الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} سورة آل عمران 102.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} سورة النساء 1.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} سورة الأحزاب 70-71.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله:
لقد جاءت هذه الشريعة لتحقيق التوحيد وتكميله وتحصينه، جاءت بأعظم معروف وهو التوحيد، ونهت عن أعظم منكر وهو الشرك، فسدت طرق الشرك والأسباب المؤدية إليه، قطعتها قطعاً، وكذلك فإنها حمت التوحيد بجميع الوسائل ووفّرتها وكثّرتها.
عباد الله:
لا بد أن نعتني بتوحيدنا وعقيدتنا، وأن نجعل هذا التوحيد خالصاً لله تعالى، وأن لا نجعل شركاً، فإن الله لا يغفر أن يشرك به، وقد ذهب جمع من العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إلى أن الشرك الأصغر والخفي لا يغفره الله تعالى إلا بتوبة، فلا يكفر ولا يدخل في المشيئة إلا إذا تاب منه صاحبه، فإن الله يتوب عليه، ولذلك لا بد أن نكثر كثيراً من التوبة والاستغفار من جميع أنواع الشرك، وأن نقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك به شيئاً نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه.
ومن الموضوعات التي يقع فيها الشرك في الناس: مسألة التبرك يا عباد الله، مسألة التبرك، وهذه القضية تحتاج إلى شيء من التوضيح، ولعلنا نلقي عليها بعض الضوء في هذه الخطبة.
البركة من الله.
أما البركة فإنها دوام الخير، وزيادته، وكثرته، وثبوته أيضاً، والبركة من الله تعالى فهو مصدرها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وبارك لي فيما أعطيت).
فإنها تطلب من الله تعالى، فهو مصدر البركة عز وجل، ونحن نقول: "تبارك وتعالى" يعني: كمُلت بركته، وعظمت بركته، كثر خيره وإحسانه إلى خلقه، وخيره هو الذي يدوم، وإذا شاء أن يكثر خيراً فلا راد لفضله، فهو سبحانه وتعالى المبارك حقاً، لا يبارك أحد من الناس، وإنما الله هو الذي يبارك، ولهذا كان كتابه مباركاً، ورسوله مباركاً، وبيته مباركاً، والأزمنة والأمكنة التي شرفها واختصها عن غيرها مباركة، وإذا طلب أحد البركة من غير الله فإنه كمن طلب الرزق من غير الله، فطلب البركة من غير الله تعالى شرك، ومن اعتقد أن شخصاً هو الذي يبارك فقد أشرك بالله تعالى، والأشياء المباركة من الأعيان، والأقوال، والأفعال، والأشخاص، ونحو ذلك، إنما كانت مباركة لأن الله جعل فيها بركة، وهي سبب للبركة، وليست واهبة للبركة، كما أن العبد يستخدم الأدوية والرقى وهي سبب للشفاء، وليس الدواء واهب الشفاء، وإنما الله هو الذي يشفي، وما ذكر الشرع أن فيه بركة، فيستعمل استعمال السبب، قد يتخلف وقد يحصل.
لقد كانت جويرية بنت الحارث رضي الله تعالى عنها بركة على قومها، فقالت عائشة رضي الله عنها: "فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها" والسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أغار على بني المصطلق على حين غرة منهم، وأخذ من أخذ من السبي، تزوج النبي صلى الله عليه وسلم جويرية رضي الله عنها، ولما رأى الناس أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم عندهم عبيداً وإماءً أعتقوهم لهذا السبب، فعتق مائة أهل بيت من قومها. فهي ليست مصدر البركة، وإنما كانت سبباً للخير والنماء والزيادة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(البركة من الله).
بركة النبي صلى الله عليه وسلم في حياته.
ومن أعظم الذوات المباركة ذات النبي صلى الله عليه وسلم، فذاته ذات مباركة، جعل الله فيها بركة خاصة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون من عرقه وبصاقه فيتمسحون به، وكذلك لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، والحلاق يحلقه أطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل. رواه مسلم رحمه الله تعالى.
ومن أعظم الذوات المباركة ذات النبي صلى الله عليه وسلم، فذاته ذات مباركة، جعل الله فيها بركة خاصة، ولذلك كان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون من عرقه وبصاقه فيتمسحون به، وكذلك لما حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه، والحلاق يحلقه أطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل. رواه مسلم رحمه الله تعالى.
وكذلك روى عن أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل في بيت أم سُليم فينام على فراشها وليست فيه، ليست هي فيه، وهي من محارم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فأُتيت فقيل لها: هذا النبي صلى الله عليه وسلم نام في بيتك على فراشك، قال: فجاءت وقد عرق عليه الصلاة والسلام واستنقع عرقه، تجمع العرق على قطعة أديم على الفراش، ففتحت عتيدتها رضي الله عنها، وهو الصندوق الصغير الذي تجعل فيه المرأة ما يعز عليها من المتاع، فجعلت تنشف ذلك العرق فتعصره في قوارير، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ما تصنعين يا أم سليم؟) فقالت: يا رسول الله نرجو بركته لصبياننا، قال: (أصبت). وفي رواية قالت: أدوك به طيبي. يعني: أخلط طيبي بعرقك، حتى يزداد طيباً، فأقرها النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك الأعرابي أيضاً الذي جاءت قصته في الحديث الصحيح أنه لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم قد اكتسى شملة استوهبه إياها وطلبها منه، فلامه الصحابة، فقال الأعرابي: رجوت بركتها حين لبسها النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي أكفن فيها.
وهكذا كانوا يلتمسون بقية شرابه صلى الله عليه وسلم؛ ليشربوا منه، وهذه الأحاديث الصحيحة، تدل على أن ذاته صلى الله عليه وسلم، وما انفصل من جسده من شعر، وعرق، ولباس، وما استعمله من الأواني قد جعل الله فيه من البركة ما يُستشفى به ويُرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، من الذي جعل فيه البركة؟ الله عز وجل، من الذي جعله سبباً للشفاء؟ الله عز وجل.
كان الصحابة يأخذون من أثره فيضعونه عليهم عند إصابتهم بعين، أو مرض، أو حمى، فيشفيهم الله تعالى، فذاته صلى الله عليه وسلم ذات مباركة؛ لما وضع الله فيها من البركة، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وتطاول الزمن ذهبت آثاره، وذهب شعره، ولباسه، وآنيته، وسلاحه، ولم يعد لدينا إثبات الآن بأن هناك بقية من ذاته قد بقيت، وليس كل متحف وضع شعرة في علبة، أو وضع سيفاً في خزانة، فهذا الوضع دليل على أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلا، لا نملك إثباتاً الآن على بقاء شيء من ذاته، فلذلك لا يجوز ادعاؤه، ولا استعماله.
بركة القرآن الكريم بقراءته والاستشفاء به.
وكلام الله تعالى القرآن الكريم لا شك أنه مبارك؛ لأنه كلام ربنا، وكلامه صفة من صفاته تعالى، ولذلك كان هذا القرآن مبارك وفيه شفاء للناس، وبسبب قراءته يحصل الخير العظيم للعبد، ألم تر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن البقرة وآل عمران أنهما تأتيان يوم القيامة تحاجان عن صاحبهما. وقال عليه الصلاة والسلام: (اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة) اقرؤوها واحفظوها (فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة). يعني: السحرة، حديث صحيح، فهي بركة سورة البقرة، ومضادة للسحر.
ومن بركات كتاب ربنا أنه ُيستشفى به، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ على نفسه بالمعوذات، وأقر الصحابي لما قرأ اللديغ بسورة الفاتحة، وكان بعض أهله صلى الله عليه وسلم يمسح بيده الشريفة اليمنى ويقول: (اللهم رب الناس، أذهب الباس، اشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقماً). يعني: لا يترك سقماً، فأدعية مباركة من النبي صلى الله عليه وسلم، فيها بركة وهي هذه الأذكار الشرعية التي ينبغي الحرص عليها، وهذه الأدعية النبوية، بالإضافة إلى كلام ربنا.
ومن الهيئات المباركة الاجتماع على الطعام، والأكل من جوانب القصعة، ولعق الأصابع بعد الطعام، وكيل الطعام، لما جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله عليه يبارك لكم فيه). وقال صلى الله عليه وسلم: (البركة تنزل في وسط الطعام فكلوا من حافتيه ولا تأكلوا من وسطه). وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليلعقن أصابعه، فإنه لا يدري في أيتهن البركة) وقال صلى الله عليه وسلم: (كيلوا طعامكم يبارك لكم). حديث صحيح رواه الإمام البخاري رحمه الله تعالى.
الأماكن والبقاع المباركة وأحبها إلى الله المساجد.
وأما الأماكن المباركة فقد ثبت أن المساجد بقاع مباركة، وأن (أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها). وعلى رأس المساجد المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى).
وكذلك قال صلى الله عليه وسلم: (من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء فصلى فيه صلاة كان له كأجر عمره). حديث صحيح رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، إذا كان في المدينة يأتي قباء، وإذا جاءه يوم السبت ففيه أجر وفضل، وأما المساجد الثلاثة فيجوز السفر إليها، وقصد السفر لأجلها، وأما غيرها فلا يجوز شد الرحال إليه.
يا عباد الله:
إن التبرك بالمساجد لا يكون بالتسمح بترابها، ولا بجدرانها، ونحو ذلك؛ لأن التبرك عباده، ويشترط فيه المتابعة، والتماس البركة في المساجد يكون: بالاعتكاف فيها، وانتظار الصلوات، وصلاة الجماعة، وحضور مجالس الذكر، ونحو ذلك فِي {بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ} سورة النــور 36-37.
ومن البقاع المباركة العظيمة مكة، التي دعا الخليل ربه أن يجعل فيها البركة، فجعل فيها البركة، وفيها بيت الله المبارك، بيت الله العتيق، وكذلك المدينة مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، التي قال فيها عليه الصلاة والسلام: (إني أحرم ما بين لابتي المدينة، أن يقطع عضاهها أو يقتل صيدها). وقال: (المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه، ولا يثبت أحد على لأوائها وجهدها إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة). رواه مسلم رحمه الله، وعلى أنقابها ملائكة، لا يدخلها الطاعون، ولا الدجال، ومن أراد أهلها بسوء أذابه الله كما يذوب الملح في الماء.
وكذلك من البقاع المباركة الشام التي قال الله تعالى فيها: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} سورة الإسراء 1.
وما حوله هو الشام، التي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها: (طوبى للشام) قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟ قال: (إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها). حديث صحيح رواه الإمام أحمد رحمه الله تعالى. فمن سكن في مكة، أو المدينة، أو الشام، ملتمساً لبركات الله عز وجل في تلك البقاع، سواءً من زيادة أرزاقها، أو دفع الفتن عنها، فقد وفق إلى خير كثير، أما لو تعدى، وغلا، وطلب التبرك بالتسمح بترابها، وأحجارها، وأشجارها، أو اعتقد أن غبارها شفاء، أو يضع تربتها في الماء للاستشفاء فإنه مأزور غير مأجور.
ومن المشاعر المباركة عرفة، ومزدلفة، ومنى؛ لكثرة الخير الذي ينزل على الناس فيها في موسم العبادة، ولذلك كان إتيانها في غير موسم العبادة لرجاء بركة، كان بدعة من البدع، فمن وقف في عرفة يرجو بركة في غير يوم عرفة فإنه مبتدع، وصاحب غلو.
الأزمنة المباركة وأعظمها شهر رمضان.
وهناك أزمنة جعلها الشارع مباركة، هي مثل غيرها من الزمان، لكن لما خصها الله بشيء من عنده صارت مباركة، فمثلاً شهر رمضان، شهر مبارك، كما جاء في الحديث الحسن لشواهده (قد جاءكم رمضان شهر مبارك). وليلة القدر وصفها الله تعالى بأنها ليلة مباركة {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} سورة الدخان 3. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} سورة القدر 3.
وكذلك يوم الجمعة، فإنه يوم مبارك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة). وهو كذلك يوم مبارك في الأسبوع، واليوم المبارك في السنة يوم عرفة، الذي يباهي الله به الملائكة، يباهي الملائكة بعباده، وأيام عشر ذي الحجة، أيام مباركة، وثلث الليل الأخير وقت النزول الإلهي، وقت مبارك، والاثنين والخميس تفتح فيهما أبواب الجنة، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً، إلا رجل كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقول الله لملائكته: (أنظروا هذين حتى يصطلحا).
ما هي بركة هذه الأزمنة؟ بأي شيء تتحقق وتصل إلى العبد ويحصل عليها العبد؟ بعبادة الله فيها، وكل من عيّن وقتاً يلتمس فيه بركة لم يرد به الشرع، عيّنه واعتقد أن فيه بركة إضافية تختلف عن بقية الأوقات، فهو مبتدع من المبتدعة، كما يفعل كثير من الناس في السابع والعشرين من رجب، ونحو ذلك من الأيام التي عينوها.
أشياء فيها بركة كالزيت والحبة السوداء والعسل وماء زمزم والخيل والغنم والنخل.
وقد جعل الله تعالى أيضاً في بعض المطعومات بركة، فمثل ذلك زيت الزيتون، لقوله تعالى: {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ. وقال: يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} سورة النــور 35. وقال عليه الصلاة والسلام: (كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة).(ائتدموا بالزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة). وكذلك اللبن فهو مبارك وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أطعمه الله طعاماً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيراً منه، ومن سقاه الله لبناً فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن). وكذلك من الأطعمة التي جعل الله فيها بركة كبيرة في الدواء: الحبة السوداء، والعجوة، والكمأة، لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام). وهو الموت، حديث صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام: (الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين والعجوة من الجنة وهي شفاء من السم). من الجنة وهي شفاء كذلك، وقال صلى الله عليه وسلم: (من تصبح بسبع تمرات عجوة لم يضره ذلك اليوم سم ولا سحر). وكذلك العسل الذي قال الله فيه: {فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ} سورة النحل 69.
وكذلك ماء زمزم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(إنها مباركة، إنها طعام طعم). وكذلك ماء المطر ماء مبارك، فإن الله قال: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا} سورة ق 9.
وجاء عن أنس رضي الله عنه قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله لم صنعت هذا؟ قال: (لأنه حديث عهد بربه تعالى). رواه الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه.
وكذلك الخيل جعل الله فيها بركة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم). وكذلك الغنم فيها بركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلوا فيها)يعني في مرابض الغنم (فإنها بركة). وقال لأم هانئ: (اتخذي غنماً فإن فيها بركة).
والنخل مبارك، جعل الله فيه بركة زيادة على بقية الثمار والزروع، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن من الشجر لما بركته كبركة المسلم هي النخلة). رواه البخاري رحمه الله. فالله يجعل البركة فيما شاء من عباده، وفيما شاء من البقاع، وفيما شاء من الأمكنة والأزمنة.
نسأل الله تعالى أن يبارك لنا في أهلينا، وأموالنا، وأولادنا، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو البر الرءوف الرحيم.
إن ما وقعت فيه هذه الأمة من الشرك في مسألة التبرك أمر خطير جداً، وهو منتشر في بلاد المسلمين في طولها وعرضها، لا يكاد يسلم منه أحد إلا الموحدين، الذين عرفوا الله تعالى ووحدوه، الذين تعلموا هذه الشريعة، وعرفوا معنى الاتباع، ومعنى الابتداع، وعرفوا النهي عن الغلو، فاجتنبوا الغلو.
عادات أهل الجاهلية في التبرك واتباع الناس لها.
كان أهل الجاهلية قبل البعثة يطلبون البركة من أصنامهم، وكان لهم دار في مكة فيها صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع قبل أن يخرج من منزله أن يتمسح بذلك الصنم، وإذا قدم من سفر تمسح به كذلك، يرجو البركة، بانتقال البركة من هذا الصنم إلى اليد،
كان أهل الجاهلية قبل البعثة يطلبون البركة من أصنامهم، وكان لهم دار في مكة فيها صنم يعبدونه، فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما يصنع قبل أن يخرج من منزله أن يتمسح بذلك الصنم، وإذا قدم من سفر تمسح به كذلك، يرجو البركة، بانتقال البركة من هذا الصنم إلى اليد،
ويزعمون أن أول ما كانت عبادة الحجارة في بني إسماعيل، أنه كان لا يضعن من مكة ضاعن، ولا يرحل راحل إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم، فحيثما نزلوا وضعوها فطافوا حولها، وبهذا يتبين أن التبرك بأحجار مكة وتعظيمها أمر غير مشروع أبداً، إلا الحجر الأسود الذي استلمه النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الركن اليماني، لو لا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك، قال عمر: "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع" ولذلك كان استلام أعمدة الحرم، وجدران الحرم، وغير ذلك، والتمسح بها، وحلقات الأبواب، من فعل المشركين الذين يقعون في هذا الشرك، بالتبرك بالأشياء التي ما ورد التبرك بها، وتنتقل البدعة من واحد إلى آخر.
حدثني رجل قال: كنت في المسعى أسعى بين الصفا والمروة، فرأيت رجلاً يمسك حلقة من حلقات أحد الأبواب، يتفرج عليها، قال: فوقف بعده واحد آخر، وصار بدل أن يتفرج، أو يمسكها للفرجة يمسحها، قال: فما غدت أشواط إلا ووجدت نفراً كثيرين متجمعين ليمسحوا بتلك الحلقة، كل جاهل يرى من قبله يمسح فيمسح، وهكذا يفعلون.
لقد كان أهل الجاهلية كما قلنا: يلتمسون البركة من أصنامهم، وكان لهم صنم يقال له: سعد، وهو عبارة عن صخرة في فلاة من الأرض، فأقبل رجل من بني ملكان بإبل له ليقفها عليه، التماس بركته، فلما رأته الإبل، وكانت مرعية لا تركب، وكان هذا الصنم يراق عليه الدم، وتنحر عنده الذبائح، فلما رأت الإبل نفرت منه فذهبت في كل وجه، فغضب الأعرابي، فأخذ حجراً فرمى الصنم، وقال: لا بارك الله فيك نفّرت عليّ إبلي، ثم خرج في طلبها وعاد فقال:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا *** فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة *** من الأرض لا يدعا لغي ولا رشد
وهكذا فعل الجاهليون بأصنامهم، ولذلك لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل صنم من يهدمه، أرسل إلى كل صنم ووثن من يهدمه، ويحرقه، ويزيل أثره، وعلى رأسهم سيف الله وسيف رسوله خالد بن الوليد، وجرير بن عبد الله البجلي، وغيرهم، حتى إنه يروى أن المغيرة بن شعبة لما خرج مع خالد بن الوليد لهدم اللات وكانت عند أهل الطائف في ثقيف، انكفأ الرجال، والنساء، والصبيان، وخرجت العواتق، ليرون هذا الذي سيهدم صنمهم ماذا سيحل به، فأخذ المغيرة بن شعبة فأساً كبيرة، وقال لأصحابه: ألا أضحكنكم من ثقيف؟ قالوا: بلى، فضرب بالمعول ضربة على اللات، ثم صاح، وخر مغشياً على وجهه، فارتجت الطائف بالصياح سروراً بأن اللات قد صرعت المغيرة، وأقبلوا يقولون: يا مغيرة كيف رأيتها، دونكها إن استطعت، ألم تعلم أنها تهلك من عاداها، فوثب المغيرة يضحك منهم -وكان قد أتقن تمثيل دوره- ويقول: والله يا معشر ثقيف ما قصدت إلا الهزء بكم، إنما هي لكاع، حجارة ومدر، ثم ضرب الباب فكسره، ثم علوا سورها فما زالوا يهدمونها حتى ساووها بالأرض، وأخذوا كنوزها، وحليها، وثيابها، فجاؤوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما رأى الأعرابي الثعلبان يبولان على صنم لبني سليم، استهزأ من ذلك، وعرف أنه ليس بإله، وهكذا فعل الصحابي الذي هداه الله، لما رأى صنمه مربوط بجيفة كلب مدلى في بئر، كانت تلك حال أهل الجاهلية، فماذا فعل أهل جاهليتنا؟ لقد جعلوا بدل الأصنام قبوراً، وبدل بيت الصنم شباك القبر، وجعلوا ذلك الحديد الذي حول القبر مكان المسح، وأعتاب القبر تُقبل، ويُحج إليه، ويُذبح عنده، ويُطاف به، وهكذا.
وكذلك غلا الناس في بعض الآثار النبوية، كغار حراء، وغار ثور، ويريدون إحياء مكان خيمة أم مبعد، ونحو ذلك، وقد قطع عمر رضي الله عنه شجرة الرضوان التي قالوا: إنها هي الشجرة التي بويع عندها النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الناس يأتونها، وقال: إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا يتبعون آثار أنبيائهم فيتخذونها كنائس وبيع، ولذلك لما رأى أحد الصحابة أخاً له قادماً من جبل الطور قال: أما لو أدركتك قبل أن ترحل إليه ما رحلت، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى). الحديث.
وكان مالك رضي الله عنه، مالك بن أنس وغيره من علماء المدينة: يكرهون إتيان المساجد الأخرى غير المسجد النبوي، ومسجد قباء، أو الآثار النبوية، ونحو ذلك، ولا يأتون أماكن الآثار للفرجة، ولا لغيرها.
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: "إذا قصد الرجل الصلاة عند بعض قبور الأنبياء، أو بعض الصالحين تبركاً بتلك البقعة، فهذا عين المحادة لله ورسوله" وقال: "مثل من يذهب إلى حراء ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غار ثور ليصلي فيه ويدعو، أو يذهب إلى الطور ليصلي فيه ويدعو، أو يسافر إلى غير هذه من الأمكنة، أو الجبال التي يقال عنها: إنها مقامات الأنبياء، فلا شك أن هذا الرجل قد وقع فيما نهى الله ورسوله عنه" وقد تصدى علماؤنا حفظهم الله لمن يريد إحياء الآثار النبوية بزعمهم، كطريق الهجرة، ومكان خيمة أم معبد، وأن يحولوها إلى مزارات يأتي إليها الناس، ولا شك أن هذا من الأسباب التي توصل إلى الشرك، وكثير من الناس فيهم جهل، ويحتفلون أيضاً بأزمنة يقولون: فيها بركة، مثل وقت المولد، وغير خافٍ عليكم ما حصل قبل فترة بسيطة من الاحتفال به عند كثير من المسلمين، ومن الذي أحيا المولد؟ ومن الذي بعث المولد في البلاد؟ إنهم بنو عبيد القداح، الذين تسموا بالفاطميين، وهم غير قرشيين، بل إن جدهم مجوسي، قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله: "القداح جد عبيد الله الذي يسمى بالمهدي كان مجوسياً، لا تنعقد لهم بيعة، ولا تصح لهم إمامة" كان المهدي عبيد الله باطنياً خبيثاً، حريصاً على إزالة ملة الإسلام، أعدم العلماء والفقهاء، وأباح الخمر والفروج، وهكذا فعلوا، وكان زنديقاً ملعوناً، أظهر سب الأنبياء، هذا الذي أحيا المولد، والفاطميون الذين أحيون المولد، ونشروا الاحتفال به، ويتابعهم الجهلة من بني عصرنا وغيرهم إلى هذا الوقت، يتابعونهم على الاحتفال بيوم المولد، وأنه يوم مبارك بزعمهم، ويتبركون بذوات الصالحين، ويقولون: الشيخ فلان، وإذا دخل مسحوه، ثم مسحوا أنفسهم، مسحوا عليه ثم مسحوا وجوه أطفالهم، وهكذا يفعلون بمشايخهم، بل وصل الحد إلى أنهم كانوا يتبركون بالحلاج، وهو من زعماء البدع المكفّرة، حتى كانوا يتمسحون ببوله، ويتبخرون بروثه.
وفي أمم الأرض اليوم، وفي كثير من البلدان من يتمسحون بالأشخاص، والمغارات، والجدران، ومغارة الخضر، ونحوها، ويزعمون أنها أماكن مباركة، وهكذا حصل الشرك، وانتشر في الأمة، ويقول بعض الناس لبعض: تفضل بارك لنا البيت، أو تباركت علينا يا فلان، وإنما البركة من الله، الله هو الذي يبارك، لا يبارك فلان، ولا يبارك فلان، الله الذي يبارك فقط سبحانه وتعالى.
نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يجنبنا البدع والشرك بأنواعه، والفتن ما ظهر منها وما بطن.
الشيخ: محمد صالح المنجد
1 - أخرجه أبو داود 1425.
2 - أخرجه أبو داود 3931.
3 - أخرجه البخاري 5639.
4 - أخرجه مسلم 2331.
5 - أخرجه مسلم 2332.
6 - أخرجه البخاري 6036.
7 - أخرجه مسلم 805.
8 - أخرجه مسلم 804.
9 - أخرجه البخاري 5742.
10 - أخرجه أبو داود 3764.
11 - أخرجه الترمذي 1805.
12 - أخرجه البخاري 2128.
13 - أخرجه مسلم 671.
14 - أخرجه مسلم 1397.
15 - أخرجه بن ماجه 1412.
16 - أخرجه مسلم 1363.
17 - أخرجه مسلم 1363.
18 - أخرجه أحمد 21097.
19 - أخرجه أحمد 7108.
20 - أخرجه مسلم 854.
21 - أخرجه مسلم 2565.
22 - (سورة النــور 35).
23 - أخرجه الترمذي 1851.
24 - أخرجه ابن ماجه 3319.
25 - أخرجه ابن ماجه 3322.
26 - أخرجه مسلم 2215.
27 - أخرجه الترمذي 2068.
28 - أخرجه مسلم 2407.
29 - أخرجه مسلم 2473.
30 - أخرجه مسلم 898.
31 - أخرجه البخاري 2852.
32 - أخرجه أبو داود 184.
33 - أخرجه ابن ماجه 2304.
34 - أخرجه البخاري 5444.
35 - أخرجه مسلم 1397.
تعليق