إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

العـبـوديـة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • العـبـوديـة

    سئل الشيخ الإمام العلامة محي السنة ومميت البدعة أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه ، عن : قوله عز وجل : { يا أيها ال
    العـبـوديـة

    شيخ الإسلام ابن تيمية

    سئل الشيخ الإمام العلامة محي السنة ومميت البدعة أبو العباس أحمد بن تيمية رضي الله عنه وأرضاه ، عن : قوله عز وجل : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } ، فما العبادة وفروعها ؟ وهل مجموع الدين داخل في العبادة أم لا ؟ وما حقيقة العبودية ؟ وهل هي أعلى المقامات ، أم فوقها من المقامات ؟ .

    وليبسط لنا القول في ذلك :

    فأجاب رضي الله عنه : العبادة هى اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة فالصلاة والزكاة والصيام والحج وصدق الحديث وأداء الامانة وبر الوالدين وصلة الأرحام والوفاء بالعهود والامر بالمعروف والنهى عن المنكر والجهاد للكفار والمنافقين والاحسان الى الجار واليتيم والمسكين وابن السبيل والمملوك من الآدميين والبهائم والدعاء والذكر والقراءة وامثال ذلك من العبادة وكذلك حب الله ورسوله وخشية الله والانابة إليه واخلاص الدين له والصبر لحكمه والشكر لنعمه والرضا بقضائه والتوكل عليه والرجاء لرحمته والخوف لعذابه وامثال ذلك هى من العبادة لله.


    وذلك ان العبادة لله هى الغاية المحبوبة له والمرضية له التى خلق الخلق لها كما قال تعالى {وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون} وبها ارسل جميع الرسل كما قال نوح لقومه {اعبدوا الله مالكم من إله غيره} وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم لقوههم.

    وقال تعالى {ولقد بعثنا فى كل امة رسولا ان اعبدوا الله اجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة} وقال تعالى {وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحى اليه انه لا اله الا انا فاعبدون} وقال تعالى {وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون} كما قال فى الآية الاخرى {يا ايها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا انى بما تعملون عليم وجعل ذلك لازما لرسوله الى الموت قال واعبد ربك حتى يأيتك اليقين}.
    وبذلك وصف ملائكته وانبياءه فقال تعالى {وله من فى السموات والارض ومن عنده لايستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وقال تعالى {ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} وذم المستكبرين عنها بقوله {وقال ربكم ادعونىاستجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} ونعت صفوة خلقه بالعبودية له فقال تعالى {عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} وقال {وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا} الآيات {ولما قال الشيطان فبما اغويتنى لازينن لهم فى الارض ولا غوينهم اجمعين إلا عبادك منهم المخلصين} قال الله تعالى {ان عبادى ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين}.
    وقال فى وصف الملائكة بذلك {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون الىقوله وهم من خشيته مشفقون} وقال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الارض وتخر الجبال هذا ان دعوا للرحمن ولدا وما ينبغى للرحمن ان يتخذ ولدا ان كل من فى السموات الارض الا آتى الرحمن لقد احصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيمامة فردا}.

    وقال تعالى عن المسيح الذي ادعيت فيه الالهية والنبوة ان هو الاعبد انعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى السرائيل ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح [لا تطرونى كما اطرت النصارى عيسى بن مريم فانما انا عبد فقولوا عبد الله ورسوله].

    وقد نعته الله بالعبودية فىاكمل احواله فقال فى الاسراء { سبحان الذى اسرى بعبده ليلا } وقال فى الايحاء { فأوحى لى عبده ما اوحى } وقال فى الدعوة { وانه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا } وقال فى التحدى { وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } فالدين كله داخل فى العبادة.

    وقد ثبت فى الصحيح ان جبريل لما جاء الى النبى صلى الله عليه وسلم فى صورى اعرابى وسأله عن الاسلام قال ان تشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله وتقيم الصلاو وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ان استطعت اليه سبيلا قال فما الايمان قال ان تؤمن بالله وملائكته وكتبه وورسله والبعث بعد الموت وتؤمن بالقدر خيره وشره قال فما الإحسان قال ان نعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ثم قال فى آخر الحديث هذا جبريل جاءكم يعلمكم دنيكم فجعل هذا كله من الدين والدين يتضمن معنى الخضوع والذل يقال دنته فدان اى ذللته فذل ويقال يدين الله ويدين لله أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له.

    والعبادة اصل معناها الذل ايضا يقال طريق معبد اذا كان مذللا قد وطئته الاقدام.

    لكن العبادة المأمور تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهى تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له فإن آخر مراتب الحب هوالتتيم واوله العلاقة لتعلق القلب بالمحبوب ثم الصبابة لا نصباب القلب اليه ثم الغرام وهو الحب اللازم للقلب ثم العشق وآخرها التتيم يقال تيم الله أى عبد الله فالمتيم المعبد لمحبوبه.


    ومن خضع لانسان مع بعضه له لايكون عابدا له ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له كما قد يحب ولده وصديقه ولهذا لا يكفى أحدهما فى عبادة الله تعالى بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شئ وأن يكون الله أعظم عنده من كل شئ بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا الله.


    وكل ما أحب لغير الله فمحبته فاسدةوما عظم بغير أمر الله كان تعظيمه باطلا قال الله تعالى قل إن كان آباؤكم وابناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد فى سبيله فتربصوا حتى يأتى الله بأمره فجنس المحبة تكون لله ورسوله كالطاعة فإن الطاعة لله ورسوله والارضاء لله ورسوله والله ورسوله أحق أن يرضوه والايتاء لله ورسوله ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله .


    وأما العبادة وما يناسبها من التوكل والخوف ونحو ذلك فلا يكون إلا لله وحده كما قال تعالى {قل يا أهل الكتاب تعالوا الى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا الى قوله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بانا مسلمون} وقال تعالى {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا إلى الله راغبون} فالايتاء لله والرسول كقوله {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وأما الحسب وهو الكافى فهو الله وحده كما قال تعالى {الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} وقال تعالى {يا ايها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} اى حسبك وحسب من اتبعك الله .


    ومن ظن ان المعنى حسبك الله والمؤمنون معه فقد غلط غلطا فاحشا كما قد بسطناه فى غير هذا الموضع وقال تعالى أليس الله بكاف عبده.

    تحرير ذلك ان العبد يراد به المعبد الذى عبده الله فذلله ودبره.

    وصرفه وبهذا الاعتبار المخلوقون كلهم عباد الله من الابرار والفجار والمؤمنين والكفار وأهل الجنة واهل النار اذ هو ربهم كلهم ومليكهم لا يخرجون عن مشيئته وقدرته وكلماته التامات التى لا يجاوزهن برولا فاجر فمال شاء كان وان لم يشاؤا وما شاؤا ان لم يشأه لم يكن كما قال تعالى أفغير دين الله يبغون وله اسلم من فى السموات والارض طوعا وكرها واليه يرجعون.


    فهو سبحانه رب العالمين وخالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومقلب قلوبهم ومصرف امورهم لا رب لهم غيره ولا مالك لهم سواه ولا خالق الا هو سواء اعترفوا بذلك أو انكروه وسواء علموا ذلك أو جهلوه لكن أهل الإيمان منهم عرفوا ذلك واعترفوا به بخلاف من كان جاهلا بذلك او جاحدا له مستكبرا على ربه لا يقر ولا يخضع له مع علمه بأن الله ربه وخالقه.

    فالمعرفة بالحق اذا كانت مع الاستكبار عن قبوله والحجد له كان عذابا على صاحبه كما قال تعالى وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسرين وقال تعالى الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون ابناءهم وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال تعالى {فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون}.

    فإن اعترف العبد ان الله ربه وخالقه وأنه مفتقر اليه محتاج اليه عرف العبودية المتعلقة بربوبيةالله وهذا العبد يسأل ربه فيتضرع اليه ويتوكل عليه لكن قد يطيع امره وقد يعصيه وقد يعبده مع ذلك وقد يعبد الشيطان والاصنام.

    ومثل هذه العبودية لاتفرق بين اهل الجنة والنار ولا يصير بها الرجل مؤمنا كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون فإن المشركين كانوا يقرون ان الله خالقهم ورازقهم وهم يعبدون غيره قال تعالى {ولئن سألتهم من خلق السموات والارض ليقولن الله} وقال تعالى {قل لمن الارض ومن فيها ان كنتم تعلمون سيقولن لله قل افلا تذكرون الى قوله قل فأنى تسحرون}.

    وكثير ممن يتكلم فى الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة وهى الحقيقة الكونية التى يشترك فيها وفى شهودها ومعرفتها المؤمن والكافر والبر والفاجر وابليس معترف بهذه الحقيقة واهل النار قال ابليس رب فانظرنى الى يوم يبعثون وقال رب بما اغويتنى لا زينن لهم فى الارض ولا غوينهم اجمعين وقال {فبعزتك لا غوينهم اجمعين} وقال { أرأيتك هذا الذى كرمت على} وامثال هذا من الخطاب الذى يقر فيه بان الله ربه وخالقه وخالق غيره وكذلك اهل النار قالوا {ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين} وقال تعالى {ولو ترى اذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا}.

    فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها ولم يقم بما امر به من الحقيقة الدينية التى هى عبادته المتعلقة بالهيته وطاعة امره وامر رسوله كان من جنس ابليس واهل النار وان ظن مع ذلك انه خواص اولياء الله واهل المعرفة والتحقيق الذين يسقط عنهم الأمر والنهى الشرعيان كان من اشر اهل الكفر والالحاد.

    ومن ظن ان الخضر وغيره سقط عنهم الامر لمشاهدة الارادة ونحو ذلك كان قوله هذا من شر اقوال الكافرين بالله ورسوله حتى يدخل فى النوع الثانى من معنى العبد وهو العبد العابد فيكون عابدا لله لا يعبد الا اياه فيطيع امره وأمر رسله ويوالى أولياءه المؤمنين المتقين ويعادى اعداءه وهذا العبادة متعلقة بالهيته ولهذا كان عنوان التوحيد لا اله الا الله بخلاف من يقر بوبوبيته ولا يعبده او يعبد معه الها آخر فالاله الذى يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والاجلال والاكرام والخوف والرجاء ونحو ذلك وهذه العبادة هي التى يحبها الله ويرضاها بها وصف المصطفين من عباده وبها بعث رسله.

    وأما العبد بمعنى المعبد سواء اقر بذلك او أنكره فتلك يشترك فيها المؤمن والكافر وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين المقائق الدينية الداخلة فى عبادة الله ودينه وامره الشرعىالتى يحبها ويرضاها ويوالى اهلها ويكرمهم بجنته وبين الحقائق الكونية التى يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التى من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع ابليس اللعين والكافرين برب العالمين ومن اكتفى بها فى بعض الأمور دون بعض أو فى مقام او حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.

    وهذا مقام عظيم فيه غلط الغالطون وكره فيه الاشتباه على السالكين حتى زلق فيه من اكابر الشيوخ المدعين التحقيق والتوحيد والعرفان مالا يحصيهم الا الله الذى يعلم السر والاعلان والى هذا اشار الشيخ عبد القادر رحمه الله فيما ذكر عنه فبين ان كثيرا من الرجال إذا وصلوا الى إلى القضاء والقدر أمسكوا الا انا فإنى انفتحت لى فيه روزنة فنازعت اقدار الحق بالحق للحق والرجل من يكون منازعا للقدر لا من يكون موافقا للقدر.

    والذى ذكره الشيخ رحمه الله هو الذى امر الله به ورسوله لكن كثير من الرجال غلطوا فإنهم قد يشهدون ما يقدر على احدهم من المعاصى والذنوب أو ما يقدر على الناس من ذلك بل من الكفر ويشهدون ان هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدرة داخل فى حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك دينا وطريقا وعبادة فيضاهون المشركين الذين قالوا {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء} وقالوا {انطعم من لويشاء الله اطعمه} وقالوا {لو شاء الرحمن ما عبدناهم} ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا ان نرضى به ونصبر على موجبه فى المصائب التى تصيبنا كالفقر والمرض والخوف قال تعالى ما اصاب من مصيبة الا باذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه قال بعض السلف هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم انها من عند الله فيرضى ويسلم وقال تعالى {ما اصاب من مصيبة فى الارض ولا فى انفسكم الا فى كتاب من قبل ان نبرأها ان ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا علىما فاتكم ولا تفرحوا بما أتاكم}. وفى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال احتج آدم وموسى فقال انمت آدم الذى خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه واسجد لك ملائكته وعلمك اسماء كل شئ فلماذا أخرجتنا ونفسك مكن الجنة فقال أدم أنت موسى الذى اصطفاك الله برسالته وبكلامه فهل وجدت ذلك مكتوبا على قبل ان أخلق قال نعم قال فحج آدم موسى وأدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر ظنا أن المذنب يحتج بالقدر قان هذا لايقوله مسلم ولا عاقل ولو كان هذا عذرا لكان عذرا لابليس وقوم هود وكل كافر ولا موسى لام آدم أيضا لأجل الذنب فان آدم قد تاب إلى ربه فاجتباه وهدى ولكن لامه لأجله المصيبة التى لحقتهم بالخطيئة ولهذا قال فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة فأجابه آدم أن أن هذا كان مكتوبا قبل أن أخلق فكان العمل والمصيبةالمترتبة عليه مقدار وما قدر من المصائب يجب لاستسلام له فإنه من تمام الرضا بالله ربا.

    واما الذنوب فليس للعبد ان يذنب واذا اذنب فعليه ان يستغفر وفيتوب من المعائب ويصبر على المصائب قال تعالى فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذنبك وقال تعالى {وان تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا} وقال {وان تصبروا وتتقوا فان ذلك من عزم الامور} وقال يوسف {انه من يتق ويصبر فان الله لا يضيع اجر المحسنين} وكذلك ذنوب العباد يجب على العبد فيها ان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بحسب قدرته ويجاهد فى سبيل الله الكفار والمنافقين ويوالي اولياء الله ويعادي اعداء الله ويحب فى الله ويبغض فى الله كما قال تعالى {يا ايها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم بالمودة} الى قوله {قد كانت لكم اسوة حسنة فى ابراهيم والذين معه اذ قالوا لقومهم انا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء ابدا حتى تؤمنوا بالله وحده} وقال تعالى {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} الى قوله {اولئك كتب فى قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه} وقال تعالى {افنجعل المسلمين كالمجرمين} وقال {ام نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين فى الأرض ام نجعل المتقين كالفجار} وقال تعالى {ام حسب الذين اجترحوا السيئات ان نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون} وقال تعالى {وما يستوى الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوى الأحياء ولا الاموات وقال تعالى ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا} وقال تعالى {ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء الى قوله بل اكثرهم لا يعلمون وضرب الله مثلا رجلين احدهما ابكم لا يقدر على شيء} الى قوله {وهو على صراط مستقيم} وقال تعالى {لا يستوى اصحاب النار واصحاب الجنة اصحاب الجنة هم الفائزون} ونظائر ذلك مما يفرق الله فيه بين اهل الحق والباطل واهل الطاعة واهل المعصية واهل البر واهل الفجور واهل الهدى والضلال واهل الغي والرشاد واهل الصدق والكذب.

    فمن شهد الحقيقة الكونية دون الدينية سوى بين هذه الأجناس المختلفة التى فرق الله بينها غاية التفريق حتى يؤل به الأمر الى ان يسوى الله بالاصنام كما قال تعالى عنهم الله { ان كنا لفي ضلال مبين اذ نسويكم برب العالمين } بل قد آل الامر بهؤلاء الى ان سووا الله بكل موجود وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقا لكل موجود اذ جعلوه هو وجود المخلوقات وهذا من اعظم الكفر والالحاد برب العباد.

    وهؤلاء يصل بهم الكفر الى انهم لا يشهدون انهم عباد لا بمعنى انهم معبدون ولا بمعنى انهم عابدون اذ يشهدون انفسهم هي الحق كما صرح بذلك طواغيتهم كابن عربي صاحب الفصوص وامثاله من الملحدين المفترين كابن سبعين وامثاله ويشهدون انهم هم العابدون والمعبودون وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتا للخالق والمخلوق اذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم واما المؤمنون بالله ورسوله عوامهم وخواصهم الذين هم اهل الكتاب كما قال النبى صلى الله عليه وسلم ان لله اهلين من الناس قيل من هم يا رسول الله قال [اهل القرآن هم اهل الله وخاصته] فهؤلاء يعلمون ان الله رب كل شيء ومليكه وخالقه وان الخالق سبحانه مباين للمخلوق ليس هو حالا فيه ولا متحدا به ولا وجوده وجوده.

    و النصاري كفرهم بأن قالوا بالحلول والاتحاد بالمسيح خاصة فكيف من جعل ذلك عاما فى كل مخلوق ويعلمون مع ذلك ان الله امر بطاعته وطاعة رسوله ونهى عن معصيته ومعصية رسوله وانه لا يحب الفساد ولا يرضي لعباده الكفر وان على الخلق ان يعبدوه فيطيعوا امره ويستعينوا به على ذلك كما قال { إياك نعبد واياك نستعين } ومن عبادته وطاعته الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الامكان والجهاد فى سبيله لاهل الكفر والنفاق فيجتهدون فى اقامة دينه مستعينين به دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات دافعين بذلك ما قد يخاف من ذلك كما يزيل الانسان الجوع الحاضر بالاكل ويدفع به الجوع المستقبل وكذلك اذا آن اوان البرد دفعه باللباس وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه كما قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم يا رسول الله ارأيت ادوية نتداوى بها ورقى نسترقى بها وتقاة نتقى بها هل ترد من قدر الله شيئا فقال هي من قدر الله وفى الحديث ان الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والارض فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله وكل ذلك من العبادة.

    وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية وهي ربوبيته تعالى لكل شيء ويجعلون ذلك مانعا من اتباع امره الدينى الشرعي على مراتب فى الضلال فغلاتهم يجعلون ذلك مطلقا عاما فيحتجون بالقدر فى كل ما يخالفون فيه الشيعة وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا لو شاء اله ما اشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم.

    وهؤلاء من اعظم اهل الارض تناقضا بل كل من احتج بالقدر فانه متناقض فانه لا يمكن ان يقر كل آدمى على ما فعل فلا بد اذا ظلمه ظالم او ظلم الناس ظالم وسعى فى الارض بالفساد واخذ يسفك دماء الناس ويستحل الفروج ويهلك الحرث والنسل ونحو ذلك من انواع الضرر التى لا قوام للناس بها ان يدفع هذا القدر وان يعاقب الظالم بما يكف عدوان امثاله يقال له ان كان القدر حجة فدع كل احد يفعل ما يشاء بك وبغيرك وان لم يكن حجة بطل اصل قولك حجة واصحاب هذا القول الذين يحتجون بالحقيقة الكونية لا يطردون هذا القول ولا يلتزمونه وانما هم بحسب آرائهم واهوائهم كما قال فيهم بعض العلماء انت عند الطاعة قدرى وعند المعصية جبرى اى مذهب وافق هواك تمذهبت به.

    ومنهم صنف يدعون التحقيق والمعرفة فيزعمون ان الامر والنهى لازم لمن شهد لنفسة فعلآ واثبت لة صنعا اما من شهدا أن افعالة مخلوقة او انة مجبور على ذلك وان الله هو المتصرف فية كما تحرك سائر المتحركات فانة يرتفع عنة الأمر والنهى والوعد والوعيد.

    وقد يقولون من شهد الارادة سقط عنة التكليف ويزعم احدهم ان الخضر سقط عنة التكليف لشهودة الارادة فهؤلاء لا يفرق بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية فشهدوا ان الله خالق أفعال العباد وانة يدبر جميع الكائنات وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علما وبين من يراة شهودا فلآ يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمة فقط ولكن عمن يشهدة فلآ يرى لنفسة فعلآ أصلآ وهؤلآء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعا من التكليف على هذا الوجه.

    وقد وقع فى هذا طوائف من المنتسبين الى التحقيق والمعرفة والتوحيد وسبب ذلك أنة ضاق نطاقهم عن كون العبد يؤمر بما يقدر علية خلآفة كما ضاق نطاق المعتزلة ونحوهم من القدرية عن ذلك ثم المعتزلة اثبتت الامر والنهى الشرعيين دون القضاء والقدر الذى هو إرادة اللة العامة وحلقة لآفعال العباد وهؤلآء اثبتوا القضاء والقدر ونفوا الأمر والنهى فى حق من سهد القدر إذا لم يمكنهم نفى ذلك مطلقا وقول هؤلآء شر من قولة المعتزلة ولهذا لم يكن فى السلف من هؤلآء احد وهؤلآء يجعلون الامر والنهى للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذة الحقيقة الكونية ولهذا يجعلون من وصل الى شهود هذة الحقيقة يسقط عنة الامر والنهى وصار من الخاصة وربما تأولوا على ذلك قولة تعالى واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وجعلوا اليقين هو معرفة هذه الحقيقة وقول هؤلاء كفر صريح وان وقع فيه طوائف لم يعلموا انه كفر فانه قد علم بالاضطرار من دين الاسلام ان الأمر والنهي لازم لكل عبد ما دام عقله حاضرا الى ان يموت لا يسقط عنه الامر والنهي لا بشهوده القدر ولا بغير ذلك فمن لم يعرف ذلك عرفه وبين له فإن اصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فانه يقتل.

    وقد كثرت مثل هذه المقالات فى المستأخرين ، واما المستقدمون من هذه الأمة فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم.

    وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله ومعاداة له وصد عن سبيله ومشاقة له وتكذيب لرسله ومضادة له في حكمه وان كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك ويعتقد ان هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول وطريق اولياء الله المحققين فهو فى ذلك بمنزلة من يعتقد ان الصلاة لا تجب عليه لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية او ان الخمر حلال له لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر او ان الفاحشة حلال له لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب ونحو ذلك.

    ولا ريب ان المشركين الذين كذبوا الرسل يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة امر الله فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين اما ان يبتدعوا واما ان يحتجوا بالقدر واما ان يجمعوا بين الأمرين كما قال تعالى عن المشركين واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء اتقولون على الله ما لا تعلمون وكما قال تعالى عنهم {وقال الذين اشركوا لو شاء الله ما اشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}.
    وقد ذكر عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام والعبادة التى لم يشرعها الله بمثل قوله تعالى {وقالوا هذه انعام وحرث حجر لا يطعمها الا من نشاء بزعمهم وانعام حرمت ظهورها وانعام لا يذكرون اسم الله عليها} افتراء عليه الى آخر السورة وكذلك فى سورة الاعراف فى قوله {يا بنى آدم لا يفتتنكم الشيطان كما اخرج ابويكم من الجنة الى قوله واذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله امرنا بها قل ان الله لا يأمر بالفحشاء} الى قوله {قل امر ربى بالقسط واقيموا وجوهكم عند كل مسجد} الى قوله {وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التى اخرج لعبادة والطيبات من الرزق} الى قوله {قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى بغير الحق وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون} .

    وهؤلاء قد يسمون ما احدثوه من البدع حقيقة كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بامر الشارع ونهيه ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقا بل عمدتهم اتباع آرائهم واهوائهم وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة وامرهم باتباعها دون اتباع امر الله ورسوله نظير بدع اهل الكلام من الجهمية وغيرهم الذين يجعلون ما ابتدعوه من الاقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها دون ما دلت عليه السمعيات ثم الكتاب والسنة اما ان يحرفوه عن مواضعه واما ان يعرضوا عنه بالكلية فلا يتدبرونه ولا يعقلونه بل يقولون نفوض معناه الى الله مع اعتقادهم نقيض مدلوله واذا حقق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة.

    وكذلك اولئك اذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق اولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الاهواءالتى يتبعها اعداء الله لا اولياؤه.

    واصل ضلال من ضل هو بتقديم قياسه على النص المنزل من عند الله واختياره الهوى على اتباع امر الله فإن الذوق والوجد ونحو ذلك هو بحسب ما يحبه العبد فكل محب له ذوق ووجد بحسب محبته فأهل الايمان لهم من الذوق والوجد مثل ما بينه النبى صلى الله عليه وسلم بقوله فى الحديث الصحيح ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله احب اليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه الا الله ومن كان يكره ان يرجع فى الكفر بعد اذا انقذه الله منه كما يكره ان يلقى فى النار وقال صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح ذاق طعم الايمان من رضى باله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا.


    وأما أهل الكفر والبدع والشهوات فكل بحسبه قيل لسفيان بن عيينة ما بال أهل الأهواء لهم محبة شديدة لأهوائهم فقال أنسيت قوله تعالى واشربوا فى قلوبهم العجل بكفرهم أو نحو هذا من الكلام فعباد الاصنام يحبون آلهتهم كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله وقال فان لم يستجيبوا لك فاعلم انما يتبعون أهواءهم ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله وقال أن يتبعون الا الظن وما تهوى الانفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى ولهذا يميل هؤلاء الى سماع الشعر والأصوات التى تهيج المحبة المطلقة التى لا تختص بأهل الايمان بل يشترك فيها محب الرحمن ومحب الاوثان ومحب الصلبان ومحب الاوطان ومحب الاخوان ومحب المردان ومحب النسوان وهؤلاء الذين يتبعون أذواقهم ومواجيدهم من غير اعتبار لذلك بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة.


    فالمخالف لما بعث به رسوله من عبادته وطاعته وطاعة رسوله لا يكون متبعا لدين شرعه الله كما قال تعالى ثم جعلناك على شريعة من الامر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون أنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا الى قوله والله ولى المتقين بل يكون متبعا لهواه بغير هدى من الله قال تعالى { ام لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } وهم فى ذلك تارة يكونون على بدعة يسمونها حقيقة يقدمونها على ما شرعه الله وتارة يحتجون بالقدر الكونى على الشريعة كما أخبر الله به عن المشركين كما تقدم.

    ومن هؤلاء طائفة هم اعلاهم قدرا وهم مستمسكون بالدين فى اداء الفرائض المشهوره واجتناب المحرمات المشهوره لكن يغلطون فى ترك ما امروا به من الاسباب التى هي عبادة ظانين ان العارف اذا شهد القدر اعرض عن ذلك مثل من يجعل التوكل منهم او الدعاء ونحو ذلك من مقامات العامة دون الخاصة بناء على ان من شهد القدر علم ان ما قدر سيكون فلا حاجة الى ذلك وهذا غلط عظيم فان الله قدر الاشياء باسبابها كما قدر السعادة والشقاوة باسبابها كما قال النبى صلى الله عله وسلم ان الله خلق للجنة اهلا خلقها لهم وهم فى اصلاب آبائهم وبعمل اهل الجنة يعملون وكما قال النبى صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم بان الله كتب المقادير فقالوا يا رسول الله افلا ندع العمل ونتكل على الكتاب فقال لا اعملوا فكل ميسر لما خلق له اما من كان من اهل السعادة فسييسر لعمل اهل السعادة واما من كان من اهل الشقاوة فسييسر لعمل اهل الشقاوة فما امر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة والتوكل مقرون بالعبادة كما فى قوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وفى قوله قل هو ربي لا اله الا هو عليه توكلت واليه متاب وقول شعيب عليه السلام عليه توكلت وإليه انيب.
    ومنهم طائفة قد تترك المستحبات من الاعمال دون الواجبات فتنقص بقدر ذلك.
    ومنهم طائفة يغترون بما يحصل لهم من خرق عادة مثل مكاشفة او استجابة دعوة مخالفة للعادة العامة ونحو ذلك فيشتغل احدهم عما امر به من العبادة والشكر ونحو ذلك.
    فهذه الأمور ونحوها كثيرا ما تعرض لاهل السلوك والتوجه وانما ينجو العبد منها بملازمة امر الله الذي بعث به رسوله في كل وقت كما قال الزهري كان من مضى من سلفنا يقولون الاعتصام بالسنة نجاة وذلك ان السنة كما قال مالك رحمه الله مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق والعبادة والطاعة.
    والاستقامة ولزوم الصراط المستقيم ونحو ذلك الاسماء مقصودها واحد ولها اصلان:

    احدهما : الا يعبد الا الله.


    والثاني : ان يعبد بما امر وشرع لا بغير ذلك من البدع قال تعالى {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} وقال تعالى {بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} وقال تعالى {ومن احسن دينا ممن اسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة ابراهيم حنيفا واتخذ الله ابراهيم خليلا} فالعمل الصالح هو الاحسان وهو فعل الحسنات والحسنات هي ما احبه الله ورسوله وهو ما امر به امر ايجاب او استحباب فما كان من البدع في الدين التى ليست مشروعة فان الله لا يحبها ولا رسوله فلا تكون من الحسنات ولا من العمل الصالح كما ان يعمل مالا يجوز كالفواحش والظلم ليس من الحسنات ولا من العمل الصالح.


    واما قوله {ولا يشرك بعبادة ربه احدا} وقوله {اسلم وجهه لله فهو اخلاص الدين لله} وحده وكان عمر بن الخطاب يقول اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ولا تجعل لاحد فيه شيئا .


    وقال الفضيل بن عياض فى قوله { ليبلوكم أيكم احسن عملا } قال اخلصه واصوبه قالوا يا ابا علي ما اخلصه واصوبه قال ان العمل اذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل واذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل حتى يكون خالصا صوابا والخالص ان يكون لله والصواب ان يكون على السنة.


    فإن قيل فإذا كان جميع ما يحبه الله داخلا فى اسم العبادة لماذا عطف عليها غيرها كقوله اياك نعبد واياك نستعين وقوله فاعبده وتوكل عليه وقول نوح {اعبدوا الله واتقوه واطيعون} وكذلك قول غيره من الرسل قيل هذا له نظائر كما فى قوله {ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} والفحشاء من المنكر وكذلك قوله {ان الله يأمر بالعدل والاحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} وايتاء ذي القربى هو من العدل والاحسان كما ان الفحشاء والبغي من المنكر وكذلك قوله {والذين يمسكون بالكتاب واقاموا الصلاة} واقامة الصلاة من اعظم التمسك بالكتاب وكذلك قوله {انهم كانوا يسارعون فى الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا} ودعاؤهم رغبا ورهبا من الخيرات وامثال ذلك فى القرآن كثير .


    وهذا الباب يكون تارة مع كون احدهما بعض الاخر فيعطف عليه تخصيصا له بالذكر لكونه مطلوبا بالمعنى العام والمعنى الخاص وتارة تكون دلالة الاسم تتنوع بحال الانفراد والاقتران فاذا افرد عم واذا قرن بغيره خص كاسم الفقير والمسكين لما افرد احدهما في مثل قوله {للفقراء الذين احصروا فى سبيل الله} وقوله {او طعام عشرة مساكين} دخل فيه الاخر ولما قرن بينهما فى قوله انما الصدقات للفقراء والمساكين صارا نوعين.


    وقد قيل ان الخاص المعطوف على العام لا يدخل فى العام حال اقتران بل يكون من هذا الباب والتحقيق ان هذا ليس لازما قاال تعالى {من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقال تعالى {واذ اخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وابراهيم وموسى وعيسى بن مريم}.


    وذكر الخاص مع العام يكون لأسباب متنوعة تارة لكونه له خاصية ليست لسائر أفراد العام كما في نوح وابراهيم وموسى وعيسى وتارة لكون العام فيه اطلاق قد لا يفهم منه العموم كما فى قوله {هدى للمتقين} {والذين يؤمنون الغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما انزل اليك وما انزل من قبلك} فقوله يؤمنون بالغيب يتناول الغيب الذي يجب الايمان به لكن فيه اجمال فليس فيه دلالة على ان من الغيب ما انزل اليك وما انزل من قبلك وقد يكون المقصود انهم يؤمنون بالمخبر به وهو الغيب وبالاخبار بالغيب وهو ما انزل إليك وما انزل من قبلك ومن هذا الباب قوله تعالى {اتل ما اوحى اليك من الكتاب واقم الصلاة وقوله والذين يمسكون بالكتاب واقاموا الصلاة} و تلاوة الكتاب هي اتباعه كما قال ابن مسعود فى قوله تعالى {الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته} قال يحللون حلاله ويحرمون حرامه ويؤمنون بمتشابهة ويعملون بمحكمه فاتباع الكتاب يتناول الصلاة وغيرها لكن خصها بالذكر لمزيتها وكذلك قوله لموسى {اننى انا الله لا اله الا انا فاعبدني واقم الصلاة لذكرى} واقامة الصلاة لذكره من اجل عبادته وكذلك قوله تعالى {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة} وقوله {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} فإن هذه الامور هي ايضا من تمام تقوى الله وكذلك قوله {فاعبده وتوكل عليه} فان التوكل والاستعانة هي من عبادة الله لكن خصت بالذكر ليقصدها المتعبد بخصوصها فانها هى العون على سائر انواع العبادة اذ هو سبحانه لا يعبد الا بمعونته اذا تبين هذا فكمال المخلوق فى تحقيق عبوديته لله وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم ان المخلوق يخرج من العبودية بوجه من الوجوه او ان الخروج عنها اكمل فهو من اجهل الخلق واضلهم قال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عياد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون} الى قوله {وهم من خشيته مشفقون} وقال تعالى {وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا ادا} الى قوله {ان كل من فى السموات والأرض الا آتى الرحمن عبدا لقد احصاهم وعدهم عدا وكلهم آتية يوم القيامة فردا} وقال تعالى فى المسيح {ان هو الا عبد انعمنا عليه وجعلناه مثلا لبنى اسرائيل} وقال تعالى {وله من فى السموات والأرض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وقال تعالى {لن يستنكف المسيح ان يكون عبدا لله والملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم اليه جميعا} الى قوله {ولا يجدون لهم دون وليا ولا نصيرا} وقال تعالى {وقال ربكم ادعونى استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين} وقال تعالى {ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذى خلقهن ان كنتم اياه تعبدون فان استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون} وقال تعالى {واذكر ربك فى نفس تضرعا وخيفة} الى قوله {ان الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحون وله يسجدون} .


    وهذا ونحوه مما فيه وصف اكابر المخلوقات بالعبادة وذم من خرج عن ذلك متعدد فى القرآن وقد اخبر انه ارسل جميع الرسل بذلك فقال تعالى {وما ارسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا اله الا انا فاعبدون} وقال {ولقد بعثنا فى كل امة رسولا ان اعبدواواجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى لبنى اسرائيل { يا عبادى الذين آمنوا ان ارضي واسعة فاياى فاعبدون واياي فاتقون} وقال {يا ايها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون} وقال {وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون} وقال تعالى {قل انى امرت ان اعبد الله مخلصا له الدين وامرت لأن اكون اول المسلمين قل انى اخاف ان عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله اعبد مخلصا له دينى فاعبدوا ما شئتم من دونه}.


    وكل رسول من الرسل افتتح دعوته بالدعاء الى عبادة الله كقول نوح ومن بعده عليم السلام اعبدوا الله ما لكم من اله غيره وفى المسند عن ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال بعثت بالسيف بين يدى الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقى تحت ظل رمحى وجعل الذلة والصغار على من خالف امرى.


    وقد بين ان عباده هم الذين ينجون من السيئات قال الشيطان {فبما اغويتنى لازينن لهم فى الأرض ولاغوينهم اجمعين الاعبادك منهم المخلصين} قال تعالى {ان عبادى ليس عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين} وقال {فبعزتك لاغوينهم اجمعين الا عبادك منهم المخلصين} وقال فى حق يوسف {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين} وقال {سبحان الله عما يصفون الا عباد الله المخلصين} وقال {انه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} وبها نعت كل من اصطفى من خلقه كقوله {واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب اولي الايدى والأبصار انا اخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وانهم عندنا لمن المصطفين الاخيار} وقوله {واذكر عبدنا داود ذا الايد انه أواب} وقال عن سليمان {نعم العبد انه أواب} وعن أيوب {نعم العبد} وقال {واذكر عبدنا ايوب اذ نادى ربه} وقال عن نوح عليه السلام {ذرية من حملنا مع نوح انه كان عبدا شكورا} وقال {سبحان الذى اسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى} وقال {وانه لما قام عبد الله يدعوه} وقال {وان كنتم فى ريب مما نزلنا على عبدنا} وقال {فأوحى الى عبده ما أوحى} وقال {عينا يشرب بها عباد الله} وقال {وعباد الرحمن الذين يمشون على الارض هونا} ومثل هذا كثير متعدد فى القرآن.

    فصل

    اذا تبين ذلك فمعلوم ان هذا الباب يتفاضلون فيه تفاضلا عظيما وهو تفاضلهم فى حقيقة الايمان وهم ينقسمون فيه الى عام وخاص ولهذا كانت ربوبية الرب لهم فيها عموم وخصوص ولهذا كان الشرك فى هذه الامة أخفى من دبيب النمل وفى الصحيح عن النبى صلى اله عليه وسلم انه قال تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش ان اعطى رضى وان منع سخط.

    فسماه النبى صلى الله عليه وسلم عبد الدرهم وعبد الدينار وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر ما فيه دعاء وخبر وهو قوله تعس وانتكس واذا شيك فلا انتقش والنقش اخراج الشوكة من الرجل والمنقاش ما يخرج به الشوكة وهذه حال من اذا اصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بانه اذا اعطى رضى واذا منع خط كما قال تعالى ومنهم من يلمزك فى الصدقات فإن اعطوا منها رضوا وان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون فراضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة او بصورة ونحو ذلك من اهواء نفسه ان حصل له رضي وان لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له اذا الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده ولهذا يقال:

    العبد حر ما قنع * والحر عبد ما طمع.
    وقال القائل: اطعت مطامعى فاستعبدتنى ولو انى قنعت لكنت حرا.
    ويقال: الطمع غل فى العنق قيد فى الرجل فاذا زال الغل من العنق زال القيد من الرجل ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه قال الطمع فقر واليأس غنى وان احدكم اذا يئس من شيء استغنى عنه وهذا امر يجده الانسان من نفسه فان الامر الذى ييأس منه لا يطلبه ولا يطمع به ولا يبقى قلبه فقيرا اليه ولا الى من يفعله واما اذا طمع فى امر من الامور ورجاه تعلق قلبه به فصار فقيرا الى حصوله والى من يظن انه سبب فى حصوله وهذا فى المال والجاه والصور وغير ذلك قال الخليل صلى الله عليه وسلم فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له اليه ترجعون فالعبد لا بد له من الرزق وهو محتاج الى ذلك اذا طلب رزقه من الله صار عبدا لله فقيرا اليه وان طلبه من مخلوق صار عبدا لذلك المخلوق فقيرا اليه.

    ولهذا كانت مسألة المخلوق محرمة فى الاصل وانما ابيحت للضرورة وفى النهى عنها احاديث كثيرة فى الصحاح والسنن والمسانيد كقوله صلى الله عليه وسلم لا تزال المسألة بأحدكم حتى يأتى يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم وقوله من سأل الناس وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشا او خموشا او كدوحا فى وجهه وقوله لا تحل المسألة الا لذى غرم مفظع او دمع موجع او فقر مدقع هذا المعنى فى الصحيح وفيه ايضا لأن يأخذ احدكم حبله فيذهب فيحتطب خير له من ان يسأل الناس اعطوه او منعوه وقال ما اتاك من هذا المال وانت غير سائل ولا مشرف فخذه ومالا فلا تتبعه نفسك فكره اخذه من سؤال اللسان واستشراف القلب وقال في الحديث الصحيح من يستغن يغنه الله ومن يستعفف يعفه الله ومن يتصبر يصبره الله ما اعطى احد عطاء خيرا واوسع من الصبر واوصى خواص اصحابه ان لا يسألوا الناس شيئا وفى المسند ان ابا بكر كان يسقط السوط من يده فلا يقول لأحد ناولنى اياه ويقول ان خليلي امرنى ان لا اسأل الناس شيئا وفى صحيح مسلم وغيره عن عوف بن مالك ان النبى صلى الله عليه وسلم بايعه فى طائفة واسر اليهم كلمة خفية ان لا تسألوا الناس شيئا فكان بعض اولئك النفر يسقط السوط من يد احدهم ولا يقول لاحد ناولنى اياه.


    وقد دلت النصوص على الامر بمسألة الخالق والنهي عن مسألة المخلوق فى غير موضع كقوله تعالى فإذا فرغت انصب والى ربك فارغب وقول النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس اذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله ومنه قول الخليل فابتغوا عند الله الرزق ولم يقل فابتغوا الرزق عند الله لأن تقديم الظرف يشعر بالاختصاص والحصر كانه قال لا تبتغوا الرزق الا عند الله وقد قال تعالى واسألوا الله من فضله والانسان لا بد له من حصول ما يحتاج اليه من الرزق ونحوه ودفع ما يضره وكلا الامرين شرع له ان يكون دعاؤه لله فله ان يسأل الله واليه يشتكى كما قال يعقوب عليه السلام {انما اشكو بثي وحزنى الى الله}


    والله تعالى ذكر فى القرآن الهجر الجميل و الصفح الجميل و الصبر الجميل.

    وقد قيل: ان الهجر الجميل هو هجر بلا اذى والصفح الجميل صفح بلا معاتبة والصبر الجميل صبر بغير شكوى الى المخلوق ولهذا قرىء على احمد بن حنبل فى مرضه ان طاوسا كان يكره انين المريض ويقول انه شكوى فما ان احمد حتى مات.

    واما الشكوى الى الخالق فلا تنافى الصبر الجميل فان يعقوب قال فصبر جميل وقال {انما اشكو بثي وحزنى الى الله} وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ فى الفجر بسورة يونس و يوسف و النحل فمر بهذه الآية فى قراءته فبكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف ومن دعاء موسى اللهم لك الحمد واليك المشتكى وانت المستعان وبك المستغاث وعليك التكلان ولا حول ولا قوة الا بك وفى الدعاء الذي دعا به النبى صلى الله عليه وسلم لما فعل به اهل الطائف ما فعلوا اللهم اليك اشكو ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس انت رب المستضعفين وانت ربي اللهم الى من تكلنى الى بعيد يتجهمنى ام الى عدو ملكته امري ان لم يكن بك غضب علي فلا ابالي غير ان عاقبتك اوسع لي اعوذ بنور وجهك الذي اشرقت به الظلمات وصلح عليه امر الدنيا والآخرة ان ينزل بي سخطك او يحل على غضبك لك العتبى حتى ترضى فلا حول ولا قوة الا بك وفى بعض الروايات ولا حول ولا قوة الا بك.

    وكلما طمع العبد فى فضل الله ورحمته ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته قويت عبوديته له وحريته مما سواه فكما ان طمعه فى المخلوق يوجب عبوديته له فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه كما قيل استغن عمن شئت تكن نظيره وافضل على من شئت تكن اميره واحتج الى من شئت تكن اسيره فكذلك طمع العبد فى ربه ورجاؤه له يوجب عبوديته له واعراض قلبه عن الطلب من غير الله والرجاء له يوجب انصراف قلبه عن العبودية لله لا سيما من كان يرجو المخلوق ولا يرجو الخالق بحيث يكون قلبه معتمدا اما على رئاسته وجنوده واتباعه ومماليكه واما على اهله واصدقائه واما على امواله وذخائره واما على ساداته وكبرائه كمالكه وملكه وشيخه ومخدومه وغيرهم ممن هو قد مات او يموت قال تعالى وتوكل على الحى الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا.

    وكل من علق قلبه بالمخلوقات ان ينصروه او يرزقوه او ان يهدوه خضع قلبه لهم وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك وان كان فى الظاهر اميرا لهم مدبرا لهم متصرفا بهم فالعاقل ينظر الى الحقائق لا الى الظواهر فالرجل اذا تعلق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلب اسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد وهو فى الظاهر سيدها لانه زوجها وفي الحقيقة هو اسيرها ومملوكها لا سيما اذا درت بفقره اليها وعشقه لها وانه لا يعتاض عنها بغيرها انها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذى لا يستطيع الخلاص منه بل اعظم فإن اسر القلب اعظم من اسر البدن واستعباد القلب اعظم من استعباد البدن فان من استعبد بدنه واسترق لا يبالى اذا كان قلبه متريحا من ذلك مطمئنا بل يمكنه الاحتيال فى الخلاص واما اذا كان القلب الذي هو الملك رقيقا مستعبدا متيما لغير الله هذا هو الذل والاسر المحض والعبودية لما استعبد القلب.


    وعبودية القلب واسره هي التى يترتب عليها الثواب والعقاب ان المسلم لو اسره كافر او استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك اذا كان قائما بما يقدر علي من الواجبات ومن استعبد بحق اذا ادى حق الله وحق مواليه له اجران ولو اكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالايمان لم يضره ذلك واما من استعبد قلبه صار عبدا لغير الله فهذا يضره ذلك ولو كان فى الظاهر ملك الناس.


    فالحرية حرية القلب والعبودية عبودية القلب كما ان الغنى غنى النفس قال النبى صلى الله عليه وسلم ليس الغنى عن كثرة العرض وانما الغنى غنى النفس وهذا لعمري اذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة فاما من استعبد قلبه صورةمحرمة امرأة اوصبى فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه وهؤلاء من اعظم الناس عذابا واقلهم ثوابا فإن العاشق لصورة اذا بقى قلبه متعلقا بها مستعبدا لها اجتمع له من انواع الشر والفساد ما لا يحصيه الا رب العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة اشد ضررا عليه ممن يفعل ذنبا ثم يتوب منه ويزول اثره من قلبه وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين كما قيل:

    سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى افاقة من به سكران.
    وقيل قالوا:
    جننت بمن تهوى فقلت لهم * العشق اعظم مما بالمجانين
    العشق لا يستفيق الدهر صاحبه * وانما يصرع المجنون فى الحين

    ومن اعظم اسباب هذا البلاء اعراض القلب عن الله فان القلب اذا ذاق طعم عبادة الله والاخلاص له لم يكن عنده شىء قط احلى من ذلك ولا ألذ ولا اطيب والانسان لا يترك محبوبا الا بمحبوب آخر يكون أحب اليه منه او خوفا من مكروه فالحب الفاسد انما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح او بالخوف من الضرر قال تعالى في حق يوسف كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل الى الصورة والتعلق بها ويصرف عنه الفحشاء باخلاصه لله.


    ولهذا يكون قبل ان يذوق حلاوة العبودية لله والاخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها فاذا ذاق طعم الاخلاص وقوى فى قلبه انقهر له هواء بلا علاج قال تعالى ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله اكبر فان الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله وحصول هذا المحبوب اكبر من مندفع المكروه فان ذكر الله عبادة لله وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها واما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع.


    والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه فلما عرضت له ارادة الشر طلب دفع ذلك فانه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل ولهذا قال تعالى قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها وقال تعالى {قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} وقال {قل للمؤمنين يغضوا من ابصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك ازكى لهم} وقال تعالى {ولو لا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد ابدا} فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو ازكى للنفس وبين ان ترك الفواحش من زكاة النفوس وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك وكذلك طالب الرئاسة والعلو فى الارض قلبه رقيق لمن يعينه عليها ولو كان فى الظاهر مقدمهم والمطاع فيهم فهو فى الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ويعفو عنهم ليطيعوه ويعينوه فهو فى الظاهر رئيس مطاع وفى الحقيقة عبد مطيع لهم والتحقيق ان كلاهما فيه عبودية للآخر وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله واذا كان تعاونهما على العلو فى الأرض بغير الحق كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة او قطع الطريق فكل واحد من الشخصين لهواه الذي استعبده واسترقه يستعبده الآخر وهكذا ايضا طالب المال فان ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان.

    منها ما يحتاج العبد اليه كما يحتاج اليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك هذا يطلبه من الله ويرغب اليه فيه يكون المال عنده يستعمله فى حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطة الذي يجلس عليه بل بمنزة الكنيف الذي يقضى فيه حاجته من غير ان يستعبده فيكون هلوعا اذا مسه الشر جزوعا واذا مسه الخير منوعا.

    و منها ما لا يحتاج العبد اليه فهذه لا ينبغى له ان يعلق قلبه بها فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها وربما صار معتمدا على غير الله فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله ولا حقيقة التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من احق الناس بقوله صلى الله عليه وسم تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة وهذا هو عبد هذه الأمور فلو طلبها من الله فإن الله اذا اعطاه اياها رضي واذا منعه اياها سخط وانما عبد الله من يرضيه ما يرضى الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما احبه الله ورسوله ويبغض ما ابغضه الله ورسوله ويوالي اولياء الله ويعادى اعداء الله تعالى وهذا هو الذى استكمل الايمان كما فى الحديث من احب لله وابغض لله واعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان وقال اوثق عرى الايمان الحب فى الله والبغض فى الله.

    وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله احب اليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه الا لله ومن كان يكره ان يرجع فى الكفر بعد اذ انقذه الله منه كما يكره ان يلقى فى النار فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه فكان الله ورسوله احب اليه مما سواهما واحب المخلوق لله لا لغرض آخر فكان هذا فكان من تمام حبه لله فان محبة محبوب من تمام محبة المحبوب فاذا احب أنبياء الله واولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر فقد احبهم لله لا لغيره وقد قال تعالى {فسوف يأتى الله بقوم يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين}.

    ولهذا قال تعالى {قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحببكم الله} فان الرسول يأمر بما يحب الله وينهى عما يبغضه الله ويفعل ما يحبه الله ويخبر بما يحب الله التصديق به فمن كان محبا لله لزم ان يتبع الرسول فيصدقه فيما اخبر ويطيعه فيما امر ويتأسى به فيما فعل ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله فيحبه الله فجعل الله لأهل محبته علامتين اتباع الرسول والجهاد فى سبيله.


    وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد فى حصول ما يحب الله من الايمان والعمل الصالح ومن دفع ما يبغضه الله من الكفر والفسوق والعصيان وقد قال تعالى قل ان كان آباؤكم وانباؤكم واخوانكم وازواجكم وعشيرتكم الى قوله حتى يأتى الله بأمره فتوعد من كان اهله وماله احب اليه من الله ورسوله والجهاد فى سبيله بهذا الوعيد بل قد ثبت نه فى الصحيح انه قال والذى نفسى بيده لا يؤمن احدكم حتى اكون احب اليه من ولده ووالده والناس اجمعين وفى الصحيح ان عمر بن الخطاب قال له يا رسول الله والله لأنت احب الي من كل شيء الا من نفسى فقال لا يا عمر حتى اكون احب اليك من نفسك فقال فوالله لأنت احب الي من نفسي فقال الأن يا عمر.


    فحقيقة المحبة لا تتم الا بموالاة المحبوب وهو موافقته فى حب ما يحب وبغض ما يبغض والله يحب الايمان والتقوى ويبغض الكفر والفسوق والعصيان ومعلوم ان الحب يحرك ارادة القلب فكلما قويت المحبة فى القلب طلب القلب فعل المحبوبات فاذا كانت المحبة تامة استلزمت ارادة جازمة فى حصول المحبوبات فاذا كان العبد قادرا عليها حصلها وان كان عاجزا عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل كما قال النبى صلى الله عليه وسلم من دعا الى هدى كان له من الأجر مثل اجور من اتبعه من غير ان ينقص من اجورهم شيئا ومن دعا الى ضلالة كان عليه من الوزر مثل اوزار من اتبعه من غير ان ينقص من اوزارهم شيئا وقال ان بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا الا كانوا معكم قالوا وهم بالمدينة قال هم بالمدينة حبسهم العذر.


    و الجهاد هو بذل الوسع وهو القدرة فى حصول محبوب الحق ودفع ما يكرهه الحق فاذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان دليلا على ضعف محبة الله ورسوله فى قلبه ومعلوم ان المحبوبات لا تنال غالبا الا باحتمال المكروهات سواء كانت محبة صالحة فاسدة فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم الا بضرر يلحقهم فى الدنيا مع ما يصيبهم من الضرر فى الدنيا والآخرة فالمحب لله ورسوله اذا لم يتحمل ما يرى ذو الرأى من المحبين لغير الله مما يحتملون فى حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبتهم لله اذا كان ما يسلكه اولئك هو الطريق الذي يشير به العقل.


    ومن المعلوم ان المؤمن اشد حبا لله كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حبا لله نعم قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقا لالا يحصل بها المطلوب فمثل هذه الطريق لا تحمد اذا كانت المحبة صالحة محمودة فكيف اذا كانت المحبة فاسدة والطريق غير موصل كما يفعله المتهورون فى طلب المال والرئاسة والصور في حب امور توجب لهم ضرر ولا تحصل لهم مطلوبا وانما المقصود الطرق التى يسلكها العقل حصول مطلوبه.


    واذا تبين هذا فكلما ازداد القلب حبا لله ازداد له عبودية وكلما ازداد له عبودية ازداد له حبا وحرية عما سواه والقلب فقير بالذات الى الله من وجهين من جهة العبادة وهى العلة الغائبة ومن جهة الاستعانة والتوكل وهى العلة الفاعلية فالقلب لا يصلح ولا يفلح ولا يلتذ ولا يسر لا يطيب ولا يسكن ولا يطمئن الا بعبادة ربه وحبه والانابة اليه ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن اذ فيه فقر ذاتى الى ربه ومن حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة.


    وهذا لا يحصل له إلا باعانة الله له لا يقدر على تحصيل ذلك له الا الله فهو دائما مفتقر الى حقيقة اياك نعبد واياك نستعين فانه لو أعين على حصول ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده ولم يحصل له عبادته لله بحيث يكون هو غاية مراده ونهاية مقصودة وهو الحبوب له بالقصد الأول وكل ما سوا انما يحبه لأجله لا يحب شيئا لذاته الا الله متى لم يحصل له هدا لم يكن قد حقق حقيقة لا اله الا الله ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة وكان فيه من النقص والعيب بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك.


    ولو سعى فى هذا المطلوب ولم يكن مستعينا بالله متوكلا عليه مفتقرا اليه فىى حصوله لم يحصل له فانه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهو مفتقر الى الله من حيث هو المطلوب المحبوب المراد المعبود ومن حيث هو المسؤول المستعان به المتوكل عليه فهو الهه لا اله له غيره وهو ربه لا رب سواه.


    ولا تتم عبوديته لله الا بهذين فمتى كان يحب غير الله لذاته او يلتفت الى غير الله انه يعينه كان عبدا لما احبه وعبدا لما رجاه بحسب حبه له ورجائه اياه واذا لم يحب لذاته الا الله وكلما احب سواه فانما احبه له ولم يرج قط شيئا الا الله واذا فعل ما فعل من الأسباب او حصل ما حصل منها كان مشاهدا ان الله هو الذي خلقها وقدرها وان كل ما فى السموات والارض فالله ربه ومليكه وخالقه وهو مفتقر اليه كان قد حصل له من تمام عبوديته لله بحسب ما قسم له من ذلك والناس فى هذا على درجات متفاوتة لا يحصى طرفيها الا الله.

    فأكمل الخالق وأفضلهم واعلاهم واقربهم الى الله واقواهم واهداهم اتمهم عبودية لله من هذا الوجه.

    وهذا هو حقيقة دين الاسلام الذى أسل به رسله وانزل به كتبه وهو ان يستسلم العبد لله لا لغيره فالمستسلم له ولغيره مشرك والممتنع عن الاستسلام له مستكبر وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ان الجنه لا يدخلها من فى قلبه مثقال ذره من كبر كما النار لا يدخلها من فى قلبه مثقال ذرة من الايمان فجعل الكبر مقابلا للايمان فان الكبر ينافى حقيقة العبودية كما ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال يقول الله العظمة ازارى والكبرياء ردائي فمن نازعني واحدا منهما عذبته فالعظمة والكبرياء من خصائص الربوبية والكبرياء اعلى من العظمة ولهذا جعلها بمنزلة الرداء كما جعل العظمة بمنزلة الازار.


    ولهذا كان شعار الصلوات والاذان والاعيا هو التكبير وكان مستحبا فى الامكنة العالية كالصفا والمروة واذا علا الانسان شرفا او ركب دابة ونحو ذلك وبه يطفأ الحريق وان عظم وعند الاذان يهرب الشيطان قال تعالى وقال بكم ادعونى استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلون جهنم داخرين.


    وكل من استكبر عن عبادة الابد ان يعبد غيره فإن الانسان حساس يتحرك بالارادة وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال اصدق الاسماء حارث وهمام فالحارث الكاسب الفاعل والهمام فعال من الهم والهم اول الارادة فالانسان له ارادة دائما وكل ارادة فلا بد لها من مراد تنتهي اليه فلا بد لكل عبد من مراد محبوب هو منتهى حبه وارادته فمن لم يكن الله معبوده ومنتهى حبه وارادته بل استكبر عن ذلك فلا بد ان يكون له مراد محبوب يستعبده غير الله فيكون عبدا لذلك المراد المحبوب اما المال واما الجاه واما الصور واما ما يتخذه الها من دون الله كالشمس والقمر والكواكب والاوثان وقبور الانبياء والصالحين او من الملائكة والانبياء الذين يتخذهم اربابا او غير ذلك مما عبد من دون الله.


    واذا كان عبدا لغير الله يكون مشركا وكل مستكبر فهو مشرك ولهذا كان فرعون من اعظم الخلق استكبارا عن عبادة الله وكان مشركا قال تعالى {ولقد ارسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين الى فرعون وهامان وقارون فقالوا ساحر كذاب} إلى قوله {وقال موسى إني عذت بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} الى قوله {كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار} وقال تعالى {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الارض وما كانوا سابقين} وقال تعالى {ان فرعون علا فى الارض وجعل اهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح ابناءهم ويستحى نساءهم} الى قوله {فانظر كيف كان عاقبة المفسدين}.

    ومثل هذا فى القرآن كثير.
    وقد وصف فرعون بالشرك فى قوله {وقال الملأ من قوم فرعون اتذر موسى وقومه ليفسدوا فى الارض ويذرك وآلهتك} بل الاستقراء يدل على انه كلما كان الرجل اعظم استكبارا عن عبادة الله كان الرجل اعظم اشراكا بالله لانه كلما استكبر عن عبادة الله ازداد فقره او حاجته الى المراد المحبوب الذي هو المقصود مقصود القلب بالقصد الاول فيكون مشركا بما استعبده من ذلك.

    ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات الا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا اياه ولا يستعين الا به ولا يتوكل الا عليه ولا يفرح الا بما يحبه ويرضاه ولا يكره الا ما يبغضه الرب ويكرهه ولا يوالي الا من والاه الله ولا يعادى الا من عاداه الله ولا يحب إلا الله ولا يبغض شيئا الا لله ولا يعطى الا الله ولا يمنع الا الله فكلما قوى اخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك. والشرك غالب على النصارى والكبر غالب على اليهود قال تعالى فى النصارى {اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما امروا الا ليعبدوا الها واحدا لا اله الا هو سبحانه عما يشركون} وقال فى اليهود {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى انفسكم استكبرتم ففريق كذبتم وفريق تقتلون} وقال تعالى {سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون فى الارض بغير الحق وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا}. ولما كان الكبر مستلزما للشرك والشرك ضد الاسلام وهو الذنب الذى لا يغفره الله ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى اثما عظيما وقال ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا كان الانبياء جميعهم مبعوثين بدين الاسلام فهو الدين الذى لا يقبل الله غيره لا من الاولين ولا من الآخرين قال نوح {فان توليتم فما سألتكم من اجر أن اجرى الا على الله وامرت ان اكون من المسلمين} وقال فى حق ابراهيم {ومن يرغب عن ملة ابراهيم الا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه فى الدنيا وانه فى الاخرة لمن الصالحين اذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين} الى قوله {فلا تموتن الا وانتم مسلمون} وقال يوسف {توفنى مسلما والحقنى بالصالحين} وقال موسى {يا قوم ان كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا ان كنتم مسلمين فقالوا على الله توكلنا} وقال تعالى {انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا} وقالت بلقيس {رب انى ظلمت نفسى واسلمت مع سليمان لله رب العالمين} وقال {واذ اوحيت الى الحواريين ان آمنوا بى وبرسولى قالوا امنا واشهد بأننا مسلمون} وقال {ان الدين عند الله الاسلام} وقال {ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه}.


    وقال تعالى {افغير دين الله يبغون وله اسلم من فى السموات والارض طوعا وكرها} فذكر اسلام الكائنات طوعا وكرها لان المخلوقات جميعها متعبدة له التعبد العام سواء اقر المقر بذلك او انكره وهم مدينون مدبرون فهم مسلمون له طوعا وكرها ليس لاحد من المخلوقات خروج عما شاءه وقدره ولا حول ولا قوة الا به وهو رب العالمين ومليكهم يصرفهم كيف يشاء وهو خالقهم كلهم وبارئهم ومصورهم وكل من سواه فهو مربوب مصنوع ومفطور فقير محتاج معبد مقهور وهو الواحد القهار الخالق البارى المصور وهو ان كان قد خلق ما خلقه بأسباب فهو خالق السبب والمقدر له وهو مفتقر اليه كافتقار هذا وليس فى المخلوقات سبب مستقل بفعل ولا دفع ضرر بل كل ما هو سبب فهو محتاج الى سبب اخر يعاونه والى ما يدفع عنه الضد الذي يعارضه ويمانعه.


    وهو سبحانه وحده الغنى عن كل ما سواه ليس له شريك يعاونه ولا ضد يناوئه ويعارضه قال تعالى { قل ارايتم ما تدعون من دون الله ان ارادنى الله بضر هل هن كاشفات ضره او ارادنى برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبى الله عليه يتوكل المتوكلون} وقال تعالى {وان يمسسك الله بضر فلا كاشف له الا هو وان يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير} وقال تعالى عن الخليل {يا قوم انى بريء مما تشركون انى وجهت وجهى للذى فطر السموات والارض حنيفا وما انا من المشركين وحاجه قومه قال اتحاجوني فى الله وقد هدان ولا اخاف ما تشركون به الا ان يشاء ربي شيئا} الى قوله تعالى {الذين آمنوا ولم يلبسوا ايمانهم بظلم اولئك لهما الامن وهو مهتدون}.


    وفى الصحيحين عن ابن مسعود رضى الله عنه ان هذه الاية لما نزلت شق ذلك على اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم وقالوا يا رسول الله اينا لم يلبس ايمانا بظلم فقال انما هو الشرك الم تسمعوا الى قول العبد الصالح ان الشرك لظلم عظيم.


    وابراهيم الخليل امام الحنفاء المخلصين حيث بعث وقد طبق الارض دين المشركين قال الله تعالى {واذا ابتلى ابراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال انى جاعلك للناس اماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدى الظالمين} فبين ان عهده بالامامة لا يتناول الظالم فلم يأمر الله سبحانه ان يكون الظالم اماما واعظم الظلم الشرك وقال تعالى {ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين} و الامة هو معلم الخير الذي يؤتم به كما ان القدوة الذي يقتدى به.


    والله تعالى جعل فى ذريته النبوة والكتاب وانما بعث الانبياء بعده بملته قال تعالى {ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين} وقال تعالى {ان اولى الناس بابراهيم للذين اتبعوه وهذا النبى والذين آمنوا والله ولى المؤمنين} وقال تعالى {وما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين} وقال تعالى {وقالوا كونوا هودا او نصارى تهتدوا قل بل ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين قولوا امنا بالله وما انزل الينا وما انزل الى ابراهيم واسماعيل واسحاق ويعقوب والاسباط الى قوله ونحن له مسلمون}.


    وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم ان ابراهيم خير البرية فهو افضل الانبياء بعد النبى صلى الله عليه وسلم وهو خليل الله تالى وقد ثبت فى الصحيح عن النبى صلى الله عليه وسلم من غير وجه انه قال ان الله اتخذنى خليلا كما اتخذ ابراهيم خليلا وقال لو كنت متخذا من اهل الارض خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا ولكن صاحبكم خليل الله يعنى نفسه وقال لا يبقين فى المسجد خوخة الا سدت الا خوخة ابى بكر وقال ان من كان قبلكم يتخذون القبور مساجد الا فلا تتخذوا القبور مساجد فانى انهاكم عن ذلك وكل هذا فى الصحيح وفيه انه قال ذلك قبل موته بايام وذلك من تمام رسالته.


    فإن في ذلك تحقيق تمام مخالقه لله التى اصلها محبة الله تعالى للعبد ومحبة العبد لله خلافا للجهمية وفي ذلك تحقيق توحيد الله ان لا يعبدوا الا اياه ورد على اشباه المشركين.


    وفيه رد على الرافضة الذين يبخسون الصديق حقه وهم اعظم المنتسبين الى القبلة اشراكا بالبشر و الخلة هي كمال المحبة المستلزمة من العبد كمال العبودية لله ومن الرب سبحانه كمال الربوبية لعباده الذين يحبهم ويحبونه ولفظ العبودية يتضمن كمال الذل وكمال الحب فانهم يقولون قلب متيم اذا كان متعبدا للمحبوب والمتيم المتعبد وتيم الله عبده وهذا على الكمال حصل لابراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم ولهذا لم يكن له ان اهل الارض خليل اذ الخلة لاتحتمل الشركة فانه كما قيل فى المعنى.


    قد تخللت مسلك الروح منى وبذا سمى الخليل خليلا.


    بخلاف اصل الحب فانه صلى الله عليه وسلم قد قال فى الحديث الصحيح فى الحسن واسامة اللهم انى احبهما فأحبهما واحب من يحبهما وسأله عمرو بن العاص اي الناس احب اليك قال عائشة قال فمن الرجال قال ابوها وقال لعلي رضي الله عنه لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله وامثال ذلك كثير .


    وقد اخبر تعالى انه يحب المتقين ويحب المحسنين ويحب المقسطين ويحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الذين يقاتلون فى سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص وقال فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه فقد اخبر بمحبته لعباده المؤمنين ومحبة المؤمنين له حتى قال {والذين آمنوا اشد حبا لله}.


    واما الخلة فخاصة وقول بعض الناس ان محمدا حبيب الله وابراهيم خليل الله وظنه ان المحبة فوق الخلة قول ضعيف فان محمدا ايضا خليل الله كما ثبت ذلك فى الاحاديث الصحيحة المستفيضة وما يروى ان العباس يحشر بين حبيب وخليل وامثال ذلك فاحاديث موضوعة لا تصلح ان يعتمد عليها.

    وقد قدمنا ان من محبة الله تعالى محبة ما احب كما فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان من كان الله ورسوله احب اليه مما سواهما ومن كان يحب المرء لا يحبه الا لله ومن كان يكره ان يرجع فىالكفر بعد اذ أنقذه الله منه كما يكره ان يلقى فى النار اخبرالنبى صلى الله عليه وسلم ان هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان لان وجد الحلاوة بالشئ يتبع المحبة له فمن احب شيئا او اشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك واللذة امر يحصل عقب ارداك الملائم الذى هو المحبوب او المشتهى.

    ومن قال ان اللذة إدراك الملائم كما يقوله من يقوله من المتفلسفة والأطباء فقد غلط فى ذلك غلطا بينا فان الادراك يتوسط بين المحبة واللذة فإن الإنسان مثلا يشتهى الطعام فإذا كله حصل له عقيب ذلك اللذة فاللذة تتبع النظر إلى الشيء فإذا نظر إليه التذ فاللذة تتبع النظر ليست نفس النظر وليست هى رؤية الشئ بل تحصل عقيب رؤيته وقال تعالى وفيها ما تشتهيه وتلذ الاعين وهكذا جميع ما يحصل للنفس من اللذات والآلام من فرح وحزن ونحو ذلك يحصل بالشعور بالمحبوب أو الشعور بالمكروه وليس نفس الشعور هو والفرح ولا الحزن فحلاوة الايمان المتضمنة من اللذة به والفرح ما يجده المؤمن الواجد من حلاوة الايمان تتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور.


    تكميل هذه المحبة وتفريعها ودفع ضدها.

    فتكميلها أن يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما فان محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها باصل الحب بل لا بد ان يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما كما تقدم.

    و تفريعها أن يحب المرء لا يحبه الا لله.


    و دفع ضدها ان يكره ضد الايمان اعظم من كراهته الالقاء فىالنار فاذا كانت محبة الرسول والمؤمنين من محبة الله وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب المؤمنين الذين يحبهم الله أنه اكمل الناس محبةلله واحقهم بأن يحب ما يحبه الله ويبغض ما يغضه الله و الخلة ليس لغير الله فيها نصيب بل قال لوكنت متخذا من اهل الأرض خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا علم مزيد مرتبة الخلة على مطلق المحبة.


    والمقصود هو ان ا لخلة و المحبة لله تحقيق عبوديته وانما يغلط من يغلط فى هذه من حيث يتوهمون ان العبودية مجرد ذل وخضوع فقط لا محبة معه او ان المحبة فيها انبساط فى الأهواء او ادلال لا تحتمله الربوبية ولهذا يذكر عن ذى النون انهم تكلموا عنده فى مسألة المحبة فقال امسكوا عن هذه المسألة لا تسمعها النفوس فتدعيها وكره من كره من اهل المعرفة والعلم مجالسة اقوام يكثرون الكلام فى المحبة بلا خشية وقال من قال من السلف من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء ومن عبده بالخوف وحده فهو حرورى ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد ولهذا وجد فى المستأخرين من انبسط فى دعوى المحبة حتى اخرجه ذلك الى نوع من الرعونة والدعوى التى تنافى العبودية وتدخل العبد فى نوع من الربوبية التى لا تصلح الا الله ويدعى احدهم دعاوى تتجاوز حدود الأنبياء والمرسلين او يطلبون من الله ما لا يصلح بكل وجه الا الله لا يصلح للأنبياء والمرسلين وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ. وسببه ضعف تحقيق العبودية التى بينتها الرسل وحررها الامر والنهى الذى جاؤا به بل ضعف العقل الذى به يعرف العبد حقيقته واذا ضعف العقل وقل العلم بالدين وفى النفس محبة انبسطت النفس بحمقها فى ذلك كما ينبسط الانسان فى محبة الانسان مع حمقه وجهله ويقول انا محب فلا أؤاخذ بما افعله من انواع يكون فيها عدوان وجهل فهذا عين الضلال وهو شبيه بقول اليهود والنصارى {نحن ابناء الله واحباؤه} قال الله تعالى {قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل انتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} فان تعذيبه لهم بذنوبهم يقتضى انهم غير محبوبين ولا منسوبين اليه بنسبه البنوة بل يقتضى انهم مربوبون مخلوقون.


    فمن كان الله يحبه استعمله فيما يحبه محبوبه لا يفعل ما يبغضه الحق ويسخطه من الكفر والفسوق والعصيان ومن فعل الكبائر واصر عليها ولم يتب منها فان الله يبغض منه ذلك كما يحب منه ما يفعله من الخير اذ حبه للعبد بحسب ايمانه وتقواه ومن ظن ان الذنوب لا تضره يكون الله يحبه مع اصراره عليها كان بمنزلة من زعم ان تناول السم لا يضره مع مداومته عليه وعدم تداويه منه بصحة مزاجه.

    ولو تدبر الاحمق ما قص الله فى كتابه من قصص انبيائه وما جرى لهم من التوبه والاستغفار ومااصيبوا به من انواع البلاء الذى فيه تمحيص لهم وتطهير بحسب احوالهم على بعض ضرر الذنوب باصحابها ولو كان ارفع الناس مقاما فان المحب للمخلوق اذا لم يكن عارفا بمصلحته ولا مريدا لها بل يعمل بمقتضى الحب وان كان جهلا وظلما كان ذلك سببا لبغض المحبوب له ونفوره عنه بل لعقوبته وكثير من السالكين سلكوا فى دعوى حب الله انواعا من أمور الجهل بالدين اما من تعدى حدود الله واما من تضييع حقوق الله واما من ادعاء الدعاوى الباطلة التى لا حقيقة لها كقول بعضهم اى مريد لى ترك فى النار احدا فأنا منه برىء فقال الآخر اى مريد لى ترك احدا من المؤمنين يدخل النار فأنا منه برىء فالأول جعل مريده يخرج كل من فى النار والثانى جعل مريده يمنع اهل الكبائر من دخول النار ويقول بعضهم اذا كان يوم القيامة نصبت خيمتى على جهنم حتى لا يدخلها احد وامثال ذلك من الاقوال التى تؤثر عن بعض المشايخ المشهورين وهى اما كذب عليهم اما غلط منهم ومثل هذا قد يصدر فى حال سكر وغلبة وفناء يسقط فيها تمييز الانسان او يضعف حتى لا يدرى ما قال و السكر هو لذة مع عدم تمييز ولهذا كان بين هؤلاء من اذا صحا استغفر من ذلك الكلام.

    والذين توسعوا من الشيوخ فى سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا اصل مقصدهم ولهذا انزل الله للمحبة محنة يمتحن بها المحب فقال قل ان كنتم تحبون الله فاتبعونى يحبكم الله فلا يكون محبا لله الا من يتبع رسوله وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية.


    وكثير ممن يدعى المحبة يخرج عن شريعته وسنته ويدعى من الخيالات ما لا يتسع هذا الموضع لذكره حتى قد يظن احدهم سقوط الأمر وتحليل الحرام له وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته وطاعته بل قد جعل محبة الله ومحبة رسول الجهاد فى سبيله و الجهاد يتضمن كمال محبة ما امر الله به وكمال بغض ما نهى الله عنه ولهذا قال فى صفة من يحبهم ويحبونه اذلة على المؤمنين اعزة على الكافرين يجاهدن فى سبيل الله.


    ولهذا كانت محبة هذه الأمة لله اكمل من محبة من قبلها وعبوديتهم لله اكمل من عبودية من قبلهم واكمل هذه الأمة فى ذلك اصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن كان بهم اشبه كان ذلك فيه اكمل فأين هذا من قوم يدعون المحبة.


    و فى كلام بعض الشيوخ المحبة نار تحرق فى القلب ما سوى مرادالمحبوب وارادوا ان الكون كله قد اراد الله وجوده فظنوا ان كمال المحبة انيحب العبد كل شىء حتى الكفر والفسوق والعصيان ولا يمكن احدا ان يحب كل موجود بل يحب ما يلائمه وينفعه وببغض ما ينافيه ويضره ولكن استفادوا بهذا الضلال اتباع اهوائهم فهم يحبون ما يهونه كالصور والرئاسة وفضول المال والبدع المضلة زاعمين ان هذا من محبة الله ومن محبة الله بغض ما ببغضه الله ورسوله وجهاد اهله بالنفس والمال واصل ضلالهم ان هذا القائل الذى قال ان المحبة نار تحرق ما سوى مراد المحبوب قصد بمراد الله تعالى الارادة الدينية الئشرعية التى هى بمعنى محبته ورضاه فكأنه قال تحرق من القلب ما سوى المحبوب لله وهذا معنى صحيح فان من تمام الحب ان لا يحب الا ما يحبه الله فاذا احببت ما لا يحب كانت المحبة ناقصة واما قضاؤه وقدره فهو يبغضه ويكرهه ويسخطه وينهى عنه فان لم اوافقه فى بغضه وكراهته وسخطه لم اكن محبا له بل محبا لما يبغضه فاتباع الشريعة والقيام بالجهاد من اعظم الفروق بين اهل محبة الله واوليائه الذين يحبهم ويحبونه وبين من يدعى محبة اللهم ناظرا الى عموم ربوبيته او متبعا لبعض البدع المخالفة لشريعته فإن دعوى هذه المحبة لله من جنس دعوى اليهود والنصارى المحبة لله بل قد تكون دعوى هؤلاء شرا من دعوى اليهود والنصارى لما فيهم من النفاق الذين هم به في الدرك الاسفل من النار كما قد تكون دعوى اليهود والنصارى شرا من دعواهم اذا لم يصلوا الى مثل كفرهم وفى التوراة والانجيل من محبة الله ماهم متفقون عليه حتى كذلك عندهم اعظم وصايا الناموس.

    ففى الانجيل ان المسيح قال اعظم وصايا المسيح ان تحب الله بكل قلبك وعقلك ونفسك والنصارى يدعون قيامهم بهذه المحبة وان ماهم فيه صل الزهد والعبادة هو من ذلك وهم برآء من محبة الله اذ لم يتبعوا ما احبه بل اتبعوا ما اسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط اعمالهم والله يبغض الكافرين ويمقتهم ويلعنهم وهو سبحانه يحب من يحبه لا يمكن ان يكون العبد محبا لله والله تعالى غير محب له بل بقدر محبة العبد لربه يكون حب الله له وان كان جزاء الله لعبده اعظم كما فى الحديث الصحيح الالهى عن الله تعالى انه قال من تقرب الى شبرا تقربت اليه ذراعا ومن تقرب الى ذراعا تقربت إليه باعا ومن اتانى يمشى اتيته هرولة.

    وقد اخبر سبحانه انه يحب المتقين والمحسنين والصابرين ويحب التوابين ويحب التوابين ويحب المتطهرين بل هو يحب من فعل ما امر به من واجب ومستحب كما فى الحديث الصحيح لايزال عبدى يتقرب الى بالنوافل حتى احبه فاذا احببته كنت سمعه الذى يسمع به وبصره الذى يبصر به الحديث.

    وكثير من المخطئين الذين اتبعوا اشياخا فى الزهد والعبادة وقعوا فى بعض ما وقع فيه النصارى من دعوى المحبة لله مع مخالفة شريعته وترك المجاهدة في سبيله ونحو ذلك ويتمسكون فى الدين الذى يتقربون به الى الله بنحو ما تمسك به النصارى من الكلام المتشابه والحكايات التى لايعرف صدق قائلها معصوما فيجعلون متبوعيهم لهم دينا كما جعل النصارى قسيسيهم ورهانهم شارعين لهم دينا ثم انهم ينتقصون العبودية ويدعون ان الخاصة يتعدونها كما يدعى النصارى فى المسيح ويثبتون للخاصة من المشاركة فى الله من جنس ما تثبته النصارى فى المسيح وامه الى انواع اخر يطول شرحها فى هذا الموضع.

    وانما دين الحق هو تحقيق العبودية لله بكل وجه وهو تحقيق محبة الله بكل درجة وبقدر تكميل العبودية تكمل محبة العبد لربه وتكمل محبة الرب لعبده وبقدر نقص هذا يكون نقص هذا وكلما كان فى القلب حب لغير الله كانت فيه عبودية لغير الله بحسب ذلك وكلما كان فيه عبودية لغير الله كان فيه حب لغير الله بحسب ذلك وكل محبة لاتكون لله فهى باطلة وكل عمل لا يراد به وجه الله فهو باطل فالدينا ملعونة ملعون ما فيها إلا ما كان لله ولا يكون لله الا ما أحبه الله ورسوله وهو المشروع فكل عمل أريد به غير الله لم يكن لله وكل عمل لا يوافق شرع الله لم يكن لله بل لا يكون لله الا ما جمع الوصفين ان يكون لله وان يكون موافقا لمحبة الله ورسوله وهو الواجب والمستحب كما قال فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه احدا .


    فلا بد من العمل الصالح وهو الواجب والمستحب ولا بد ان يكون خالصا لوجه الله تعالى كما قال تعالى {بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}.

    وقال النبى صلى الله عليه وسلم من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو رد وقال النبى صلى الله عليه وسلم انما الاعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها او امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه.

    وهذا الأصل هو اصل الدين وبحسب تحقيقه يكون تحقيق الدين وبه ارسل الله الرسل وانزل الكتب واليه دعا الرسول وعليه جاهد وبه امر وفيه رغب وهو قطب الدين الذى تدور عليه رحاه.

    والشرك غالب على النفوس وهو كما جاء فى الحديث وهو فى هذه الأمة احفى من دبيب النمل وفى حديث آخر قال ابو بكر يارسول الله كيف ننجو منه وهو اخفى من دبيب النمل فقال النبى صلى الله عليه وسلم لأبى بكر الا اعلمك كلمة اذا قلتها نجوت من دقة وجلة قل اللهم انى اعوذ بك ان اشرك بك وانا اعلم واستغفرك لما لا اعلم وكان عمر يقول فى دعائه اللهم اجعل عملى كله صالحا واجعله لوجهك ولا تجعل لأحد فيه شيئا.

    وكثيرا ما يخالط النفوس من الشهوات الخفية ما يفسد عليها تحقيق محبتها وعبوديتها له وإخلاص دينها كما قال شداد بن اوس يابقايا العرب ان اخوف ما اخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية قيل لأبى داود السجستانى وما الشهوة الخفية قال حب الرئاسة وعن كعب بن مالك عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال ما ذئبان جائعان ارسلا زريبة غنم بافسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه قال الترمذى حديث حسن صحيح.


    فبين صلى الله عليه وسلم ان الحرص على المال والشرف فى فساد الدين لا ينقص عن فساد الذئبين الجائعين لزريبة الغنم وذلك بين فان الدين السليم لا يكون فيه هذا الحرص وذلك ان القلب اذا ذاق حلاوة عبوديته لله ومحبته له لم يكن شىء احب اليه من ذلك حتى يقدمه عليه وبذلك يصرف عن اهل الاخلاص لله السوء والفحشاء كما قال تعالى {كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء انه من عبادنا المخلصين}.


    فإن المخلص لله ذاق من حلاوة عبوديته لله ما يمنعه من عبوديته لغيره ومن حلاوة محبته لله ما يمنعه عن محبة غيره اذ ليس عند القلب لا احلى ولا الذ ولا اطيب ولا ألين ولا انعم من حلاوة الايمان المتضمن عبوديته لله ومحبته له واخلاصه الدين له وذلك يقتضى انجذاب القلب الى الله فيصير القلب منيبا الى الله خائفا منه راغبا راهبا كما قال تعالى من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب اذ المحب يخاف من زوال مطلوبة وحصول.


    مرغوبة فلا يكون عبد الله ومحبة الا بين خوف ورجاء قال تعالى اولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه أن عذاب ربك كان محذورا.


    واذا كان العبد مخلص له اجتباه ربه فيحي قلبه واجتذبه اليه فينصرف عنه ما يضاد ذلك من السوء والفحشاء ويخاف من حصول ضد ذلك بخلاف القلب الذى لم يخلص لله فانه فى طلب وارادة وحب مطلق فيهوى ما يسنح له ويتشبث بما يهواه كالغصن اى نسيم مر بعطفه اماله فتارة تجتذبه الصور المحرمة وغير المحرمة فيبقى اسيرا عبدا لمن لو اتخذه هو عبدا له لكان ذلك عيبا ونقصا وذما وتارة يجتذبه الشرف والرئاسة فترضيه الكلمة وتغضبه الكلمة ويستعبده من يثنى عليه ولو بالباطل ويعادى من يذمه ولو بالحق وتارة يستعبده الدرهم والدينار وامثال ذلك من الأمور التى تستعبد القلوب والقلوب تهواها فيتخذ الهه هواه ويتبع هواه بغير هدى من الله ومن لم يكن خاصا لله عبدا له قد صار قلبه معبدا لربه وحده لا شريك له بحيث يكون الله احب اليه من كل ما سواه ويكون ذليلا له خاضعا والا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين وكان من الغاوين اخوان الشياطين وصار فيه من السوء والفحشاء ما لا يعلمه الا الله وهذا امر ضرورى ولا حيلة فيه فالقلب ان لم يكن حنيفا مقبلا على الله معرضا عما سواه والا كان مشركا قال تعالى {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن اكثرالناس لا يعلمون} الى قوله {كل حزب بما لديهم فرحون}.


    وقد جعل الله سبحانه ابراهيم وآل ابراهيم أئمة لهؤلاء الحنفاء المخلصين اهل المحبة لله وعبادته واخلاص الدين له كما جعل فرعون وآل فرعون أئمة المشركين المتبعين اهواءهم قال تعالى فى ابراهيم {ووهبنا له اسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا واوحينا اليهم فعل الخيرات واقام الصلاة وايتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين} وقال فى فرعون {وقومه وجعلناهم أئمة يدعون الى النار ويوم القيامة لا ينصرون واتبعناهم فى هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}.


    ولهذا يصير اتباع فرعون اولا الى ان لا يميزوا بين ما يحبه الله ويرضاه وبين ما قدر الله وقضاه بل ينظرون الى المشيئة المطلقة الشاملة ثم فى آخر الأمر لا يميزون بين الخالق والمخلوق بل يجعلون وجود هذا وجود هذا ويقول محققوهم الشريعة فيها طاعة ومعصية والحقيقة فيها معصية بلا طاعة والتحقيق ليس فيه طاعة ولا معصية وهذا تحقيق مذهب فرعون وقومه الذين انكروا الخالق وانكروا تكليمه لعبده موسى وما ارسله به من الأمر والنهى.


    وما ابراهيم وآل ابراهيم الحنفاء والأنبياء فهم يعلمون انه لا بد من الفرق بين الخالق والمخلوق ولابد من الفرق بين الطاعة والمعصية وان العبد كلما ازداد تحقيقا ازدادت محبته لله وعبوديته له وطاعته له واعراضه عن عبادة غيره ومحبة غيره وطاعة غيره وهؤلاء المشركون الضالون يسوون بين الله وبين خلقه والخليل يقول افرأيتم ما كنتم تعبدون انتم وآباؤكم الأقدمون فانهم عدو لى الا رب العالمين ويتمسكون بالمتشابه من الكلامهم المشائخ كما فعلت النصارى.


    مثال ذلك اسم الفناء فان الفناء ثلاثة انواع:

    نوع للكاملين من الأنبياء والأولياء ونوع للقاصدين من الاولياء والصالحين ونوع للمنافقين الملحدين الخمشهبين فاما الأول فهو الفناء عن ارادة ما سوى الله بحيث لا يجب الا الله ولا يعبد الا اياه ولا يتوكل الا عليه ولا يطلب غيره وهو المعنى الذى يجب ان يقصد بقول الشيخ ابى يزيد حيث قال اريد ان لا اريد الا ما يريد اى المراد المحبوب المرضى وهو المراد بالارادة الدينية وكمال العبد ان لا يريد ولا يجب ولا يرضى الا ما اراده الله ورضيه واحبه وهو ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب ولا يجب الا ما يحبه الله كالملائكة والأنبياء والصالحين وهذا معنى قولهم فى قوله الا من أتى الله بقلب سليم قالوا هو السليم مما سوى الله او مما سوى عبادة الله او مما سوى

    ارادة الله او مما سوى محبة الله فالمعنى واحد وهذا المعنى أن سمى فناء او لم يسم هو اول الاسلام وآخره وباطن الدين وظاهره.


    واما النوع الثانى فهو الفناء عن شهود السوى وهذا يحصل لكثير من السالكين فانهم لفرط انجذاب قلوبهم الى ذكر الله وعبادته ومحبته وضعف قلوبهم عن ان تشهد غير ما تعبد وترى غير ما تقصد لا يخطر بقلوبهم غير الله بل ولا يشعرون كما قيل فى قوله واصبح فؤاد ام موسى فارغا ان كادت لتبدى به لولا أن ربطنا على قلبها قالوا فارغا من كل شئ الا من ذكر موسى وهذا كثير يعرض لمن فقمه أمر من الأمور إما حب وإما خوف واما رجاء يبقى قلبه منصرفا عن كل شئ الا عما قد احبه او خافه او طلبه بحيث يكون عند استغراقه فى ذلك لا يشعر بغيره فإذا قوى على صاحب الفناء هذا فانه يغيب بموجوده عن وجوده وبمشهوده عن شهوده وبمذكوره عن ذكره وبمعروفه عن معرفته حتى يفنى من لم يكن وهى المخلوقات المعبدة ممن سواه ويبقى من لم يزل وهو الرب تعالى والمراد فناؤها فى شهود العبد وذكره وفناؤه عن ان يدركها او يشهدها واذا قوى هذا ضعف المحب حتى اضطرب فى تمييزه فقد يظن انه هو محبوبه كما يذكر ان رجلا القى نفسه فى اليم فألقى محبه نفسه خلفه فقال أنا وقعت فما اوقعك خلفى قا غبت بك عنى فظننت انك انى و هذا الموضع زل فيه اقوام وظنوا انه اتحاد وان المحب يتحد بالمحبوب حتى لايكون بينهما فرق في نفس وجودهما وهذا غلط فان الخالق لايتحد به شئ اصلا بل لايتحد شئ بشئ الا استحالا وفسدا وحصل من اتحادهما امر ثالث لا هو وهذا ولا هذا كما اذا اتحد الماء واللبن والماء والخمر ونحو ذلك ولكن يتحد المراد والمحبوب والمكروه ويتفقان فى نوع الارادة والكراهة فيجب هذا ما يجب هذا ويبغض هذا ما يبغض هذا ويرضى ما يرضى ويسخط ما يسخط ويكره ما يكره ويوالى من يوالى ويعادى من يعادى وهذا الفناء كله فيه نقض واكابر الأولياء كأبى بكر وعمر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار لم يقعوا فى هذا الفناء فضلا عمن هو فوقهم من الأنبياء وانما وقع شئ من هذا بعد الصحابة وكذلك كل ما كان من هذا النمط مما فيه غيبة العقل والتمييز لما يرد على القلب من احوال الإيمان فإن الصحابة رضى الله عنهم كانوا اكمل واقوى واثبت فى الأحوال الايمانية من ان تغيب عقولهم او يحصل لهم غشى او صعق او سكر او فناء او وله او جنون وانما كان مبادئ هذه الأمور فى التابعين من عباد البصرة فانه كان فيهم من يغشى عليه إذا سمع القرآن ومنهم من يموت كأبى جهير الضرير وزرارة بن اوفى قاضى البصرة


    وكلك صار فى شيوخ الصوفية من يعرض له من الفناء والسكر ما يضعف معه تمييزه حتى يقول فى تلك الحال من الأقوال ما إذا صحا عرف انه غالط فيه كما يحكى نحو ذلك عن مثل ابى يزيد وابى الحسن النورى وابى بكر الشبلى وامثالهم.


    بخلاف ابى سليمان الدارانى ومعروف الكرخى والفضيل بن عياض بل وبخلاف الجنيد وامثالهم ممن كانت عقولهم وتمييزهم يصحبهم فى احوالهم فلا يقعون في مثل هذا الفناء والسكر ونحوه بل الكمل تكون قلوبهم ليس فيها محبة الله وارادته وعبادته وعندهم من سعة العلم والتمييز ما يشهدون الأمور على ما هى عليه بل مشهدون المخلوقات قائمة بأمر الله مدبرة بمشيئته بل مستجيبة له قانتة له فيكون لهم فيها تبصرة وذكرى ويكون ما يشهدونه من ذلك مؤيدا وممدا لما فى قلوبهم من اخلاص الدين وتجريد التوحيد له والعبادة له وحده لاشريك له.


    وهذه الحقيقة التى دعا اليها القرآن وقام بها اهل تحقيق الايمان والكمل من اهل العرفان ونبينا صلى الله عليه وسلم امام هؤلاء واكملهم ولهذا لما عرج به الى السموات وعاين ما هنالك من الآيات واوحى اليه ما اوحى من انواع المناجاة اصبح فيهم وهو لم يتغير حاله ولا ظهر عليه ذلك بخلاف ما كان يظهر على موسى من التغشى صلى الله عليهم وسلم أجمعين واما النوع الثالث مما قد يسمى فناء فهو ان يشهد أن لا موجود الا الله وان وجود الخالق هو وجود المخلوق فلا فرق بين الرب والعبد فهذا فناء اهل الضلال والالحاد الواقعين فى الحلول والاتحاد والمشائخ المستقيمون اذا قال احدهم ما أرى غير الله أولا انظر الى غير الله ونحو ذلك فمرادهم بذلك ما ارى ربا غيره ولا خالقا غيره ولا مدبرا غيره ولا الها غيره ولا انظر الى غيره محبة له او خوفا منه او رجاء له فإن العين تنظر الى ما يتعلق به القلب فمن احب شيئا او رجاه او خافه التفت اليه واذا لم يكن في القلب محبة له ولا رجاء له ولا خوف منه ولا بعض له ولا غير ذلك من تعلق القلب له لم يقصد القلب ان يلتفت اليه ولا ان ينظر اليه ولا ا وان رأه اتفاقا رؤية مجردة كان كما لو رأى حائطا ونحوه مما ليس فى قلبه تعلق به والمشائخ الصالحون رضى الله عنهم يذكرون شيئا من تجريد التوحيد وتحقي اخلاص الدين كله بحيث لا يكون العبد ملتفتا الى غير الله ولا ناظرا الى ما سواه لا حبا له ولا خوفا منه ولا رجاء له بل يكون القلب فارغا من المخلوقات خاليا منها لا ينظر اليها الا بنور الله فبالحق يسمع وبالحق يبصر وبالحق يبطش وبالحق يمشى فيجب منها ما يحبه الله ويبغض منها ما يبغضه الله ويوالى منها ما والاه الله ويعادى منها ما عاداه الله ويخاف الله فيها ولا يخافها فى الله ويرجو الله فيها ولا يرجوها فى الله فهذا هو القلب السليم الحنيف الموحد السلم المؤمن العارف المحقق الموحد بمعرفة الانبياء والمرسلين وبحقيقتهم وتوحيدهم.


    واما النوع الثالث وهو الفناء فى الموجود فهو تحقيق آل فرعون ومعرفتهم وتوحيدهم كالقرامطة وامثالهم.


    وهذا النوع الذى عليه اتباع الانبياء هو الفناء المحمود الذى يكون صاحبه به ممن اثنى الله عليهم من اوليائه المتقين وحزبه المفلحين وجنده الغالبين.


    وليس مراد المشائخ والصالحين بهذا القول ان الذى أراه بعينى من المخلوقات هو رب الارض والسموات فإن هذا لا يقوله الا من هو فى غاية الضلال والفساد إما فساد العقل وإمال فساد الاعتقاد فهو متردد بين الجنون والالحاد.

    وكل المشائخ الذين يقتدى بهم فى الدين متفقون على ما اتفق عليه سلف الامة وأئمتها من أن الخالق سبحانه مباين للمخلوقات وليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته سئ من مخلوقاته وانه يجب افراد القديم عن الحادث وتمييز الخالق عن المخلوق وهذا فى كلامهم.

    اكثر من ان يمكن ذكره هنا وهم قد تكلموا على ما يعرض للقلوب من الامراض والشبهات وان بعض الناس قد يشهد وجود المخلوقات فيظنه خالق الارض والسموات لعدم التمييز الفرقان فى قلبه بمنزلة من رأى شعاع الشمس فظن ان ذلك هو الشمس التى فى السماء وهم قد يتكلمون فى الفرق والجمع ويدخل فى ذلك من العبارات المتلفة نظير ما دخل فى الفناء فان العبد اذا شهد التفرقة والكثرة فى المخلوقات يبقى قلبه بها متشتتا ناظرا اليها متعلقا بها اما محبة واما خوفا واما رجاء فاذا انتقل الى الجمع اجتمع قلبه على توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له فالتفت قلبه الى الله بعد التفافه الى المخلوقين فصارت محبته لربه وخوفه من ربه ورجاؤه لربه واستعانته بربه وهو فى هذا الحال قد لا يسع قلبه النظر الى المخلوق ليفرق بين الخالق والمخلوق فقد يكون محتمعا على الحق معرضا عن الخلق نظرا وقصدا وهو نظير النوع الثاني من الفناء.


    ولكن بعد ذلك الفرق الثانى وهو ان يشهد ان المخلوق قائمة بالله مدبرة بامره ويشهد كثرتها معدومة بوحدانية الله سبحانه وتعالى وانه سبحانه رب المصنوعات والهها وخالقها ومالكها فيكون مع اجتماع قلبه على الله اخلاصا له ومحبة وخوفا ورجاء واستعانة وتوكلا على الله وموالاة فيه ومعاداة فيه وامثال ذلك ناظرا الى الفرق بين ال والمخلوق مميزا بين هذا وهذا يشهد تفرق المخلوقات وكثرتها مع شهادته ان الله رب كل شىء ومليكة وخالقه وانه هو الله لا اله الا هو وهذا هو الشهود الصحيح المستقيم وذلك واجب فى علم القلب وشهادته وذكره ومعرفته فى حال القلب وعبادته وقصده وارادته ومحبته وموالاته وطاعته وذلك تحقيق شهادة ان لا اله الا الله فانه ينفى عن قلبه الوهية ما سوى الحق ويثبت فى قلبه الوهية الحق فيكون نافيا لألوهية كل شيء من المخلوقات مثبتا لألوهية رب العالمين رب الأرض والسموات وذلك يتضمن اجتماع القلب على الله وعلى مفارقة ما سواه فيكون مفرقا فى علمه وقصده فى شهادته وارادته فى معرفته ومحبته بين الخالق والمخلوق بحيث يكون عالما بالله تعالى ذاكرا له عارفا به وهو مع ذلك عالم بمباينته لخلقه وانفراده عنهم وتوحده دونهم ويكون محبا لله معظما له عابدا له راجيا له خائفا منه مواليا فيه معاديا فيه مستعينا به متوكلا عليه ممتنعا عن عبادة غيره والتوكل عليه والاستعانة به والخوف منه والرجاء له والموالاة فيه والمعاداة فيه والطاعة لأمره وامث ال ذلك مما هو من خصائص الهية الله سبحانه وتعالى واقراوه بألوهية الله تعالى دون ما سواه يتضمن اقراره بربوبيته وهو انه رب كل شىء وملكية وخالقة ومدبرة فحينئذ يكون موحدا لله.


    ويبين ذلك ان افضل الذكر لا اله الا الله كما رواه الترمذى وابن ابي الدنيا وغيرهما مرفوعا الى النبى صلى الله عليه وسلم انه قال افضل الذكر لا اله الا الله وافضل الدعاء الحمد لله وفى الموطأ وغيره عن طلحة بن عبد الله بن كثير ان النبى صلى الله عليه وسلم قال افضل ما قلت انا والنبيون من قبلى لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير.


    ومن زعم ان هذا ذكرالعامة وان ذكر الخاصة هو الاسم المفرد وذكر خاصة الخاصة هو الاسم المضمر فهم ضالون غالطون واحتجاج بعضهم على ذلك بقوله قل الله ثم ذرهم فى خوضهم يلعبون من ابين غلط هؤلاء فان الاسم هو مذكور فى الأمر بجواب الاستفهام وهو قوله قل من انزل الكتاب الذى جاء به موسى نورا وهدى للناس الى قوله قل الله اى الله الذى الكتاب الذى جاء به موسى فالاسم مبتدأ وخبره قد دل عليه الاستفهام كما فى نظائر ذلك تقول من جاره فيقول زيد.


    واما الاسم المفرد مظهرا او مضمرا فليس بكلام تام ولا جملة مفيدة ولا يتعلق به ايمان ولا كفر ولا امر ولا نهى ولم يذكر ذلك احد من سلف الامه ولا شرع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يعطى القلب بنفسه معرفة مفيدة ولا حالا نافعا وانما يعطيه تصورا مطلقا لا يحكم عليه بنفى ولا اثبات فان لم يقترن به من معرفة القلب وحالة ما يفيد بنفسه والا لم يكن فيه فائدة والشريعة انما تشرع من الأذكار ما يفيد بنفسه لا ما تكون الفائدة حاصلة بغيره.


    وقد وقع بعض من واظب على هذا الذكر فى فنون من الالحاد وانواع من الاتحاد كما قد بسط فى غير هذا الموضع.


    وما يذكر عن بعض الشيوخ من انه قال اخاف ان اموت بين النفي والاثبات حال لا يقتدى فيها بصاحبها فان فى ذلك من الغلط ما لا خفاء به اذ لو مات العبد فى هذه الحال لم يمت الا على ما قصده ونواه اذ الأعمال بالنيات وقد ثبت ان النبى صلى الله عليه وسلم امر بتلقين الميت لا اله الا اله الله وقال من كان آخر كلامه لا اله الا الله دخل الجنة ولو كان ماذكره ومحذورا لم يلقن الميت كلمة يخاف ان يموت في اثنائها موتا غير محمود بل كان يلقن ما اختاره من ذكر الاسم المفرد.

    والذكر بالاسم المضمر المفرد ابعد عن السنة وادخل فى البدعة واقرب الى اضلال الشيطان فان من قال يا هو ياهو او هو هو ونحو ذلك لم يكن الضمير عائدا الا الى ما يصوره قلبه والقلب قد يهتدى وقد يضل وقد صنف صاحب الفصوص كتابا سماه كتاب الهو وزعم بعضهم ان قوله { وما يعلم تأويله الا الله } معناه وما يعلم تأويل هذا الاسم هو الهو وقيل هذا وان كان مما اتفق المسلمون بل العقلاء على انه من ابين الباطل فقد يظن ذلك من يظنه من هؤلاء حتى قلت مره لبعض من قال شيئا من ذلك لو كان هذا كما قلته لكتبت وما يعلم تأويل هو منفصلة.

    ثم كثيرا ما يذكر بعض الشيوخ انه يحتج على قول القائل الله بقوله قل الله ثم ذرهم ويظن ان الله امر نبيه بان يقول الاسم المفرد وهذا غلط باتفاق اهل العلم فان قوله قل الله معناه الله الذى انزل الكتاب الذى جاء به موسى وهو جواب لقوله قل من انزل الكتاب الذى جاء به موسى وهو جواب لقوله قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم مالم تعلموا انتم ولا آباؤكم قل الله اى الله الذى انزل الكتاب الذى جاء به موسى رد بذلك قول من قال ما انزل الله على بشر من شىء فقال من انزل الكتاب الذى جاء به موسى ثم قال قل الله انزله ثم ذر هؤلاء المكذبين فى خوضهم يلعبون.


    ومما يبين ما تقدم ما ذكره سيبويه وغيره من ائمة النحوان العرب يحكون بالقول ما كان كلاما لا يحكون به ما كان قولا فالقول لا يحكي به الا كلام تام او جملة اسمية او فعلية ولهذا يكسرون ان جاءت بعد القول فالقول لا يحكى به اسم والله تعالى لا يأمر احدا بذكر اسم مفرد ولا شرع للمسلمين اسما مفردا مجردا والاسم المجرد لا يفيد الايمان باتفاق اهل الاسلام ولا يؤمر به فى شىء من العبادات ولا فى شىء من المخاطبات.


    ونظير من اقتصر على الاسم المفرد ما يذكر ان بعض الأعراب مر بمؤذن يقول اشهد ام محمدا رسول الله بالنصب فقال ماذا يقول هذا هذا الاسم فاين الخبر عنه الذى يتم به الكلام.

    وما فى القرآن من قوله {واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا} وقوله {سبح اسم ربك الأعلى} وقوله {قد افلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} وقوله {فسبح باسم ربك العظيم} ونحو ذلك لا يقتضى ذكره مفردا بل فى السنن انه لما نزل قوله {فسبح باسم ربك العظيم} قال اجعلوها فى ركوعكم ولما نزل قوله {سبح اسم ربك الأعلى} قال اجعلوها فى سجودكم فشرع لهم ان يقولوا فى الركوع سبحان ربي العظيم وفى السجود سبحان ربي الأعلى وفى الصحيح انه كان يقول فى ركوعه سبحان ربى العظيم وفى سجوده سبحان ربى الأعلى وهذا هو معنى قوله اجعلوها فى ركوعكم وسجودكم باتفاق المسلمين.

    فتسبيح اسم ربه الأعلى وذكر اسم ربه ونحو ذلك هو بالكلام التام المفيد كما فى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال افضل الكلام بعد القرآن اربع وهن من القرآن سبحان.

    الله والحمد لله ولا اله الا الله والله اكبر وفى الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم انه قال كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم وفى الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم انه قال من قال فى يومه مائة مره لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كتب الله له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت احد بأفضل مما جاء به الا رجل قال مثل ما قال او زاد عليه ومن قال فى يومه مائة مره سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر وفى الموطأ وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم انه قال افضل ما قلته انا والنبيون من قبلى لا اله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير وفى سنن ابن ماجة وغيره عنه صلى الله عليه وسلم انه قال افضل الذكر لا اله الا الله وافضل الدعاء الحمد لله.
    ومثل هذه الأحاديث كثيرة فى انواع ما يقال من الذكر والدعاء.

    وكذلك ما فى القرآن من قوله تعالى ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقوله فكلوا مما امسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه انما هو قوله بسم الله وهذا جملة تامة اما اسمية على اظهر النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح لربيبة عمر بن ابى سلمة سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك فالمراد ان يقول بسم الله ليس المراد ان يذكر الاسم مجردا وكذلك قوله فى الحديث الصحيح لعدى بن حاتم اذا ارسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم اذا دخل الرجل منزله فذكر اسم الله عند دخوله وعند خروجه وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا عشاء وامثال ذلك كثير.


    وكذلك ما شرع للمسلمين فى صلاتهم واذانهم وحجهم واعيادهم من ذكر الله تعالى انما هو بالحملة التامة كقول المؤذن الله اكبر الله اكبر اشهد ان لا اله الا الله اشهد ان محمدا رسول الله وقول المصلى الله اكبر سبحان ربى العظيم سبحان ربى الاعلى سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد التحيات لله وقول الملبى لبيك اللهم لبيك وامثال ذلك فجميع ما شرعه الله من الذكر انما هو كلام تام لا اسم مفرد لا مظهر ولا مضمر وهذا هو الذى يسمى فى اللغة كلمة كقوله كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان فى الميزان حبيبتان الى الرحمن سبحان الله العظيم وقوله افضل كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد الا كل شىء ما خلا الله باطل ومنه قوله تعالى كبرت كلمة تخرج من افواههم الآية وقوله وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا وامثال ذلك مما استعمل فيه لفظ الكلمة فى الكتاب والسنة بل وسائر كلام العرب فانما يراد به الجملة التامة كما كانوا يستعملون الحرف فى الاسم فيقولون هذا حرف غريب اى لفظ الاسم غريب.


    وقسم سيبويه الكلام الى اسم وفعل وحرف جاء لمعنى ليس باسم وفعل وكل من هذه الأقسام يسمى حرفا لكن خاصة الثالث انه حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل وسمى حروف الهجاء باسم الحرف وهى اسماء ولفظ الحرف يتناول هذه الأسماء وغيرها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم من قرأ القرآن فأعربه فله بكل حرف عشر حسنات اما انى لا اقول الم حرف ولكن الف حرف ولام حرف وميم حرف وقد سأل الخليل اصحابه عن النطق بحرف الزاى من زيد فقالوا زاي فقال جئتم بالاسم وانما الحرف ز.


    ثم ان النحاة اصطلحوا على ان هذا المسمى فى اللغة بالحرف يسمى كلمة وان لفظ الحرف يخص لما جاء المعنى ليس باسم ولا فعل كحروف الجر ونحوها واما الفاظ حروف الهجاء فيعبر تارة بالحرف عن نفس الحرف من اللفظ وتارة باسم ذلك الحرف ولما غلب هذا الاصطلاح صار يتوهم من اعتاده انه هكذا فى لغة العرب ومنهم من يجعل لفظ الكلمة فى اللغة لفظا مشتركا بين الاسم مثلا وبين الجملة ولا يعرف فى صريح اللغة من لفظ الكلمة الا الجملة التامة.


    والمقصود هنا ان المشروع فى ذكر الله سبحانه هو ذكره بجملة تامة وهو المسمى بالكلام والواحد منه بالكلمة وهو الذى ينفع القلوب ويحصل به الثواب والأجر والقرب الى الله ومعرفته ومحبته وخشيته وغير ذلك من المطالب العالية والمقاصد السامية واما الاقتصار على الاسم المفرد مظهرا او مضمرا فلا اصل له فضلا عن ان يكون من ذكر الخاصة والعارفين بل هو وسيلة الى انواع من البدع والضلالات وذريعة الى تصورات احوال فاسدة من احوال اهل الالحاد واهل الاتحاد كما قد بسط الكلام عليه فى غير هذا الموضع.


    وجماع الدين اصلان ان لانعبد الا الله ولا نعبده الا بما شرع لا نعبده بالبدع كما قال تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعباده ربه احدا وذلك تحقيق الشهادتين شهادة ان لا اله الا الله وشهادة ان محمدا رسول الله ففى الأولى ان لا نعبد الا اياه وفى الثانية ان محمدا هو رسوله المبلغ عنه فعلينا ان نصدق خبره ونطيع امره وقد بين لنا ما نعبد الله به ونهانا عن محدثات الأمور واخبر انها ضلالة قال تعالى بلى من اسلم وجهه لله وهو محسن فله اجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.


    كما انا مأمورون ان لا نخاف الا الله ولا نتوكل الا على الله ولا نرغب الا الى الله ولا نستعين الا الله وان لا تكون عبادتنا الا لله فكذلك نحن مأمورون ان نتبع الرسول ونطيعه ونتأسى به فالحلال ما حلله الله والحرام ما حرمه والدين ما شرعه قال تعالى {ولو انهم رضوا ماآتاهم االله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله انا الى الله راغبون} فجعل الايتاء لله والرسول كما قال {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وجعل التوكل على الله وحده بقوله {وقالوا حسبنا الله} ولم يقل ورسوله كما قال فى الآية الأخرى {الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم ايمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ومثله قوله {يا ايها النبى حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين} اى حسبك وحسب المؤمنين كما قال {اليس الله بكاف عبده} ثم قال سيؤتينا الله من فضله ورسوله فجعل الايتاء لله والرسول وقدم ذكر الفضل لأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وله الفضل على رسوله وعلى المؤمنين وقال انا الى الله راغبون فجعل الرغبة الى الله وحده كما فى قوله فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب وقال النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس اذا سألت فاسأل الله واذا استعنت فاستعن بالله والقرآن يدل على مثل هذا فى غير موضع.


    فجعل العبادة والخشية والتقوى لله وجعل الطاعة والمحبة لله ورسوله كما فى قول نوح عليه السلام ان اعبدوا الله واتقوه واطيعون وقوله ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون وامثال ذلك.

    فالرسل امروا بعبادته وحده والرغبة اليه والتوكل عليه والطاعة لهم فأضل الشيطان النصارى واشباههم فأشركوا بالله وعصوا الرسول فاتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله والمسيح بن مريم فجعلوا يرغبون اليهم ويتوكلون عليهم ويسألونهم مع معصيتهم لأمرهم ومخالفاتهم لسنتهم وهدى الله المؤمنين المخلصين لله اهل الصراط المستقيم الذين عرفوا الحق واتبعوه.

    فلم يكونوا من المغضوب عليهم ولا من الضالين ، فأخلصوا دينهم لله ، واسلموا وجوههم لله ، وأنابوا إلى ربهم وأحبوه ، ورجوه وخافوه ، وسألوه ورغبوا إليه ، وفوضوا أمورهم إليه ، وتوكلوا عليه ، وأطاعوا رسله ، وعزروهم ووقروهم ، وأحبوهم ووالوهم ، واتبعوهم واقتفوا آثارهم واهتدوا بمنارهم ، وذلك هو دين الإسلام الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل ، وهو الذين الذي لا يقبل الله من أحد دينا إلا إياه ، وهو حقيقة العبادة لرب العالمين . . .


    فنسأل الله العظيم أن يثبتنا عليه ويملكنا به ويميتنا عليه وسائر إخواننا المسلمين ، والحمد لله رب العالمين ، وصلواته وسلامه على سيدنا محمد خاتم النبين وآله وصحبه وسلم .
    التعديل الأخير تم بواسطة المشتاقة لله; الساعة 19-09-2010, 12:59 PM.

  • #2
    رد: العـبـوديـة

    جزاكم الله خيرا
    ينقل للعقيدة

    اسئلكم الدعاء ﻻخي بالشفاء العاجل وان يمده الله بالصحة والعمر الطويل والعمل الصالح

    تعليق

    يعمل...
    X