قال أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي في كتابه (مسألة في الحرف والصوت) في مَعرض الردّ على الأشاعرة:
«قالت الأشاعرة بالتهجم على تأويل المتشابه وصرف الأحاديث عن ظاهرها بالرأي وحكم العقل خلاف الشرع. وذلك خطر عظيم و غرر جسيم وإثم موبق ودخول في من قال الله عز وجل في حقه: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ).
فمذهب السلف وأئمة الخلف الإيمان بالأسماء و الصفات توقيفاً لا يخرج عن ظاهرها إلى تأويل دليل العقول و شواهد النظر، و لا يقومون بتفتيش صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله وتلقتها الصحابة و القرابة بالإيمان بها و التسليم لها من غير رد ولا تأويل لها كما ابتدعته الأشاعرة والكلابية ومن وافقهما من المبتدعة. و قد علموا بأن النقل لما وصل إليهم أنه سئل عليه السلام عن الروح أهو شيء مخلوق يناله الحدوث؟ قال الله له: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) فلما شذَّ عنهم علم باب صفة الروح من أوصافنا، فبأن نمنع من تفتيش وصفه أولى وأحرى. فوجب أن نتلقاه تسليما، ولا نكيّف فنقول ما اليدان وما النفس وما المجيء وما الإتيان وما الوجه وما السمع وما البصر وما النزول وما الضحك؟ وجميع الصفات التي نقلها الثقات والأئمة الأثبات. فيكون سؤالنا عن أوصافه بعد كتمه هذا وصفا من أوصافنا غباوة وجهلا. بل نقول كما قال و نمسك عما وراء ذلك.
ولو قدمنا على أخذها بقياس أفعالنا جاء من هذا الكفر المحض. فإن من بنى فأتقن ثم هدم، وجمع ثم فرّق، وأمكن من مخالفته فأنظر إبليس مع علمه بأن إنظاره يعود بفساد أكثر خلقه و مخالفة أكثر أوامره. وهذا جميعه في الواحد منّا سفه وهو جل وعز منه حكمة. فإذا كانت أفعاله كذا لا يقوم لها تأويل ولا يصح في العقل لها تعطيل، كان غاية أمرنا التسليم، فأوصافه أولى لأن مفعولاته مخلوقة وأوصافه قديمة.
ولأن الأشاعرة لا تخلو أن تكون صدقت النقلة فيما روته من أخبار الصفات أو كذبت:
فإن كانت صدقت: وجب المصير إلى ما قالته و نقلته و ترك تأويله وإمراره كما جاء على ما جاء من ظاهره.
وإن كانت كذبت: وجب ترك ما قالت ولم يجب تأويله.
ووجدنا رواة أخبار الصفات أئمة المسلمين و صدورهم و المرجوع إليهم في الفتاوى، كسفيان الثوري، ومالك بن أنس، و الحماديْن، وسفيان بن عيينة، و الأوزاعي، والليث بن سعد، وعبد الله بن المبارك، وأحمد بن حنبل، و الشافعي، و يحي بن معين، وأبي عبيد بن سلام، والحميدي، وأبي بكر بن أبي شيبة، وإسحاق بن راهويه، وأبي داود السجستاني، والبخاري، ومسلم، ومحمد بن يحي الذهلي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبي زرعة الدمشقي، وأبي عبد الرحمان النسائي، وأبي عيسى الترمذي، وإبراهيم الحربي، وعثمان الدرامي، والمروذي، والأثرم، وأبي بكر بن أبي عاصم، وابن خزيمة، وعبد الله بن أبي داود، وعبد الرحمان بن أبي حاتم، وأبي بكر بن الأنباري، وأبي سليمان البستي، والدارقطني، وعبد الله الطبري، وغير هؤلاء من الحفاظ الأثبات، هم والله سرج البلاد و نور العباد، فغير جائز أن يكون خبرهم إلا صحيحا.
وقد ذكرأبو بكر بن الأنباري عن عبد الله بن مسعود وابن عباس قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) قالوا كلهم بأجمعم: الواو للإستئناف و ليست عاطفة. وكذلك قال الفراء وأبو عبيد.
وذكر أبو سليمان البستي أن الوقف التام في هذه الآية عند قوله: ( إِلاَّ اللَّهُ) وما بعده استئناف. وحكى في ذلك قول ابن مسعود وابن عباس وعائشة.
وقال إمامنا أحمد بن حنبل رضي الله عنه: لا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت.
وقال أيضا: قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمان. وقال: خلق آدم على صورته وخلق آدم بيده. كل ذلك نقول به لورود الحديث به.
وقال أيضا في الأحاديث التي تروي أن الله ينزل إلى السماء الدنيا، وإن الله يضع قدمه في النار، وما أشبه ذلك: نؤمن به ونصدّق به ولا كيف ولا معنى، ولا نردّ شيئا منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح.
وقال أيضا: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول.
وقال أيضا: إن المشبّهة تقول: يدٌ كيدي وقدمٌ كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه.
وقال أيضا: من قال إن الله خلق آدم على صورته على صورة آدم، فهو جهمي، وأي صورة كانت لآدم قبل أن يخلقه!؟
وقال إسحاق بن راهويه: قد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله خلق آدم على صورة الرحمان، وإنما علينا أن ننطق به.
وقال ابن قتيبة: إن الذي عندي والله أعلم، أن الصورة ليست بأعجب من اليدين والسمع والبصر والأصابع والعين، وإنما وقع الإلف لها لمجيئها في القرآن، ووقعت الوحشة من هذه لأنها لم تأتنا في القرآن، ونحن نؤمن بالجميع.
وذكر أبو عيسى الترمذي في كتابه: (و قد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة منها رؤية الرب يوم القيامة وذكر القدم و ما أشبه هذه الأشياء. والمذهب في هذا كله عند أهل العلم مثل سفيان و مالك و ابن المبارك ووكيع و ابن عيينة و غيرهم أنهم قالوا: أمِّروها و لا تقولوا كيف؟ و هذا أمر أهل العلم الذي اختاروه و ذهبوا إليه). وبالله التوفيق.
والحمد لله على فضله و أياديه أولاً وآخراً. و صلى الله على سيدنا محمد و آله و صحبه و سلم تسليماً كثيراً.»
~ انتهى كلام ابن عقيل.
تعليق