من مشاهد الإيمان في شهر رمضان
مشهد التوحيد
ثبت في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله تعالى قال: كلُّ عملِ ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به)).
فأول مشهد يَشهده الصائمون مشهدَ توحيد الله - عز وجل -
وتوحيد الله يَنقسِم إلى: توحيد الربوبيَّة، وتوحيد الإلهية، وتوحيد الأسماء والصفات.
فيشهد - أولاً - توحيد الربوبية بأنه - سبحانه - المتفرِّد في الكون بالخلق والإيجاد، والمُلْك والتصرف، فهو الذي خلَق الإنسان من العدم، وأسبَغ عليه النعم، فخلق العباد وخَلَق لهم ما في الأرض مباحًا طيبًا إلا ما حرَّمه عليهم: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [البقرة: 29].
وهو الذي أودع فيهم شهوةَ الطعام وشهوة النكاح، فقال تعالى ممتنًّا على عباده: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا﴾ [الأعراف: 189].
واقتضت رحمة الله - تربيةً لنفوس عباده - أن يُزكِّي الإنسان لتسمو رُوحه، وليستعلي المؤمن بإيمانه على فتنةِ النَّفْس والشهوة، وثقلة اللحم والدم، والرغبة في المتاع والسلطان، فلم يتركه ربنا فريسة لشهواته وأهوائه، بل أمدَّه بما يُصلِحه بفريضة الصيام، فهو سبحانه (رب العالمين) الذي يتولَّى تربيتهم بما فيه صلاحهم.
فإذا شهد الصائم هذا المشهد ارتقى إلى مشهد الإلهية ومعنى الإلهية: هو توحيد الله بالعبادة فلا تُصرَف لغيره، وتفرُّده بالأمر، وذلك معنى قوله: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ﴾ [الأعراف: 54]، فله الخلق - توحيد الربوبية - وله الأمر - توحيد الإلهية. فهو - سبحانه - الذي يفرض حُكمَه فيبيح لعباده ما شاء ويُحرِّم عليهم ما شاء.
ويتجلى ذلك في الصيام فقد حرَّم عليهم ما أباحه لهم من الطعام والشراب والنكاح وقتًا من الزمان، وهو نهار رمضان، فإذا كان يوم العيد حرَّم عليهم صيام ذلك اليوم.
فسبحان من له الأمر! حرَّم عليهم الفِطر في نهار رمضان، وحرَّم عليهم الصوم يوم العيد.
فيشهد العبد بقلبه ربًّا جليلاً مستويًا على عرشه يأمر خلْقه بما شاء، وينهاهم عما شاء فيُحِل لهم ما يشاء ويُحرِّم عليهم ما يشاء، فهو الإله الحق.
فالحلال ما أحلَّه الله، والحرام ما حرَّمه الله، والدين ما شرعه الله.
قال تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ [يونس: 59].
وأما كون الصيام لا يُصرَف إلا لله؛ فذلك لأنه عبادة السرِّ، وقد اختصَّ الله الصوم لنفسه دون غيره من العبادات، فقال: ((إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به)).
لذلك قالوا: إنه العبادة التي لم يُعبَد بها سواه، فالركوع والسجود عُبِد به غير الله، والحج ونحوه عُبِد به غير الله، ولكن الصوم عبادة لم يُعبَد بها سواه. ثم ينتقل الصائم بعد ذلك إلى مشهد (الأسماء والصفات) فيشهد صفات الله العُلى، وأسماءه الحسنى في تشريعه الصوم وتحريم الطعام والشراب والنكاح على الصائم.
فيشهد ربًّا غنيًّا لا يفتقر إلى شيء، بل هو (القيوم) وقيام كل أمر به - سبحانه. قال تعالى: ﴿ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ ﴾ [يونس: 68] وقال تعالى: ﴿ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [الأنعام: 101]. ويشهد معاني أسماء العزة والقوة، فهو - سبحانه - (العزيز) (القوي) (المهيمن) (الكبير) (المالك) بما فرضه على عباده.
وهو - سبحانه - (الحكيم) (الرحمن الرحيم) في حكمته في التشريع فلم يُعنِت عباده، ولم يفرِض عليهم الآصار، إنما فرض عليهم ما في وُسْعهم: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، ففرض عليهم شهرًا واحدًا في العام، فهذه رحمة الله بخلقه، كما أنه فرض عليهم من عبادة الصلاة خمس صلوات فقط، وفي الحج مرة واحدة في العمر، وهكذا نجد الرحمة في فرائض الله في جميع أحكامه. ويشهد معنى (الرقيب) (البصير) الذي يراهم أينما كانوا فيُراقِبون الله سرًّا وجهرًا ويُخلِصون العمل له.
وهكذا تنجلي معاني العبودية، فيكون الصائم في حِفْظ الله وعنايته، حيث يقول ربنا - تبارك وتعالى -: ﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [الزمر: 36]، والله الموفِّق إلى سواء السبيل.
موعظة: يا غافلاً عن القيامة، ستدري بمن تقع الندامة، يا مُعرِضًا عن الاستقامة، أين وجه السلامة، يا كثير الخطايا سيَخِف ميزانك، يا مشغولاً بلهوه سيُنشَر ديوانك، يا أعجمي الفَهْم متى تفهم؟ أتؤثِر على طاعة الله كسْبَ درهم؟ وتفرح بذنب عقوبته جهنم، ستعلم حالك غدًا ستعلم، سترى مَن يبكي ومَن يندم!
شبكة الألوكة
تعليق