هي الشيعة، فالصلة بين التصوف والتشيع عميقة جداً، وقل من شيوخ الصوفية من لا ينتسب إلى أهل البيت، والصوفية تدعى فيهم ما تدعيه الشيعة كالعلم الباطن والتصرف في الكون، ويعبدون أئمتهم كما تفعل الشيعة أيضاً.
والحقيقة التي أعلنها الباحثون من شرقيين وغربيين قديماً وحديثاً هي: أن التشيع الغالي والتصوف الغالي والباطنية ثلاثة أوجه -أو ثلاثة مظاهر- لشيء واحد له غاية واحدة مشتركة هي تقويض الإسلام من الداخل.
الطريق عند الصوفية وأركانه:
الطريق عند الصوفية رمز للمنهج الذي يسير عليه العابد ليصل إلى معبوده.
وللصوفي ثلاثة أوصاف بحسب سيره في الطريق:
1- المريد: وهو الصوفي المبتدئ الذي يتلقى عن الشيخ.
2- السالك: وهو الذي يقوم بالرياضات والمجاهدات ليصل إلى الغاية.
3- الغاية: وهي الفناء في الإله المعبود أو الاتحاد به، ولهذا يؤمن غلاة الصوفية بسقوط الأوامر والنواهي والتكاليف عن الواصلين؛ لأن الغرض من الصلاة والزكاة والصوم... إلخ، بزعمهم -هو الوصول إلى الله، فمن وصل فلا حاجة له بها.
أركان الطريق:
الأول: الشيخ:
فلا يستطيع أحد الوصول إلى الله بمفرده أبداً، والشيخ عند الصوفية ليس مجرد واسطة أو وسيلة للتربية كالأب أو المعلم، بل هو واسطة للإيمان والقبول.
ولهذا فطاعته مطلقة، ويجب أن يكون المريد بين يديه كالميت بين يدي الغاسل، ولا يجوز للمريد أن يعترض على شيخه، مهما فعل من قبيح أو حرام ولو كان هذا الاعتراض في سر المريد، بل يجب أن يسلم له ظاهراً وباطناً.
وعلى المريد أن يلتزم بما يجلبه الشيخ من أوامر وأذكار وصلوات، وأن يتأسى به ويذيع كراماته ويدافع عنه.
الثاني: الخلوة:
المتصوف الحقيقي لا بد له من الخلوة سواءً أكانت في زاوية أو في صحراء أو غابة، وأقل ما تحصل به الخلوة أن يلف على رأسه ووجهه كساءً غليظاً يختفي به عن الناس، ويطيل ترديد الأوراد ويفرغ قلبه من كل شيء.
وفي الخلوة ينقطع الصوفي عن الناس حتى عن الجمعة والجماعة، ويلتزم بصيام معين وأوراد معينة حتى يكاشف ويفتح عليه.
الثالث: الفتح والمكاشفة:
مع دوام الخلوة والذكر يأتي الفتح أو المكاشفة وهو يطلق على أشياء كثيرة، فقد يكون نداء وخطاباً يسمعه، أو صورة يراها أمامه، أو خارقة تجري على يديه ونحو ذلك مما هو بلا شك من إيماءات الشياطين أو أصواتهم وأفعالهم.
الرابع: الكرامة:
لكي يكون الصوفي ولياً لا بد له من كرامة كما أنه لا بد لكل نبي من آية (معجزة)، وتدعي الصوفية لأوليائها كرامات كثيرة بعضها كذب واختلاق، وبعضها من آثار الرياضة الطويلة، أو من آثار السحر والاستعانة بالشياطين، أو الاحتيال بحيل خفية.
فقد يطير الواحد منهم في الهواء أو يمشي على الماء، أو يطعن نفسه ولا يضره شيء، أو يدع الطعام والشراب زمناً طويلاً... إلخ، ويدعي أن هذا كرامة بسبب ولاية له.
وهذا من أوضح الأدلة على فساد التصوف وانحرافه عن الإسلام، فإن أعلى الأولياء هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم تحصل لهم مثل هذه الأمور.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بالكرامة الحقيقية، ومع ذلك يؤمنون بأن أعظم كرامة للمؤمن هي تمسكه بالكتاب والسنة، وتجنبه للبدع والفواحش، وجهاده ودعوته إلى الله تعالى، والصبر على الأذى في ذلك.
أما هذه الخوارق فإن سحرة الفراعنة والهنود واليهود، يفعلون مثلها وأعظم منها، فما لم يكن التمسك بالسنة والاجتهاد في التقوى هو مقياس الولاية فلا فرق بين الولي والساحر والمشعوذ.
أهم العقائد الصوفية:
1- الحلول والاتحاد والفناء كما هي عند الهندوس والبوذين.
2- أن الحقيقة أو المعرفة لا تؤخذ من نصوص الكتاب والسنة، وإنما تنال بالكشف أو العلم اللدني (الباطن) والإلهام والذوق (أي: أن للوحي عندهم مفهوماً أعم، ولهذا لا ينحصر في الأنبياء، بل هو عام لكل الأولياء).
3- سقوط التعبدات والتكاليف عمن وصل غاية الطريق وحصل على اليقين بزعمهم.
4- ادعاء ولاية الله وتفضيل الولي على النبي عند كثير منهم، وتفضيل خاتم الأولياء المزعوم عندهم على خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب ظهور كثير ممن يدعي أنه خاتم الأولياء في كل العصور، ومع ذلك نجد الصوفية يوالون الجميع ويقدسونهم.
5- ادعاء الكرامة والتحدي بها.
6- الإيمان برجال الغيب وهم الأقطاب والأوتاد والنقباء والنجباء... إلخ.
ويعتقدون أن الله تعالى أسند إليهم التصرف في الكون وتدبير العالم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
ولهذا يدعونهم ويستغيثون بهم ويقيمون لهم الأضرحة والمقامات ليقصدها الناس للتبرك والدعاء.
7- التعبد بالبدع والضلالات: فهم يتخذون الخلوات ويعينون من عند أنفسهم أحزاباً وأوراداً تردد آلاف المرات في أوقات مخصوصة، ويتخذون الرقص والغناء وسيلة للترقيق والتزكية والتقرب.
8- الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم -كما تغلو الشيعة في علي، وكما يغلو البوذيون في بوذا، والنصارى في عيسى.
ومن ذلك: زعمهم أنه أول المخلوقات، وأن الله تعالى خلقه من نوره -تعالى الله عما يصفون- وأنه يعلم الغيب كله، وأن بيده مقاليد السماوات والأرض، وابتداع صلوات معينة يصلون بها عليه وفيها إطراء وغلو.
ومن ذلك: دعاؤهم إياه واستغاثتهم به من دون الله. وقد نقلوا ذلك للأقطاب وسائر رجال الغيب.
أثر التصوف في الأمة الإسلامية:
للتصوف آثاره العظيمة في عقيدة الأمة الإسلامية وحياتها عامة ومن أهم هذه الآثار:
1- إفساد توحيد العبادة بما أدخل الصوفية من الشرك وعبادة الموتى، وقد نقل الشيعة والصوفية ذلك من البوذية إلى الإسلام، وانتشرت في أيام حكم العبيديين (في مصر والمغرب ) ودول الرفض في المشرق.
2- إفساد توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات بعقائد الحلول والاتحاد وتمثيل الله بخلقه، ومن ذلك: ما اشتهر عن كبارهم من شطحات مثل: (أنا الحق) و(سبحاني سبحاني ما أعظم شاني) و(ما في الجبة إلا الله).
وما اشتهر عنهم من عشق الصور الجميلة زاعمين أن الله حل فيها، أو أنها مظاهر لجمال الله، تعالى الله عما يصفون.
3- تمزيق الأمة الإسلامية وبعثرة انتمائها، فـالصوفية طرق كثيرة متناقضة ينتسب إليها كثير من المسلمين، مثل: القادرية، الرفاعية، التيجانية، الشاذلية، النقشبندية، الميرغنية، الأحمدية -نسبة لـأحمد البدوي -ولكل طريقة أحزاب وأوراد وتعبدات وصلوات نبوية خاصة، وكل منها يدعي أنه وحده على الحق والصواب. بل كل طريقة تنقسم إلى فرق وطرق كثيرة.
4- ترك الجهاد: بل ترك الأعمال عامة: فـللصوفية أثر عظيم في هذا، ومن الثابت تاريخياً تعاون بعض مشايخ الصوفية مع التتار حين دخول بغداد، ومع المستعمرين الأوروبيين في العصر الحديث.
5- انحطاط الحياة العلمية: ينحصر اهتمام الصوفية في الرياضات والخلوات، والأوراد والحضرات، وقد كان لهذا أثره في الانصراف عن العلم، فضلاً عن احتقار الصوفية للعلم، حيث يسمونه العلم الظاهر أو علم الورق أو علم الرسوم.
كما أن الصوفية باهتمامها بالكشف والإلهام ونحوه أسهمت في إضعاف التفكير والاجتهاد وعمل العقل عامة.
6- انحطاط الحضارة الإسلامية: إضافة لما في الفقرة السابقة، كان للصوفية أثر بالغ في تقهقر الحضارة بحرصها على الفقر والتسول، وميلها إلى اتخاذ وسائل وهمية، مثل ما يسمى: بالحجُب والتعاويذ والحصون التي يعتقدون فيها جلب النفع أو دفع الضرر.
7- تغيير المفهوم الحقيقي لبعض العقائد والمصطلحات الشرعية، مثل: التوكل والزهد والقدر حين حولوها إلى تواكل وتسول وجبر.
د. سفر الحوالي.
تعليق