نحن أولى بعيسى منهم تعليق على فيلم "شفرة دافنشي"
أخرج البخاري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد)، وفي رواية (ليس بيني وبينه نبي).
وهذا الحديث يبين قضيتين هامتين في أصل الإيمان بالأنبياء الذي هو أحد أركان الإيمان الستة.
القضية الأولى عامة وهي أن الأنبياء يشبهون فيما اشتركوا فيه وما اختلفوا فيه الإخوة لعلات (الضرائر) أي الإخوة لأب الذين اتحدوا في الأب واختلفت أمهاتهم، إشارة إلى اتحاد أصل دينهم (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ) (النحل: 36)، وأما الشرائع فاختلفت حسب حاجة كل أمة (لِكُلٍ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) (المائدة: 48)، ومما يدخل في أصل الدين المشترك بين الأنبياء أصول العبادات وأمهات المحرمات كما قال تعالى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) (الأنبياء: 73).
وأما القضية الأخرى فهي قضية خاصة بعيسى ـ عليه السلام ـ وأن محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى به في الدنيا والآخرة.
"النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه أولىالناس بجميع الأنبياء بصفة عامة"
ومن هنا نعلم أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأتباعه أولى الناس بجميع الأنبياء بصفة عامة، ثم قد يكون لبعض هؤلاء الأنبياء شأن ليس للآخر، فإبراهيم عليه السلام هو جد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإليه تنسب ملته وشريعة، موسى عليه السلام أتمم شريعة قبل شريعة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وأما عيسى ـ عليه السلام ـ فله عدة خصائص مع هذه الأمة منها ما بينه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الحديث من أنه ليس بينه وبين نبينا صلى الله عليه وسلم نبي، ومنها أنه عليه السلام ذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ باسمه كما حكى الله عنه عليه السلام أنه قال (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (الصف: 6).
ومن العجيب أن هذه البشارة ظلت موجودة وأفلتت من يد التحريف إلى عصرنا الحاضر حيث ذكروا في كتبهم أن عيسى عليه السلام ذكر أن الله عز وجل يرسل بعده "الفارقليط" وهي كلمة يونانية ترجمتها الدقيقة أحمد وهو عين ما ذكره القرآن عن عيسى ـ عليه السلام ـ.
"الفارقليط كلمة يونانية ترجمتها الدقيقةأحمد وهو عين ما ذكره القرآن عن عيسى عليه السلام"
ومن شأن عيسى ـ عليه السلام ـ مع هذه الأمة أنه هو الذي يرشد الخلائق إلى المقام المحمود لمحمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي يرشد الخلائق إلى الاستشفاع بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في تعجيل الفصل بين العباد، ثم يعود ويرشدهم إلى الاستشفاع به صلى الله عليه وسلم في فتح باب الجنة.
ومن شأنه أنه عليه السلام ينزل في آخر الزمان كأحد أتباع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن أعجب ما ذكره العلماء في حكمة ذلك أن عيسى ـ عليه السلام ـ لما وصف له ربه حال الأمة المحمدية (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) (الفتح: 29) تمنى عليه السلام أن يدرك هذه الأمة الخيرية حباً منه في الخير، ولما كانت بعثته عليه السلام في زمن اشتد فيه عناد بني إسرائيل فلم يؤمن له إلا فئة قليلة من الناس، سأل عليه السلام ربه بأن يلحقه بهذه الأمة فاستجاب له ربه وجعل نزوله في زمن من أكثر أزمان الأمة المحمدية خيرية ـ زمن الإمام المهدي وزمن قتل الدجال ـ.
"عيسى عليه السلام أحب أمة الاسلام قبل أن يراها"
ونحن نحبه عليه السلام لكل هذه الأسباب، ونحبه عليه السلام باعتبارين:
الأول: أنه رسول من أولي العزم من الرسل.
الثاني: أنه صحابي لأنه لقى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة المعراج ولقياه للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تختلف عن لقيا غيره من الأنبياء لأنه ما زال في حياته الدنيا وليس في حياة برزخية كسائر الأنبياء، والمسيح ـ عليه السلام ـ وإن كان مستغنياً عن رتبة الصحبة برتبة الرسالة إلا أننا كأمة نتشرف بانتسابه إلينا، وهو كعبد محب للخير أحب أن يكون من هذه الأمة الخيرية ومتى عددنا المسيح ـ عليه السلام ـ في الصحابة فلا شك سيكون أفضل من أفضلهم أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ، ولذلك ألغز فيه التاج بن السبكي بقوله:
من باتفاق جميع الخلق أفضل من خير الصحــــاب أبي بكر ومن عمر؟
ومن علي ومن عثمــان وهو فتى من أمة المصطفى المختار من مدر؟
ومن علي ومن عثمــان وهو فتى من أمة المصطفى المختار من مدر؟
والجواب إن هؤلاء أول من ينبغي أن يدافع عن المسيح من كذبهم وافترائهم وادعائهم عليه أنه أمرهم بعبادته حتى يقضي الله بنزوله ليرد على هذه الفرية بنفسه فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية، ثم إن هؤلاء النصارى قد تخلوا عن نصرانيتهم ودانوا بالعلمانية التي تسخر من الدين وتزدريه وترى قصص الأنبياء ضرباً من الأساطير، وحتى لو صدقوا بوجودهم فهم عندهم ليسوا فوق مستوى النقد بل والسخرية والاستهزاء وهذا هو دينهم الحقيقي الآن، ولا يكادون يتذكرون دينهم القديم "النصرانية المحرفة" إلا عندما يتعلق الأمر بمحاربة المسلمين من باب لا يفل الحديد إلا الحديد فلا يمكن مواجهة أصحاب عقيدة إلا بعقيدة مثلها وإن كانت عقيدة خربة وإن كان أصحابها قد تخلوا عنها.
ومن ثم فالنصارى هم الذين يتولون الآن مهمة الطعن في المسيح ـ عليه السلام ـ ولا يتصدى لكفرهم واستهزائهم في كل مرة إلا المسلمون بفضل الله تبارك وتعالى. ولكن هل اختلف الأمر فيما يتعلق بهذا الفيلم الأخير "شفرة دافنشي"؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال نريد أن نلقي الضوء بسرعة على الشخصية المحورية في رواية شفرة دافنشي، ألا وهي "مريم المجدلية" فماذا قال كُتّاب الأناجيل عن المجدلية؟ إنها في زعمهم امرأة زانية جاء عيسى ـ عليه السلام ـ وقد هم اليهود بإقامة حد الرجم عليها فقال لهم: "من كان منكم بلا خطيئة فليرجم بحجر" هذه القولة التي أصبحت فيما بعد شعاراً لكل ماجن داعي إلى الفجور، وهذه الواقعة إما أنها مكذوبة من أصلها، وإما أن عيسى ـ عليه السلام ـ طالبهم بتطبيق الحد كما أمر الله (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) (النور: 2)
بحيث لا يكون الأمر أن زان شريف في قومه يقيم الحد على زاني ضعيف فلما فضحهم عيسى ـ عليه السلام ـ انصرفوا عنها وتركوها ولم يبق منهم مؤمنون يطبقون الحد كما أمر الله، المهم أن كُتّاب الأناجيل جعلوا المجدلية بعد ذلك شخصية محورية في حياة المسيح وبعد رفعه (صلبه في زعمهم).
ولكن ماذا قالت رواية "شفرة دافنشي" عن المجدلية؟
لقد غالبت الفطرة كاتب الرواية، وحصل لديه قناعة كبيرة ببشرية عيسى ـ عليه السلام ـ، ولكن الشيطان لم يمهله حتى يسلك الطريق الحق إلى هذه العقيدة الصحيحة من حيث المبدأ ألا وهو الدخول في دين الإسلام فأخذه إلى طريق الكذب والاختلاق على الأنبياء، ووجد في "المجدلية" ضالته المنشودة، فادعى أنه اطلع على مصادر تاريخية تفيد أن المجدلية كانت عابدة من عابدات بني إسرائيل وليست بزانية كما زعم كُتّاب الأناجيل، وأن عيسى ـ عليه السلام ـ قد نجا من حادثة الصلب وعاش على الأرض حياة مستقرة تزوج فيها المجدلية صرحت الرواية بزواج المسيح ـ عليه السلام ـ من المجدلية بينما أشار الفيلم المأخوذ عنها إلى حصول اتصال جنسي دون تحديد هويته مع إشارات فهم منها بعض المحللين أن هذه العلاقة كانت زنا، وزعمت الرواية أن هذا الزواج أثمر ذرية ما زالت تتكاثر في أوربا، وأن جماعة سرية قد اطلعت على هذا السر ودخلت في حرب شرسة مع الكنيسة من أجل إطلاع الناس على الحقيقة ولم يتمكن الفنان دافنشي ـ أحد أعضاء هذه الجماعة التي تعرف السر ـ إلا من رسم الشخص الذي بجوار المسيح في لوحة العشاء الأخير بصورة يبدو فيها أنه رجل بينما هو عند التدقيق امرأة، وهذه المرآة هي المجدلية (زوجة المسيح في زعم الرواية) (أو صديقته في زعم الفيلم).
وحيث أن الفكرة الرئيسية للرواية ومن ثم الفيلم هي بشرية عيسى ـ عليه السلام ـ، فقد رأى البعض أنه ينبغي أن يشجع المسلمون نشر هذا الفيلم وتوسيع قاعدة مشاهدته، وهذا خطأ من وجوه:-
الأول: بشرية المسيح ليست في حاجة إلى كذب وخيال لكي تثبت، ويكفي أن الله هو الحي القيوم والمسيح ـ عليه السلام ـ سبقه عدم ويعقبه موت، واحتاج إلى الطعام والشراب وقضاء الحاجة، والله هو الذي يصور الناس في الأرحام كيف يشاء والمسيح ـ عليه السلام ـ بإجماع الملل صور في رحم أمه مريم عليها السلام.
الثاني: الرواية تناقض عقيدة رفع عيسى ـ عليه السلام ـ التي رواها القرآن (بل رفعه الله إليه) والرواية تزعم أنه نجا من الصلب ولكنه عاش بعد ذلك على الأرض وتزوج ومات وقبر.
الثالث: قضية زواج عيسى ـ عليه السلام ـ، سكت عنها شرعنا فالواجب أن نسكت عنها، وإن كان الميل إلى أحد الاحتمالات فهو الميل إلى عدم زواجه عليه السلام لا سيما وأنه رُفع حياً إلى السماء، وهذا يترتب عليه إن كان له أزواج وذرية أحكاماً فقهية لم ترد الإشارة إليها كما أن القرآن ذكر في مقام الاحتجاج على النصارى العوارض البشرية لعيسى ولو كان ذا زوجة لاحتج القرآن عليهم بذلك.
الرابع: إشارة الفيلم إلى أن هذه العلاقة لم تكن زواجاً لا شك أعظم جرماً وأكبر بهتاناً ومعلوم أن الناس يشاهدون الفيلم ولا يقرأون الرواية.
الخامس: إشارة الرواية إلى أن المجدلية على فرض كونها زوجة المسيح ـ عليه السلام ـ حضرت العشاء الأخير بالصورة التي يصورها النصارى أمر ينافي عصمة الأنبياء علماً بأن الحجاب كان مفروضاً على نساء بني إسرائيل.
وأخيراً: مبدأ التمثيل كذب وزور، وتمثيل الأنبياء خاصة أشد ظلاماً وإظلاماً حتى أن المجامع الفقهية التي تجيز التمثيل كمبدأ تمنع من تمثيل الأنبياء والعشرة المبشرين بالجنة.
فما أجدرنا بالبعد عن كل ما يمس الأنبياء والمرسلين، ولنكن بحق أتباع جميع الأنبياء الذين ينافحون عنهم حتى أمام أدعياء الانتساب إليهم والغلو فيهم، وأما ما ادعاه موقع إسلامي لإحدى الاتجاهات الإسلامية الكبرى أننا كمسلمين لن ندافع عن الفيلم رغم التقائه مع العقيدة الإسلامية في قضية بشرية المسيح عليه السلام احتراماً لمشاعر الآخرين وقدسية العقائد!!
(القداسة تعني الطهر والنقاء فهل عقيدة تأليه المسيح عقيدة طاهرة نقية فضلاً عن إطلاق كلمة العقائد فالمشركون لهم عقيدة تدخل ضمن هذا العموم، قال تعالى (إِنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ) (التوبة: 28) وهذه يدخل فيه كل مشرك من كتابي أو وثني.)
فلا نملك حياله إلا أن تقول اللهم إنا نبرأ إليك مما فعل الكفار بتاريخ الأنبياء ونعتذر إليك بل نبرأ إليك من مداهنة بعض الإسلاميين لملل الكفر.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موقع صوت السلف
تعليق