إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الإيمان عند أهل السنة والجماعة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الإيمان عند أهل السنة والجماعة




    مفهوم الإيمان عند أهل السنة والجماعة

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
    وبعد:
    فنبدأ مستعينين بالله تعالى في التحدث عن قضية الإيمان، وهي قضية مهمة.

    فكما تعلمون أنه منذ أن خرجت المارقة الخوارج في عهد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، والأمة مختلفة في هذه القضية اختلافاً شديداً، فإن خروج هذه المارقة أدى إلى خروج المرجئة ثم تشعبت الفرق، فتعددت الأهواء، وظلت الفرقة الناجية على ما كان عليه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فلم يغيروا ولم يبدلوا تبديلاً، ولكن مرّت دهور وأزمان انحصرت فيها المفاهيم، وقلَّ فيها أهل السنة مما أدى إلى انتشار بدعة الإرجاء والخوارج، وإلى ضياع معايير الإيمان والكفر، وإلى تشتت أفهام الناس في هذا الموضوع، وهو موضوع جدير وحري بأن يناقش وأن يفصل فيه بالأدلة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والذي يقتفي أثر الفرقة الناجية لا يأتي بجديد ولن يأتي بجديد، وإنما المطلوب بل الواجب علينا هو الاتباع لا الابتداع.


    إنَّ أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد تلقوا الإيمان قولاً وعملاً واعتقاداً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن معايشتهم للوحي، وجاهدوا وضحوا وعملوا بهذا الإيمان لأجل تحقيقه واستكماله، فهم أعلم الناس به وأعرفهم بحقيقته، وقد تلقى ذلك عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تلقته الأجيال بعد الأجيال، حتى بلغنا غضاً طرياً.

    فنحن أوجب ما يكون علينا أن نرى كيف فهموا الإيمان، وكيف فسروه، ثم نجعل ذلك معياراً لنحكم به على الفرق أو على الآراء والمذاهب، ولنعرف أين موقعنا نحن من هذا الإيمان، وما موقع هذه الفرق الضالة منه، وما الفرق بين من خرج من الدين ومرق منه بالكلية، ومن كان على بدعة وضلالة، ومن كان دون ذلك كمن أخطأ في اجتهادٍ أو أمرٍ مما يخطئ فيه العلماء.
    فهذه المعايير الواضحة من الضروري أن نعرفها، وأن تكون واضحة لدينا.


    والقضية الأولى وهي الركن الركين في مفهوم الإيمان، هي أنه بالنسبة لأهل السنة والجماعة، فالقضية عندهم قضية إجماعية، فلم يقع الخلاف بين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو التابعين أو من بعدهم من أهل السنة والجماعة في حقيقة الإيمان مطلقاً؛ فإن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة كلها قضايا إجماعية، وهذه ميزة عظيمة تتفرد بها هذه العقيدة، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى، لأنها هي عقيدة الفرقة الناجية؛ ولأنها هي العقيدة المقبولة عند الله تبارك وتعالى، فأجمعت عليها الأمة ولله الحمد، ومن خرج عن هذا الإجماع فقد حكم على نفسه بالشذوذ بداهة، وحُكم عليه بالابتداع بمخالفته لهذا الإجماع، فعلى أي شيء أجمع أهل السنة والجماعة في موضوع الإيمان؟



    تعريف الإيمان عند أهل السنة

    نقول: إنَّ اللفظ -أو التعريف أو العبارة- التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة في الإيمان، هو: (أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص) وهاتان الكلمتان على إيجازهما تحمل معاني عظيمة جداً.

    فإذا سُئلت وقيل لك: ما هو الإيمان عند أهل السنة والجماعة؟
    فإنك تقول: الإيمان قول وعمل.

    وسنعرف معناها بعد أن نتأكد ونتبين من أن الإجماع قد وقع عليها، وهذا الإجماع ثابت من المصادر الأصيلة.

    نقل إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل

    مثلاً: الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- يقول: '' لقيت أكثر من ألف رجل من أهل العلم كلهم يقول: الإيمان قول وعمل، ويقول: أدركت العلماء على ذلك قرناً بعد قرن -أي طبقة بعد طبقة- في مصر والشام والحجاز والعراق وبغداد وواسط كلهم يقولون: الإيمان قول وعمل '' فهؤلاء ألفٌ من العلماء الذين أدركهم الإمام البخاري كلهم يجمعون على أن الإيمان قول وعمل.

    ونقل مثل ذلك الإمامان أبو زرعة وأبو حاتم الرازيان، فقالا: '' إننا أدركنا علماء الأمصار قديماً وحديثاً، شاماً ويمناً وحجازاً وعراقاً، كلهم مجمعون على أن الإيمان قول وعمل '' وهذان النقلان أوردهما اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو في اعتقاد الإمام البخاري وفي اعتقاد أبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم من أئمة السلف.

    وممن نقل الإجماع على ذلك شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في كتاب الإيمان، وقبل ذلك نقله الإمام الكبير الحجة الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فقد نقل ذلك في كتابه الأم في باب النية: فقال: ''أجمع الصحابة والتابعون على أن الإيمان قول وعمل'' ونقل مثل ذلك أيضاً الإمام محمد بن جرير الطبري فذكر إجماع الصحابة ومن بعدهم على أن الإيمان قول وعمل، ونقل ذلك أيضاً الحافظ ابن كثير في أول تفسير سورة البقرة
    ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ))[البقرة:3] أن هذا إجماعٌ من السلف الصالح، ونقل ذلك أيضاً الإمام أحمد رحمه الله تعالى، ونقله عن الفضيل بن عياض وعن سفيان بن عيينه، وعن غيرهم من الأئمة والعلماء، كما نقل ذلك الحافظ ابن رجب في أول كتابه جامع العلوم والحكم في شرح حديث جبريل.

    فالنقول كثيرة ومتوافرة ولله الحمد، وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله أسماء هؤلاء العلماء الذين أجملهم الآخرون، وذكر ذلك أو بعضاً منهم وغيرهم، وذكره الإمام عبد الله بن أحمد في كتابه السنة.
    وذكر مثل ذلك ابن بطة في الإبانة، والآجري في الشريعة، وسائر الكتب التي ألفت في العقيدة كلها تنقل الإجماع على ذلك، والشاهد أن الإجماع منقول وثابت على أن الإيمان قول وعمل.
    شرح تعريف الإيمان

    أما معنى هذه العبارة -كما فسرها السلف ومنهم الأوزاعي والشافعي وسفيان بن عيينه وغيرهم-
    فهو: قول القلب واللسان، وعمل القلب والجوارح.
    فالقول يطلق على أمرين: قول القلب، وقول اللسان.
    والعمل يطلق على أمرين: عمل القلب، وعمل الجوارح.

    هذه الأربعة يتكون منها الإيمان، فهو يتكون من: قول القلب، وقول اللسان، وعمل القلب، وعمل الجوارح وإذا عرفنا هذه الأربعة بالتفصيل عرفنا حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة، وعرفنا بعد ذلك لماذا يحكمون على مرتكب الكبيرة بأنه ناقص الإيمان، فلا يخرجونه من الملة كما تقوله الخوارج، ولا يقولون هو كامل الإيمان كما تقوله المرجئة.


    فأما قول القلب: فهو الإقرار والاعتقاد الجازم بما جاء في حديث جبريل عليه السلام، وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، أي: انقياد القلب وإذعانه وتصديقه الجازم، بالإيمان المجمل وهو: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، الذي هو: الإيمان بالغيب. وهي الصفة الأولى التي ذكرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من صفات المؤمنين في أول سورة مدنية، وهي سورة البقرة، فقول القلب: هو الإقرار والاعتقاد والتصديق الجازم بما ورد في حديث جبريل.


    وأما قول اللسان: فهو إظهار هذا الإيمان وقوله وتلفظه بشهادة أن لا إله إلا الله، أو ما يقوم مقامها في حال البدء، كأن يقول الرجل: آمنت أو أسلمت أو دخلت في دين الإسلام، أو شهدت بأن الله حق، إلى آخر ذلك، ثم يلتزم بسائر العبادات والشرائع، ومنها: وهو أولها وأعظمها: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فهذا هو قول اللسان.

    فتعبير اللسان عندما يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، هو تعبير عن الإيمان القلبي، الذي هو الإقرار بحقيقة ألوهية الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والإيمان به وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.

    وأما اللفظة الأخرى من تعريف الإيمان وهي العمل، فتشمل عمل القلب وعمل الجوارح.
    فأما عمل القلب فأمور كثيرة ذكرها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم، وفي حديث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
    فمن عمل القلب: المحبة: محبة الله ورسوله، ومحبة هذا الدين.

    ومن عمل القلب: الاستسلام والرضا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً.
    ومن عمل القلب: الصدق، فإن المنافقين يقولون: نشهد إنك لرسول الله، ولكن لما شهد الله أنهم كاذبون في ذلك، لم ينفعهم هذا الإيمان ولا هذه الشهادة.

    ومن عمل القلب: الإنابة، والإخبات، والخوف، والرجاء، والتوكل، والصبر، كل هذه الأعمال القلبية الواجبة شرعاً كوجوب الفرائض، بل هي الأصل لوجوب الفرائض فإن من لا توكل له ولا صبر ولا يقين ولا إخلاص ولا صدق؛ لا يستطيع أن يعبد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأن يقوم بهذه الواجبات وهذه التعبدات.

    فعمل القلب -إذاً- يشمل كل ما جاء في الكتاب والسنة من الواجبات الإيمانية القلبية، التي لا بد ولا محالة أن يظهر أثرها على الجوارح، وإلا فإنه لا وجود لها إطلاقاً، لكن هي محلها القلب، كالتوكل فإن محله القلب -كما تعلمون- لكن لا بد أن يظهر ذلك على الجوارح، فإن عدم التوكل كأن يظهر المرء الجزع أو الهلع أو القنوط، فإن ذلك يظهر على جوارح الإنسان وعلى كلامه، أما المتوكل الصابر الموقن المخلص، فإن ذلك يظهر -ولا محالة- على جوارحه.

    ومن أعظم ذلك الحياء، ولذلك أفرد في حديث شعب الإيمان الذي يقول فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    {الإيمان بضع وسبعون -أو وستون- شعبة، فأعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فهذه الشعبة لأهميتها: أفردت، ولأنها خيرٌ كلها كما في الحديث الصحيح: {الحياء كله خير}.
    ولا يمكن أن نحكم أو نعرف أو نقول: إن الإنسان لديه حياء -وهو عمل قلبي- إلا أن يظهر ذلك على جوارحه، فإن مشية الإنسان الحيي غير مشية الإنسان الذي لا يستحي، وكلام الإنسان صاحب الحياء غير كلام الآخر، وكذلك صلاته وعبادته، وفعله لما أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فإن الحيي يتورع عن ارتكاب المحرمات، ومن تجرأ على المحرمات وعلى المنكرات جزمنا وعلمنا بأنه فاقد للحياء كله أو بعضه، فهذه هي أعمال القلب، فعمل القلب -إذاً- هو هذه الأمور الباطنة من الإيمان.


    وأما عمل الجوارح فهو: جميع التعبدات التي فرضها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على الجوارح، كإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأمثال ذلك.

    الإيمان حقيقة مركبة

    ومن هذه الأربعة -أي من قول القلب وقول اللسان , وعمل القلب وعمل الجوارح- تتكون حقيقة الإيمان الكلية المركبة الذي هو الإيمان الشرعي، الذي جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبلغه لنا بما أنزله الله من الوحي في القرآن، وبما علَّمنا إياه وفسره لنا في السنة.

    ولذلك فإن أهل السنة والجماعة يحتجون على مخالفيهم بأنهم يفسرون الإيمان ويشرحونه، ويعبرون عنه بغير ما جاء عن الله وعن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أجاب عن الإيمان وأوضحه بما يجاب به عن الحقيقة المسئول عنها، فإنه في حديث جبريل المشهور
    { قال: أخبرني ما الإيمان؟ فقال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره } فالسؤال هنا عن حقيقة الإيمان، وأجاب النبي عليه الصلاة والسلام بذلك.

    وفي حديث وفد عبد القيس -المتفق عليه- يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم:
    {أتدرون ما الإيمان؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخُمُس من المغنم} وهذا الحديث متقدم على حديث جبريل، ولذلك لم يذكر فيه الحج مثلاً، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم: أتدرون ما الإيمان؟ ثم شرح ذلك: فأدخل فيه الركن الأول وهو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم ذكر الصلاة، ثم ذكر الزكاة، ثم ذكر أداء الخُمُس، الذي هو من غنيمة الجهاد.

    وفي حديث شعب الإيمان السابق:
    {الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان} فأعلاها هو هذه الشهادة وهذه الكلمة العظيمة التي هي تحوي جميع أعمال الإيمان القلبية الظاهرة والباطنة، وأدناها هو عمل من أيسر العمل وأهونها ولكنه مع ذلك يعتبر شعبة من الإيمان.


    فيتبين من مجموع ذلك أن الإيمان فعلاً هو قول وعمل، وهذه هي التي عبر عنها العلماء بأن الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل.

    فالإيمان مركب من هذين الجزأين، كما تتركب حقيقة الإنسان من الروح ومن الجسد، فلا يمكن أن نتصور وجود روح بدون جسد، ونقول: هذا إنسان له روح بدون جسد، ولا يمكن أن يكون هناك جسد بدون روح.

    فأما الجسد بدون روح فهذا هو المنافق الذي يعمل أعمال الإسلام، ولكن لا إيمان في قلبه بهذا الدين، فهذا جسد بدون روح، فهم يصلون ويزكون ويجاهدون، ويعملون أعمال الإيمان، ولكنها بدون الإيمان القلبي، فهذه الأعمال الظاهرة هي كالجسد بدون روح، وأما وجود روح بدون جسد، فهذا لا يتصور أصلاً، أي لا يتصور أن يوجد الإيمان الباطن الحقيقي في القلب، ولا يظهر أبداً أثر له على الجوارح، فهذا من المحال مطلقاً، وفي هذا أعظم الرد على من يقول: إن الإيمان هو مجرد التصديق القلبي، حتى وإن لم يعمل الإنسان أي عمل من أعمال الإيمان، كما قالت بذلك الجهمية وتبعهم سائر فرق المرجئة إلى عصرنا الحاضر، وهذا موجودٌ في كل كتبهم: أن الإيمان عندهم -فقط- هو التصديق القلبي.


    فكيف فهم السلف وكيف قالوا: إن الإيمان حقيقة مركبة من القول ومن العمل جميعاً.

    نقول: فهموا ذلك من حديث جبريل، فقد ورد في روايات صحيحة له، أنه جاء رجل في آخر عُمْرِ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال الحافظ ابن حجر: '' إن ذلك يحتمل أن يكون بعد حجة الوداع وقبيل وفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ '' وهو جبريل عليه السلام ليعلم المؤمنين دينهم، كما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -في آخر الحديث-:
    {هذا جبريل جاءكم يعلمكم دينكم} لأن هذا آخر مجلس تذكر فيه هذه المعاني بعد اكتمال الفرائض.

    وأما حديث وفد عبد القيس -مثلاً- لم يُذكر فيه إلا الشهادتان والصلاة والزكاة فقط، لكن حديث جبريل ذكر الخمسة الأركان الظاهرة، وذكر الستة الأركان الباطنة.

    فقال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    {أخبرني ما الإسلام؟ فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت} فذكر الأركان الخمسة في جواب قوله: ما الإسلام؟ ثم لما {قال: ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره} وفي رواية صحيحة على شرط مسلم -رواها ابن مندة- قال له جبريل بعد أن ذكر أركان الإسلام: {فإذا فعلت ذلك فأنا مسلم؟ قال: نعم -وقال له بعد أن ذكر أركان الإيمان- فإذا فعلت ذلك فأنا مؤمن؟ قال: نعم} وفهم الإمام أحمد من ذلك تكفير من ترك ركناً من أركان الإسلام أو ركناً من أركان الإيمان، قال: '' ومن قال إنه يكون مؤمناً وإن لم يعمل شيئاً، فقد عاند الحديث '' فهو يقول: من قال: إن الرجل يكون مؤمناً بالتصديق القلبي الباطن فقط فقد عاند الحديث، ألم تره يقول: فإن فعلت ذلك فأنا مسلم، فإن فعلت ذلك فأنا مؤمن، فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم وأهل السنة والجماعة -أيضاً- فهموا من هذا أن الإيمان قول وعمل: القول الباطن والعمل الباطن، القول الباطن الذي هو قول القلب، والقول الظاهر الذي هو قول اللسان، والعمل الباطن الذي هو عمل القلب، والعمل الظاهر الذي هو عمل الجوارح.

    فمن هذا الحديث علمنا أن الأركان الستة هي أركان الإيمان، وهي أعمال باطنة: أن تؤمن بقلبك بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر.

    وأما أركان الإسلام الخمسة فهي أركان ظاهرة: شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج، أي أعمال ظاهرة بالجوارح.

    فيتركب من هذين -أي: الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة- حقيقة واحدة، هي: الدين، ولذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم}، فلو تصورنا أن أحداً قال: الشهادتين وأدى الأركان الخمسة الظاهرة، ولكن في الباطن لا يؤمن بالله ولا بكتبه ولا برسله ولا باليوم الآخر، فهل هذا مؤمن؟ لا يمكن أن يكون مؤمناً أبداً.

    وأيضاً لو قلنا بعكس ذلك: أن يكون إنسان يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ولا يشهد أن لا إله إلا الله، ولا يصوم ولا يصلي ولا يزكي ولا يحج، فلا يمكن أن يكون مؤمناً أيضاً.
    إذاً الإيمان الشرعي يتركب من هاتين الحقيقتين معاً: من إيمان الظاهر وإيمان الباطن معاً، ولذلك لما كان في حديث جبريل أُفْرِدَ الإسلام والإيمان، أي قرنهما وذكرهما معاً، فأفرد هذا بتعريف، وهذا بتعريف، وذكرهما معاً، وذلك حتى نعلم الظاهر من الباطن.


    وإذا قارناه بالأحاديث التي ذكر فيها الإيمان مفرداً نجد أنها تفسر ذلك ولا تناقضه، فهنا لما ذكرهما معاً فسر حقيقة كل منهما، بأن هذه هي الأعمال الظاهرة، وهذه هي الأعمال الباطنة، لكن في حديث وفد عبد القيس، قال:
    {أتدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله} مع أنه في حديث جبريل جعلها الركن الأول من أركان الإسلام أي الأعمال الظاهرة وكذلك في حديث الشعب:
    {الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله } جعلها من الإيمان فكيف نجمع بين نصين يدل أحداهما على أن الشهادتين من الإسلام وآخر يدل على أنهما من الإيمان؟
    نقول: هذا دليل على أن الإيمان حقيقة مركبة من الظاهر والباطن معاً، لكن إذا قُرِنَا معاً، بُيِّنَت حقيقة الأعمال الظاهرة وأنها تسمى في عرف الشارع إسلاماً، وحقيقة الأعمال الباطنة وأنها تسمى إيماناً، أي مرتبةً من مراتب الدين، فإذا ذكر الإسلام وحده، كما قال تعالى:
    ((إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ))[آل عمران:19] فالدين عند الله فعل هذه الأركان جميعاً الظاهر منها والباطن، وإذا ذكر الإيمان وحده ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ))[النساء:136] فمعنى آمنوا بالله ورسوله، أي اعملوا الأعمال الظاهرة والباطنة، من أعمال الإيمان.
    إذاً: مجموع هذه الأحاديث وهذه الآيات يدل على أن هذه الحقيقة مركبة، فأحياناً تذكر الحقيقة ويذكر الجزء الأول منها (الباطن) ويذكر الجزء الظاهر منها، ويعرف أن الإيمان يتركب منهما معاً، وأحياناً يذكر واحد منهما لأنه يتكلم عنهما على أنهما حقيقة واحدة وأمر واحد لا فرق فيه ولا اختلاف.
    فيتضح مذهب أهل السنة والجماعة في هذا إذا قورن بمذاهب المخالفين، فـأهل السنة والجماعة قالوا: الإيمان حقيقة مركبة من القول والعمل الظاهر والباطن.
    مسألة زيادة الإيمان ونقصانه
    مسألة زيادة الإيمان ونقصانه
    الإيمان عند أهل السنة والجماعة
    أكّد أهل السنة والجماعة ذلك بقولهم الإيمان: قول وعمل يزيد وينقص، فالزيادة والنقصان تعتري عمل القلب، وعمل الجوارح، فالإنسان الذي يصلي الفرائض جميعاً ويصلي النوافل، ويتهجد من الليل ما شاء الله، هو أكمل من الذي لا يؤدي إلا الفرائض أو من الذي لا يؤدي الفرائض بالمرة.
    كذلك الأعمال الباطنة تزيد وتنقص، فيكون فلان أكثر يقيناً وتوكلاً وإخلاصاً من فلان، وهذا هو الواقع والظاهر.

    إذاً: فالإيمان على هذا يزيد وينقص، ولو نقص إيمان القلب إلى حد أن اليقين أصبح شكاً -شك الإنسان في دينه- هنا يخرج الإنسان من الملة -والعياذ بالله-.

    وأيضاً في الأعمال الظاهرة: لو أن إنساناً لم يأت بشهادة أن لا إله إلا الله، فهذا لا يكون مسلماً أبداً بإجماع المسلمين، وكذلك لو ترك الصلاة مطلقاً، فقد أجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على أن تارك الصلاة كافر، كما نصت على ذلك الأحاديث الصحيحة الكثيرة، وثبت إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على ذلك.

    فالفارق الذي نعرف به الفرق بين مذهب الفرقة الناجية وغيرها هو أننا نعرف لماذا يقول الصحابة أو أهل الفرقة الناجية: إن الإيمان يزيد وينقص.

    الإيمان عند الخوارج والمعتزلة والمرجئة

    تقول الخوارج: إن الإيمان قول وعمل، لكن لا يقولون: يزيد وينقص، فعندما قال أهل السنة والجماعة: إن الإيمان حقيقة مركبة تقبل الزيادة وتقبل النقصان، وقالت الخوارج: الإيمان ليس حقيقة مركبة، وإنما هو حقيقة مشتركة، أو قدر مشترك كلي، لا يزيد ولا ينقص، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص، فوقع الخلاف في صاحب الكبيرة.

    وهنا نعرف مع من يكون الحق في مسألة صاحب الكبيرة، وهو من زنى أو سرق أو ارتكب كبيرة، فقالت الخوارج: هذا يكفر، لأن الإيمان عندنا جميع الطاعات، وهو قدر كلي مشترك، وحقيقة واحدة مشتركة كلية، فليست مركبة، وإنما هي واحدة، فمن زنى ومن سرق، فقد فَقدَ هذه الحقيقة تماماً، إذاً هو كافر خارج من الملة.

    فجاءت المعتزلة وهي قريبة من الخوارج فقالوا: لا نقول إنه كافر، ولا نقول إنه مؤمن، ولكن هو في منـزلة بين المنـزلتين، لكنهما اتفقتا على أنه ليس بمؤمن، ولا يطلق عليه اسم الإيمان.

    وقالت المرجئة: إنا نظرنا في الأدلة -من كتاب الله ومن سنة رسوله- فوجدنا أن الزاني أو شارب الخمر أو العاصي لم يحكم عليه بحد الردة كالذي كفر بالله وبرسوله.

    إذاً: هذا مجرد معاصي، والإيمان عند المرجئة هو حقيقة واحدة مشتركة وليس حقيقة مركبة، أي: شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.

    فقالوا: إذاً: ما دام الشارع فعل ذلك، -لم يحكم على صاحب الكبيرة بحد الردة- فمرتكب الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، وقالوا: إنه كامل الإيمان لأن الإيمان عندهم شيء واحد أصلاً لا يزيد ولا ينقص، إذاً الإيمان كله متحقق لدى صاحب الكبيرة، والخوارج يقولون: الإيمان كله منفيٌ عن صاحب الكبيرة.

    فكان هذا الغلو وهذا السخف من هاتين الفرقتين.
    :
    :

    ولكن الأمة الوسط والفرقة الناجية هم أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذين ظهرت الخوارج في أيامهم، وناظروهم في ذلك كما ناظرهم ابن عباس رضوان الله تعالى عليهم.
    أما الإيمان الواجب أو الإيمان الذي يطلق وهو اسم مدحٍ في الإنسان، ودرجة عليا، وهو كمال الإيمان، فهذا يُنفى عن صاحب الكبيرة، ولكن نقول: إن عمل الجوارح نقص عندما زنى وعملت جارحته، وفقد عمل قلبه، أي إيمانه القلبي.
    إذاً عمل القلب فقد عند الزاني، لكن هل فقد قول القلب؟ هو قد يكون مستحلاً فيكفر، لكن الكلام مختص بمرتكب الكبيرة غير المستحل.

    فنقول: هذا فَقَدَ عمل القلب، الذي هو الالتزام والانقياد والإذعان لأمر الله الذي حرم الزنا، وهو لما زنى لم يكن لديه عمل القلب، لكن هل نقول: إنه فقد قول القلب، الذي هو الإقرار والاعتقاد الجازم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؟ الصحيح أنه ليس هناك دليل -لا من الشرع ولا من واقعه- أنه فقد قول القلب، فهو تارك لجزء من الإيمان الذي هو عمل القلب، ولم يترك الجزء الآخر الذي هو قول القلب.



    متى يكفر الإنسان

    لا يكفر الإنسان ولا يحكم بكفره إلا إذا ترك قول القلب الذي ينخرم بفقدان عمل القلب بالكلية، أو بفقدان عمل الجوارح بالكلية؛ لأنه إذا انتفى هذا أو هذا بالكلية انتفت الحقيقة المركبة التي هي الإيمان، والتي يتركب منها هذا الإيمان، وقد أوضح الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك في القرآن، وفي المثل الذي ضربه، والذي به نفهم جميعاً الفرق بين مذهب أهل السنة والجماعة وغيرهم في الإيمان، فيقول الله تبارك وتعالى:
    ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا))[إبراهيم:24-25] والشجرة الطيبة هي: شجرة الإيمان، التي هي شهادة أن لا إله إلا الله، ولو تصورنا نحن الآن هذه الشجرة لعرفنا حقيقة الإيمان عند أهل السنة والجماعة.

    فهو مثلما قلنا: إنه يتركب من روح وجسد، والشجرة تتكون من الجذع ثم الفروع ثم الأوراق والثمرة، وهناك جانب أسفل سطح الأرض وهو الجذور التي تمتد إلى أسفل والتي تتغدى بالماء وتدفع الغذاء إلى الأغصان فتنمو، فإذا كثر الغذاء كثرت هذه الفروع وإذا قلَّ قلَّت، فهذا المثال ينطبق تماماً على حقيقة الإيمان.
    وإذا قارنا ما يقول هؤلاء، وما يقول أولئك، عرفنا أولاً حقيقته، ثم عرفنا ثانياً أنه هو الحق، فهذه الشجرة إذا قُطع غصن منها، فهو مثل مرتكب الكبيرة، أو مثل من كترك واجباً من الواجبات غير الأركان الخمسة، ترك -مثلاً- فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو كان من أهل الغيبة أو النميمة، فنقول هذا الإنسان ذهب عنه غصن من هذه الشجرة، لكنه لم يفقد الشجرة بالكلية، ولهذا على قول الخوارج أن مرتكب الكبيرة قد خرج من الدين، كمن يقول: الذي قطع غصناً من الشجرة، فإن الشجرة لا وجود لها.
    لكن المرجئة بالعكس من ذلك، فالمرجئة يقولون: الإيمان يكون فقط في القلب، ولا ظاهر له، فنقول لهم: لو أن إنساناً جاء واجتث الشجرة من فوق الأرض، ثم دفنها تماماً، فهل نطلق على هذا الذي في الأرض أنها شجرة؟
    أو لو نظرنا إلى أرض فضاء ليس فيها أي شيء وقال شخص: يمكن أن يكون هناك شجرة تحت هذه، بينما نحن نرى تراباً وحجارة فقط، وليس هناك شجرة، لكن يقول: لا ندري، يمكن أن يكون في الباطن شجرة.
    فنقول: هذه مكابرة ومخالفة للعقل، فهم يقولون: إن الإنسان الذي لا يعمل أي عمل من أعمال الإيمان، يمكن أن يكون الإيمان كاملاً في قلبه، إذا كان مصدقاً بالله وبرسوله، فنقول: هذا مثل الذي يرى أرضاً فضاء، ويقول: تحت هذا التراب شجرة، فنقول: هذا كذب، وإن كنا معاً نقول: إن أصل الشجرة هي الجذوع التي في الأرض، لكن الشجرة لا وجود لها.
    ولذلك نرد عليهم في دعوى تارك الصلاة، إذا أُخذ وقُيِّد وعُرض على السيف، وقيل له: إما أن تصلي، وإما أن نقتلك، قال: لا، اقتلوني ولا أصلي، وحكم عليه القاضي بأن يقتل، وقطعت رقبته، قالوا: هذا يقتل حداً، ويدفن في مقابر المسلمين، لأنهم قالوا: لوجود احتمال أن يكون عنده تصديق في قلبه، سبحان الله! أي تصديق بعد هذا الكلام، بعد أن يعرض على السيف، وبعد أن يقرر ويطلب منه التوبة، ولو تاب كذباً أو نفاقاً لتركناه، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    {فإذا فعلوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله}.

    فحتى لو قالها كذباً، فحسابه على الله، لكن إن امتنع عن أداء الصلاة بالمرة حتى يقتل، لا يكون هذا مسلماً أبداً.
    وأما الخوارج، فالرد عليهم أوضح من ذلك، نقول لهم: إذا قلتم أن كل من ترك فريضة أو واجباً من واجبات الإيمان، فقد خرج من الإسلام بالكلية، فأنتم كمن يتصور أن من قطع من هذه الشجرة غصناً، فكأن الشجرة لا وجود لها، وكأنه قد اجتثها من أسفلها ولم يبقِ منها أي شيء.
    ولعل بضرب هذه الأمثلة، وهي أمثلة قرآنية ونبوية، يكون قد اتضح الكلام على حقيقة الإيمان، وتلازم ظاهر الإيمان بباطنه، وتلازم القول بالعمل، وهي أن الحقيقة المركبة من هذه الأربعة، يتكون منها الإيمان الذي هو الإيمان الكامل.



    الأدلة على أن الإيمان يزيد وينقص

    الإيمان يكون الناس فيه على درجات، لأنه يزيد وينقص، والآيات والأحاديث في ذلك كثيرة منها قوله تعالى:
    ((لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ))[الفتح:4] وكمثل قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن النساء أنهن: {ناقصات عقل ودين} والإمام البخاري في كتاب الإيمان من صحيحه، جمع على مذهب أهل السنة والجماعة أدلة كثيرة وأحاديث صحيحة، تدل جميعاً على أن الإيمان عمل وعلى أن العمل إيمان، وذكر زيادته ونقصانه.

    ومن أعظم الأدلة والأحاديث الدالة على أن الإيمان يزيد وينقص حديث الشفاعة، وهو حديث صحيح ورد عن أنس وجابر وحذيفة وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة بعد أن يشفع النبيون والصالحون ويخرجون من شاءوا يأمرهم:
    {أن أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، ثم يتحنن بعد ذلك، فيقول لهم: أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان} فهناك أناس يجتازون الصراط كالبرق الخاطف، أو كمثل السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فهؤلاء إيمانهم ليس كمثل إيمان من يحاسب ويجتاز الصراط ماشياً أو راجلاً -مثلاً- وهذا الذي يجتاز الصراط راجلاً ويدخل الجنة بسلام، ليس مثل من يشفع فيه النبيون، ومن يشفع فيه النبيون وينجو أول الأمر ليس مثل الذي يعيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النبيين والصالحين ويقول: {أخرجوا من كان في قلبه مثقال شعيرة} وصاحب الشعيرة أكثر إيماناً ممن في قلبه مثقال الذرة، والذي في قلبه مثقال الذرة أكثر إيماناً من الذي في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة.. وهكذا.

    فهذا يدل على الزيادة والنقصان، وهذا مما أجمع عليه أهل السنة والجماعة، أما المرجئة والخوارج فأنكروا الزيادة والنقصان معاً، وقالوا: النقص شك، والشك كفر، فلا يزيد ولا ينقص؛ لأن الإيمان هو حقيقة أو ماهية واحدة مشتركة، ومما يرد به عليهم في هذه المسألة المهمة أن نقول لهم: إن الإيمان لا يمكن أن يكون حقيقة واحدة مشتركة، بل هو حقيقة مركبة، كما يقول أهل السنة والجماعة، والفرق بين هذا وذاك أننا إذا قلنا: إن الإيمان حقيقة واحدة؛ فمعنى هذا أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أول الإسلام، في الوقت الذي لم ينزل فيه إلا التوحيد، لم يزد إيمانهم عنه آخر الإسلام، فقد نزل التوحيد أولاً، ثم نزلت الصلاة، ثم أخذت الشرائع تنزل ركناً ركناً، وفريضة فريضة، حتى قال الله تبارك وتعالى:
    ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ))[المائدة:3] فمن مات من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم في السنة الثانية من الهجرة -مثلاً- قبل أن يفرض الصيام والحج، ليس بمثل ما آمن به الذي توفي بعد وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بعد أن اكتملت الأركان والواجبات والفرائض، لأنه مات قبل أن تفرض، إذاً نقول: هذا دليل على أن الإيمان ليس حقيقة واحدة، وإنما هو بقدر ما يُؤْمَن به يكون الإيمان.

    لكن هل نقول: إن الذين ماتوا في بدر أقل درجة؟ لا. أهل بدر هم أفضل الأمة.

    كذلك الذين آمنوا بنوح عليه السلام مؤمنون، هل آمنوا بشريعة مثل شريعة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ لا، لأن شرائع الأنبياء تختلف، لكن من آمن بنوح فهو مؤمن، ومن آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مؤمن، هذا آمن بشيء، وهذا آمن بشيء، كذلك الأعرابي الذي جاء من البادية وعرف بعض الإيمان، هل آمن بمثل ما آمن به الصحابي الذي عرف من تفصيلات الدين والإيمان الشيء الكثير؟
    لا، فحقيقة ما آمن به هذا غير حقيقة ما آمن به ذاك.
    تناقض الخوارج والمرجئة في زيادة الإيمان ونقصانه
    إن الإيمان يختلف بحسب ما يبلغ الإنسان، وبحسب علمه، واجتهاده، وبحسب الآيات والشرائع التي نزلت، فهذا دليل على أن الإيمان ليس أمراً واحداً، وقضية واحدة ذهنية -كما يقولون هم- ولذلك تجدون في كتب علم الكلام أنهم يقولون: إن الإيمان هو التصديق أو الاعتقاد الجازم بكل ما جاء عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم من الدين بالضرورة، وهذه العبارة تجدونها في جميع كتب المتكلمين من أشعرية وماتريدية وغيرهم، يقولون: وعُلم من الدين بالضرورة؛ وهذا لأن الدين عندهم قدر واحد، وشيء واحد فقط، فيضطرون إلى أن يدخلوا الإيمان بالصلاة في الإيمان لا العمل، فهم يخرجون العمل كليةً من الدين، لكن الإيمان بالصلاة وأنها واجبه، هذا هو الإيمان عندهم، يعني التصديق القلبي بها وأنها من الإيمان، وهم إن لم يدخلوها في الإيمان فإنه خطأ كبير لأنها معلومة بالضرورة، وإن أخرجوها من الإيمان إذاً نقص الإيمان، ولو تصورنا أن واحداً لا يصلي، فيكون بذلك ناقص الإيمان، إذاً هو كافر، فجاءوا بتعريف يدل على حقيقة واحدة وقضية واحدة مشتركة لا تزيد ولا تنقص، وهو أن يكون معلوماً من الدين بالضرورة.


    قالوا: هذا يجب على كل أحد أن يعلمه بهذا القدر، أما عدا ذلك، مثل: إماطة الأذى عن الطريق، فإنها ليست من الإيمان -عندهم قطعاً- ولا تدخل في تعريف الإيمان، لأنها ليست معلومة من الدين بالضرورة، فليس كل أحد يعلم أن إماطة الأذى عن الطريق من الإيمان، وإن كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نص على ذلك.

    إذاً هم يقولون هذا، وخرج بقولنا معلوم بالضرورة ما لم يكن معلوماً من الدين بالضرورة.
    إذاً نقول لهم: هل من جاء من البادية ولم يعلم -مثلاً- أن الخمر حرام، هل تكفرونه؟ فإن كفروه، فقد ارتكبوا أشنع من قول الخوارج، وأنتم تقولون: إننا هربنا من الخوارج الذين يكفرون بالذنب، فأنتم المرجئة من أشعرية وماتريدية والمتكلمين عموماً، قلتم: إن الذي لا يدري أن الخمر حرام كافر، فقولكم يعتبر أشنع من قول الخوارج، وإن قلتم إن تحريم شرب الخمر ليس معلوماً من الدين بالضرورة، فهذه مناقضة؛ لأنه معلوم من الدين بالضرورة، وهم وقعوا في هذه المناقضة؛ لأنهم جاءوا بحقيقة واحدة، لا يريدون أن يزيدوا عليها ولا ينقصوا منها، لكن الكلام الذي قاله أهل السنة والجماعة: أن ما يُؤْمَن به يختلف، فهذا الذي بَلَغه تحريم الخمر، وٍهذا مؤاخذ إذا شربها، لكن من جاء من البادية يجهل أن الخمر حرام، فنحن نعلمه ذلك ولا نكفره.


    والإيمان عندنا يختلف ويتفاوت بحسب ما يؤمن به الأشخاص، وبحسب ما قام عليه من الحجة، والدليل، ولذلك الأحكام المنسوخة لا يجب على الإنسان -حتى في عهد الصحابة- أن يعبد أو أن يعرف الحكم النافذ، أي لو فرضنا أن قوماً تعبدوا بالصلاة إلى بيت المقدس، ولم يبلغهم خبر تحول القبلة إلا بعد يوم أو يومين، فهؤلاء لا نقول: إن إيمانهم أقل، وإنما بحسب ما بلغهم واعتقدوا وآمنوا.


    إذاً لو جعلنا الإيمان قدراً مشتركاً واحداً بين الجميع، لنتج عن ذلك أن هؤلاء قد تركوا معلوماً من الدين بالضرورة، إذاً هم كفار وهذا لا يقول به أحد.
    فالأدلة النقلية والعقلية على خطأ وبطلان مذهب الخوارج والمرجئة في الإيمان كثيرة جداً، والأمثلة عليها كثيرة، ولكن أتينا بهذه الأمثلة لنبين القضية الأهم، وهي قضية: حقيقة الإيمان عند الفرقة الناجية: أهل السنة والجماعة.




    تفاوت أعمال القلب و الجوارح

    إن أعمال القلب تتفاوت وتتفاضل تفاضلاً عظيماً، ولذلك المصليان اللذان يؤديان الصلاة في صف واحد، وهذا يصلي بجانب هذا، هل نقول إن صلاتهما واحدة؟ وكما تعلمون أن من المصلين من تكتب له الصلاة كاملة، ومنهم النصف، ومنهم الربع إلى العشر إلى لا شيء، لماذا، مع أن الحركات الظاهرة واحدة؟ لأن ما في القلب يتفاوت من الخشوع واليقين والإنابة والرغبة في هذه العبادة ومحبة هذه العبادة.

    وجملةً نقول: إن عمل القلب يتفاوت ويتفاضل، فلهذا: صلاة هذا غير صلاة ذاك، فهذا بالنسبة لتفاضل أعمال القلب.

    وأما تفاضل أعمال الجوارح، فمعلومٌ أيضاً بالبداهة، فالإنسان الذي قام بأمر الله وجاهد في الله حق جهاده، كما جاهد أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأدوا جميع الفرائض، وجاهدوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشروا الدعوة، وعملوا هذه الأعمال العظيمة، فلا يعقل مطلقاً أن يقال إن إيمانهم كإيمان أحد من الناس، ولذلك قال ابن أبي مليكة، كما روى عنه ذلك البخاري: [[أدركت ثلاثين من أصحاب محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخشى على نفسه النفاق، ما فيهم أحد يقول: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل]] وقال في رواية أخرى: [[وقد خاب وخسر من قال: إن إيماني كإيمان جبريل وميكائيل]].

    فقدان حقيقة الإيمان

    وسبب ذلك أن هذا الإيمان، سواء أكان عمل الجوارح، أم عمل القلب فإنه يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فالذي يقول: إنه حقيقة واحدة كلية ومشتركة، فهذا مصادم للنصوص والآيات والأحاديث في ذلك، فإذا عرفنا هذه الأركان الأربعة، عرفنا بعد ذلك: لماذا قال العلماء -مثلاً-: إن الراجح أن ترك الصلاة كفر؛ لأن الحقيقة المركبة -كما نسميها- إذا فُقد منها شيء أساسي، فُقدت الحقيقة كلها، فالأشياء الأساسية إذا فُقدت تُفقد الحقيقة كلها.
    مثلاً: لو شبهنا الإيمان بالإنسان، فالإنسان يتكون من بدن وروح، فإن من قُطِعَ رأسه، فهذا انتفت حقيقته، أي أنه مات تماماً، لأن قطع الرأس كقطع الجزءٍ الأساسي، لكن من قُطِع منه أصبع -مثلاً- فهذا إنسان ناقص الخلقة، أي نقص شيء من خلقته، لكنه ما مات، وهكذا نقول أركان الإسلام الخمسة -مثلاً- أو أركان الإيمان الستة، هذه هي الأركان الأساسية التي ذكرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمن ترك الصلاة فقد كفر؛ لأنه ترك ركناً أساسياً تفقد به الحقيقة، مثل الشجرة لو استأصل الجذر وهو أصل الشجرة فهذه الشجرة تكون قد انتفت تماماً، كذلك الصلاة من الإيمان كما قال تعالى:
    ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ))[البقرة:143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس كما فسرها الصحابة كـابن عباس في صحيح البخاري، فإذا كنا نريد أن نعرّف الإيمان الكلي، ونعرف هذا الجزء منه وهو الصلاة، فالصلاة لها أركان وواجبات، ولها نوافل وكمالات، وكذلك الإيمان له أركان وواجبات، وله نوافل وكمالات.

    فمثلاً: الركوع من أركان الصلاة، فالذي لا يأتي بالركوع مع قدرته على ذلك، يكون تاركاً للصلاة، ولم يصل مطلقاً، وكذلك من ترك الصلاة -مثلاً- هذا لم يؤمن مطلقاً، ومن ترك ركناً من أركان الإيمان الباطن كمن ترك الإيمان بالكتب أو الإيمان بالملائكة، فإن هذا ترك ركناً أساسياً من أركان الإيمان، فهذا يكون خارجاً من الملة، لكن الذي يترك واجباً -مثلاً- من واجبات الصلاة، فإنها تجبر بسجود السهو، وكذلك واجبات الإيمان تجبر بالتوبة -كلها تجبر بالتوبة والاستغفار- لكن الحقيقة باقية، فحقيقة الصلاة باقية حتى مع ترك الواجب، وأما الذي ترك الواجبات والمستحبات والنوافل، فقد ترك الكمال فقط.

    فتشبيه الصلاة بالإيمان تشبيه من جميع الوجوه، فالصلاة لها باطن ولها ظاهر، فباطنها: النية والخشوع والانقياد والاستسلام لله بهذه العبادة، وظاهرها: ركوع وسجود وقيام، فلو رأيت إنساناً يركع ويسجد وله حركات ظاهرة مجردة بدون نية، وبدون إخلاص، لكان هذا مجرد حركات بدنية، وليست صلاة، وهذا مثل المنافق وإن حج وصام وزكى وجاهد، فهي حركات ظاهرية بدون إيمان في القلب، وهذا لا يسمى إيماناً.

    وكذلك العكس لو أتيت إلى إنسان وهو جالس، قلت له: قم إنَّ الناس يصلون، فقال: لا. أنا أصلي بقلبي، وهذا كأمثال الذين وصلوا إلى أهل الحلول والاتحاد وأمثالهم، فلا نقبل منه ذلك، فنحن نعلم أن الخشوع أو الجانب القلبي من الصلاة عظيم ومهم، لكن لا يمكن أبداً أن يكون من دون أن يؤدي الإنسان الأعمال الظاهرة من ركوع وسجود وقيام وقراءة ونحو ذلك، فكذلك الإيمان من قال: الإيمان كامل في قلبي، لكن في حياته الدنيا لا صلاة ولا زكاة ولا عبادة ولا أَمَر بمعروف ولا نهى عن منكر، بل كله خطايا وآثام ومعاصٍ.

    فنقول: دعوى الإيمان عنده كذب، كما أن الذي يقول: أنا أصلي وأنا جالس، هذا كذب، وكذلك من أدى هذه الأعمال ولو كثرت بدون عمل القلب الباطن، فهو أيضاً كذب كما كذب المنافقون في دعواهم للإيمان.
    :
    :
    :



    الأسئلة


    أدلة كفر تارك الصلاة

    السؤال: هل تارك الصلاة كافر يخرج من الملة، كما قال بعض العلماء؟
    الجواب: أنا أورد -إن شاء الله- الأدلة على تكفير تارك الصلاة:
    بدايةً: الأحاديث التي ورد فيها ترك الصلاة، ورد فيها الكفر المعرف بالألف واللام، وهو الكفر المطلق بخلاف قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    {وقتاله كفر} فإن كلمة (كفر) هذه كلمة مجردة تطلق على المعاصي، كما قال: {لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض} لكن هنا قال: {بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة} فهذا (الكفر) المعرف بالألف واللام، الذي هو من حقيقة الكفر، دليل على أنه كافر.

    دليل آخر: إجماع الصحابة، وإجماعهم حجة لا يجوز مخالفتهم، وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن شقيق رضي الله تعالى عنه أنهم أجمعوا على أنه كافر، وقال عبد الله بن مسعود في تارك صلاة الجماعة: [[وقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق]] وهنا في صلاة الجماعة، فما بالك بترك الصلاة! والمقصود تركها بالكلية، أما من كان يصلي مرة ويترك مرة، فهذا كالمنافقين، يأخذ أحكام الإسلام الظاهرة، لكن يدخل في الإيمان مرة ويخرج منه مرة، لكن إن تركها بالكلية، فهو خروج من الإسلام بالكلية.

    أيضاً قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح الذي فيه ذكر الولاة وجور الولاة في آخر الزمان:
    {قالوا: يا رسول الله! ألا نقاتلهم، قال: لا. ما لم تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان} فلا يجوز مقاتلتهم إلا إن فعلوا الكفر البواح، وفي الحديث الآخر روايات صحيحة أخرى يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لا. ما أقاموا فيكم الصلاة} وفي رواية أخرى صحيحة أيضاً: {قال: لا. ما صلوا} وكل هذه الروايات في البخاري ومسلم، فعرفنا أن ترك الصلاة كفرٌ بواح عندنا فيه من الله برهان.
    وكذلك القياس على أركان الإيمان الباطنة، فبعض العلماء يقيس أركان الإسلام الخمسة الظاهرة على أركان الإيمان الستة الباطنة، ولذلك ذهب جمع من الصحابة إلى أن من ترك ركناً من أركان الإسلام مصراً بقلبه فقد كفر، ولذلك ورد عن علي وعمر وابن عباس أن من أصر بقلبه على ألا يحج ونوى ذلك فهو كافر، واحتجوا بقول الله تبارك وتعالى:
    ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ))[آل عمران:97] ومن الأدلة أيضاًَ: الصلاة والزكاة، نُص عليهما في حديث ابن عمر: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة}.
    ونُص عليهما بنص القرآن بقول الله تبارك وتعالى:
    ((فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ)) [التوبة:11] فالصلاة والزكاة عملان متكرران وظاهران، فالصلاة يجب أن يؤديها، وإن أداها وهو كاذب في الأصل نفسه، ولكن يجب أن نراه وهو يؤديها، والزكاة حق مالي لله يجب أن يؤديها أو نأخذها منه قهراً وقسراً، لكن الصيام عبادة خفية قلبية، يمكن لأي إنسان أن يظهر لنا أنه صائم وهو ناوٍ بقلبه أنه مفطر، ولا يكون صائماً، وممكن أن نقول له: حج، ويقول: وقت الحج موسع، فهو مرة في العمر، فأنا سأحج، لكن هذان الركنان نص عليهما أساساً لتكررهما.
    ومن الأدلة -أيضاً- على أن تارك الصلاة كافر: إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على قتال مانعي الزكاة وقتال المرتدين، ولذلك احتج الصديق بذلك، فقال -كما في الرواية الصحيحة-:
    [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة]].

    إذاً: الصديق رضي الله تعالى عنه يقول: أنتم يا أصحاب محمد! ألستم مجمعون على أن تارك الصلاة يقاتل، فكذلك تارك الزكاة يقاتل، فإذاً ترك الصلاة كفر يخرج من الملة، وقد نقل ذلك إسحاق بن راهويه عن الصحابة ومن بعدهم، وإنما خالف في ذلك فقهاء الكوفة -أصحاب الرأي- ثم تبعهم بعض الشافعية.




    حقيقة الخلاف بين أهل السنة والأحناف في مسألة الإيمان

    السؤال: هل الخلاف الواقع بين أهل السنة والجماعة وبين الأحناف خلاف لفظي أو حقيقي؟ وهل صحيح أن الإمام أبي حنيفة عنده شيء من الإرجاء؟


    الجواب: الحقيقة أن الإمام أبا حنيفة قال: إن الإيمان هو القول والإقرار والاعتقاد فقط، ولم يجعل العمل داخلاً في الإيمان، وهذا ثابت عن الإمام أبي حنيفة، وهو بهذا المعنى مرجئ، لكن الإرجاء على نوعين: إرجاء الفقهاء أو إرجاء العباد، وإرجاء المتكلمين أو إرجاء الجهمية.

    أما إرجاء الجهمية فإنهم يقولون: إن الإيمان هو التصديق القلبي فقط، وإرجاء الحنفية أو إرجاء الفقهاء يقولون: الإيمان هو التصديق بالقلب والإقرار باللسان، ولكن الأعمال غير داخلة في الإيمان، ورُد عليهم بما ثبت في أحاديث صحيحة كثيرة، كما في كتاب الإيمان من صحيح البخاري، أن الصوم من الإيمان، وأن قيام ليلة القدر من الإيمان، وأن اتباع الجنائز من الإيمان، وهكذا فكلها تدل على أن العمل من الإيمان، وكذلك لما سُئِلَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
    {أي العمل أفضل؟ قال: إيمانٌ بالله وبرسوله} فالعمل إيمان والإيمان عمل.

    ومذهب الإمام أبي حنيفة على فهمين: منهم من فهم إدخال عمل القلب في الإيمان وهي اليقين والإنابة والإخلاص والصدق والرغبة وما إلى ذلك، فكل الإيمان الباطن يجعله من الإيمان، ويجعل القول من الإيمان، فيكون عنده أن أركان الإيمان ثلاثة وهي: قول القلب وعمل القلب وقول اللسان وأخرجوا عمل الجوارح وهو الرابع عند أهل السنة والجماعة، ثم جاء أبو منصور الماتريدي الحنفي وقال: لا. حقيقة الإيمان عند أبي حنيفة مثله عند جهم، فجعلوه كـجهم، قالوا: يقصد فقط قول القلب، وهو التصديق، فعمل القلب غير داخل، والعمل غير داخل في الإيمان عند أبي حنيفة، والذي نظنه نحن بـأبي حنيفة أنه لا يخرج عمل القلب، لكن الحنفية يخرجون عمل القلب.
    أما الفرق، هل هو لفظي أم حقيقي؟ فإن شارح العقيدة الطحاوية يقول: إن الخلاف لفظي، وبعض المواضع لشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية يقول: الخلاف لفظي، فهل هذا الكلام على إطلاقه؟ لا. الخلاف لفظي باعتبار وحقيقي باعتبار، فهو لفظي إذا قلنا: إن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يقول: إنه يجب على الإنسان أن يصلي ويزكي، وأنه إن لم يفعل ذلك كان صاحب كبيرة، وأن الله يعذبه على ذلك، وأن العمل مطلوب ومشروع، وأهل السنة يقولون: إن العمل مطلوب ومشروع وعليه أن يصلي ويزكي، وفي الآخرة كلهم متفقون على أنه مؤاخذ وأنه آثم، فعلى هذا يكون الخلاف بهذا الاعتبار لفظي؛ لأن المؤدى في النتيجة عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى واحد، لكن الخلاف من الناحية الأخرى حقيقي، فمثلاً: إنسان فاسق شارب خمر فهو عند أبي حنيفة مؤمن كامل الإيمان، لأن الإيمان عنده هو التصديق والإقرار باللسان، لكن نحن لا نطلق عليه أنه مؤمن، فالخلاف هنا حقيقي، وكذلك من يقول: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ومن يقول: إنه يزيد وينقص، فبينهما خلاف حقيقي، لأن هذا تكذيب، أو رد للنص وإن كان هو بتأويل وباجتهاد، لكن هو في الحقيقة رد للنص، ولا نقول إن الإمام أو من اتبعه على ذلك يؤاخذ، لأن الخطأ في الاجتهاد مغفور لكن لا يجوز لنا نحن أن نتابعه وأن نوافقه فيه، فالخلاف إذاً حقيقي باعتبار ولفظي باعتبار.




    أسباب خروج الفرق الضالة من الإيمان

    السؤال: ما هي أسباب خروج الفرق الضالة من العقيدة الإسلامية، مع أن العقيدة الإسلامية واضحة وليس فيها شك؟

    الجواب: الحقيقة أن من أسباب اختلاف الفرق في الإيمان: هو أن الإيمان يختلف في الآيات وفي الأحاديث، فيأتي الإيمان مرة مطلقاً، ويأتي الإيمان مرة مقيداً، ويأتي الإيمان مرةً مقروناً بالإسلام، ويأتي الإيمان مرةً ويراد به بعض الأعمال الصالحة، ويأتي الإيمان مرةً ويراد به جميع الأعمال، فهذه الاطلاقات المتعددة، أربكت بعض الناس فوقعوا في خطأ في فهم حقيقة الإيمان؛ لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يرد النصوص المتشابهة إلى المُحكمة، وأن يرد النصوص التي تحدثت عن بعض الإيمان إلى التي تحدثت عن الإيمان كله.
    فنقول: إنَّ من أسباب الخلاف بين الفرق: أن الإيمان ورد مطلقاً، وورد مقيداً، وورد مقروناً بالإسلام، وورد معطوفاً عليه بالأعمال الصالحة، وورد غير ذلك، فلهذا اختلف الناس، ونشأت الفرق، وهذا الكلام عند من نحسن الظن به.
    أما أهل الأهواء فإن من أسباب اختلافهم: أنهم تركوا ما دل عليه الدليل الصحيح من كلام الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واتبعوا الهوى، ومن أعظم الأدلة على ذلك: وهو أن الخوارج -وهي أول فرقة خالفت في الإيمان- لما ناظرهم ابن عباس رضي الله عنه، رجع الآلاف منهم إلى الحق، والذين بقوا قامت عليهم الحجة، وظهر لهم الدليل، واتضح لهم الحق، لكنهم بقوا على باطلهم، والسبب هو اتباع الهوى والمكابرة، فينطبق عليهم ما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية} وكما قال: {تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه} أي: مثل الكَلَب، وهو داء الكلاب الذي يتجارى بصاحبه، وإلا فالحق واضح.


    حكم التأويل في أسماء الله وصفاته

    السؤال: ما حكم التأويل في أسماء الله وصفاته؟

    الجواب: الموضوع خارج عن نطاق الإيمان، لكن نقول باختصار: التأويل منه ما يكون كفراً، ومنه ما يكون بدعة، ومنه ما يكون خطأً، كما قال ذلك شارح العقيدة الطحاوية في أولها، والتأويل المكفر كتأويل الباطنية، والتأويل البدعي كتأويلات الأشعرية، والتأويل الخطأ مثل بعض من أخطأ من أهل السنة والجماعة في صفة القدم مثلاً.



    حكم تارك الصلاة

    السؤال: عندما قلتم إن من ارتكب الزنا، فإن قول القلب ما زال موجودًا عنده، مع أنه فقد عمل القلب، فلماذا لم نقل لمن ترك الصلاة: إنه فقد عمل القلب، وقول القلب ما زال موجوداً عنده؟ أرجو بيان ذلك مفصلاً وحكم تارك الصلاة؟ سواءٌ أكان منكراً أم تاركاً عمداً أم تاركاً تكاسلاً، وهل بعد دعوة تارك الصلاة مرات كثيرة وإصراره على الترك يقال: إنه كافر؟
    الجواب: الموضوع الأول ليس هناك داع لأن نطيل فيه؛ لأننا قلنا: إن هناك أركان أساسية: الأركان الخمسة من الإسلام، والستة من الإيمان، فهذه أساسية وبفقد أحدها يفقد الإيمان أو الإسلام، وأما بقية الأشياء فهي واجبات، وتختلف عن الأركان الأساسية، وهناك -أيضاً- خلاف أساسي بين ترك المأمورات وبين ارتكاب المحرمات، فارتكاب المحرمات مهما كثر مع الإتيان بالأركان الخمسة فإن صاحبه يبقى مرتكباً لكبيرة، كما في حديث صاحب البطاقة -وكما تعلمون- أنه لم يعمل خيرًا قط، لكن عنده التوحيد فنفعه ذلك التوحيد، وحديث المذنب الذي يأتي بصلاة وصيام وزكاة، لكن الأعمال السيئة تأخذ كل ذلك حتى يطرح في النار، فالأحاديث كثيرة تدل على أن ارتكاب المحظورات جميعاً، ليس مثل ترك الواجبات جميعاً، بل ترك الواجبات جميعاً يخرج من الملة، ولو أن أحدًا لم يعمل من الواجبات شيئاً، فهذا لا يكون مؤمناً قط، لكن لو فعل المحرمات جميعاً ما عدا الشرك؛ فإنه لا يخرج من الملة، فهذا فارق أساسي بين شارب الخمر أو الزاني وبين تارك الصلاة.

    أما قضية ترك الصلاة منكراً أو غير منكر، فإن كان المقصود بالإنكار أنه يقول: إن الله لم يوجب الصلاة، فهذا أصلاً قليلٌ جداً من يقول من المنكرين أو من المكذبين ذلك، فهل سمعتم أحدًا يقول: الصلاة ليست واجبة!
    ولنأخذ مثالاً واضحًا، الذين تركوا الزكاة في عهد الصديق رضي الله تعالى عنه، هل قالوا: إن الله لم يفرض علينا الزكاة، وأنكروا الآيات التي نزلت في الزكاة؟ لا. ولو أنكروها ما احتاج أبو بكر إلى أن يقول: فرقوا بين الصلاة والزكاة، لأن من أنكر آيات في القرآن، ولو حرفًا واحدًا فإنه يكفر، لكنهم لم يلتزموا بها وأنكروا دفعها، فالذي يرفض أن يصلي فإنه يكفر، وإن كان مقراً بأن الصلاة واجبة، ولو قال: أنا أقول أنها واجبة لكن لا أصلي، فهذا مثله مثل من يقول: أشهد إنك رسول الله ويقاتله، أو مثل من يأخذ المصحف، ويقول: أشهد أن هذا كلام الله، ويدوس عليه برجله والعياذ بالله! وهذا أشد كفرًا.

    ولهذا نقول: إن الكفر أنواع: منه كفر الإباء، ومنه كفر الجحود، وكفر الاستحلال.
    وهذه هي العين التي نعرف بها حكم تارك الصلاة: كفر الإباء وكفر الجحود.

    فكفر الإباء: كإبليس أُمر بسجدة واحدة، فقال:
    ((أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ))[الأعراف:12] واستكبر وأبى: ((إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ))[البقرة:34] فتركها عناداً ولم ينكر إبليس أن الله أوجب عليه السجدة، فمن قال أيضاً: لا أصلي، وامتنع عن أداء الصلاة، فهذا كفره من جنس كفر إبليس لما ترك السجود، ولذلك يوم القيامة إذا أمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الناس أن يسجدوا، يأتي هؤلاء فإذا ظُهورهم كالخشب، كما جاء في الحديث الصحيح، وهذا من الأحاديث الدالة على أن تارك الصلاة يكفر كفراً ينقله من الملة.

    أما كفر الجحود كمثل أن يقول: إن الله ما أوجب علينا الصلاة، ولو كان يصلي، فهذا كافر، أو يقول: الخمر حلال، ولو لم يشرب الخمر، فهذا كافر، فهذا نوع من الكفر.


    فإذا جئنا بتارك الصلاة -كما يقول هذا السائل- وكرر عليه مرات ولم يصلِ هل نقول إنه كافر؟ نفرق بين الأحكام الظاهرة وبين الأحكام الباطنة؛ لأن هذه قضية خطيرة، فالأحكام الظاهرة تعطى لكل من أظهر شعائر الإسلام، وإن كان في حقيقته كافراً لا إيمان له، كما كان المنافقون يعطون أحكام الإسلام، فتارك الصلاة -مثلاً- الذي يعيش في المجتمع المسلم مع المسلمين، ويؤدي بعضاً ويترك بعضًا، أو لا يصلي بالمرة، نحن نعطيه الأحكام الظاهرة، فلو أنه مات وجيء به إلى المسجد فإننا نصلي عليه جميعاً، ولو أنني بذاتي أعرف أن هذا تارك صلاة ونصحته، وأصر على ترك الصلاة، فأنا بذاتي لا أصلي عليه.


    إن أكثر أسباب الخلاف والشقاق بين الدعاة المعاصرين اليوم، ومما أوقع بينهم الجدل والخلاف وتشعب الآراء، وكذلك بين المتناظرين قديماً، هو عدم التفريق بين الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، أي في إجراء الأحكام الظاهرة والأحكام الباطنة، فالقاعدة التي نقولها ونكررها: ليس كل من كان كافراً في الحقيقة أو في الباطن تجرى عليه الأحكام الظاهرة للكفار، وما دليل ذلك؟ نقول: أعظم دليل واضح، هو: حكم المنافقين في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنهم كفار في الباطن والحقيقة، ومع ذلك تجرى عليهم أحكام الإسلام الظاهرة، فلا يلزم من القول بكفر امرئٍ ما باطناً، أن تجرى عليه أحكام الإسلام ظاهراً.


    ولو أخذنا القضية التي سأل عنها السائل -تارك الصلاة- نقول: تارك الصلاة، الذي لا يصلي فعلاً، هذا بحسب معرفته، فإجراء الأحكام عليه، يختلف الحال بين زوجته -مثلاً- التي تعيش معه في البيت، والتي تعلم يقيناً أن هذا الزوج لا يصلي، وبين حال رجلٍ لا يعرفه من الناس، ولو ذهب وقابله في أي مكان لسلَّم عليه، ولو ذبح لأكل ذبيحته، ولو تكلم معه بكلام الإيمان أو الإسلام لخاطبه بذلك، فهذا رجل يختلف حكمه في حق زوجته التي يجب عليها شرعاً أن تطالب القضاء بإلغاء العقد، وألا تمكنه من نفسها؛ لأنه كافر بالنسبة لها، وبين الذي لا يعرف حقيقته من الناس، ومع ذلك يعامله معاملة المسلمين، فنحن أمرنا أن نجري أحكام الإسلام الظاهرة على كل من يدعي الإسلام في دار الإسلام، ولكن لا يعني ذلك أنهم في الحقيقة وفي الباطن وعند الله أنهم مؤمنون، فلو مات هذا الرجل فإن من كان يعرف حقيقته وأنه تاركٌ للصلاة بإطلاق، فإنه لا يصلي عليه بل يتركه، لكن إذا قدمت جنازة في المسجد صلى عليها أناسٌ كثيرون، فإن هذا يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين، ويرث ويورث، بحسب الأحكام الظاهرة التي تجرى عادة، لكن لو تيقنا بأحد الأمرين، فإذا جيء بتارك الصلاة أو تارك أي ركن من الأركان إلى قاضي المسلمين الشرعي وناظره، بأن أقام عليه الحجة ثم امتنع عن أدائها، فحكم القاضي عليه بالقتل، فقتل، فنقول: هنا اتضح الحكم، هذا هو الذي لا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين؛ لأن البينة قامت، واتضح لدينا الدليل بحكم القاضي، وكما تعلمون حكم القاضي أيضاً هو على الظاهر، أي ليس كل ما حكم به القاضي هو مطابق للحقيقة، لكننا أيضاً نحكم على الظاهر في هذه الحالة، فلا يجوز لنا أن نصلي عليه، ولا يجوز أن يرث ولا يورث؛ لأننا تيقنا أنه تاركٌ للصلاة فعلاً، وأنه قد قامت عليه الحجة، وقتل وهو لم يصلِ، فهذا كافر على الحقيقة.

    وفي حالة الإنسان المجهول -كما قلنا- فهذا يظل كذلك، إنسان يؤدي فرائض ويترك فرائض، ولا يوجد أحد يتابعه، ويستقرئ حاله بالدقة وبالتفصيل، فهذا في الحقيقة مثل المنافقين الذين يدخلون في الإيمان ويخرجون منه، يدخلون في الكفر ويخرجون، ثم يعودون إلى الإيمان، فهم كما قال تعالى:
    ((مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ))[النساء:143] مرةً مع المؤمنين ومرةً مع الكافرين، فالحال التي يؤدي فيها الصلاة يكون مع المؤمنين، والحال التي يتركها يكون مع الكافرين، ولذلك حذيفة رضي الله عنه، لما أطلعه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أسماء المنافقين بأعيانهم، فكان عمر ينظر، فإذا رأى حذيفة يصلي على فلان صلّى؛ لأنه معروف أنه غير منافق، وإن رأى حذيفة لم يصلّ، لم يصلّ، أما الصحابة الذين لا يعرفون عنه شيئاً، فإنهم يعطونه الأحكام الظاهرة، فيصلون عليه، ويرثه أولاده وزوجاته فيأخذ كل الأحكام الإسلامية الظاهرة، لكن هو في الحقيقة كافر ومنافق، ويعلم ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وعلَّم ذلك حذيفة، وهو يعلمهم، ويعرفهم بأعيانهم.


    فمن عرف هذه القضية زالت عنه الشبهة، وهو أننا عندما نقول: أن تارك الصلاة كافر، إذاً معنى هذا أنني إذا رأيت شخصاً لا يصلي وكلمته مرة بالصلاة ولم يصلِ، فنقول: أنت ما دمت لم تصل إلى الحقيقة وإلى البينة، فإنه لا يزال حكمه -عندك- أنه مجهول، ولا تعلم هل قامت عليه الحجة أو لا؟ وهل هو مواظب على أدائها تماماً أو مفرط فيها؟ فما دامت هذه الأمور والتساؤلات موجودة، فأنت تجري الأحكام الظاهرة التي يأخذها كل من يظهر الإسلام، وكل من يدعي الإسلام في دار الإسلام، فإذا جئنا -مثلاً- إلى من يذبح نأكل ذبيحته في دار الإسلام وهو يدعي الإسلام، فإن من البدع أن نقول: لا آكل إلا ذبيحة من تأكدت يقيناً أنه موحد، صحيح العقيدة.
    فهذا أصلاً من الحرج الذي رفعه الله تعالى عن هذه الأمة، ومن حرَّجوا على أنفسهم بذلك، فقد خالفوا هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وعقيدة أهل السنة والجماعة؛ ولو مررت بأناس وهم يصلون في مسجد، فإنك تصلي وراءهم جماعة، ولا تقول: لا أصلي إلا خلف من تيقنت أن عقيدته صحيحة، لو فعلت ذلك وقلته لكان هذا من فعل أصحاب البدع، لا من فعل أهل السنة والجماعة.


    إذاً نقول: الأحكام الظاهرة تختلف، فيمكن يكون هذا الإمام في الباطن أنه منافق، لكن لا نرتب على ذلك حكماً ظاهراً إلا على بينةٍ ويقين ظاهر، وأما الأحكام الباطنة فهذه بين العباد وبين ربهم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعد أصحاب مسجد الضرار أنه يصلي فيه إذا رجع من تبوك؛ لأنه لا يعلم الغيب، ولكن لما أخبره الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بأن هؤلاء اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل، وأمره بعدم الصلاة فيه، فالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امتثل ذلك وامتنع عن الصلاة فيه وإن كان مسجداً، لكن بعد أن علم أنه مسجد ضرار ونفاق، فإنه لم يصلِ فيه.
    وهكذا نحن ما دمنا لا ندري، فيمكننا أن نصلي في أي مسجد وراء أي إنسان، وهكذا الشيء نفسه في أصحاب البدع، فمن جاهر بالبدعة وقامت عليه الحجة فإنه تترك الصلاة خلفه زجراً له وردعاً، وأولى من ذلك لو كان الرجل ممن يُقْتدى به، فإن في حقه أوجب ألا يصلى خلفه لأن الناس يقتدون به، لكن من لم يعرف حقيقته، وصلى خلفه فصلاته صحيحة كاملة ومجزئة، بل إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في أول أمره لا يصلي على من جيء به وعليه دين، ويقول: {صلوا على صاحبكم} ثم لما وسع الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عليه قال: {أنا ولي كل مسلم}.

    فصار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كافلاً لكل مسلم يموت ولا يجد من يقضي عنه دينه، وليس في ماله شيء، فصار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي عليه، وهذه الأعمال كان يعملها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زجراً لأصحابه عن التورط في الدين -مثلاً- فلذلك من حق الإمام الشرعي أو من حق من يقتدى به من أهل العلم أنه يترك الصلاة على من مات مصراً على بدعة -نقول: من حقه، ولا يجب عليه- لينـزجر الناس وليرتدعوا، لكن من لم تقم عليه البينة الشرعية والحكم الشرعي القاطع بأنه كافر، فهذا لا يأخذ أحكام الكفر الظاهرة، فهذا موجز لهذه القضية.





    الجمع بين أحاديث الوعد والوعيد

    السؤال: كيف نوفق بين قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن تارك الصلاة كافر، وقوله: {من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه وجبت له الجنة} والحديث الذي يصف أهل آخر الزمن أنهم لا يعرفون إلا قول لا إله إلا الله، ولكن يدخلون الجنة؟

    الجواب: الحديث الأول ليس فيه إشكال، من قال:
    {لا إله إلا الله صادقاً من قلبه..}، ونحن نقول: من كان صادقاً من قلبه فإنه لابد أن يصلي قطعاً، وهذا دليل على أن عمل القلب موجود لديه، ومن وجد لديه عمل القلب فلابد أن يوجد لديه عمل الجوارح، ولا خلاف في ذلك.
    أما آخر الزمان، فإن السائل يقصد حديث حذيفة لما سأله الرجل، قال له: { ما تغني عنهم لا إله إلا الله؟، قال: تنجيهم من النار }.
    وهنا نأخذ قاعدة، وهي أنه يجب أن نفرق بين القاعدة الكلية أو الحكم الأصلي المشروع المتبع، وبين العوارض.
    فالأصل فيك أنك تتوضأ وتقيم الصلاة، لكن -مثلاً- إذا كنت تجاهد في سبيل الله ثم أسرك الكفار وقيدوك ومنعت من الماء، فإنه يجوز لك أن تُصلي بدون وضوء، أو أن تصلي إلى غير القبلة، أو تصلي بدون قيام، كذلك لو ألجئت في دار الكفر، ألا تظهر إسلامك فيجوز لك أن لا تظهر شهادة أن لا إله إلا الله أو الصلاة بالمرة، فهذه أحكام عارضة، وليست هي الأصل.
    لكن لو أتى شخص وقال: أنا أصلي بدون وضوء، لأن الصلاة جائزة بدون وضوء! قيل له: ما الدليل؟ قال: لأن الإنسان إذا حبس في مكان وليس عنده ماء فإنه يجوز له ذلك، لكن نقول: ذاك محبوس، أما أنت فعندك الماء ولست محبوسًا، ففرق بينهما.
    ففرق بين الذي يكون القرآن والسنة بين يديه، ويعرف أن الصلاة واجبة، والمساجد يؤذن فيها، وبين الذين هم في آخر الزمان كما في حديث حذيفة: { يدرس الإسلام كما يدرس الثوب، وينسى الدين، حتى يأتي العجوز والشيخ الكبير فيقولون: أدركنا قوماً يقولون: لا إله إلا الله، فنحن نقولها. فقال الراوي: وما تنفعهم لا إله إلا الله، قال حذيفة رضي الله تعالى عنه: تنجيهم من النار } لأنه ما بلغهم من الدين إلا هذه الكلمة، فهؤلاء كمثل المقيد الذي لا يستطيع أن يصلي إلا بدون وضوء، أو لا يستطيع أن يصلي إلا وهو جالس، ولا يستطيع أن يقف، فهذا غاية ما بلغهم من الدين، فهل نقول: إذاً ما دام هؤلاء كذا فنحن الذين بلغنا الدين كله ونستطيع أن نؤدي الفرائض أن نكون مثل حال هؤلاء، ولا نصلي أبداً، ثم ننجو من النار؟ هذا لا يمكن؛ لأن هناك فرقاً.
    فعارض الأصل: الإكراه والجهل وعدم البلاغ، فهذه عوارض تعرض، لكن القاعدة الكلية الأصلية تبقى دائماً هي الأصل، وهذه الاستثناءات وإن وردت فإنها لا تلغي القاعدة، لكنها تستثني الحالة الخاصة التي وردت فيها.
    ولذلك حالة الجهنميين الذين يخرجون بعد أن يأمر الله تعالى بإخراج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان أو من خير، كما في رواية ففي رواية: {فيتحنن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى } وهي في المسند: { فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط } كما ورد في إحدى روايات أبي سعيد عند مسلم: { فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قط } فهذا مثل الناس الذين في آخر الزمان ولم يبلغهم إلا هذا الكلام، ولم يعملوا خيراً قط ولا عرفوه.

    وأيضاً يخرج من النار الرجل الذي ورد في رواية أبي عوانة أنه هو آخر الناس خروجاً من النار، وهو الذي قال لأهله من بني إسرائيل: {إذا أنا مت فاحرقوني واسحقوني وذُرُّوني في البر والبحر، فوالله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين} فورد في رواية أن هذا الرجل هو { آخر أهل النار خروجاً من النار }، وأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يخرجه من النار، مع أنه شك في القدرة، سواءً قيل إن هذه الرواية شاذة، أم أنه هو هذا الرجل أو غيره، فالمهم أن هذا الرجل كان في حالة خوفٍ وإجلالٍ شديدٍ -كما في آخر الحديث- {ثم يأمر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى البحر أن يلقي ما فيه، والبر أن يلقي ما فيه، فيجمعه فيعيده خلقاً سوياً، كما بدأ، فيقول: يا عبدي! ما حملك على ما فعلت؟ قال: خوفك يا رب} فمن خوف الله نسي قدرة الله، ونسي أنه على كل شيء قدير، ونسي الإيمان بالبعث، ونسي أصلاً من أصول الدين.
    فنقول: هذه الحالة لا نجعلها معيارًا ومقياسًا لنفي القدرة، فيقول شخص: نفي القدرة لا يلزم القول به عدم دخول الجنة.


    فإذاً هناك حالات أو عوارض تعرض، تستثنى من القاعدة الأصلية، ولكنها لا تهدم القاعدة الأصلية أبداً، وكذلك حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه، لما قال: {
    خمس صلوات فرضهن الله في اليوم والليلة، من حافظ عليهن دخل الجنة، ومن لم يحافظ عليهن فهو إلى رحمة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له} فهذا لا يدل على أن تارك الصلاة تحت المشيئة كصاحب الكبيرة؛ لأن المحافظة على الصلاة شيء، ومجرد الأداء شيء آخر، فالذي يصلي الفجر الساعة السابعة، والظهر الساعة الرابعة، والعصر الساعة السادسة، هذا نقول: إنه غير محافظ على الصلاة، والذي ينام مرة ويقوم مرة، هذا لا يسمى محافظاً على الصلاة، والله تعالى لما مدح المؤمنين قال: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ))[المؤمنون:9] ولم يقل: يؤدون الصلاة، فالذي يؤدي الصلاة هو مسلم، أما الذي يحافظ على الصلاة فنقول: إنه مؤمن.


    فالمحافظة درجة أعلى من الأداء، وليس في الحديث دليل على أن من لم يصلِ بالكلية فهو تحت رحمة الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له. فالمحافظة على الصلاة أن تقام بهيئاتها وأركانها وبواجباتها ومستحباتها في أوقاتها كما شرع الله، فالإهمال فيها والتكاسل ليس محافظةً عليها.
    فهذا الحديث لا يتعارض مع الأدلة الصحيحة الصريحة المروية عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجوه كثيرة في أن تارك الصلاة تركاً كلياً أنه كافرٌ لا إيمان له.
    وهنا أمر آخر، وهو أن من لم يفهم شيئًا في الدين، فإنه يؤدي إلى شكه في دينه، ولذلك وجدت الحلقات العلمية وألفت الكتب، وأُرْسِلَ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصحابة، فالذي لا يفهم يجب عليه أن يتعلم، والذي لديه بعض الشك يجب عليه أن يسأل الراسخين في العلم الذين ليزيلون عنه الشك والشبهة، ليصل إلى مرتبة اليقين، ولو أننا لم نؤمر أو لم نكلف أو لم نعلّم من الدين إلا ما كان يفهمه العامة، لما علم من دين الله شيء، وإنما يجب على العقول أن تحاول، وأن تتعلم هذا الدين ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

    لكن كما ذكر -أيضاً- شارح العقيدة الطحاوية رحمه الله في أول العقيدة، فقال: يجب على كل قادر أن يُعلِّم هذا العلم وأن يتعلمه، لكن من عجز عن ذلك، فلا يلوم من قام به، بل يجب عليه أن يفرح، إذا وجد من يقوم بذلك؛ فمن قام به فالحمد لله، وأما من يقول: إن هذا الأمر إنما هو إحياء لخصومات قديمة فهذا صحيح، ويجب أن تظل هذه الخصومات قائمة، ما دام هناك خوارج يكفِّرون المسلمين بالذنب، فيجب أن أظل خصماً لهم، وأن تستمر الخصومة بيني وبينهم إلى قيام الساعة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
    {لو أدركتهم لأقتلنهم: قتل عاد وإرم} أي: قتل عاد وثمود، فالخصومة قائمة ويجب أن تقوم.

    ومن يقول: إن من يصدِّق بقلبه -فقط- ينجو عند الله ويدخل الجنة، ولو كان تاركاً للصلاة والزكاة والحج والصيام، فهذا يجب عليّ أن أخاصمه، ومن منهج أهل السنة والجماعة أن الجدال يكون بالتي هي أحسن، وأن الحجة تقام أولاً، وأن كل مسلم يفترض فيه حسن النية، حتى يثبت خلاف ذلك، فهذه كلها أمور موجودة في مذهب أهل السنة والجماعة، لكن يجب علينا أن نتحدث عن أمور العقيدة، وعن مسائل الإيمان، ولو غضب من غضب، ونحن نعلم أننا عندما نقول هذا الكلام فإن أهل البدع كـالخوارج والمرجئة يغضبون، ولكننا نحن أهل السنة والجماعة لا نبتغي رضا الناس بسخط الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإنما نبتغي رضا الله عز وجل وإن سخط الناس جميعاً، فلا يهمنا ذلك، والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أخبر -وهو الصادق الأمين- أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، فهذا الخبر من الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يتخلف.

    أما موقف المسلم من هذه الفرق، فقد بيَّن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الفرقة الناجية واحدة، وبينت الأحاديث الصحيحة، ومنها ما جاء في رواية جابر قال:
    {لا تزال عصابة من أمتي قائمة يقاتلون على أمر الله} وفي حديث عبد الله بن مسعود، قال: {ثم تخلف من بعدهم خلوفٌ يقتدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي -فما موقفنا منهم؟- قال: فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن} ففي الحديث الأول (يقاتلون)، وفي حديث ابن مسعود (يجاهدون)، فقتال أهل البدع وأهل الباطل ومجاهدتهم من أساسيات حفظ الدين والتوحيد، ولابد منها، ولذلك فإن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم جميعاً من كان مع علي رضي الله عنه ومن كان مع معاوية رضي الله عنه، من أهل الشام وأهل العراق، فرحوا بقتل الخوارج واستئصالهم؛ لأن هؤلاء أصحاب بدعة، بينما القتال الذي دار بين الصحابة كان مكروهاً عند الجميع، ولذلك فرحوا لما تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة، وفرحوا لما التأم الصف وتوحدت صفوفهم، لأن العقيدة واحدة -والمفروض أن من كان على عقيدة واحدة، وهي عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يتقاتلون أبداً- ففرحوا بذلك، لكن فرحوا بأنهم قاتلوا الخوارج، وفرحوا بأنهم حققوا ما قاله النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتالهم.



    فهذا جزء من حديثٍ طويل حول موقفنا من أهل البدع في الجملة.

    وأما على التفصيل وعلى التعيين فالأمر يختلف، لأنك قد تطمع أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يهدي رجلاً منهم، فعليك أن تعامله بالرفق، وهذا لا شك فيه، وأن تتعامل معه بالتي هي أحسن، وأنك تفترض فيه حسن النية، أو يحمل على المحمل الحسن، فهذه القضايا معروفة في مذهب أهل السنة والجماعة، لكن بيان الحق -في ذاته- نقوله مهما يكون مخالفاً.
    فمثلاً الإمام أبو حنيفة أفضل منا جميعاً، وهو مجمع على فضله وجلالته ومكانته لكن مع ذلك لما أخطأ في مسألة الإيمان وجب أن يبين خطؤه في هذه المسألة، وهذا لا ينقص من قدره لأنه يمكن أن ينتقص من قدر أي إنسان، ولا يمكن أن يتنقص من قدر ديننا، فيسبب ذلك اعتقاد غير الحق حقاً، ويُعْتَقد الخطأ صواباً، مهما كان هذا الإنسان، إلا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو مبلغ عن الله الذي لا يخطئ في هذا الأمر.




    قبض أرواح المؤمنين العصاة

    السؤال: كما هو معروف في اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فهل هذا المؤمن العاصي تقبض روحه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، أفتونا مأجورين، مع ذكر الدليل إن وجد؟
    الجواب: الذي جاء في الحديث الطويل -في المسند- أن المؤمن تقبض روحه ملائكة الرحمة، وأن الكافر أو المنافق تقبض روحه ملائكة العذاب، ولكن كون المؤمن الذي ختم له في النهاية بالإيمان، فإنه تقبض روحه ملائكة الرحمة، ولا يعني ذلك أنه قد لا يعذب، بل جاء ذلك في حديث صحيح، هو أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
    {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله، دخل الجنة} وإن عُذب قبل ذلك، وإن أصابه ما أصابه، فالمؤمنون تقبض أرواحهم ملائكة الرحمة، وإن كانوا عصاةً -هذا الذي يظهر لي إلى حد الآن والله تعالى أعلم- ثم بعد ذلك قد يعذب ثم يكون مصيره إلى الجنة.
    ولا شك أن خروج الروح وقبضها واستقبالها يتفاوت فيه الناس مثل تفاوتهم في أعمال الإيمان، فمن الناس من اهتز -مثلاً- لموته عرش الرحمن، كـسعد رضي الله تعالى عنه، فهذا قبض روحه يختلف عن قبض روح أي مسلم، وهكذا.
    فحتى هذه الأمور يدخلها التفاوت، وحتى استقبال الأرواح يدخله التفاوت، وفي آخر سورة الواقعة، فإن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما ذكر قوله:
    ((فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ))[الواقعة:86]، قال: ((فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ))[الواقعة:88].
    ثم ذكر أصحاب اليمين فذكر فيها استقبال المقربين أنه غير استقبال أصحاب اليمين والمقربون السابقون هم الذين أدوا جميع الواجبات وتركوا جميع المحظورات، وأتوا بالإيمان الواجب كاملاً، ولكن أصحاب اليمين هم قوم اقتصروا على الإيمان الواجب بدون مكملاته التي هي المستحبات، فهؤلاء أدوا الفرائض فقط، وأولئك زادوا بالتقرب في أعمال البر، فكان أولئك سابقين , وكان أولئك أصحاب اليمين، وكلاهما يستقبل على أنه مؤمن، لكن هذا استقباله يختلف عن الآخر، أما إن كان من أصحاب الشمال -والعياذ بالله- فأولئك لهم استقبال آخر، نسأل الله عز وجل أن يعافينا وإياكم منه.




    تقديم قول الشيخ والجماعة على قول الرسول -صلى الله عليه وسلم

    السؤال: ما حكم من يقدم قول شيخه وجماعته على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟

    الجواب: هذا سؤال لا تعلق له بموضوع الإيمان إلا من ناحية: إن كان السائل يقصد أن الإنسان إذا بلغه الحديث الصحيح عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أعرض عنه إلى قول إمام أو شيخٍ أو مفتٍ، فإن ذلك يكون طعناً في إيمانه ونقصاً فيه، وهذا لا شك فيه.

    فإن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو وحده الذي أمرنا الله تعالى بطاعته، وأمرنا إذا اختلفنا في شيء أن نرده إلى الله ورسوله، وأما غير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإنه مهما بلغ من العلم والاجتهاد، فإنه ليس له علينا الطاعة المطلقة، وإنما يطاع في الحق والصواب، وإذا أخطأ فلا يجوز لنا أن نتابعه فيه إذا علمنا أنه أخطأ، وهذا الحال يتفاوت ويختلف، فإن الإنسان منا -نحن طلبة العلم- قد يستطيع أن يحقق بمسألة من المسائل حتى يعرف الدليل القوي فيها على أي مذهب، فلا يجوز له حينئذٍ أن يعدل عنه إلى غيره، وأما العامي الذي يقلد إمامًا من الأئمة، ولا يدري عن هذه الأمور، فهذا غير ذلك، وكذلك -مثلاً- لو قيل لك بحكم من أحكام العبادات، كأحكام الصلاة ونحوها، على أدلة شرعية استطعت أن تعرف صحتها، فيجب عليك أن تتبع الدليل الصحيح، لكن لو أتيت في حكم من أحكام المعاملات -مثلاً- أو أي حكم اجتهادي محض، فلك حينئذٍ أن تختار رأي أحد الأئمة إن كنت لا تستطيع أن تعمل نظرك واجتهادك لتعرف هذه القضية.
    فالمسألة فيها تفصيل، لكن الذي يهمنا -ونحن نتكلم عن موضوع الإيمان- أن نقول: إن من قدّم قول أحدٍ على قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كائناً من كان وقد اتضح لديه معناه نصاً، لأن الحديث قد يقبل معناه أكثر من احتمال لكن ما كان المعنى نصاً أو راجحاً، فإن هذا لا شك أنه دليل على ضعف إيمان هذا الرجل، ودليل على ضعف متابعته للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والله تبارك وتعالى يقول:
    ((فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً))[النساء:65].


    نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وممن يؤمنون به حق الإيمان، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين

    موقع الحوالي رحمه الله



    .
    التعديل الأخير تم بواسطة نور-الإسلام; الساعة 16-12-2015, 12:55 AM.

  • #2
    رد: الإيمان عند أهل السنة والجماعة

    جزااكم الله خير الدنيا والآخرة

    وعجلت إليك ربِّ لترضى

    تعليق

    يعمل...
    X