إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #16
    رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

    تتمة
    بهذا التقرير الذي تبين به أنه لا يمكن أن يكون في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله - يتبين بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم معاني آيات الصفات، ويدعون أن هذا هو مذهب السلف، وقد ضلوا فيما ذهبوا إليه، وكذبوا فيما نسبوه إلى السلف، فإن السلف إنما يفوضون علم الكيفية دون علم المعنى، وقد تواترت النقول عنهم بإثبات معانيهذه النصوص إجمالاً أحياناً، وتفصيلاً أحياناً، فمن الإجمال قوله: "أمروها كما جاءت بلا كيف" ومن التفصيل ما سبق عن مالك في الاستواء. قال شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" المعروف باسم "العقل والنقل" (1/16) المطبوع على هامش منهاج السنة (1/201) تحقيق رشاد سالم: "وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبر القرآن، وحضنا على عقله وفهمه، فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله". إلى أن قال: "فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص، ولا الملائكة، ولا السابقون الأولون، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه". قال: "ومعلوم أن هذا قدح في القرآن والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبياناً للناس، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين، وأن يبين للناس ما نزل إليهم، وأمر بتدبر القرآن وعقله، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته، أو عن كونه خالقاً لكل شيء وهو بكل شيء عليم، أو عن كونه أمر ونهى، ووعد وتوعد، أو عما أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل، ولا يتدبر، ولا يكون الرسول بين الناس ما نزل إليهم، ولا بلغ البلاغ المبين، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع: الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي، وليس في النصوص ما يناقض ذلك، لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة، ولا يعلم أحد معناها، وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدل به، فيبقى هذا الكلام سداً لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء، وفتحاً لباب من يعارضهم ويقول إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء؛ لأنا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون، فضلاً عن أن يبينوا مرادهم، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد". أهـ كلامه رحمه الله.


    تعليق


    • #17
      رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

      جزاكم الله خيرًا


      قال الشيخ الألباني رحمه الله: إن هذا الطريق طويل ونحن نمشي فيه مشي السلحفاة لايهمنا أن نصل المهم أن نموت علي الطريق

      تعليق


      • #18
        رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

        المشاركة الأصلية بواسطة ام نظام مشاهدة المشاركة
        جزاكم الله خيرًا
        وخيرا جزاكم
        بارك الله فيكم

        تعليق


        • #19
          رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

          فصل في التأويل

          التأويل لغة: ترجيع الشيء إلى الغاية المرادة منه، من الأول وهو الرجوع. وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المرادة منه بشرح معناه أو حصول مقتضاه، ويطلق على ثلاثة معان: الأول: "التفسير" وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به، ومنه قوله تعالى عن صاحبي السجن يخاطبان يوسف: (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ) (يوسف: 36). وقول النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"(40). وسبق قول ابن عباس رضي الله عنهما: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله". ومنه قول ابن جرير وغيره من المفسرين "تأويل قوله تعالى" أي تفسيره. والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم. المعنى الثاني: مآل الكلام إلى حقيقته، فإن كان خبراً فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه، وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره، وإن كان طلباً فتأويله امتثال المطلوب. مثال الخبر: قوله تعالى: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ) (الأعراف: 53). أي ما ينتظر هؤلاء المكذبون إلا وقوع حقيقة ما أخبروا به من البعث والجزاء، ومنه قوله تعالى عن يوسف: (هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ) (يوسف: 100). ومثال الطلب: قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن(41). أي يمتثل ما أمره الله به في قوله: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر: 1-3). وتقول: فلان لا يتعامل بالربا يتأول قول الله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة: 275). والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعاً. فأما قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) (آل عمران: 7). فيحتمل أن يكون المراد بالتأويل فيها التفسير، ويحتمل أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته بناء على الوقف فيها والوصل. فعلى قراءة الوقف عند قوله: (إلا الله). يتعين أن يكون المراد به مآل الكلام إلى حقيقته؛ لأن حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر لا يعلمها إلا الله عز وجل. وعلى قراءة الوصل يتعين أن يكون المراد به التفسير، لأن تفسيره معلوم للراسخين في العلم فلا يختص علمه بالله تعالى. فنحن نعلم معنى الاستواء أنه العلو والاستقرار، وهذا هو التأويل المعلوم لنا، لكننا نجهل كيفيته وحقيقته التي هو عليها، وهذا هو التأويل المجهول لنا. وكذلك نعلم معاني ما أخبرنا الله به من أسمائه وصفاته، ونميز الفرق بين هذه المعاني فنعلم معنى الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر ونحو ذلك، ونعلم أن الحياة ليست هي العلم، وأن العلم ليس هو القدرة، وأن القدرة ليست هي السمع، وأن السمع ليس هو البصر، وهكذا بقية الصفات والأسماء، لكننا نجهل حقائق هذه المعاني وكنهها الذي هي عليه بالنسبة إلى الله عز وجل. وهذا المعنيان للتأويل هما المعنيان المعروفان في الكتاب والسنة وكلام السلف. المعنى الثالث للتأويل: صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقتضيه، وإن شئت فقل: صرف اللفظ عن ظاهره إلى معنى يخالف الظاهر لدليل يقتضيه، وهذا اصطلاح كثير من المتأخرين الذين تكلموا في الفقه وأصوله، وهو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وهل هو محمود أو مذموم؟ وهل هو حق أو باطل؟ والتحقيق: أنه إن دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير؛ لأن تفسير الكلام تأويله إلى ما أراده المتكلم به سواء كان على ظاهره، أم على خلاف ظاهره ما دمنا نعلم أنه مراد المتكلم. مثال ذلك: قوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوه) (النحل: 1). فإن الله تعالى يخوف عباده بإتيان أمره المستقبل، وليس يخبرهم بأمر أتى وانقضى بدليل قوله: (فَلا تَسْتَعْجِلُوه). ومنه قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل: 98). فإن ظاهر اللفظ إذا فرغت من القراءة، والمراد إذا أردت أن تقرأ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ إذا أراد أن يقرأ لا إذا فرغ من القراءة. وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلاً مذموماً، وجديراً بأن يسمى تحريفاً لا تأويلاً. مثال ذلك: قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طـه: 5). فإن ظاهره أن الله تعالى علا على العرش علواً خاصاً يليق بالله عز وجل، وهذا هو المراد، فتأويله إلى أن معناه استولى وملك تأويل باطل مذموم، وتحريف للكلم عن مواضعه؛ لأنه ليس عليه دليل صحيح.


          اعلم أن الله تعالى وصف القرآن بأنه محكم، وبأنه متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه. فالأول كقوله تعالى: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) (يونس: 1). والثاني كقوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً) (الزمر: 23). والثالث كقوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران: 7).
          فالإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو: الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى، فألفاظ القرآن كله في أكمل البيان والفصاحة والبلاغة، ومعانيه أكمل المعاني وأجلها وأنفعها للخلق حيث تتضمن كمال الصدق في الأخبار، وكمال الرشد والعدل في الأحكام، كما قال الله تعالى: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) (الأنعام: 115). والتشابه الذي وصف به جميع القرآن هو: تشابه القرآن في الكمال والإتقان والائتلاف، فلا يناقض بعضه بعضاً في الأحكام، ولا يكذب بعضه بعضاً في الأخبار كما قال الله تعالى: (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء: 82). والإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو: الوضوح والظهور بحيث يكون معناه واضحاً بيناً لا يشتبه على أحد، وهذا كثير في الأخبار والأحكام. مثاله في الأخبار قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ) (البقرة: 185). فكل أحد يعرف شهر رمضان، وكل أحد يعرف القرآن. ومثاله في الأحكام قوله تعالى: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (النساء: 36). فكل أحد يعرف والديه، وكل أحد يعرف الإحسان. وأما التشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو: الاشتباه أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم، فيعلمه الراسخون في العلم دون غيرهم.

          تعليق


          • #20
            رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

            موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيفية الجمع بينها

            موقفنا من اختلاف هذه الأوصاف وكيف نجمع بينها أن نقول: إن وصف القرآن جميعه بالإحكام، ووصفه جميعه بالتشابه لا يتعارضان والجمع بينهما: أن الكلام المحكم المتقن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق، فلا يتناقض في أحكامه، ولا يتكاذب في أخباره. وأما وصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه فلا تعارض بينهما أصلاً؛ لأن كل وصف وارد على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه خفي المعنى، وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين: فالراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وإذا كان من عنده فلن يكون فيه اشتباه يستلزم ضلالاً أو تناقضاً، ويردون المتشابه إلى المحكم فصار مآل المتشابه إلى الإحكام. وأما أهل الضلال والزيغ فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك والتشكيك فضلوا وأضلوا، وتوهموا بهذا المتشابه ما لا يليق بالله عز وجل ولا بكتابه ولا برسوله. مثال الأول(42): قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى) (يـس: 12). وقوله: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9). ونحوهما مما أضاف الله فيه الشيء إلى نفسه بصيغة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد. وأما الراسخون في العلم: فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، ويردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى:(وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ) (البقرة: 63) ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت - بما وقع لك من الاشتباه - قد كفرك الله بها وكذبك فيها فاستمع إلى قوله تعالى: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ) (المائدة: 73). أي كفروا بقولهم إن الله ثالث ثلاثة. ومثال الثاني(43): قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْت) (القصص: 56). وقوله: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52). ففي الآيتين موهم تعارض فيتبعه من في قلبه زيغ ويظن بينهما تناقضاً وهو النفي في الأولى، والإثبات في الثانية. فيقول: في القرآن تناقض. وأما الراسخون في العلم فيقولون: لا تناقض في الآيتين فالمراد بالهداية في الآية الأولى هداية التوفيق، وهذه لا يملكها إلا الله وحده فلا يملكها الرسول ولا غيره. والمراد بها في الآية الثانية هداية الدلالة، وهذه تكون من الله تعالى ومن غيره فتكون من الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين. ومثال الثالث(44): قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (يونس: 94). ففي الآية ما يوهم وقوع الشك من النبي صلى الله عليه وسلم مما أنزل إليه فيتبعه من في قلبه زيغ فيدعي أن النبي صلى الله عليه وسلم وقع منه ذلك فيطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الراسخون في العلم فيقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقع منه شك ولا امتراء فيما أنزل إليه، كيف وقد شهد الله له بالإيمان في قوله تعالى: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (البقرة: 285). وقوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (الأعراف: 158). ويقولون: إن مثل هذا التعبير - (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ) (يونس: 94) - لا يلزم منه وقوع الشرط، بل ولا إمكانه كقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ)(45) (الزخرف: 81). فإن وجود الولد لله عز وجل ممتنع غاية الامتناع كما قال تعالى: (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (مريم: 92). فكذلك الشك والامتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه ممتنع غاية الامتناع، ولكن جاءت العبارة بهذه الصيغة الشرطية لتأكيد امتناع الشك والامتراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أنزل إليه من الله عز وجل. فإن قلت: ما الحكمة من كون بعض القرآن متشابهاً؟ فالجواب: أن الحكمة من ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه من الشاك الجاهل الزائغ، فالصادق في إيمانه الراسخ في عمله الذي يؤمن بالله وكلماته، ويعلم أن كلام الله عز وجل ليس فيه تناقض، ولا اختلاف فيرد ما تشابه منه إلى ما كان محكماً، ليصير كله محكماً. من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه، ليضرب كتاب الله تعالى بعضه ببعض، فيضل ويضل، ويكون إماماً في الضلال والشقاء فيفتن الناس في دينهم، ويوقعهم في الشك والحيرة، ويفتن بعضهم ببعض (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الْأَلْبَابِ* رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 7-8).




            تتمة

            التشابه الواقع في القرآن نوعان: حقيقي ونسبي: فالحقيقي: ما لا يعلمه إلا الله عز وجل مثل: حقيقة ما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فإنا - وإن كنا نعلم معاني تلك الأخبار - لا نعلم حقائقها وكنهها كما قال الله تعالى عن نفسه: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طـه: 110). وقال: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ) (الأنعام: 103). وقال عما في اليوم الآخر: (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (السجدة: 17). وفي الحديث القدسي الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قال: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(46). فما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر عن نفسه أنه حي، عليم، قدير، سميع، بصير، ونحو ذلك، ونحن نعلم أن ما دلت عليه هذه الأسماء من الصفات ليس مماثلاً في الحقيقة لما للمخلوق منها، فحقيقتها لا يعلم معناها إلا الله. كما نعلم أن في الجنة لحماً، ولبناً، وعسلاً، وماء، وخمراً، ونحو ذلك، ولكن ليس حقيقة ذلك من جنس ما في الدنيا، وحينئذ لا يعلم حقيقتها إلا الله تعالى. والإخبار عن الغائب لا يفهم إن لم يعبر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في الشاهد، ويعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يعلم في الشاهد. وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه. وأما النسبي: فهو ما يكون مشتبهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم والإيمان ما يخفى على غيرهم، إما لنقص في علمهم أو تقصير في طلبهم، أو قصور في فهمهم، أو سوء في قصدهم. وهذا النوع يسأل عن بيانه، لأنه يمكن الوصول إليه، إذ ليس في القرآن شيء لا يتبين معناه لأحد من الناس، كيف وقد قال الله عز وجل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89). وقال: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 138). وقال: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) (القيامة: 18-19). وقال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) (النساء: 174). وقال: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ) (البقرة: 185). ولهذا النوع أمثلة كثيرة في المسائل العلمية الخبرية، والمسائل العملية الحكمية، وغالب المسائل التي اختلف الناس فيها أوكلها من هذا النوع. فمن أمثلة ذلك في المسائل العلمية الخبرية: قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى:11). حيث اشتبه على النفاة أهل التعطيل ففهموا منه انتفاء الصفات عن الله تعالى، ظناً منهم أن إثباتها يستلزم مماثلة الله تعالى للمخلوقين؛ فنفوا عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو بعضه، وأعرضوا عن الأدلة السمعية والعقلية الدالة على ثبوت صفات الكمال لله عز وجل، وغفلوا عن كون الاشتراك في أصل المعنى لا يستلزم المماثلة في الحقيقة. ثم لو أمعنوا في النظر في هذا المنفي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) لتبين لهم أنه يدل على ثبوت الصفات لا على انتفائها، لأن نفي المماثلة يدل على ثبوت أصل المعنى، لكن لكماله تعالى لا يماثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولولا ثبوت أصل الصفة لم يكن لنفي المثل فائدة. ومن أمثلة ذلك في المسائل العملية الحكمية قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي"(47). حيث اشتبه على بعض الناس ففهموا منه أنه شامل للكمية والكيفية، وبنوا على ذلك أنه لا تجوز الزيادة في صلاة الليل على العدد الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم به، فلا يزاد في التراويح في رمضان على إحدى عشرة، أو ثلاث عشرة ركعة، ولكن من تأمل الحديث وجده دالاً على الكيفية فقط دون الكمية، إلا أن تكون الكمية في ضمن الكيفية كعدد الصلاة الواحدة، ويدل لذلك ما ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر: ما ترى في صلاة الليل؟ قال: "مثنى مثنى، فإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى"(48). وفي رواية: أن السائل قال: كيف صلاة الليل؟ ولو كان عدد قيام الليل محصوراً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لهذا السائل، ولهذا كان الراجح أن يقتصر في قيام الليل على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة وإن زاد على ذلك فلا بأس. وأمثلة ذلك كثيرة، تعلم من كتب الفقه المعنية بذكر الخلاف والترجيح بين الأقوال والله المستعان.

            تعليق


            • #21
              رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

              القاعدة السادسة
              في ضابط ما يجوز لله ويمتنع عنه نفياً وإثباتاً

              صفات الله تعالى دائرة بين النفي والإثبات - كما سبق - فلابد من ضابط لهذا وذاك. فالضابط في النفي أن ينفى عن الله تعالى: أولاً: كل صفة عيب كالعمى والصمم والخرس والنوم والموت ونحو ذلك. ثانياً: كل نقص في كماله كنقص حياته أو علمه أو قدرته أو عزته أو حكمته أو نحو ذلك. ثالثاً: مماثلته للمخلوقين كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه المخلوق، أو استواؤه على عرشه كاستواء المخلوق ونحو ذلك. فمن أدلة انتفاء الأول عنه: قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) (النحل: 60). فإن ثبوت المثل الأعلى له وهو الوصف الأعلى يستلزم انتفاء كل صفة عيب. ومن أدلة انتفاء الثاني: قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (ق: 38). ومن أدلة انتفاء الثالث: قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11). وبهذا علم أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وذلك لوجهين: الأول: أنه إن أريد بالنفي نفي التشابه المطلق - أي نفي التساوي من كل وجه بين الخالق والمخلوق - فإن هذا لغو من القول إذ لم يقل أحد بتساوي الخالق والمخلوق من كل وجه، بحيث يثبت لأحدهما من الجائز والممتنع والواجب ما يثبت للآخر، ولا يمكن أن يقوله عاقل يتصور ما يقول، فإنه مما يعلم بضرورة العقل وبداهة الحس انتفاؤه، وإذا كان كذلك لم يكن لنفيه فائدة. وإن أريد بالنفي مطلق التشابه - أي نفي التشابه من بعض الوجوه - فهذا النفي لا يصح إذ ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك يشتركان فيه، وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر، فيشتبهان من وجه، ويفترقان من وجه. فالحياة "مثلاً" وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، قال الله تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) (الفرقان: 58). وقال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ) (الروم: 19). لكن حياة الخالق تختص به فهي حياة كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء، بخلاف حياة المخلوق فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء قال الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) (الرحمن: 26-27). فالقدر المشترك "وهو مطلق الحياة" كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، لكن ما يختص به كل واحد ويتميز به لم يقع فيه اشتراك، وحينئذ لا محذور من الاشتراك في هذا المعنى الكلي، وإنما المحذور أن يجعل أحدهما مشاركاً للآخر فيما يختص به. ثم إن إرادة ذلك - أعني نفي مطلق التشابه - تستلزم التعطيل المحض، لأنه إذا نفي عن الله تعالى صفة الوجود "مثلاً" بحجة أن للمخلوق صفة وجود فإثباتها للخالق يستلزم التشبيه على هذا التقدير، لزم على نفيه أن يكون الخالق معدوماً، ثم يلزمه على هذا اللازم الفاسد أن يقع في تشبيه آخر وهو تشبيه الخالق بالمعدوم لاشتراكهما في صفة العدم فيلزمه على قاعدته - تشبهه بالمعدوم - فإن نفى عنه الوجود والعدم وقع في تشبيه ثالث أشد وهو تشبيهه بالممتنعات؛ لأن الوجود والعدم نقيضان يمتنع انتفاؤهما كما يمتنع اجتماعهما. فإن قال قائل: إن الشيء إذا شارك غيره من وجه جاز عليه من ذلك الوجه ما يجوز على الآخر، وامتنع عليه ما يمتنع، ووجب له ما يجب!! فالجواب من وجهين: أحدهما: المنع، فيقال لا يلزم من اشتراك الخالق والمخلوق في أصل الصفة أن يتماثلا فيه فيما يجوز ويمتنع ويجب، لأن مطلق المشاركة لا يستلزم المماثلة. الثاني: التسليم، فيقال هب أن الأمر كذلك ولكن إذا كان ذلك القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الرب سبحانه، ولا نفي ما يستحقه لم يكن ممتنعاً، فإذا اشتركا في صفة الوجود، والحياة، والعلم، والقدرة، واختص كل موصوف بما يستحقه ويليق به كان اشتراكهما في ذلك أمراً ممكناً لا محذور فيه أصلاً، بل إثبات هذا من لوازم الوجود، فإن كل موجودين لابد بينهما من مثل هذا، ومن نفاه لزمه تعطيل وجود كل موجود، لأن نفي القدر المشترك يلزم منه التعطيل العام. وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً وتدبره زالت عنه عامة الشبهات وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام.



              الوجه الثاني: مما يدل على أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه: أن الناس اختلفوا في تفسير التشبيه فقد يفسره بعضهم بما لا يراه الآخرون تشبيهاً.
              مثال ذلك مع المعتزلة ومن سلك طريقهم من النفاة: أنهم جعلوا من أثبت لله تعالى علماً قديماً، أو قدرة قديمة مشبهاً ممثلاً، لأن القدم أخص وصف الإله عند جمهورهم، فمن أثبت له علماً قديماً أو قدرة قديمة فقد أثبت له مثيلاً. والمثبتون يجيبونهم تارة بالمنع، وبالتسليم تارة. أما المنع فيقولون: ليس القدم أخص وصف الإله، وإنما أخص وصف الإله ما لا يتصف به غيره، مثل: كونه رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه الإله ونحو ذلك. والصفات وإن وصفت بالقدم كما توصف به الذات لا يقتضي ذلك أن تكون إلهاً أو رباً أو نحو ذلك، كما أن النبي - مثلاً - يوصف بالحدوث، وتوصف صفاته بالحدوث، ولا يقتضي ذلك أن تكون صفاته نبياً. وعلى هذا فلا يكون إثبات الصفات القديمة لله تعالى تمثيلاً، ولا تشبيهاً. وأما التسليم فيقولون: نحن وإن سلمنا أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً أو تمثيلاً فإنه لم ينفه عقل ولا سمع، وحينئذ فلا مانع من إثباته. فالقرآن إنما نفى مسمى المثل، والكفء، والند ونحو ذلك، والصفة في لغة العرب التي نزل بها القرآن ليست مثل الموصوف، ولا كفؤاً له، ولا نداً فلا تدخل فيما نفاه القرآن. فالواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية فقط. مثال آخر: مع الأشاعرة ونحوهم ممن ينفي علوه على عرشه ونحوه دون صفة الحياة، والعلم، والقدرة ونحوها فيقول: إن هذه الصفات قد تقوم بما ليس بجسم بخلاف العلو فإنه لا يقوم إلا بجسم فلو أثبتناه لزم أن يكون جسماً، والأجسام متماثلة فيلزم التشبيه. والمثبتون يجيبونهم تارة بمنع المقدمة الأولى وهي قولهم: "إن العلو لا يقوم إلا بجسم" وتارة بمنع المقدمة الثانية وهي قولهم: "إن الأجسام متماثلة" وتارة بمنع المقدمتين، وتارة بالاستفصال، فيقولون: إن أردتم بالجسم جسماً مؤلفاً من لحم وعظم وأجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، أو يحتاج إلى مقومات خارجية، فهذا ممتنع بالنسبة إلى الله الغني الحميد، وليس بلازم من إثبات الصفات، وإن أردتم بالجسم ما كان قائماً بنفسه موصوفاً بالصفات اللائقة به، فهذا حق ثابت لله عز وجل ولا يلزم عليه شيء من اللوازم الباطلة. وإذا تبين اختلاف الناس في تفسير التشبيه صار الاعتماد على مجرد نفيه باطلاً، لأنه يلزم منه نفي صفات الكمال عن الله تعالى عند من يرى أن إثباتها يستلزم التشبيه. وعلى هذا فالضابط الصحيح فيما ينفى عن الله تعالى ما سبق في أول القاعدة.



              فإذا تبين أنه لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التشبيه وأنه طريق فاسد، فإن أفسد منه ما يسلكه بعض الناس حيث يعتمدون فيما ينفى عن الله تعالى على نفي التجسيم، والتحيز ونحو ذلك، فتجدهم إذا أرادوا أن يحتجوا على من وصف الله تعالى النقائص من: الحزن، والبكاء، والمرض، والولادة ونحوها يقولون له: لو اتصف الله بذلك لكان جسماً، أو متحيزاً، وهذا ممتنع، هذه حجتهم عليه.
              وهذه طريقة فاسدة لا يحصل بها المقصود لوجوه: الأول: أن لفظ "الجسم" و "الجوهر" و "التحيز" ونحوها عبارات مجملة مشتبهة لا تحق حقاً، ولا تبطل باطلاً، ولذلك لم تذكر فيما وصف الله وسمى به نفسه لا نفياً ولا إثباتاً، لا في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يسلكه أحد من سلف الأمة وأئمتها، وإنما هي عبارات مبتدعة أنكرها السلف والأئمة. الثاني: أو وصف الله تعالى بهذه النقائص أظهر فساداً في العقل والدين من وصفه بالتحيز والتجسيم، فإن كفر من وصفه بهذه النقائص معلوم بالضرورة من الدين، بخلاف التحيز والتجسيم لما فيهما من الاشتباه والخفاء. وإذا كان وصف الله تعالى بهذه النقائص أظهر فساداً من وصفه بالحيز والجسم، فإنه لا يصح الاستدلال بالأخفى على الأظهر؛ لأن الدليل مبين للمدلول ومثبت له فلابد أن يكون أبين وأظهر منه. الثالث: أن من وصفوه بهذه النقائص يمكنهم أن يقولوا نحن نصفه بذلك، ولا نقول بالتجسيم والتحيز كما يقوله من يثبت لله صفات الكمال مع نفي القول بالتجسيم والتحيز، فيكون كلام من يصف الله بصفات الكمال ومن يصفه بصفات النقص واحداً، ويبقى الرد عليهما بطريق واحد وهو أن الإثبات مستلزم للتجسيم والتحيز، وهذا في غاية الفساد والبطلان. والرابع: أن الذين اعتمدوا في ضابط ما ينفى عن الله على نفي التجسيم والتحيز نفوا عن الله تعالى صفات الكمال بهذه الطريقة. واتصاف الله تعالى بصفات الكمال واجب ثابت بالسمع والعقل؛ فيكون كل ما اقتضى نفيه باطلاً بالسمع والعقل، وبه يتبين فساد تلك الطريقة وبطلانها. الخامس: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً ونفى غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، وكل من نفى شيئاً واثبت غيره ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي. مثال ذلك: أن من أثبتوا لله تعلى الحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام دون غيرها من الصفات قال لهم نفاة ذلك كالمعتزلة: إثبات هذه تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض والعرض لا يقوم إلا بجسم. فيرد عليهم أولئك بأنكم أنتم أثبتم أنه حي، عليم، قدير، وقلتم ليس بجسم مع أنكم لا تعرفون حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فأثبتموه على خلاف ما عرفتم، فكذلك نحن نثبت هذه الصفات ولا نقول إنه جسم فهذا تناقض المعتزلة، أما تناقض خصومهم الذين أثبتوا الصفات السبع السابقة دون غيرها فقد قالوا لمن أثبت صفة الرضا، والغضب، ونحوها: إثبات الرضا والغضب، والاستواء، والنزول، والوجه، واليدين ونحوها تجسيم لأننا لا نعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم. فيرد عليهم المثبتة بأنكم أنتم وصفتموه بالحياة، والعلم، والقدرة، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام، ولا يعرف ما يوصف بذلك إلا ما هو جسم، فإن لزمنا التجسيم فيما أثبتناه لزمكم فيما أثبتموه، وإن لم يلزمكم فيما أثبتموه لم يلزمنا فيما أثبتناه وإن ألزمتمونا به، لأنه لا فرق بين الأمرين، وتفريقكم بينهما تناقض منكم.


              تعليق


              • #22
                رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                وأما الضابط في باب الإثبات: فأن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات الكمال على وجه لا نقص فيه بأي حال من الأحوال لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل: 60). والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل الذي لا يماثله شيء. فصفات الله تعالى كلها صفات كمال، سواء كانت صفات ثبوت، أم صفات نفي. وقد سبق أن النفي المحض لا يوجد في صفات الله تعالى، وأن المقصود بصفات النفي نفي تلك الصفة لا تصافه بكمال ضدها. ولهذا لا يصح في ضابط الإثبات أن نعتمد على مجرد الإثبات بلا تشبيه؛ لأنه لو صح ذلك لجاز أن يثبت المفتري لله سبحانه كل صفة نقص مع نفي التشبيه، فيصفه بالحزن، والبكاء، والجوع، والعطش ونحوها مما ينزه الله عنه مع نفي التشبيه، فيقول: إن الله يحزن لا كحزن العباد، ويبكي لا كبكائهم، ويجوع لا كجوعهم، ويعطش لا كعطشهم، ويأكل لا كأكلهم، كما أنه يفرح لا كفرحهم، ويضحك لا كضحكهم، ويتكلم لا ككلامهم. ولجاز أيضاً أن يثبت المفتري لله سبحانه أعضاء كثيرة مع نفي التشبيه فيقول: إن لله تعالى كبداً لا كأكباد العباد، وأمعاء لا كأمعائهم، ونحو ذلك مما ينزه الله تعالى عنه، كما أن له وجهاً لا كوجوههم، ويدين لا كأيديهم. ثم يقول المفتري لمن نفى ذلك وأثبت الفرح، والضحك، والكلام، والوجه، واليدين: أي فرق بين ما نفيت وما أثبت، إذا جعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات؛ فأنا لم أخرج عن هذا الضابط فإني اثبت ذلك بدون تشبيه. فإن قال النافي: الفرق هو السمع (أي الدليل من الكتاب والسنة) فما جاء به الدليل أثبته وما لم يجئ به لم أثبته. قال المفتري: السمع خبر والخبر دليل على المخبر عنه، والدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه؛ لأنه قد يثبت بدليل آخر، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر وإن لم يرد به السمع، ومن المعلوم أن السمع لم يرد بنفي كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة فلم يرد بنفي الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش، ونفي الكبد، والمعدة، والأمعاء، وإذا لم يرد بنفيها جاز أن تكون ثابتة في نفس الأمر، فلا يجوز نفيها بلا دليل، وبهذا ينقطع النافي لهذه الصفات حيث اعتمد فيما ينفيه على مجرد نفي التشبيه، ويعلم أنه لا يصح الاعتماد عليها، وإنما الاعتماد على ما دل عليه السمع والعقل من وصف الله تعالى بصفات الكمال على وجه لا نقص فيه، وعلى هذا فكل ما ينافي صفات الكمال الثابتة لله، فالله منزه عنه؛ لأن ثبوت أحد الضدين نفي للآخر ولما يستلزمه. وبهذا يمكن دفع ما أثبته هذا المفتري لله تعالى من صفات النقص فيقال: الحزن، والبكاء، والجوع، والعطش صفات نقص منافية لكماله فتكون منتفية عن الله، ويقال أيضاً: الأكل، والشرب مستلزم للحاجة والحاجة نقص، وما استلزم النقص فهو نقص، ويقال أيضاً، الكبد، والمعدة، والأمعاء آلات الأكل والشرب، والمنزه عن الأكل والشرب منزه عن آلات ذلك. وأما الفرح، والضحك، والغضب، ونحوها فهي صفات كمال لا نقص فيها فلا تنتفي عنه لكنها لا تماثل ما يتصف به المخلوق منها فإنه سبحانه لا كفء له، ولا سمي، ولا مثل، فلا يجوز أن تكون حقيقة ذاته كحقيقة شيء من ذوات المخلوقين، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقين؛ لأنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة، ولا الآدميين، ولا السموات، ولا الكواكب، ولا الهواء، ولا الأرض وغير ذلك. بل يعلم أن حقيقته على مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، لأن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على الواحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما يجب للأخرى، وامتنع عليها ما يمتنع على الأخرى، فيلزم أن يجوز على الخالق الواجب بنفسه ما يجوز على المخلوق المحدث، وأن يثبت لهذا المخلوق ما يثبت للخالق فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وهذا جمع بين النقيضين.



                الأصل الثاني في القدر والشرع(49)

                القدر تقدير لله تعالى لما كان وما يكون أزلاً وأبداً. والإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل حين سأله عن الإيمان فقال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"(50). والإيمان بالقدر والشرع من تمام الإيمان بربوبية الله تعالى. وللإيمان بالقدر مراتب أربع: المرتبة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى قد علم بعلمه الأزلي الأبدي ما كان وما يكون من صغير وكبير، وظاهر وباطن مما يكون من أفعاله، أو أفعال مخلوقاته. المرتبة الثانية: الإيمان بأن الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة، فما من شيء كان أو يكون إلا وهو مكتوب مقدر قبل أن يكون. ودليل هاتين المرتبتين في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أما الكتاب: فمنه قوله تعالى: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) (الحج: 70). وقوله: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (الأنعام: 59). وأما السنة: فمنها قوله صلى الله عليه وسلم: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء". أخرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما(51) . وروى البخاري في صحيحه من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء.(52) وروى الإمام أحمد والترمذي من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب. قال: رب وما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة". وهو حديث حسن(53) . المرتبة الثالثة: الإيمان بمشيئة الله تعالى وأنها عامة في كل شيء، فما وجد موجود، ولا عدم معدوم من صغير وكبير، وظاهر وباطن في السموات والأرض إلا بمشيئة الله عز وجل سواء كان ذلك من فعله تعالى أم من فعل مخلوقاته. المرتبة الرابعة: الإيمان بخلق الله تعالى وأنه خالق كل شيء من صغير وكبير، وظاهر وباطن، وأن خلقه شامل لأعيان هذه المخلوقات وصفاتها وما يصدر عنها من أقوال، وأفعال، وآثار. ودليل هاتين المرتبتين قوله تعالى: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ* لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (الزمر: 62-63). وقوله: (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (الفرقان: 2). وقوله: (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) (الصافات: 96). ولم يخلق شيئاً إلا بمشيئته؛ لأنه تعالى لا مكره له لكمال ملكه وتمام سلطانه، قال الله تعالى مبيناً أن فعله بمشيئته: (وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27). وقال: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ) (الرعد: 26). وقال مبيناً أن فعل مخلوقاته بمشيئته: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 28-29). وقال: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) (البقرة: 253). والقدر لا ينافي الأسباب القدرية أو الشرعية التي جعلها الله تعالى أسباباً، فإن الأسباب من قدر الله تعالى، وربط المسببات بأسبابها هو مقتضى الحكمة التي هي من أجل صفات الله عز وجل، والتي أثبتها الله لنفسه في مواضع كثيرة من كتابه. فمن الأسباب القدرية قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِه) إلى قوله: (فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الروم: 48-50). ومن الأسباب الشرعية قوله تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة: 15-16). وكل فعل رتب الله عليه عقاباً أو ثواباً فهو من الأسباب الشرعية باعتبار كونه مطلوباً من العبد، ومن الأسباب القدرية باعتبار وقوعه بقضاء الله وقدره. والناس في الأسباب طرفان ووسط: فالطرف الأول: نفاة أنكروا تأثير الأسباب وجعلوها مجرد علامات يحصل الشيء عندها لا بها، حتى قالوا: إن انكسار الزجاجة بالحجر إذا رميتها به حصل عند الإصابة لا بها. وهؤلاء خالفوا السمع، وكابروا الحس، وأنكروا حكمة الله تعالى في ربط المسببات بأسبابها. والطرف الثاني: غلاة أثبتوا تأثير الأسباب، لكنهم غلوا في ذلك وجعلوها مؤثرة بذاتها، وهؤلاء وقعوا في الشرك، حيث أثبتوا موجداً مع الله تعالى وخالفوا السمع والحس. فقد دل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أنه لا خالق إلا الله، كما أننا نعلم بالشاهد المحسوس أن الأسباب قد تتخلف عنها مسبباتها بإذن الله، كما في تخلف إحراق النار لإبراهيم الخليل حين ألقي فيها فقال الله تعالى: (يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 69). فكانت برداً وسلاماً عليه ولم يحترق بها. وأما الوسط: فهم الذين هدوا إلى الحق وتوسطوا بين الفريقين وأخذوا بما مع كل واحد منهما من الحق، فأثبتوا للأسباب تأثيراً في مسبباتها لكن لا بذاتها بل بما أودعه الله تعالى فيها من القوى الموجبة. وهؤلاء هم الطائفة الوسط الذين وفقوا للصواب وجمعوا بين المنقول والمعقول، والمحسوس، وإذا كان القدر لا ينافي الأسباب الكونية والشرعية فهو لا ينافي أن يكون للعبد إرادة وقدرة يكون بهما فعله، فهو مريد قادر فاعل لقوله تعالى: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَة) (آل عمران: 152). وقوله: (وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ) (القلم: 25). وقوله: (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) (النساء: 66). وقوله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا) (فصلت: 46). لكنه غير مستقل بإرادته وقدرته وفعله، كما لا تستقل الأسباب بالتأثير في مسبباتها لقوله تعالى: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (التكوير: 28-29). ولأن إرادته وقدرته وفعله من صفاته وهو مخلوق، فتكون هذه الصفات مخلوقة أيضاً، لأن الصفات تابعة للموصوف، فخالق الأعيان خالق لأوصافها. فإن قال قائل: أفلا يصح على هذا التقرير أن يحتج بالقدر من خالف الشرع؟ فالجواب: أن الاحتجاج بالقدر على مخالفة الشرع لا يصح كما دل على ذلك الكتاب والسنة والنظر. أما الكتاب: فمن أدلته قوله تعالى: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام: 148) فأبطل الله حجتهم هذه بقوله: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) (الأنعام: 148). ومنها قوله: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء: 165). فبين الله تعالى أن الحجة قامت على الناس بإرسال الرسل، ولا حجة لهم على الله بعد ذلك، ولو كان القدر حجة ما انتفت بإرسال الرسل. وأما السنة: فمن أدلتها ما ثبت في الصحيحين(54) عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة". قالوا: يا رسول الله، أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فييسر لعمل أهل الشقاوة. ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى* وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى* وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى* وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) (الليل: 5-10). وأما النظر فمن أدلته: 1- أن تارك الواجب وفاعل المحرم يقدم على ذلك باختياره لا يشعر أن أحداً أكرهه عليه، ولا يعلم أن ذلك مقدر؛ لأن القدر سر مكتوم فلا يعلم أحد أن شيئاً ما قدره الله تعالى إلا بعد وقوعه، فكيف يصح أن يحتج بحجة لا يعلمها قبل إقدامه على ما اعتذر بها عنه؟!! ولماذا لم يقدر أن الله تعالى كتبه من أهل السعادة، فيعمل بعملهم، دون أن يقدر أن الله كتبه من أهل الشقاوة، ويعمل بعملهم؟! 2- أن إقحام النفس في مآثم ترك الواجب وفعل المحرم ظلم لها وعدوان عليها، كما قال الله تعالى عن المكذبين للرسل: (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُم) (هود: 101). ولو أن أحداً ظلم المحتج بالقدر على مخالفته، ثم قال له: ظلمي إياك كان بقدر الله. لم يقبل منه هذه الحجة، فكيف لا يقبل هذه الحجة بظلم غيره له، ثم يحتج بها بظلمه هو لنفسه؟! 3- أن هذا المحتج لو خير في السفر بين بلدين أحدهما: بلد آمن مطمئن فيه أنواع المآكل، والمشارب، والتنعم، والثاني: بلد خائف قلق، فيه أنواع البؤس، والشقاء، لاختار السفر إلى البلد الأول ولا يمكن أن يختار الثاني محتجاً بالقدر، فلماذا يختار الأفضل في مقر الدنيا، ولا يختاره في مقر الآخرة؟! فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ* وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا) (الأنعام: 106-107). فأخبر أن شركهم واقع بمشيئة الله تعالى!. قيل له: الجواب عنه: أن الله تعالى أخبر أن شركهم واقع بمشيئته تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم لا دفاعاً عنهم، وإقامة للعذر لهم، بخلاف احتجاج المشركين على شركهم بمشيئة الله، فإنما قصدوا به دفع اللوم عنهم وإقامة العذر على استمرارهم على الشرك؛ ولهذا أبطل الله احتجاجهم ولم يبطل أن شركهم واقع بمشيئته. فإن قال قائل: ما الجواب عما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "احتج آدم وموسى - وفي لفظ: تحاج آدم وموسى - فقال موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا، وأخرجتنا من الجنة. فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك الله بكلامه وخط لك التوراة بيده أتلومني على أمر قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثاً"(55). وعند أحمد(56): "فحجه آدم". أي غلبه في الحجة؟. قيل له: الجواب من وجهين: أحدهما: أن احتجاج آدم بالقدر كان على المصيبة التي حصلت عليه وهي إخراجه وزوجه من الجنة، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لم يكن ليعتب على آدم في معصية تاب منها إلى الله تعالى فاجتباه ربه وتاب عليه وهدى، فإن هذا بعيد جداً أن يقع من موسى عليه الصلاة والسلام وهو أجل قدراً من أن يلوم أباه ويعتب عليه في هذا، وإنما عنى بذلك المصيبة التي حصلت لآدم وبنيه وهي الإخراج من الجنة الذي قدره الله عليه بسبب المعصية، فاحتج آدم على ذلك بالقدر من باب الاحتجاج بالقدر على المصائب، لا على المعايب فهو كقوله صلى الله عليه وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء الله فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان" رواه مسلم(57). فقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفويض الأمر إلى قدر الله بعد فعل الأسباب التي يحصل بها المطلوب ثم يتخلف. ونظير هذا أن يسافر شخص فيصاب بحادث في سفره فيقال له: لماذا تسافر؟ فيقول: هذا أمر مقدر والمقدر لا مفر منه، فإنه لا يحتج هنا بالقدر على السفر لأنه يعلم أنه لا مكره له وأنه لم يسافر ليصيبه الحادث، وإنما يحتج بالقدر على المصيبة التي ارتبطت به، وهذا هو الوجه الذي اختاره الشيخ المؤلف في هذه العقيدة. الوجه الثاني: أن الاحتجاج بالقدر على ترك الواجب، أو فعل المحرم بعد التوبة جائز مقبول، لأن الأثر المترتب على ذلك قد زال بالتوبة فانمحى به توجه اللوم على المخالفة، فلم يبق إلا محض القدر الذي احتج به لا ليستمر على ترك الواجب، أو فعل المحظور ولكن تفويضاً إلى قدر الله تعالى الذي لابد من وقوعه. وقد أشار إلى هذا ابن القيم في - شفاء العليل(58) - وقال إنه لم يدفع بالقدر حقاً ولا ذكره حجة له على باطل ولا محذور في الاحتجاج به، وأما الموضع الذي يضر الاحتجاج به ففي الحال والمستقبل بأن يرتكب فعلاً محرماً، أو يترك واجباً فيلومه عليه لائم فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيبطل بالاحتجاج به حقاً ويرتكب باطلاً، كما احتج به المصرون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: (لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا) (الأنعام: 148). (لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ ) (الزخرف: 20). فاحتجوا به مصوبين لما هم عليه وأنهم لم يندموا على فعله ولم يعزموا على تركه ولم يقروا بفساده، فهذا ضد احتجاج من تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود. ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صح الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعاً فالاحتجاج بالقدر باطل، ثم ذكر حديث علي رضي الله عنه حين طرقه النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة ليلاً فقال: "ألا تصليان". الحديث. وأجاب عنه بأن احتجاج علي صحيح (ولذلك لم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم) وصاحبه يعذر فيه؛ فالنائم غير مفرط، واحتجاج غير المفرط بالقدر صحيح.

                تعليق


                • #23
                  رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                  في ضرورة الإيمان بالقدر والشرع

                  لابد للإنسان من الإيمان بالقدر لأنه أحد أركان الإيمان الستة، ولأنه من تمام توحيد الربوبية، ولأن به تحقيق التوكل على الله تعالى وتفويض الأمر إليه مع القيام بالأسباب الصحيحة النافعة، ولأن به اطمئنان الإنسان في حياته حيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ولأن به ينتفي الإعجاب بالنفس عند حصول المراد، لأنه يعلم أن حصوله بقدر الله، وأن عمله الذي حصل به مراده ليس إلا مجرد سبب يسره الله له، ولأن به يزول القلق والضجر عند فوات المراد أو حصول المكروه، لأنه يعلم أن الأمر كله لله فيرضى ويسلم. وإلى هذين الأمرين يشير قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد:22-23). ولابد للإنسان أيضاً من الإيمان بالشرع وهو ما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام من أمر الله ونهيه، وما يترتب عليهما من الجزاء ثواباً أو عقاباً، فيقوم بما يلزمه نحو الأمر والنهي، ويؤمن بما يترتب عليهما من الجزاء. وذلك لأن الإنسان مريد فلابد له من فعل يدرك به ما يريد، ويدفع به ما لا يريد، ولابد له من ضابط يضبط تصرفه لئلا يقع فيما يضره، أو يفوته ما ينفعه من حيث لا يشعر، والشرع الإلهي الذي جاءت به الرسل هو الذي يضبط ذلك، ويصدر الحكم به، ويكون به التمييز بين النافع والضار، والصالح والفاسد، لأنه من عند الله العليم، الرحيم، الحكيم. والعقول وإن كانت تدرك النافع والضار في الجملة، لكن تفصيل ذلك والإحاطة به إحاطة تامة إنما يكون من جهة الشرع. ولهذا نقول: النفع أو الضرر قد يكون معلوماً بالفطرة، وقد يكون معلوماً بالعقل، وقد يكون معلوماً بالتجارب، وقد يكون معلوماً بالشرع. فالشرع يأتي مؤيداً لما شهدت به الفطرة والعقل والتجارب، وهذه تأتي شاهدة لما جاء به الشرع. وفي هذا المقام اختلف الناس في الأعمال هل يعرف حسنها وقبحها بالشرع أو بالعقل؟ والتحقيق: أن ذلك يعرف تارة بالشرع، وتارة بالعقل، وتارة بهما، لكن علم ذلك على وجه الشمول والتفصيل وعلم غايات الأعمال في الآخرة من سعادة، وشقاء ونحو ذلك لا يعلم إلا بالشرع.



                  إذا تبين أنه لابد للإنسان من الإيمان بالقدر والإيمان بالشرع، فاعلم أن الناس انقسموا في ذلك إلى قسمين:
                  القسم الأول: أهل الهدى والفلاح الذين آمنوا بقضاء الله وقدره على ما سبق بيانه من المراتب الأربع، وآمنوا أيضاً بشرعه فقاموا بأمره ونهيه وآمنوا بما ترتب على ذلك من جزاء، ولم يحتجوا بقدره على شرعه، أو بشرعه على قدره، ولم يجعلوا ذلك تناقضاً من الخالق، وهؤلاء هم أهل الحق الذين حققوا مقام (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5) المؤمنين بمقتضى قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (الأعراف: 54). القسم الثاني: أهل الضلال والهلاك المخالفون للجماعة، وهم ثلاث فرق: مجوسية، ومشركية، وإبليسية. فالمجوسية هم: القدرية الذين آمنوا بشرع الله، وكذبوا بقدره، فغلاتهم أنكروا عموم علم الله تعالى وقالوا: إن الله تعالى لم يقدر أعمال العباد ولا علم له بها قبل وقوعها، ومقتصدوهم آمنوا بعلم الله بها قبل وقوعها، وأنكروا أن تكون واقعة بقدر الله تعالى وأن تكون مخلوقة له. وهؤلاء هم المعتزلة ومن وافقهم. ومذهبهم باطل بما سبق في أدلة مراتب القدر. والمشركية هم: الذين أقروا بقدر الله واحتجوا به على شرعه كما قال الله تعالى عنهم: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا) (الأنعام: 148). والإبليسية هم: الذين أقروا بالأمرين بالقدر وبالشرع لكن جعلوا ذلك تناقضاً من الله عز وجل، وطعنوا في حكمته تعالى، وقالوا: كيف يأمر العباد وينهاهم، وقد قدر عليهم ما قدر قد يكون مخالفاً لما أمرهم به ونهاهم عنه؟ فهل هذا إلا التناقض المحض والتصرف المنافي للحكمة؟ وهؤلاء أتباع إبليس فقد احتج على الله عز وجل حين أمره أن يسجد لآدم فقال إبليس: ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف: 12). والرد على هاتين الفرقتين معلوم من الرد على المحتجين بالقدر على معصية الله تعالى.

                  تعليق


                  • #24
                    رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                    وأما الشرع فهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله تعالى التي من أجلها خلق الله الجن والإنس لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذريات: 56). وذلك هو الإسلام الذي لا يقبل الله مـن أحد ديناً سـواه لقولـه تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران: 85). فالإسلام هو الاستسلام لله وحده بالطاعة فعلاً للمأمور وتركاً للمحظور في كل زمان ومكان كانت الشريعة فيه قائمة، وهذا هو الإسلام بالمعنى العام. وعلى هذا يكون أصحاب الملل السابقة مسلمين حين كانت شرائعهم قائمة لم تنسخ كما قال الله تعالى عن نوح وهو يخاطب قومه: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (يونس: 72). وقال عن إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلا نَصْرَانِيّاً وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (آل عمران: 67). وقال أيضاً: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ* وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (البقرة: 131-132). وقال عن موسى في مخاطبته قومه: (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) (يونس: 84). وقال عن التوراة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) (المائدة: 44). وقال عن الحواريين أتباع عيسى: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (المائدة: 111). وقال عن ملكة سبأ: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (النمل: 44). وأما الإسلام بالمعنى الخاص فيختص بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162 - 163). وقال في أمته: (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) (الحج: 78). فلا إسلام بعد بعثته إلا باتباعه، لأن دينه مهيمن على الأديان كلها ظاهر عليها، وشريعته ناسخة للشرائع السابقة كلها، قال الله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (آل عمران:81). والذي جاء مصدقاً لما مع الرسل قبله هو محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة: 48). وقال تعالى: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) (التوبة: 33). وهذا يعم الظهور قدراً وشرعاً. فمن بلغته رسالة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يؤمن به ويتبعه لم يكن مؤمناً ولا مسلماً بل هو كافر من أهل النار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة - يعني أمة الدعوة - يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه(59). وبهذا يعلم أن النزاع فيمن سبق من الأمم هل هم مسلمون أو غير مسلمين؟ نزاع لفظي، وذلك لأن الإسلام بالمعنى العام يتناول كل شريعة قائمة بعث الله بها نبياً فيشمل إسلام كل أمة متبعة لنبي من الأنبياء ما دامت شريعته قائمة غير منسوخة بالاتفاق كما دلت على ذلك النصوص السابقة، وأما بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم فإن الإسلام يختص بما جاء به، فمن لم يؤمن به ويتبعه فليس بمسلم. ومن زعم أن مع دين محمد صلى الله عليه وسلم ديناً سواه قائماً مقبولاً عند الله تعالى من دين اليهود، أو النصارى، أو غيرهما فهو مكذب؛ لقول الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإٌِسْلامُ ) (آل عمران: 19) وقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85). وإذا كان الإسلام اتباع الشريعة القائمة؛ فإنه إذا نسخ شيء منها لم يكن المنسوخ ديناً بعد نسخه ولا اتباعه إسلاماً. فاستقبال بيت المقدس - مثلاً - كان ديناً وإسلاماً قبل نسخه، ولم يكن ديناً ولا إسلاماً بعده. وزيارة القبور لم تكن ديناً ولا إسلاماً حين النهي عنها، وكانت ديناً وإسلاماً بعد الأمر بها.




                    مبنى الإسلام على توحيد الله عز وجل، قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (الأنبياء: 108). ولابد في التوحيد من الجمع بين النفي والإثبات، لأن النفي وحده تعطيل، والإثبات وحده لا يمنع المشاركة، فلا توحيد إلا بنفي وإثبات.
                    وقد قسمه العلماء - بالتتبع والاستقراء - إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: توحيد الربوبية. القسم الثاني: توحيد الألوهية. القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات. وقد جمع الله هذه الأقسام في قوله تعالى: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) (مريم: 65). فأما توحيد الربوبية: فهو إفراد لله تعالى بالخلق، والملك، والتدبير. ومن أدلته قوله تعالى: (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف: 54). وقوله: (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) (آل عمران: 189). وقوله: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ* وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَه) (سـبأ: 22-23). وهذا قد أقر به المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (الزخرف: 87). (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (لقمان: 25). وقال تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ) (يونس: 31). وقال تعالى: (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ* سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) إلى قوله: (بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (المؤمنون: 84-90). ولم يكن أحد من هؤلاء المشركين ولا غيرهم ممن يقر بالخالق يعتقد أن أحداً من الخلق شارك الله تعالى في خلق السموات والأرض أو غيرهما، ولا أن للعالم صانعين متكافئين في الصفات والأفعال، ولم ينقل أرباب المقالات الذين جمعوا ما قيل في الملل والنحل والآراء والديانات عن أحد من الناس أنه قال بذلك. وغاية ما نقلوا قول الثنوية القائلين بالأصلين: النور، والظلمة، وأن النور خلق الخير، والظلمة خلقت الشر، لكنهم لا يقولون بتساويهما وتكافئهما، فالنور مضيء موافق للفطرة، بخلاف الظلمة. والنور قديم، ولهم في الظلمة قولان: أحدهما: أنها محدثة مخلوقة للنور، فيكون النور أكمل منها. الثاني: أنها قديمة لكنها لا تخلق إلا الشر. فصارت الظلمة ناقصة عن النور في مفعولاتها، كما أنها ناقصة عنه في وجودها وصفاتها. وأما قول فرعون لقومه حين جمعهم فنادى: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) (النازعـات: 24). وقوله: (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) (القصص: 38). فمكابرة لم يصدر عن عقيدة، بل كان يعتقد في قرارة نفسه أن الله هو رب السموات والأرض، ولهذا لم يكذب موسى حين قال له: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) (الإسراء: 102). واقرأ قوله تعالى عن فرعون وقومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) (النمل: 14). وأما قول من قال من الناس: إن بعض الحوادث مخلوقة لغير الله كالقدرية الذين يقولون إن العباد خلقوا أفعالهم، فإنهم يقرون بأن العباد مخلوقون والله تعالى هو خالقهم وخالق قدرتهم. وكذلك أهل الفلسفة والطبع والنجوم الذين يجعلون بعض المخلوقات مبدعة لبعض الأمور يعتقدون أن هذه الفاعلات مخلوقة حادثة. وبهذا يتقرر أنه لم يكن أحد من الناس يدعي أن للعالم صانعين متكافئين.

                    تعليق


                    • #25
                      رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                      وأما توحيد الألوهية فهو: إفراد الله تعالى بالعبادة بأن يعبد وحده ولا يعبد غيره من ملك، أو رسول، أو نبي، أو ولي، أو شجر، أو حجر، أو شمس، أو قمر، أو غير ذلك كائناً من كان. ومن أدلته قوله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (النساء: 36). وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25). وقوله: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) (البقرة: 163). وقوله: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران: 18). وهذا النوع قد أنكره المشركون الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى عنهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أئِنا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات: 35-36). وقال تعالى: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (ص: 4-6). ومن أجل إنكارهم إياه قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم واستباح دماءهم وأموالهم وسبي نسائهم وذرياتهم بإذن الله تعالى وأمره، ولم يكن إقرارهم بتوحيد الربوبية مخرجاً لهم عن الشرك، ولا عاصماً لدمائهم وأموالهم. وتحقيق هذا النوع أن يعبد الله وحده لا شريك له بشرعه الذي جاءت به رسله كما قال الله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (الكهف: 110). فمن لم يعبد الله تعالى فهو مستكبر غير موحد، ومن عبده وعبد غيره فهو مشرك غير موحد، ومن عبده بما لم يشرعه فهو مبتدع ناقص التوحيد حيث جعل لله تعالى شريكاً في التشريع. والعبادة تطلق على معنيين: أحدهما: التعبد، وهو فعل العابد فتكون بمعنى التذلل للمعبود حباً وتعظيماً. وهذان - أعني الحب والتعظيم - أساس العبادة؛ فبالحب يكون طلب الوصول إلى مرضاة المعبود بفعل ما أمر به، وبالتعظيم يكون الهرب من أسباب غضبه بترك ما نهى عنه. الثاني: المتعبد به، فتكون اسماً جامعاً لكل ما يتعبد به لله تعالى كالطهارة، والصلاة، والصدقة، والصوم، والحج، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، وغير ذلك من أنواع العبادة. وللعبادة شرطان: أحدهما: الإخلاص لله عز وجل بألا يريد بها سوى وجه الله والوصول إلى دار كرامته، وهذا من تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله. الثاني: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألا يتعبد لله تعالى بغير ما شرعه، وهذا من تحقيق شهادة أن محمداً رسول الله. فالمشرك في العبادة لا تقبل عبادته، ولا تصح لفقد الشرط الأول. والمبتدع فيها لا تقبل ولا تصح لفقد الشرط الثاني. وقد دل على هذين الشرطين كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فمن أدلة اشتراط الإخلاص من كتاب الله: قوله تعالى: (فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ* أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِص) (الزمر: 2-3). وقوله: (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) (البينة: 5). وقوله: (وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 88). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتنوعة الدلالة. ومن أدلته من السنة: ما أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يا أيها الناس، إنما الأعمال بالنية وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه". هذا أحد ألفاظ البخاري(60). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"(61). ومن أدلة اشتراط المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كتاب الله تعالى: قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: 153)وقوله: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران:85). وقوله في وصف النبي صلى الله عليه وسلم: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 157). إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة المتنوعة الدلالة. ومن أدلته من السنة: ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد"(62). أي مردود، وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا خطب الناس يوم الجمعة: "أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"(63). وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". رواه أحمد وأبو داود(64). ولا تتحقق المتابعة إلا بموافقة العبادة للشرع في سببها، وجنسها، وقدرها، وكيفيتها، وزمانها، ومكانها. والعبادة أنواع كثيرة: فمنها الصلاة والذبح، لقوله تعالى: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر: 2). وقوله: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) (الأنعام: 162 - 163). فمن صلى لغير الله فهو مشرك، ومن ذبح لغير الله تقرباً وتعظيماً فهو مشرك. ومنها التوكل لقوله تعالى: (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (المائدة: 23). وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود: 123). ولهذا لما كان التوكل خاصاً به كان وحده هو الحسب كما قال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ) (الطلاق: 3). فأما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الأنفال: 64). فمعناه أن الله هو حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين فقوله: (وَمَنِ اتَّبَعَكَ) معطوف على الكاف في قوله: (حَسْبُكَ) وليس معطوفاً على (اللَّهُ) كما ظنه بعض الغالطين، فإن هذا يفسد به المعنى إذ يكون المعنى على هذا التقدير: أن الله والمؤمنين حسب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا باطل، فإن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أعلى وأقوى من مقام من اتبعه، فكيف يكون الأدنى حسباً للأعلى والأقوى. ومنها الخشية والخوف تعبداً وتقرباً لقوله تعالى: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175). وقوله: (فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْن) (المائدة: 44). وقوله: (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (النحل: 51). فجعل الرهبة له وحده كما جعل العبادة له وحده في قوله: (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) (العنكبوت: 56). ومنها التقوى تعبداً وتقرباً لقوله تعالى: (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) (البقرة: 41). وقوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) (النحل: 52). وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب: 70-71).



                      وأما توحيد الأسماء والصفات فهو إفراد الله تعالى بأسمائه وصفاته وذلك بإثبات ما أثبته الله لنفسه من الأسماء والصفات في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل.
                      فلا يجوز نفي شيء مما سمى الله به نفسه، أو وصف به نفسه لقوله تعالى: : (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأعراف:180). ولأن ذلك تعطيل يستلزم تحريف النصوص أو تكذيبها مع وصف الله تعالى بالنقائص والعيوب. ولا يجوز تسمية الله تعالى أو وصفه بما لم يأت في الكتاب والسنة؛ لأن ذلك قول على الله تعالى بلا علم وقد قال الله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33). وقال: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء:36). ولا يجوز إثبات اسم أو صفة لله تعالى مع التمثيل لقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى:11). وقوله: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل:74). ولأن ذلك إشراك بالله تعالى يستلزم تحريف النصوص أو تكذيبها مع تنقص الله تعالى بتمثيله بالمخلوق الناقص. ولا يجوز إثبات اسم أو صفة لله تعالى مع التكييف؛ لأن ذلك قول على الله تعالى بلا علم، يستلزم الفوضى والتخبط في صفات الله تعالى إذ كل واحد يتخيل كيفية معينة غير ما تخيله الآخر، ولأن ذلك محاولة لإدراك مالا يمكن إدراكه بالعقول، فإنك مهما قدرت من كيفية فالله أعلى وأعظم. وهذا النوع من التوحيد هو الذي كثر فيه الخوض بين أهل القبلة فانقسموا في النصوص الواردة فيه إلى ستة أقسام: القسم الأول: من أجروها على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، وهؤلاء هم السلف، وهذا هو الصواب المقطوع به لدلالة الكتاب، والسنة، والعقل، والإجماع السابق عليه دلالة قطعية أو ظنية. القسم الثاني: من أجروها على ظاهرها لكن جعلوها من جنس صفات المخلوقين. وهؤلاء هم الممثلة، ومذهبهم باطل بالكتاب، والسنة والعقل، وإنكار السلف. القسم الثالث: من أجروها على خلاف ظاهرها، وعينوا لها معاني بعقولهم، وحرفوا من أجلها النصوص. وهؤلاء هم أهل التعطيل فمنهم من عطل تعطيلاً كبيراً كالجهمية والمعتزلة ونحوهم، ومنهم من عطل دون ذلك كالأشاعرة. القسم الرابع: من قالوا: الله أعلم بما أراد بها، فوضوا علم معانيها إلى الله وحده. وهؤلاء هم أهل التجهيل المفوضة، وتناقض بعضهم فقال: الله أعلم بما أراد، لكنه لم يرد إثبات صفة خارجية له تعالى. القسم الخامس: من قالوا: يجوز أن يكون المراد بهذه النصوص إثبات صفة تليق بالله تعالى وأن لا يكون المراد ذلك. وهؤلاء كثير من الفقهاء وغيرهم. القسم السادس: من أعرضوا بقلوبهم وأمسكوا بألسنتهم عن هذا كله واقتصروا على قراءة النصوص ولم يقولوا فيها بشيء(65). وهذه الأقسام سوى الأولى باطلة كما قد تبين في غير هذا الموضع.

                      تعليق


                      • #26
                        رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                        وبهذا التقرير عن أقسام التوحيد يتبين غلط عامة المتكلمين في مسمى التوحيد حيث جعلوه ثلاثة أنواع: الأول: أن الله واحد في ذاته لا قسيم له، أو لا جزء له، أو لا بعض له. الثاني: أنه واحد في صفاته لا شبيه له. الثالث: أنه واحد في أفعاله لا شريك له. وبيان غلطهم من وجوه: أحدها: أنهم لم يدخلوا فيه توحيد الألوهية، وهو أن الله تعالى واحد في ألوهيته لا شريك له فيفرد وحده بالعبادة، مع أن هذا النوع من التوحيد هو الذي من أجله خلق الجن والإنس لقوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) (الذريات: 56). ومن أجله أرسلت الرسل وأنزلت الكتب لقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 25). وقوله: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) (النحل: 36). وقد قام الرسل عليهم الصلاة والسلام بذلك يدعون قومهم (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) (المؤمنون: 32). أي ما لكم من معبود حق غير الله، فجميع الآلهة سواه باطلة كما قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (لقمان: 30) ومن أجله قامت المعارك الكلامية والقتالية بين الرسل وأقوامهم المكذبين لهم كما قال الله تعالى عن قوم نوح: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (هود: 32). وقال عن قوم هود: (قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) (هود: 53-55). وقال في إبراهيم وقومه: (قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ* قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ* قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ) (الأنبياء: 66-69). وقال عن المكذبين لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) (الأنبياء:36) وقال: (وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ* أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ* وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ) (ص: 4-6). وقال في أعدائه: (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ) (الممتحنة: 2). والمهم أن هذا التوحيد الذي هذا شأنه قد أغفله عامة المتكلمين الذين يتكلمون في أنواع التوحيد، وهو أحد وجوه غلطهم في مسمى التوحيد. الوجه الثاني: قولهم: "إن الله واحد في ذاته لا قسيم له..." إلخ فيه إجمال: فإن أرادوا به أن الله تعالى لا يتجزأ ولا يتفرق ولا يكون مركباً من أجزاء فهذا حق، فإن الله تعالى أحد صمد، لم يلد ولم يكن له كفواً أحد. وإن أرادوا به مع ذلك نفي ما وصف به نفسه كعلوه واستوائه على عرشه، ووجهه، ويديه ونحو ذلك - وهذا مرادهم - فهو باطل، لأن الله تعالى قد أثبت لنفسه من صفات الكمال من هذا وغيره ما هو أهل له. وتوحيده فيها إثباتها له على الوجه اللائق به بدون تمثيل لا أن تنفى عنه بنوع من التحريف والتعطيل. الوجه الثالث: قولهم: "واحد في صفاته لا شبيه له" فيه إجمال: فإن أرادوا به إثبات صفات الله تعالى على الوجه اللائق به من غير أن يماثله أحد فيما يختص به فهذا حق، وهو مذهب السلف لكن عامة المتكلمين لا يريدون ذلك. وإن أرادوا به نفي أن يكون شيء من المخلوقات مماثلاً له من كل وجه، فهذا لغو لا حاجة إليه فهو كقول القائل: السماء فوقنا والأرض تحتنا، لأن مماثلة الخالق للمخلوق من كل وجه معلوم الانتفاء، بل الامتناع بضرورة العقل، والسمع، وإجماع العقلاء؛ ولهذا لم يثبت أحد من الأمم أحداً مماثلاً لله تعالى من كل وجه، وغاية من شبه به شيئاً أن يشبهه به في بعض الأمور. وإن أرادوا به نفي أن يكون بين صفات الخالق والمخلوق قدر مشترك مع تميز كل منهما بما يختص به - وهذا مرادهم - فهو باطل، لأنه قد علم بضرورة العقل أن كل موجودين قائمين بأنفسهما لابد من قدر مشترك بينهما مع تميز كل واحد منهما بما يختص به، كاتفاقهما في مسمى الوجود والذات والقيام بالنفس ونحو ذلك، ونفي هذا القدر تعطيل محض. والقول بهذا المراد لا يمنع نفي ما يجب لله تعالى من صفات الكمال عند من يرى أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، فقد سبق أن أهل التعطيل من الجهمية والمعتزلة وغيرهم أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد وقالوا: من أثبت لله علماً أو قدرة ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الفلاسفة والقرامطة فأدخلوا فيه نفي الأسماء وقالوا: من قال إن الله عليم قدير ونحو ذلك فهو مشبه غير موحد، وزاد عليهم غلاة الغلاة فقالوا: إن الله لا يوصف بما يتضمن إثباتاً أو نفياً، فمن نفى عنه صفة، أو أثبت له صفة فهو مشبه غير موحد. وقد سبق الرد على هؤلاء الطوائف في أول الرسالة ولله الحمد. الوجه الرابع: قولهم: "واحد في أفعاله لا شريك له" وهذا أشهر أنواع التوحيد عندهم، ويعنون به أن خالق العالم واحد، ويظنون أن هذا هو التوحيد المطلوب وأن هذا معنى "لا إله إلا الله" فيجعلون معناها: لا قادر على الاختراع إلا الله. ومعلوم أن هذا خطأ من وجهين: الأول: أن هذا الذي قرروه قد أقر به المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم لم يجعلوا لله شريكاً في أفعاله كما قال تعالى: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (العنكبوت: 61). (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) (الزخرف: 87). ومع هذا لم يكونوا موحدين بل هم مشركون بدلالة الكتاب والسنة والإجماع المعلوم بالضرورة من دين الإسلام لكونهم أنكروا توحيد الألوهية وقالوا: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص: 5) ولهذا قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم مستبيحاً دماءهم وأموالهم، وسبى ذراريهم ونساءهم. الثاني: أن تفسيرهم "لا إله إلا الله" بهذا التفسير الذي ذكروه أي أنه لا قادر على الاختراع إلا الله، يقتضي أن من أقر بأن الله وحده هو القادر على الاختراع دون غيره فقد شهد أن لا إله إلا الله وعصم دمه وماله. ومعلوم أن تفسيرها بهذا المعنى باطل مخالف لما عرفه المسلمون منها فإن تفسيرها الصحيح: أن لا معبود حق إلا الله، هذا هو الذي يعرفه المسلمون من معناها، بل والمشركون، ألا ترى إلى قول الله تعالى فيهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ* وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات: 35-36). وكانوا لا يستكبرون عن الإقرار بقلوبهم وألسنتهم بأن الله هو الخالق وحده، ولا يدعون أن آلهتهم تخلق شيئاً، فتبين بذلك أن المشركين أعلم وأفقه بمعنى لا إله إلا الله من هؤلاء المتكلمين، وأن غاية ما يقرره هؤلاء المتكلمون من التوحيد توحيد الربوبية الذي لا يخلص الإنسان من الشرك، ولا يعصم به دمه وماله، ولا يسلم به من الخلود في النار. وقد سلك هذا المسلك طوائف من أهل التصوف المنتسبين إلى المعرفة والتحقيق والتوحيد، فكان غاية ما عندهم من التوحيد أن يشهد المرء أن الله رب كل شيء، ومليكه، وخالقه لاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل. ومعلوم أن هذه الغاية هي ما أقر به المشركون من التوحيد، وهي غاية لا يكون بها الرجل مسلماً، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله تعالى وسادة خلقه.

                        تعليق


                        • #27
                          رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله


                          (22) المحايث: المداخل. راجع مجموع الفتاوى لابن القاسم (5/269). (23) علق فضيلة الشيخ المؤلف هنا بقوله: محمود بن سبكتكين أحد كبار القادة، يمين الدولة وأمين الملة، استولى على الإمارة سنة 389هـ وأرسل إليه القادر بالله الخليفة العباسي خلعة السلطنة فقصد بلاد خراسان وامتدت سلطنته من أقاصي الهند إلى نيسابور، كان تركي الأصل فصيحاً بليغاً حازماً صائب الرأي شجاعاً مجاهداً، فتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة لم تتفق لغيره من الملوك لا قبله ولا بعده، ومع ذلك كان في غاية الديانة والصيانة يكره المعاصي والملاهي وأهلها، ويحب العلماء والصالحين ويجالسهم ويناظرهم، مات في غزنة سنة 421 - 422هـ عن ثلاث وستين سنة، تولى الإمارة فيها ثلاثاً وثلاثين سنة رحمه الله وأكرم مثواه. (24) هو أبو بكر بن فورك المتكلم المعروف. (25) انظر الرد على الطائفة الرابعة غلاة الغلاة ص(35). (26) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة رقم (537). (27) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رقم (4812) ومسلم، كتاب صفة القيامة رقم (2787). (29) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض رقم (2569). (30) أخرجه ابن عدي في الكامل 1/336 وابن الجوزي في العلل المتناهية 2/84-85 والعلجوني في كشف الخفاء (1109) والحديث منكر كما قال الألباني في السلسلة الضعيفة (223) (31) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب الصدقة من كسب طيب رقم (1410) ومسلم، كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب رقم (1014). (32) رواه مسلم، كتاب القدر، باب تصريف الله القلوب كيف يشاء رقم (2654). (33) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِه) رقم (4811) ومسلم، كتاب صفة القيامة رقم (2786). (34) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب خيركم من تعلم القرآن رقم (5027). (35) "وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم" (36) "إنه لقرآن كريم" (37) "ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم" (38) "بل هو قرآن مجيد" (39) "حم*والكتاب المبين*إنا جعناه قرآن عربيا لعلكم تعقلون" (40) رواه أحمد (1/266، 314) والحاكم (3/534) وصححه، وابن حبان في صحيحه رقم (7015) وروى البخاري، كتاب الوضوء، باب وضع الماء عند الخلاء رقم (143) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة رقم (2477) أوله فقط. (41) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب التسبيح والدعاء في السجود رقم (817) ومسلم، كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود رقم (484). (42) توهم ما لا يليق بالله عز وجل. (43) توهم ما لا يليق بالقرآن. (44) توهم ما لا يليق برسول الله صلى الله عليه وسلم. (45) في معنى هذه الآية أقوال: أظهرها أنه إن كان للرحمن ولد - على سبيل الفرض الممتنع - فإن ذلك لن يحملني على عبادة ذلك الولد، بل سأكون أول العابدين لله، ولن أعبد الولد، وذلك لأن المعبود لم يذكر فيها، فنصرف المعنى إلى من لا تصح العبادة إلا له وهو الله تعالى. (46) سبق تخريجه . (47) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر إذا كانوا جماعة رقم (631). (48) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد رقم (472) ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى رقم (749). (49) سبق الكلام على الأصل الأول "الصفات" ص15. (50) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام رقم (8) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان رقم (50) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. (51) رواه مسلم كتاب القدر باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام رقم (2653) (52) رواه البخاري كتاب التوحيد باب وكان عرشه على الماء رقم (7418) (53) رواه أحمد (5/317) وأبو داوود كتاب السنة باب في القدر (4700) والترمذي كتاب القدر (2155) (54) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب موعظة المحدث عند القبر رقم (1362) ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه رقم (2647). (55) رواه البخاري، كتاب القدر، باب تحاج آدم وموسى عند الله رقم (6614) ومسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم موسى عليهما السلام رقم (2652). (56) رواه أحمد في مسنده (2/268). (57) رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز رقم (2664). (58) شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل ص(32، 33). (59) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس رقم (153). (60) رواه البخاري، كتاب الحيل، باب في ترك الحيل رقم (6953) ومسلم، كتاب الجهاد، باب قوله صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنية" رقم (1907). (61) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله رقم (2985). (62) رواه البخاري، كتاب الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، رقم (2697) ومسلم، كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة رقم (1718). (63) رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة رقم (867). (64) سبق تخريجه . (65) ذكر هذه الأقسام في الفتوى الحموية ص(156 - 162).

                          يتبع...

                          تعليق


                          • #28
                            رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                            في الفناء وأقسامه

                            الفناء لغة: الزوال. قال الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 26-27). وفي الاصطلاح ثلاثة أقسام: الأول: ديني شرعي وهو الفناء عن إرادة السوى، أي عن إرادة ما سوى الله عز وجل بحيث يفنى بالإخلاص لله عن الشرك، وبشريعته عن البدعة، وبطاعته عن معصيته، وبالتوكل عليه عن التعلق بغيره، وبمراد ربه عن مراد نفسه إلى غير ذلك مما يشتغل به من مرضاة الله عما سواه. وحقيقته: انشغال العبد بما يقربه إلى الله عز وجل عما لا يقربه إليه وإن سمي فناء في اصطلاحهم. وهذا فناء شرعي به جاءت الرسل، ونزلت الكتب، وبه قيام الدين والدنيا، وصلاح الآخرة والدنيا، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (الإسراء: 19). وقال: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97). وقال: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً ويدرؤون بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 22). وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (المنافقون: 9). وهذا هو الذوق الإيماني الحقيقي الذي لا يعادله ذوق، ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار"(66). وفي صحيح مسلم عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً"(67). القسم الثاني: صوفي بدعي وهو: الفناء عن شهود السوى، أي عن شهود ما سوى الله تعالى، وذلك أنه بما ورد على قلبه من التعلق بالله عز وجل وضعفه عن تحمل هذا الوارد ومقاومته غاب عن قلبه كل ما سوى الله عز وجل، ففني بهذه الغيبوبة عن شهود ما سواه، ففني بالمعبود عن العبادة وبالمذكور عن الذكر، حتى صار لا يدري أهو في عبادة وذكر أم لا، لأنه غائب عن ذلك بالمعبود والمذكور لقوة سيطرة الوارد على قلبه. وهذا فناء يحصل لبعض أرباب السلوك، وهو فناء ناقص من وجوه: الأول: أنه دليل على ضعف قلب الفاني، وأنه لم يستطع الجمع بين شهود المعبود والعبادة، والآمر والمأمور به، واعتقد أنه إذا شاهد العبادة والأمر اشتغل به عن المعبود والآمر، بل إذا ذكر العبادة والذكر كان ذلك اشتغالاً عن المعبود والمذكور. الثاني: أنه يصل بصاحبه إلى حال تشبه حال المجانين والسكارى، حتى إنه ليصدر عنه من الشطحات القولية والفعلية المخالفة للشرع ما يعلم هو وغيره غلطه فيها كقول بعضهم في هذه الحال: "سبحاني.. سبحاني أنا الله. ما في الجبة إلا الله، أنصب خيمتي على جهنم" ونحو ذلك من الهذيان والشطح. الثالث: أن هذا الفناء لم يقع من المخلصين الكمل من عباد الله؛ فلم يحصل للرسل ولا للأنبياء ولا للصديقين والشهداء، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ليلة المعراج من آيات الله اليقينية ما لم يقع لأحد من البشر وفي هذه الحال كان صلى الله عليه وسلم على غاية من الثبات في قواه الظاهرة والباطنة كما قال الله تعالى عن قواه الظاهرة: (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) (النجم: 17) وقال عن قواه الباطنة: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) (لنجم: 11). وهاهم الخلفاء الراشدون أبوبكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم أفضل البشر بعد الأنبياء، وسادات أوليائهم، لم يقع لهم مثل هذا الفناء، وهاهم سائر الصحابة مع علو مقامهم وكمال أحوالهم لم يقع لهم مثل هذا الفناء. وإنما حدث هذا في عصر التابعين، فوقع منه من بعض العباد والنساك ما وقع، فكان منهم من يصرخ، ومنهم من يصعق، ومنهم من يموت، وعرف هذا كثيراً في بعض مشايخ الصوفية. ومن جعل هذا نهاية السالكين فقد ضل ضلالاً مبيناً، ومن جعله من لوازم السير إلى الله فقد أخطأ. وحقيقته: أنه من العوارض التي تعرض لبعض السالكين لقوة الوارد على قلوبهم وضعفها عن مقاومته، وعن الجمع بين شهود العبادة والمعبود ونحو ذلك. القسم الثالث: فناء إلحادي كفري وهو: الفناء عن وجود السوى. أي: عن وجود ما سوى الله عز وجل بحيث يرى أن الخالق عين المخلوق، وأن الموجود عين الموجد، وليس ثمة رب ومربوب، وخالق ومخلوق، وعابد ومعبود، وآمر ومأمور، بل الكل شيء واحد وعين واحدة. وهذا فناء أهل الإلحاد القائلين بوحدة الوجود كابن عربي، والتلمساني وابن سبعين، والقونوي ونحوهم.. وهؤلاء أكفر من النصارى من وجهين: أحدهما: أن هؤلاء جعلوا الرب الخالق عين المربوب المخلوق، وأولئك النصارى جعلوا الرب متحداً بعبده الذي اصطفاه بعد أن كانا غير متحدين. الثاني: أن هؤلاء جعلوا اتحاد الرب سارياً في كل شيء في الكلاب والخنازير، والأقذار، والأوساخ، وأولئك النصارى خصوه بمن عظموه كالمسيح(68). وتصور هذا القول كاف في رده، إذ مقتضاه: أن الرب والعبد شيء واحد، والآكل والمأكول شيء واحد، والناكح والمنكوح شيء واحد، والخصم والقاضي شيء واحد، والمشهود له وعليه والشاهد شيء واحد، وهذا غاية ما يكون من السفه والضلال. قال الشيخ رحمه الله: ويذكر عن بعضهم أنه كان يأتي ابنه ويدعي أنه الله رب العالمين(69) فقبح الله طائفة يكون إلهها الذي تعبده هو موطؤها الذي تفترشه وقال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية عن هذه الطائفة: فالقوم ما صانوه عن إنس ولا جن ولا شجر ولا حيوان لكنه المطعوم والملبوس والمشموم والمسموع بالآذان وكذاك قالوا إنه المنكوح والمذبوح بل عين الغوي الزاني إلى أن قال : هذا هو المعبود عندهم فقل سبحانك اللهم ذا السبحان يا أمة معبودها موطوؤها أين الإله وثغرة الطعان يا أمة قد صار من كفرانها جزءاً يسيراً جملة الكفران



                            تعليق


                            • #29
                              رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                              ولا يتم الإسلام إلا بالبراءة مما سواه كما قال الله تعالى عن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ* وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف: 26-28). وبين أن لنا فيه أسوة حسنة فقال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) (الممتحنة: 4). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (الممتحنة: 1). وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ* فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة:51-52). وقال تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (المجادلة: 22). والبراءة نوعان: الأول: براءة من عمل. الثاني: براءة من عامل. فأما البراءة من العمل: فتجب من كل عمل محرم سواء كان كفراً أم دونه، فيبرأ المؤمن من الشرك، والزنى، وشرب الخمر ونحو ذلك بحيث لا يرضاه ولا يقره، ولا يعمل به، لأن الرضا بذلك، أو إقراره، أو العمل به مضادة لله تعالى ورضا بما لا يرضاه. وأما البراءة من العامل: فإن كان عمله كفراً وجبت البراءة منه بكل حال من كل وجه لما سبق من الآيات الكريمة، ولأنه لم يتصف بما يقتضي ولاءه. وإن كان عمله دون الكفر وجبت البراءة منه من وجه دون وجه، فيوالى بما معه من الإيمان والعمل الصالح، ويتبرأ منه بما معه من المعاصي؛ لأن الفسوق لا ينافي أصل الإيمان، فقد يكون في الإنسان خصال فسوق، وخصال طاعة، وخصال إيمان، وخصال كفر كما قال الله تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) (الحجرات: 9-10). فجعل الله تعالى الطائفتين المقتتلتين إخوة للطائفة المصلحة، ووصفهم بالإيمان مع أن قتال المؤمن لأخيه من خصال الكفر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"(70). ولم تكن هذه الخصلة الكفرية منافية لأصل الإيمان ولا رافعة للأخوة الإيمانية، ولا ريب أن الأخوة الإيمانية مقتضية للمحبة والولاية، ويقوى مقتضاها بحسب قوة الإيمان والاستقامة. وهذا الأصل - أعني أنه قد يجتمع في الإنسان خصلة إيمان، وخصلة كفر - هو ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السلف والأئمة، فتكون المحبة والولاية تابعة لما معه من خصال الإيمان، والكراهة والعداوة تابعة لما عنده من خصال الكفر.


                              تعليق


                              • #30
                                رد: التوحيد : تقريب التدمرية ¨لفضيلة الشيخ العلامة محمد ابن صالح العثيمين¨رحمه الله

                                المؤمن مأمور بفعل المأمور، وترك المحظور، والصبر على المقدور قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:200) وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف: 90). وقال عن لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (لقمان: 17). وقال: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155). ومأمور في جانب الطاعة بالإخلاص والاستغفار قال الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (محمد: 19). وقال: (أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ* وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) (هود: 2-3). وقال تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه) (فصلت: 6). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس، توبوا إلى ربكم فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة". وقال: "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة". أخرجهما مسلم(71). وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة"(72). والجامع لهذا: أنه لابد في الأمر من أصلين، ولابد في القدر من أصلين أيضاً. أما الأصلان في الأمر فهما: أصل قبل العمل أو مقارن له وهو: الاجتهاد في الامتثال علماً وعملاً، فيجتهد في العلم بالله تعالى، وأسمائه وصفاته، وأحكامه، ثم يعمل بما يقتضيه ذلك العلم من تصديق الأخبار، والعمل بالأحكام فعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور. والثاني: أصل بعد العمل وهو الاستغفار والتوبة من التفريط في المأمور، أو التعدي في المحظور، ولهذا كان من المشروع ختم الأعمال بالاستغفار كما قال الله تعالى: (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ) (آل عمران: 17). فقاموا الليل وختموه بالاستغفار وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً(73)، وآخر سورة نزلت عليه سورة النصر (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ* وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً* فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً) (النصر: 1-3). فكان بعد نزولها يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي"(74). وكان نزولها إيذاناً بقرب أجله صلى الله عليه وسلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في مجلس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمحضر من الصحابة فأقره عمر رضي الله عنه وقال: ما أعلم منها إلا ما تقول(75). وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت: "سبحانك وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك"(76). فجعل الاستغفار والتوبة خاتمة العمر كما جعلتا خاتمة العمل. وأما الأصلان في القدر فهما: أصل قبل المقدور وهو: الاستعانة بالله عز وجل، والاستعاذة به ودعاؤه رغبة ورهبة، فيكون معتمداً على ربه، ملتجئاً إليه في حصول المطلوب ودفع المكروه. والثاني: بعد المقدور وهو: الصبر على المقدور حيث يفوت مطلوبه، أو يقع مكروهه فيوطن نفسه عليه بحيث يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الحال لا يمكن أن تتغير عما قدره الله تعالى فيرضى بذلك ويسلم وينشرح صدره ويذهب عنه الندم والحزن كما قال الله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (التغابن: 11). قال ابن عباس رضي الله عنهما: يهد قلبه لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال علقمة في الآية: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم. فإذا راعى الأمر والقدر على الوجه الذين ذكرنا كان عابداً لله تعالى مستعيناً به متوكلاً عليه من الذين أنعم الله عليهم، وقد جمع الله بين هذين الأصلين في أكثر من موضع كقوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة: 5). وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) (هود: 123). وقوله: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود: 88).

                                تعليق

                                يعمل...
                                X