مقدِّمة الكاتب بعد أحداث 1435هـ
ما أشبهَ الليلةَ بالبارحة!
كنتُ قد كتبتُ هذا المقال أثناء أحداث غزة قبل خمس سنوات ونيِّف، وها هي الأحداث تتكرَّر وحال كثير من المسلمين، وللأسف إلى أسوأ،
أمَّا الدُّول فهي على ما هي عليه من خذلان للقضية الفلسطينيَّة، وكأنَّها لا تعنيهم، وأمَّا العلماء فسكوت مطبق إلَّا ممَّن رحم الله،
وأمَّا الشعوب فلأول مرة في تاريخ الصِّراع مع اليهود حول فلسطين يتبجَّح المنافقون العرب بتأييدهم للصهاينة،
وفي المقابل هناك أمران إيجابيَّان حدثَا خلال هذه المدَّة:
الأوَّل: ظهور وسائل جديدة من وسائل التواصُل الاجتماعي، أسهمت بدرجة كبيرة في توعية النَّاس، وإظهار الحقائق، وفضْح المنافقين.
والثاني: التقدُّمُ الملحوظ في نوعية الأسلحة التي استخدمتْها حماس في الدِّفاع عن أرضها وشعبها؛ ممَّا أقلق الصَّهاينةَ ودول العالم المناصِرين لهم.
ولله حِكمة في كلِّ ما يجري.
ولَمَّا كان الأمر كذلك، والمقال يحوي تأصيلًا شرعيًّا، ومضمونًا ينبغي تأكيده والثبات عليه أبقيتُه كما هو.
الحمد لله الواحد القهَّار، والصَّلاة والسَّلام على النبيِّ المختار، وعلى آله وصحْبه الأخيار.
أمَّا بعدُ:
فلقد أظهرتْ أحداث غزَّة المؤمنة، غزَّة الصَّابرة، كثيرًا من المعاني والمفاهيم العقديَّة التي تكلَّم عنها العلماء قديمًا وحديثًا، فكانت ابتلاءً وامتحانًا للمسلمين وتمحيصًا لهم: ﴿وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ﴾ [العنكبوت:11]، فأظهر الله حقائق الإيمان وأثرَها في أرض الواقع، وهذا ممَّا يَزيد المؤمن يقينًا، ويَزيد أهلَ هذه المعاني ثباتًا على دِينهم وجهادهم.
فما حصَل في غزة ليس شرًّا محضًا، بل فيه خيرٌ كثير يعرفه من نوَّر الله بصيرته بالإيمان؛ قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون﴾ [البقرة:216]
ومن تابع الأحداثَ، ومجرياتِ الأمور، وشاهدَ ما حصل لأهل غزة، وما تبِع ذلك من تصريحاتٍ، وبياناتٍ، وفتاوى، ومظاهراتٍ، ظهر له جليًّا الفرقُ بين دراسة مسائل الإيمان والعقيدة نظريًّا في المساجد والفصول الدِّراسيَّة، وبين تطبيق مقتضياتها في ميادين الجهاد وعلى أرض الواقع؛ حيث تُمحَّص القَناعات، ويظهر أثرُ اليقين في النفوس، ويثبِّتُ الله مَن أراد به خيرًا من أهل الصدق وحُسن التوكل عليه، ويوفِّقه للعمل بمقتضيات الإيمان والتقوى، وأسُّ هذا الأمر: المعتقد الصحيح الذي مَن تمسَّك به علمًا واستدلالًا كان أقربَ للتحقق به عملًا، فجمع الله لأهل الثغر بين الفضيلتين، ومن هذه المعاني التي تجلَّت بوضوح - سواءً لأهالي غزة أو لغيرهم من المؤمنين الصادقين، التي دلَّت على ثباتهم ورسوخ عقيدتهم -: الإيمانُ بالقضاء والقدَر، وصدقُ اللجوء إلى الله عزَّ وجلَّ والتوكلُ عليه، ومعاني الأُخوة الإيمانيَّة، وحُسْنُ الظن بالله، واليقينُ بموعودِ الله ونصره، وفي المقابل: هناك قوم سقطوا في الفتنة وخدشوا توحيدهم، أو نقضوا إيمانهم بمظاهرة الكافرين على المسلمين، وإخلالهم بعقيدة الولاء والبراء، وسوء ظنِّهم بالله تعالى.
ومَن هنا كان لا بد من إيضاح هذه المعاني؛ لأنَّ أحداث غزة باتت امتحانًا عمليًّا اجتازه مَن وفَّقه الله،
وسَقَط فيه من لم يرد الله به خيرًا؛ ﴿أَلَا فِي الفِتْنَةِ سَقَطُوا﴾ [التوبة:49]
أمّا الإيمانُ بقضاءِ الله وقدرِه:
فهو ركنٌ من أركان الإيمان، كما في الحديث الصحيح: ((وأن تؤمِن بالقدَر خيره وشرِّه))رواه مسلم، فلا يستقيم إيمانُ العبد إلَّا به، وقد تجلَّى هذا واضحًا في أحداث غزة، حيث شاهد كثيرٌ من الناس على الشاشات الإعلامية مراتٍ عديدةً مَن فقدوا جميع أهليهم وذويهم أو أكثرهم، والطائرات فوق رؤوسهم وهم يردِّدون: الحمد لله، الحمد لله على قدَر الله. ومنهم مَن يقول: نحسبهم شهداء عند الله، وغيرها من العبارات الإيمانيَّة؛ فلله درُّهم!
أمَّا المجاهدون فقد ضرَبوا أروع المثل بإيمانهم بقضاء الله وقدَره، صبرٌ بلا جزع، ورضًا بلا هلع، ونحن بدورنا علينا أن نؤمن بأنَّ ما يُصيب أهلَ غزة اليوم من قتلٍ وتدميرٍ، وجرحٍ وألمٍ وجوعٍ، هو قضاء الله في عباده المؤمنين؛ ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة:51]، وأنَّ تكالُب الأعداء من اليهود والنصارى والمنافقين على إخواننا المسلمين في غزة، وحصارهم، وقتْلهم إنَّما هو من قدَر الله، وقدَر الله نافذ، وهو موافق لحِكمته، ولا يكون قدَر الله إلا خيرًا؛
﴿وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ﴾ [محمد:4]
وأمَّا صدق اللُّجوء إلى الله والتوكُّل عليه:
فمن فوائد هذه الأحداث انقطاعُ حبل التوكُّل بين المجاهدين في غزَّة، وبين الخلق أجمعين؛ فالله لا يرضى أن يصرف عبدُه قلبَه إلى غيره، وقد رأينا هذا وسمعناه مرارًا في تصريحاتِ عددٍ من مسؤوليهم وقادتهم، ونحسبهم - والله حسيبهم - من الصادقين والمتوكِّلين على ربِّهم، وقد أخذوا بكافَّة الأسباب الممكنة عسكريًّا وسياسيًّا، ثم فوَّضوا أمرهم إلى الله، ولم يركنوا لسواه، مع علمهم بأنَّ كبرى دول العالم ضدَّهم؛ يخوفونهم ويهدِّدونهم، والله تعالى يقول في كتابه:
﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ، وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [الزمر: 36]،
وبهذا يكونون قد ضرَبوا للعالم أروعَ معاني التوكُّل على الله، وقد فطِن لهذا المعنى كثيرٌ من علماء المسلمين ودُعاتهم، الذين سعَوا لتثبيت إخوانهم في بياناتهم وخطاباتهم عندما أكَّدوا على هذا المعنى، ونصحوا إخوانهم في غزة بأنْ لا يلجؤوا إلَّا إلى الله، ولا يُؤمِّلوا خيرًا في مجلس الأمن، ولا الأمم المتحدة، ولا منظَّمات حقوق الإنسان، ولا يستجدوا فلانًا أو فلانًا، فكلُّ هؤلاء لا يُغنون عنهم من الله شيئًا، فالتوكُّلُ يكون عليه وحده دون سواه؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله - في تفسير قوله تعالى في سورة (التوبة): ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ -: (يذكر تعالى للمؤمنين فضْلَه عليهم، وإحسانه لديهم في نصْره إيَّاهم في مواطنَ كثيرة من غزواتهم مع رسوله، وأنَّ ذلك من عنده تعالى، وبتأييده وتقديره، لا بِعَددهم ولا بِعُددهم، ونبَّههم على أنَّ النصر من عنده، سواء قلَّ الجمْع أو كثُر؛ فإنَّ يوم حنين أعجبتهم كثرتُهم، ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئًا، فولَّوا مدبرين إلَّا القليل منهم مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ثم أنزل الله نصْره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ... ليعلمَهم أنَّ النصر من عنده تعالى وحده، وبإمداده، وإنْ قلَّ الجمع؛ فكم من فئة قليلة غلبَتْ فئةً كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين) ا.هـ، وفي انقطاع ما بينهم وبين الخلق كما هو حالهم الآن ما يُفضي إلى مَزيدِ تعلُّقٍ بالله عزَّ وجلَّ، مع يئسهم ممَّا في أيدي الناس، وهو مُؤْذِنٌ إنْ شاء الله بعاجل نصْر الله.
وفي المقابل: كان هذا الأمر امتحانًا وفتنة، سقط فيها كثيرٌ من الزُّعماء والعلمانيِّين والإعلاميِّين، كما أوجدت خَدْشًا في بعض البيانات والخطابات والتحرُّكات التي كان مِن ضِمنها مناشدة هذه المنظَّمات بوضع حدٍّ للحرب، وكأنه خافٍ عليهم قولُ الله تعالى: ﴿وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة:120]
أمَّا الأُخوَّة الإيمانيَّة والولاء للمؤمنين:
فقد ظهرت أسْمى معانيها في أحداث غزَّة ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ [التوبة:71]، فما أنِ اندلعت الحرب حتى هُرِعَ المسلمون من جميع أقطار المعمورة - عربًا وعجمًا - يجأرون إلى الله تعالى بالدُّعاء في صلاتهم إحياءً لسُنَّة قُنوت النازلة، ثم تتابعتِ البيانات والفتاوى التي تدعو لنصْرة إخواننا في غزة، وخرج كثيرٌ من الناس بشتَّى أجناسهم وأعمارهم وطبقاتهم إلى الشَّوارع يُطالبون بإيقاف الحرب، بل طالَبَ كثيرٌ منهم بفتْح باب الجهاد؛ ليُجاهدوا في سبيل الله معهم، لكن حيل بينهم وبين ذلك! فلله الأمر من قبلُ ومن بعد، كما أنَّه ما إن أعلنت بعضُ الجهات المختصَّة بجمْع التبرُّعات لمنكوبي غزَّة حتى قام كثيرٌ من الناس رجالًا ونساءً بالإنفاق في سبيل الله، وكلُّ ذلك دليلٌ على الأُخوةِ الإيمانيَّة وولائهم للمؤمنين.
وفي المقابل: سقَط آخرون وأصبحوا يتحدَّثون عن أخطاء حماس، وأنَّها سبب كل ما يحدُث، بل إنَّ أحدهم كتَب في إحدى الصُّحف العربيَّة: اضربيهم إسرائيل، ولا تبقي منهم أحدًا!! فأين هذا من الأُخوة الإيمانيَّة؟!
وممَّا يُؤسَف له أنَّ بعض أهل العلم والفضل لا تجِد لهم أثرًا رغم كلِّ هذه الأحداث العصيبة، وكأنَّ الأمر لا يَعنيهم! وهم من أفقه الناس - نظريًّا - بحديث عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه في (صحيح البخاري) مرفوعًا: ((وذِمَّة المسلمين واحدة، يَسعى بها أدناهم)).
وأمَّا عقيدة البَراء من الكافرين، وعدم مظاهرتهم على المسلمين:
فهذه أصبحتْ من النظريَّات، ولا علاقة لها بالواقع مع أنَّ الله عزَّ وجلَّ يقول:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة:51]،
وقد عدَّ علماءُ الإسلام مظاهرةَ المشركين على المسلمين من نواقِض الإسلام.
ألَا فليحذرْ كلُّ مَن أعان اليهود أو النصارى، أو غيرهم من الكفَّار على قتال المسلمين من مقْت الجبَّار وغضبه وعقابه.
وأمَّا حُسن الظنِّ بالله:
فيَنبغي للمسلم أنْ لا يُسيء الظن بالله تعالى؛ فمَن ظنَّ أنَّ الله ينصُر اليهود أو النصارى، أو غيرهم من الكفَّار على المسلمين نصرًا دائمًا، أو أنَّ الحقَّ سيظلُّ مغلوبًا من قِبل الباطل، أو أنَّ ما يَجري لا حِكمة فيه، أو أنَّه يحصُل عبثًا، فقد أساء الظنَّ بالله، والله تعالى يقول محذرًا من سوء الظن به؛ ﴿يظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ [آل عمران:154]، فهذه الأمور المؤلِمة التي نراها إنما تحدُث لحِكمة يعلمها الله؛ فَالله تعالى مَا قدَّرها سُدًى، ولا أنشأها عبثًا، ولا خَلَقها باطلًا؛ فهذا من حُسن الظن بالله تعالى.
أمَّا اليقين بموعود الله ونصره:
فهذا من مقتضيات الإيمان بالله والتَّصديق برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، فقد جاء عن أبي هُرَيرَة رضي الله عنه أَنَّ رسول اللَّه صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا تقومُ السَّاعةُ حتى يقاتِلَ المسلمون اليهود، فيَقتُلهم المسلِمون حتى يختبئَ اليهوديُّ من وراء الحَجَر والشَّجر، فيقول الحجرُ أو الشَّجرُ يا مسلمُ، يا عبد الله، هذا يهوديٌّ خلْفِي، فتعالَ فاقتُلْه، إلَّا الغرقدَ؛ فإنَّه من شجَر اليهود))؛ فمِن مقتضيات الإيمان بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم تصديقُ هذا الوعد، بأنَّ نهاية اليهود على أيدي المسلمين، فأَبشِروا أيُّها المسلمون، وأَمِّلوا، وأحسِنوا الظنَّ بربِّكم، فالنَّصْر آتٍ، وانصروا الله ينصرُكم؛ ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج:40].
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم
المصدر موقع الدرر السنية
تعليق