الخشية أخص من الخوف فإن الخشية للعلماء بالله ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) فاطر:28، خوفاً مقروناً بمعرفة ..، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ((إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية))، فالخوف لعامة المؤمنين والخشية للعلماء والعارفين، وعلى حسب قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية..
فصاحب الخوف يلجأ إلى الهرب، وصاحب الخشية يلجأ إلى الاعتصام بالعلم، قال الشيخ ابن عثيمين – رحمه الله - : (( الخشية خوف مبني على العلم بعظمة من يخشى وكمال سلطانه))..
قال ابن القيم – رحمه الله - : (( في مثلهما مثل من لا علم له بالطب ومثل الطبيب الحاذق، فالأول يلجأ إلى الحمية والهرب لقلة معرفته والآخر يلتجئ إلى الأدوية )) فالخشية خوف مبني على علم..
كل أحد إذا خفته هربت منه إلا الله عزوجل فإنك إذا خفته هربت إليه، فالخائف هارب من ربه إلى ربه فأين المفر..؟!!!، وما فارق الخوف قلباً إلا خربه فإذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات فيها وطرد الدنيا عنها..
من خاف اليوم أمِنَ غداً.. ومن أمِن اليوم خاف غداً.
قال ابن رجب : (( والله خلق الخلق ليعرفوه ويعبدوه ويخشوه ونصب الأدلة الدالة على عظمته وكبريائه ليهابوه ويخافوه خوف الإجلال ووصف لهم شدة عذابه ودار عقابه التي أعدها لمن عصاه ليتقوه بصالح الأعمال )).
القدر الواجب من الخوف ما حمل على أداء الفرائض واجتناب المحارم فإن زاد على ذلك، بحيث صار باعثاً للنفوس على التشمير في نوافل الطاعات والكف عن دقائق الكروهات (يعني فعل المستحبات وترك المكروه والشبهة)، كان ذلك خوفاً محموداً فإن تزايد الخوف بحيث أدّى إلى مرض أو موت أو همٍّ لازم أو قعود عن العمل بحيث يقطع السعي عن اكتساب الفضائل المطلوبة المحبوبة إلى الله عز وجل لم يكن خوفاً محموداً.
بعض الناس من شدة خوفهم من العذاب والنار يصابون باليأس والاحباط والقعود عن العمل ويقولون لا فائدة!!..، ليس هذا هو المطلوب ..، وهذه الزيادة مذمومة..
قال ابن حجر: هو من المقامات العليّة وهو من لوازم الإيمان ، قال الله تعالى : ((وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)) آل عمران:175،
((فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ))المائدة:3،
((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) فاطر:28، وتقدم حديث (( أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية ))، وكلما كان العبد أقرب إلى ربه كان أشد له خشية ممن دونه وقد وصف الله الملائكة بقوله : ((يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ)) النحل:50، والأنبياء بقوله : ((الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا)) الأحزاب:39،
وإنما كان خوف المقربين أشد لأنهم يطالبون بما لا يطالب به غيرهم فيراعون تلك المنزلة ولأن الواجب لله منه الشكر على المنزلة فيضاعف بالنسبة لعلو تلك المنزلة..
فالعبد إن كان مستقيماً فمن أي شيء يخاف؟!!، فخوفه من سوء العاقبة لقوله تعالى : ((وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)) الأنفال:24، وكذلك يخاف من نقصان الدرجة..
وإن كان مائلاً منحرفاً وعاصياً فخوفه من سوء فعله و ينفعه ذلك مع الندم والإقلاع..
ثمرات الخوف من الله
أ- في الدنيا ..
1- من أسباب التمكين في الأرض، وزيادة الإيمان والطمأنينة لأنك إذا حصل لك الموعود وثقت أكثر ، قال عز وجل : ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ)) إبراهيم 13: 14
2- يبعث على العمل الصالح والإخلاص فيه وعدم طلب المقابل في الدنيا فلا ينقص الأجر في الآخرة ((إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا*إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا)) الإنسان 9: 10
ب - في الآخرة..
1- يجعل الإنسان في ظل العرش يوم القيامة، (( ورجل طلبته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله))، ظاهر الحديث أنه يقولها بلسانه ليزجر المرأة عن فعلها وليذكر نفسه ويصر على موقفه ولا يتراجع بعد إعلان المبادئ، ((ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))، الخشية الموجبة لدمع العين تؤدي إلى أن النار لا تمس العين يوم القيامة.
2- من أسباب المغفرة، شاهد ذلك الحديث: رجل كان فيمن قبلنا عنده جهل عظيم ورزقه الله مالاً فقال لبنيه لما حضره الموت: أي أب كنت لكم؟قالوا: خير أب ، قال: فإني لم أعمل خيراً قط فإذا مت فأحرقوني ثم اسحقوني ثم ذروني في يوم عاصف ، ففعلوا وما أسهل أن يعيده الله كما كان، قال : ما حملك؟ قال: مخافتك، فتلقاه برحمته..*!!، فعذره الله بجهله وشفع له خوفه من ربه وإلا فالذي ينكر البعث كافر.
3- يؤدي إلى الجنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم : ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة))
4- يرفع الخوف عن الخائف يوم القيامة: (( وعزتي وجلالي، وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين، إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة، وإذا أمنني في الدنيا أخفته في الآخرة)).
5- سبب للنجاة من كل سوء، (( ثلاث منجيات: خشية الله تعالى في السر والعلانية))
6-- الرضا من الله ((رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ))البينة:8
قال ابن قدامة رحمه الله: (( في مقامي الخوف المقام الأول الخوف من عذاب الله وهذا خوف عامة الناس وهذا النوع من الخوف يحصل بالإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية ، المقام الثاني الخوف من الله نفسه عزوجل وهو خوف العلماء والعارفين لأنه يكفيهم فقط ثلاث كلمات ((وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)) آل عمران:30، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنا أعرفهم بالله وأشدهم له خشية))، وقال الله تعالى: ((إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ)) فاطر:28، لأنه لما كملت معرفتهم بربهم وأسمائه وصفاته أثرت الخوف ففاض الأثر على القلب ثم ظهر على الجوارح بهذه الأعمال.
قول ابن الجوزي: (( والله لو أن مؤمناً عاقلاً قرأ سورة الحديد وآخر سورة الحشر وآية الكرسي وسورة الإخلاص بتفكر وتدبر لتصدّع قلبه من خشية الله وتحيّر من عظمة الله ربّه)).
إذا دخل أهل النار النار..، ماذا يوجد فيها من الأهوال في شدة عذابها؟!!..، ((إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ)) المدثر:35. قال الحسن: كبرت منذرة داهية عظيمة أعظم الدواهي ما أنذرت الخلائق بشيء قط أفظع منها.
وكيف قرت لأهل العلم أعينهم
أو استلذوا لذيذ النوم أو هجعوا
والموت ينذرهم جهراً علانية
لو كان للقوم أسماع لقد سمعوا
أفي الجنان وفوز لا انقطاع له
أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع
لينفع العلم قبل الموت عالمه
قد سأل قوم بها الرجعى فما رجعوا
قال ابن تيمية –رحمه الله - : (( كل عاصٍ لله فهو جاهل وكل خائف منه فهو عالم مطيع))، الخائف من الله يبادر إلى الخيرات قبل الممات ويغتنم الأيام والساعات..
ويتكلم عن حال السلف ابن المبارك –رحمه الله-:
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
وأهل النوم في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود
أنين منه تنفرج الضلوع
وخرسٌ بالنهار لطول صمت
عليهم من سكينتهم خشوع
- عائشة تقرأ قوله تعالى : (( فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ )) الطور:27 في صلاتها فتبكي وتبكي..((إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)).المائدة:118
- أبو بكر رضي الله عنه يمسك لسانه ويقول (( هذا الذي أوردني المهالك))، (( يا ليتني كنت شجرة تؤكل)).
- عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: (( ياليتني كنت هذه التبنة))((يا ليتني لم أكن شيئاً مذكوراً))(( ياليت أمي لم تلدني )) (( لو مات جمل ضياعاً على جانب الفرات لخشيت أن يسألني عنه الله يوم القيامة)).
- ويقول: (( لو نادى منادٍ من السماء يا أيها الناس إنكم داخلون الجنة كلكم إلا واحداً لخفت أن أكون أنا هو))..!!
- عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : (( وددت لو أنني لو مت لم أبعث)) وهو الذي كان يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً ويتخرق مصحفه من كثر ما قرأ به ، ومات ودمه على المصحف شهيداً..
- أبو عبيدة رضي الله عنه يقول: (( وددت لو كنت كبشاً فذبحني أهلي وأكلوا لحمي وحسوا مرقي)).
- عمران بن حصين رضي الله عنه يقول: (( يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح)).
- حذيفة رضي الله عنه يقول (( وددت أن لي إنسان يكون في مالي ثم أغلق علي بابي فلا يدخل علي أحد حتى ألحق بالله)).
- عائشة رضي الله عنها تقول: (( يا ليتني كنت نسياً منسياً)).
- أعمال القلوب
الخوف
الكلم الطيب
تعليق