لعل من المناسب الإشارة إلى نبذة في أسباب صلاح القلب؛ لتكون نبراسًا لمن عزم على السير في هذا الطريق، وسمت همته إلى المطالب العليا .
وقبل ذكرها أشير إلى أنه لابد للانتفاع والعمل بها من أمرين :
(1) علو الهمة وصدق العزيمة على تزكية النفس وإصلاح القلب (وصاحب الهمة العالية أمانيه حائمة حول العلم والإيمان والعمل الذي يقربه إلى الله ويدينه من جواره) (تهذيب مدارج السالكين) ، (ومثل القلب مثل الطائر، كلما علا، بعد عن الآفات، وكلما نزل، احتوشته الآفات) (الجواب الكافي) .
ومما يعين على علو الهمة إعلاء القدوة بصحبة أهل القلوب الربانية، وحضور مجالسهم، فإن عز وجودهم، فليصحبهم في كتب السير، ففي سيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسلف الأمة وصالحيها عبرة، لكل مدكر، ومنارًا لكل طالب أسوة .
فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين فىّ والمتجالسين فىّ والمتزاورين فىّ والمتباذلين فىّ» (رواه أحمد وصححه الألباني في مشكاة المصابيح) .
(2) توطين النفس على الخروج عن العوائد الصادة عن سبيل الهدي، وذلك أن الإنسان قد يكون اعتاد في يومه وليلته على أعمال ومخالطات وقضاء أوقات فيما لا ينفع، أو فيما يصد عما هو أنفع، ومفارقة المألوف من أشق الأشياء على النفس ، يقول ابن القيم بعد أن ذكر أسباب الفلاح : (لا يغتر العبد بأن مجرد علمه بما ذكر كاف في حصول المقصود، بل لا بد أن يضيف إليه بذل الجهد في العمل، واستفراغ الوسع والطاقة في ذلك، وملاك ذلك الخروج عن العوائد؛ فإنها أعداء الكمال والفلاح، ويستعين على ذلك بالهروب من مظان الفتنة، والبعد عنها ما أمكنه) (عدة الصابرين).
هذا وقد تقدم أن الشريعة جاءت لإحياء القلوب وتطهيرها من الآفات، فكل ما شرعته يحقق هذا المقصد ، ولكن هناك أسباب خاصة لها تأثير خاص في إصلاح القلب لعل من أبرزها الأسباب التالية :
(1) الاستعانة بالله جل وعلا تحقيقًا لقوله سبحانه : " إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ " وقوله تعالى : " فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ " وعملا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبيبه معاذ (فعن معاذ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده وقال : «يا معاذ والله إني لأحبك » فقال : «أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك»(أخرجه أبو داوود ، النسائي ، وصحح إسناده النووي في الأذكار) وكما أن هذا الدعاء مشروع أدبار الصلوات فهو مشروع مطلقًا، وهو غاية الاجتهاد في الدعاء، قال صلى الله عليه وسلم : «أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء ؟ قولوا : اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أحمد في المسند، الفتح الرباني وهو في سلسلة الأحاديث الصحيحة) .
فالعبد يستعين بربه على عبادته، وهذه الاستعانة تتجلى في أمرين :
(أ) التوكل على الله في صلاح القلب، فيعتمد المؤمن على الله وحده في صلاح قلبه، ويشعر بالافتقار والاضطرار إلى الله جل وعلا في استقامة قلبه على طاعته " يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " [فاطر: 15] ويستشعر أنه لو وكله الله إلى نفسه وجهده هلك لا محالة .
وهذا التوكل هو توكل أرباب الهمم العالية الذين يجعلون توكلهم في تحصيل العلم والإيمان والدعوة والجهاد .
(ب) الدعاء تضرعًا وخيفة، ولا يخفى فضل الدعاء وعظيم أثره، لكن كثيرًا من الناس يغفلون عن الدعاء بصلاح قلوبهم .
يقول ابن القيم : (العجب ممن تعرض له حاجة فيصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له، ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والإعراض، وشفائه من داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلب لم يشعر بمعصيته)(الفوائد) .
وكثيرون يغفلون عن قصد التقرب إلى الله بالدعاء، ويكون قصدهم منصرفًا إلى حصول مطلوبهم، فيفوتهم خير عظيم (انظر: مجموع الفوائد لابن سعدي) .
والدعاء سبب جامع لصلاح القلب تحلية وتخلية، يقول مطرف بن عبد الله : (تذاكرت ما جماع الخير ؟ فإذا الخير كثير: الصيام والصلاة، وإذا هو في يد الله تعالى ، وإذا أنت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك فإذا جماع الخير الدعاء)(مدارج السالكين) .
فمن لجأ إلى الله، وانطرح بين يديه سائلا صلاح قلبه، داعيًا بحضور قلب، متحريًا أوقات الإجابة، فما أقرب أن يجاب وقد قال صلى الله عليه وسلم : «إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم» (الحديث أخرجه الحاكم وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة) .
وإليك يا أخي طائفة من الأدعية الواردة في الكتاب والسنة مما يتعلق بصلاح القلب لتعرف من خلالها عظم اهتمام الشريعة بهذا الأمر ولتتعبد الله بها فإن في الأدعية المأخوذة من مشكاة القرآن والسنة من الجلال والجمال والتأثير ما ليس في غيرها (الأدعية استفدتها من كتاب: التذكرة بأذكارالحج والعمرة وأدعية القرآن والسنة، وقد تحرى مؤلفه ما ثبت في السنة كما ذكر في مقدمة كتابه) :
(اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيرًا لي، اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة... وأسألك الرضا بعد القضاء. وأسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين) (لابن رجب رسالة في شرح هذا الدعاء مطبوعة) .
- اللهم جدد الإيمان في قلوبنا .
- " رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ " .
- " رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا " .
- اللهم إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى .
- اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا .
- اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك .
- يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك .
- " وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا " [الحشر: 10] .
- ربي اجعلني لك ذكارًا، لك شكارًا، لك رهابًا، لك مطواعًا، لك مخبتًا، لك أواهًا منيبًا، واهد قلبي، وسدد لساني، واسلل سخيمة صدري .
- اللهم أعني على شكرك وذكرك وحسن عبادتك .
- اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عمل يقرب إلى حبك .
(2) تلاوة كتاب الله بالتدبر والتفهم لمعانيه، فالقراءة بالتدبر من أعظم ما يصلح القلب ويشفيه من أمراض الشبهات والشهوات، لما في القرآن من البراهين الجلية والمواعظ البليغة .
يقول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ " [يونس: 57] .
والموعظة التي بها شفاء القلوب هي القرآن .
ويقول سبحانه : " وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ " [الإسراء: 82] .
وقد سمى الله القرآن روحًا في قوله : " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا " [الشورى: 52] لأنه تحيا به القلوب، كما أن الروح يحيا بها البدن .
وأوصى نبينا صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن، وجعله روحًا للمؤمن، عن أبي سعيد الخدري أن رجلاً جاءه فقال : أوصني، فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك، فقال : «أوصيك بتقوى الله، فإنه رأس كل شيء، وعليك بالجهاد، فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن، فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض» (رواه أحمد ، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة) .
ومما يدل على أن ذلك هو الطريق إلى محبة الله قوله صلى الله عليه وسلم : «إن لله أهلين من الناس» قالوا : يا رسول الله : من هم ؟ قال : «هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته» (رواه أحمد ، وابن ماجه ، وصححه الألباني) .
وأهل القرآن هم العالمون به العاملون بما فيه وإن لم يحفظوه عن ظهر قلب، وأما من حفظه ولم يفهمه ولم يعمل بما فيه، فليس من أهله وإن أقام حروفه إقامة السهم (زاد المعاد) .
والله جل وعلا يقول : " الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ " [الرعد: 28] .
وقد قيل : إن الذكر هنا هو ذكر العبد ربه بأنواع الذكر، وقيل إن المراد بذكر الله هنا هو القرآن، والأرجح أنه يشمل الأمرين، وتلاوة القرآن من ذكر الله .
وقد اختار ابن القيم القول الثاني وقال : (فإن القلب لا يطمئن إلا بالإيمان واليقين ولا سبيل إلى حصول الإيمان واليقين إلا من القرآن فإن سكون القلب وطمأنينته من يقينه، واضطرابه وقلقه من شكه، والقرآن هو المحصل لليقين الدافع للشكوك والظنون والأوهام، فلا تطمئن قلوب المؤمنين إلا به) (التفسير القيم) .
وكثير من يقرأ القرآن ولكن القليل من يتدبره، والله جل وعلا أمر بالتدبر وهو زائد على مجرد القراءة : " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا "[محمد: 24] .
وتدبر القرآن يزيد في علوم الإيمان وشواهده، ويقوي الإرادة القلبية، ويحث على أعمال القلوب من التوكل والإخلاص والتعلق بالله الذي هو أصل الإيمان (مجموع الفوائد لابن سعدي) .
ولا يتم الانتفاع بالقرآن إلا مع التدبر قال تعالى : " إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ " [ق: 37] .
يقول ابن القيم : (إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم سبحانه منه إليه ، فإذا حصل المؤثر وهو القرآن، والمحل القابل وهو القلب الحي، ووجد الشرط وهو الإصغاء، وانتفى المانع وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر، حصل الأثر وهو الانتفاع بالقرآن والتذكر) (التفسير القيم) .
والتدبر يقوم على أمرين : الفهم، والاتعاظ، وطريق الفهم معرفة اللسان العربي ومراجعة كتب التفسير فيما يشكل، وطريق الاتعاظ إزالة الحجب والأقفال التي تمنع تفاعل القلب مع مواعظ القرآن، وتخير أوقات الصفاء والفراغ من مشاغل الدنيا، ولذا كان في التلاوة ليلاً ميزة، قال تعالى : " إِنَّ نَاشِئَةَ الليْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا " [المزمل: 6] .
وناشئة الليل (أي الصلاة فيه بعد النوم) أقرب إلى تحصيل مقصود القرآن يتواطأ على القرآن القلب واللسان، وتقل الشواغل، ويفهم ما يقول، ويستقيم له أمره، وهذا بخلاف النهار فإنه لا يحصل به هذا المقصود) (تيسير الكريم الرحمن) .
ولقد رسم لنا الصحابة منهجًا في تدبر القرآن، يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات، لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن) (أخرجه أحمد بسند حسن) .
قال الحسن البصري : (أنزل القرآن ليتدبر ويعمل به، فاتخذوا تلاوته عملا) (انظر: تهذيب مدارج السالكين وفيه مزيد بيان لما تضمنه القرآن مما فيه صلاح القلب) .
(3) دوام ذكر الله عز وجل على كل حال، باللسان والقلب، فنصيب المؤمن من حياة القلب وطمأنينته ومحبته لربه على قدر نصيبه من الذكر .
يقول تعالى : " أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ "ويقول صلى الله عليه وسلم : «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت» (رواه البخاري) .
ويقول صلى الله عليه وسلم : «إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة» (رواه مسلم) .
يقول ابن القيم : (وقد جعل الله لكل شيء سببًا، وجعل سبب المحبة دوام الذكر، فمن أراد محبة الله عز وجل فليلهج بذكره.. وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك، فكيف حال السمك إذا فارق الماء ؟... والذكر قوت القلوب والروح فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته، وحضرت شيخ الإسلام ابن تيمية مرة صلى الفجر، ثم جلس يذكر الله تعالى إلى قريب من انتصاف النهار، ثم التفت إلي، وقال : هذه غدوتي، ولو لم أتغد هذا الغداء لسقطت قوتي) (الوابل الصيب) .
ويقول : (إذا حملت القلب هموم الدنيا وأثقالها، وتهاونت بأوراده التي هي قوته وحياته، كنت كالمسافر الذي يحمل دابته فوق طاقتها ولا يوفيها علفها، فما أسرع أن تقف به) (الفوائد) .
وأقل ذلك أن يحافظ المسلم على الأذكار أدبار المكتوبات، وأذكار الصباح والمساء، وأذكار الأحوال المتنوعة، وهي مدونة في كتب السنة والأذكار .
وليحذر المسلم من الأوراد المخترعة، فكثير منها لا يخلو من مخالفة للشريعة، ولو سلمت فالتزام ما لم يرد؛ وما يتضمنه ذلك من تفضيله على الوارد، مسلك غير محمود العاقبة، وفيه فتح لباب البدعة على مصراعيه، فعليك بالاتباع، واحذر الابتداع، ففيما صح من سنة إمام المتقين، وقدوة الذاكرين غنية وعصمة .
(وأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يثمر المعرفة، ويهيج المحبة ويثير الحياء، ويبعث على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويردع على التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا من تلك الأثمار، وإن أثمر شيئًا منها فثمرة ضعيفة) (الوابل الصيب ، ويراجع هذا الكتاب في فوائد الذكر)
(4) طلب العلم الشرعي، وحضور مجالس العلماء وحلقهم، فإن العبد كلما ازداد علمًا ازداد خشية لله وتعظيمًا له : " إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ " .
وتأمل المقابلة بين أصحاب القلوب المريضة والقاسية، والذين أوتوا العلم المخبتين في قول ربنا تبارك وتعالى : " لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [الحج: 53، 54] .
يقول ابن القيم : (وأما العلماء بالله وأمره فهم حياة الوجود وروحه، لا يستغنى عنهم طرفة عين.. فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات. فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن وكنسبة كلام اللسان إليه، فإذا عدمه كان كالعين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس؛ ولهذا يصف الله أهل الجهل بالعمي والصم والبكم، وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها " وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا " [الإسراء: 72] والمراد عمى القلب في الدنيا) (مفتاح دار السعادة) .
وطالب العلم متى خلصت نيته، كان ذلك طريقه إلى الربانية " وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ " [آل عمران: 79] .
يقول ابن تيمية : (كثير من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رئاسة أو مال، ولكل امرئ ما نوى، وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله، فهو مقصود عندهم لمفنعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة.. ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم، ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى، ويسلكون فيه سبيل أهل العدل والإنصاف، ويحبونه، ويتلذذون به، ويحبون كثرته وكثرة أهله، وتنبعث هممهم على العمل به، وبموجبه ومقتضاه) (منهاج السنة النبوية) .
ومن صفة العالم فيما بينه وبين الله عز وجل (أن يكون لله شاكرًا وله ذاكرًا، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور، منعم قلبه بمناجاة الرحمن، يعد نفسه مع شدة اجتهاده خاطئًا مذنبًا، ومع الدؤوب على حسن العمل مقصرًا، لجأ إلى الله عز وجل فقوي ظهره، ووثق بالله فلم يخف غيره، مستغن بالله عن كل شيء، ومفتقر إلى الله في كل شيء، أنسه بالله وحده، ووحشته ممن يشغله عن ربه، إن ازداد علمًا خاف توكيد الحجة، مشفق على ما مضى من صالح عمله أن لا يقبل منه، همه في تلاوة كلام الله، الفهم عن مولاه، وفي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم الفقه؛ لئلا يضيع ما أمر به، متأدب بالقرآن والسنة، لا ينافس أهل الدنيا في عزها، ولا يجزع من ذلها، يمشي على الأرض هونًا بالسكينة والوقار، ومشتغل قلبه بالفهم والاعتبار، إن فرغ قلبه عن ذكر الله فمصيبة عنده عظيمة، وإن أطاع الله عز وجل بغير حضور فهم فخسران عنده مبين... قال الله عز وجل : " قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " [الإسراء: 107-109] (كتاب أخلاق العلماء للآجري) .
وليحذر طالب صلاح قلبه من الوقيعة في العلماء واستنقاصهم، وتتبع عوراتهم، فإن هذا باب هلكة، وسبيل ضلال، وقد قيل : إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .
ومن أراد الانتفاع بمجالس أهل العلم ومواعظهم، فلا يشتغل بعيوبهم، فيحرم نفسه خيرهم، فإنه : إنما ينتفع بالعظة بعد حصول ثلاثة أشياء : شدة الافتقار إليها، والعمى عن عيب الواعظ، فإنه إذا اشتغل به حرم الانتفاع بموعظته، وتذكر الوعد والوعيد (انظر: للأشياء الثلاثة تهذيب مدارج السالكين) .
(5) مطالعة القلب لأسماء الله جل وعلا وصفاته، ومعرفتها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته، فلابد أن يحبه ويخشاه ويرجوه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخلص دينه له .
قال تعالى : " وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الأعراف: 180] .
ويقول صلى الله عليه وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» (أخرجه البخاري ومسلم) .
وإحصاؤها يكون بمعرفة ألفاظها ومعانيها والتعبد لله بمقتضاها .
فمطالعة أسماء الجمال تورث العبد المحبة والشوق .
ومطالعة أسماء الجلال تورثه الخشية والإخبات لربه .
ومن أعمال القلوب التوكل والإحسان والمراقبة فتأمل قوله تعالى : " وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [الشعراء: 217-220] .
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : (والتوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع ثقته به وحسن ظنه بحصول مطلوبه، فإنه عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير ودفع الشر عن عبده وبرحمته يفعل ذلك .
ثم نبهه على الاستعانة باستحضار قرب الله والنزول في منزل الإحسان، فقال : " الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ" أي : يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة وقت قيامك وتقلبك راكعًا وساجدًا. وخصها بالذكر لفضلها وشرفها، ولأن من استحضر فيها قرب ربه خشع وذلك وأكملها... " إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله وسمعه لكل ما ينطق به وعلمه بما ينطوي عليه قلبه من الهم والعزم والنيات مما يعينه على منزلة الإحسان) (تيسير الكريم الرحمن) .
ومن مغزى اقتران هذين الاسمين " الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " أن من تفكر فيهما أوجب له ذلك حسن التوكل على الله؛ إذ الاعتماد لا يصلح إلا على قوي قادر لا يغلب، ومع ذلك رحيم بعباده، هو حسب من توكل عليه .
(6) مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم الأسوة : " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " [القلم: 4] .
والعيش مع السيرة النبوية ومواقفها العظيمة، لا سيما المواقف التي نزل فيها قرآن يتلى، مع تدبر الآيات له أثر عظيم في إحياء القلب وتقوية الإيمان .
وقصص الأنبياء عمومًا فيها عبرة لأصحاب البصائر، ولذا قص الله في القرآن مواقف إيمانية لعدد من أنبيائه وقال : " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ " [يوسف: 111] .
وخير من ينتفع بسيرته بعد الانبياء، صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم الجيل الفريد، الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه، ثم سير الصالحين والعلماء الربانيين الذين ساروا على نهج السلف في العلم والعمل .
ففي أخبار أولئك القوم نماذج تحتذي، في التعلم والتعبد، والزهد والورع، والإخلاص والخشية، والتوكل والإنابة، والاستقامة والاتباع، والجهاد وبذل المهج والأموال في سبيل الله .
وتلك الأخبار تشحذ الهمم الكليلة، وتقوي العزائم الفاترة، وتعلو بمطالعتها القدوة وتنقشع عن القلب الغمة، فيبصر ميدان السباق وقد سار فيه الانبياء والصديقون والشهداء والصالحون، فتزول وحشة التفرد عن أبناء الزمان، ما دام الرفقة أولئك، وحسن أولئك رفيقًا .
" وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " [النساء: 69] .
(7) اجتناب المعاصي ومفسدات القلب .
وقد أفاض ابن القيم في ذكر الآثار السيئة للمعاصي وذكر (أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان) (الجواب الكافي) .
ثم فصل رحمه الله أضرار المعاصي بالقلب والبدن، فكان مما ذكره من ضررها بالقلب ما يأتي :
(أ) أنها تحرم القلب العلم؛ لأن العلم نور تطفئه المعاصي .
(ب) أنها إذا تكاثرت، طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال الحسن البصري في قوله : " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " [المطففين: 14] هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فلا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه .
(ج) أنها تطفئ من القلب نار الغيرة، التي هي لحياته كالحرارة لحياة البدن، فإن الغيرة حرارة القلب التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب .
(د) أنها تذهب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وأصل كل خير .
(ه) أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله .
(و) أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة وتعوقه وتوقفه إن لم ترده إلى الوراء، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض القلب، ضعف سيره وانقطع في طريقه (انظر: الجواب الكافي) .
وأما مفسدات القلب فقد ذكر ابن القيم أنها خمسة : كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله من مال أو جاه أو صورة، والشبع المفرط، وكثرة النوم، ويزيد بعضهم فضول النظر، وفضول الكلام .
ثم قال رحمه الله : (فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب؛ ذلك أن القلب يسير إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ويشكف عن طريق الحق ونهجه، وآفات النفس والعمل، وقطاع الطرق، بنوره وحياته وقوته وصحته وعزمه، وسلامة سمعه وصحته وبصره وغيبة الشواغل والقواطع عنه) .
وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتعور عين بصيرته، وتثقل سمعه - إن لم تصمه وتبكمه - وتضعف قواه كلها، وتوهن صحته، وتفتر عزيمته، وتوقف همته، وتنكسه إلى ورائه .
ومن لا شعور له بهذا فميت القلب، وما لجرح بميت إيلام، فهي عائقة له عن نبل كماله، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه) (تهذيب مدارج السالكين) .
وتأمل المقابلة بين أصحاب القلوب المريضة والقاسية، والذين أوتوا العلم المخبتين في قول ربنا تبارك وتعالى : " لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهَادِي الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " [الحج: 53، 54] .
يقول ابن القيم : (وأما العلماء بالله وأمره فهم حياة الوجود وروحه، لا يستغنى عنهم طرفة عين.. فالعلم للقلب مثل الماء للسمك، إذا فقده مات. فنسبة العلم إلى القلب كنسبة ضوء العين إليها، وكنسبة سمع الأذن وكنسبة كلام اللسان إليه، فإذا عدمه كان كالعين العمياء، والأذن الصماء، واللسان الأخرس؛ ولهذا يصف الله أهل الجهل بالعمي والصم والبكم، وذلك صفة قلوبهم حيث فقدت العلم النافع فبقيت على عماها وصممها وبكمها " وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا " [الإسراء: 72] والمراد عمى القلب في الدنيا) (مفتاح دار السعادة) .
وطالب العلم متى خلصت نيته، كان ذلك طريقه إلى الربانية " وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ " [آل عمران: 79] .
يقول ابن تيمية : (كثير من طلبة العلم ليس مقصودهم به إلا تحصيل رئاسة أو مال، ولكل امرئ ما نوى، وأما أهل العلم والدين الذين هم أهله، فهو مقصود عندهم لمفنعته لهم وحاجتهم إليه في الدنيا والآخرة.. ولهذا تجد أهل الانتفاع به يزكون به نفوسهم، ويقصدون فيه اتباع الحق لا اتباع الهوى، ويسلكون فيه سبيل أهل العدل والإنصاف، ويحبونه، ويتلذذون به، ويحبون كثرته وكثرة أهله، وتنبعث هممهم على العمل به، وبموجبه ومقتضاه) (منهاج السنة النبوية) .
ومن صفة العالم فيما بينه وبين الله عز وجل (أن يكون لله شاكرًا وله ذاكرًا، دائم الذكر بحلاوة حب المذكور، منعم قلبه بمناجاة الرحمن، يعد نفسه مع شدة اجتهاده خاطئًا مذنبًا، ومع الدؤوب على حسن العمل مقصرًا، لجأ إلى الله عز وجل فقوي ظهره، ووثق بالله فلم يخف غيره، مستغن بالله عن كل شيء، ومفتقر إلى الله في كل شيء، أنسه بالله وحده، ووحشته ممن يشغله عن ربه، إن ازداد علمًا خاف توكيد الحجة، مشفق على ما مضى من صالح عمله أن لا يقبل منه، همه في تلاوة كلام الله، الفهم عن مولاه، وفي سنن الرسول صلى الله عليه وسلم الفقه؛ لئلا يضيع ما أمر به، متأدب بالقرآن والسنة، لا ينافس أهل الدنيا في عزها، ولا يجزع من ذلها، يمشي على الأرض هونًا بالسكينة والوقار، ومشتغل قلبه بالفهم والاعتبار، إن فرغ قلبه عن ذكر الله فمصيبة عنده عظيمة، وإن أطاع الله عز وجل بغير حضور فهم فخسران عنده مبين... قال الله عز وجل : " قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " [الإسراء: 107-109] (كتاب أخلاق العلماء للآجري) .
وليحذر طالب صلاح قلبه من الوقيعة في العلماء واستنقاصهم، وتتبع عوراتهم، فإن هذا باب هلكة، وسبيل ضلال، وقد قيل : إن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة، ومن أطلق لسانه في العلماء بالثلب، ابتلاه الله قبل موته بموت القلب .
ومن أراد الانتفاع بمجالس أهل العلم ومواعظهم، فلا يشتغل بعيوبهم، فيحرم نفسه خيرهم، فإنه : إنما ينتفع بالعظة بعد حصول ثلاثة أشياء : شدة الافتقار إليها، والعمى عن عيب الواعظ، فإنه إذا اشتغل به حرم الانتفاع بموعظته، وتذكر الوعد والوعيد (انظر: للأشياء الثلاثة تهذيب مدارج السالكين) .
(5) مطالعة القلب لأسماء الله جل وعلا وصفاته، ومعرفتها، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته، فلابد أن يحبه ويخشاه ويرجوه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخلص دينه له .
قال تعالى : " وَلِلهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ " [الأعراف: 180] .
ويقول صلى الله عليه وسلم : «إن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» (أخرجه البخاري ومسلم) .
وإحصاؤها يكون بمعرفة ألفاظها ومعانيها والتعبد لله بمقتضاها .
فمطالعة أسماء الجمال تورث العبد المحبة والشوق .
ومطالعة أسماء الجلال تورثه الخشية والإخبات لربه .
ومن أعمال القلوب التوكل والإحسان والمراقبة فتأمل قوله تعالى : " وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " [الشعراء: 217-220] .
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي : (والتوكل هو اعتماد القلب على الله تعالى في جلب المنافع ودفع المضار، مع ثقته به وحسن ظنه بحصول مطلوبه، فإنه عزيز رحيم، بعزته يقدر على إيصال الخير ودفع الشر عن عبده وبرحمته يفعل ذلك .
ثم نبهه على الاستعانة باستحضار قرب الله والنزول في منزل الإحسان، فقال : " الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ" أي : يراك في هذه العبادة العظيمة التي هي الصلاة وقت قيامك وتقلبك راكعًا وساجدًا. وخصها بالذكر لفضلها وشرفها، ولأن من استحضر فيها قرب ربه خشع وذلك وأكملها... " إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ " فاستحضار العبد رؤية الله له في جميع أحواله وسمعه لكل ما ينطق به وعلمه بما ينطوي عليه قلبه من الهم والعزم والنيات مما يعينه على منزلة الإحسان) (تيسير الكريم الرحمن) .
ومن مغزى اقتران هذين الاسمين " الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ " أن من تفكر فيهما أوجب له ذلك حسن التوكل على الله؛ إذ الاعتماد لا يصلح إلا على قوي قادر لا يغلب، ومع ذلك رحيم بعباده، هو حسب من توكل عليه .
(6) مطالعة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم الأسوة : " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " [القلم: 4] .
والعيش مع السيرة النبوية ومواقفها العظيمة، لا سيما المواقف التي نزل فيها قرآن يتلى، مع تدبر الآيات له أثر عظيم في إحياء القلب وتقوية الإيمان .
وقصص الأنبياء عمومًا فيها عبرة لأصحاب البصائر، ولذا قص الله في القرآن مواقف إيمانية لعدد من أنبيائه وقال : " لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ " [يوسف: 111] .
وخير من ينتفع بسيرته بعد الانبياء، صحابة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم الجيل الفريد، الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه، ثم سير الصالحين والعلماء الربانيين الذين ساروا على نهج السلف في العلم والعمل .
ففي أخبار أولئك القوم نماذج تحتذي، في التعلم والتعبد، والزهد والورع، والإخلاص والخشية، والتوكل والإنابة، والاستقامة والاتباع، والجهاد وبذل المهج والأموال في سبيل الله .
وتلك الأخبار تشحذ الهمم الكليلة، وتقوي العزائم الفاترة، وتعلو بمطالعتها القدوة وتنقشع عن القلب الغمة، فيبصر ميدان السباق وقد سار فيه الانبياء والصديقون والشهداء والصالحون، فتزول وحشة التفرد عن أبناء الزمان، ما دام الرفقة أولئك، وحسن أولئك رفيقًا .
" وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا " [النساء: 69] .
(7) اجتناب المعاصي ومفسدات القلب .
وقد أفاض ابن القيم في ذكر الآثار السيئة للمعاصي وذكر (أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان) (الجواب الكافي) .
ثم فصل رحمه الله أضرار المعاصي بالقلب والبدن، فكان مما ذكره من ضررها بالقلب ما يأتي :
(أ) أنها تحرم القلب العلم؛ لأن العلم نور تطفئه المعاصي .
(ب) أنها إذا تكاثرت، طبع على قلب صاحبها، فكان من الغافلين، كما قال الحسن البصري في قوله : " كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ " [المطففين: 14] هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب، وأصل هذا أن القلب يصدأ من المعصية، فإذا زادت غلب الصدأ حتى يصير رانًا، ثم يغلب حتى يصير طبعًا وقفلاً وختمًا، فيصير القلب في غشاوة وغلاف، فلا ينتفع بالأغذية التي بها حياته وصلاحه .
(ج) أنها تطفئ من القلب نار الغيرة، التي هي لحياته كالحرارة لحياة البدن، فإن الغيرة حرارة القلب التي تخرج ما فيه من الخبث والصفات المذمومة كما يخرج الكير خبث الذهب .
(د) أنها تذهب الحياء الذي هو مادة الحياة للقلب وأصل كل خير .
(ه) أنها تضعف في القلب تعظيم الرب جل جلاله .
(و) أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة وتعوقه وتوقفه إن لم ترده إلى الوراء، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض القلب، ضعف سيره وانقطع في طريقه (انظر: الجواب الكافي) .
وأما مفسدات القلب فقد ذكر ابن القيم أنها خمسة : كثرة الخلطة، والتمني، والتعلق بغير الله من مال أو جاه أو صورة، والشبع المفرط، وكثرة النوم، ويزيد بعضهم فضول النظر، وفضول الكلام .
ثم قال رحمه الله : (فهذه الخمسة من أكبر مفسدات القلب؛ ذلك أن القلب يسير إلى الله عز وجل والدار الآخرة، ويشكف عن طريق الحق ونهجه، وآفات النفس والعمل، وقطاع الطرق، بنوره وحياته وقوته وصحته وعزمه، وسلامة سمعه وصحته وبصره وغيبة الشواغل والقواطع عنه) .
وهذه الخمسة تطفئ نوره، وتعور عين بصيرته، وتثقل سمعه - إن لم تصمه وتبكمه - وتضعف قواه كلها، وتوهن صحته، وتفتر عزيمته، وتوقف همته، وتنكسه إلى ورائه .
ومن لا شعور له بهذا فميت القلب، وما لجرح بميت إيلام، فهي عائقة له عن نبل كماله، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه) (تهذيب مدارج السالكين) .
الكلم الطيب
تعليق