وجود الله وربوبيته
ووحدانيته وألوهيته سبحانه
يعبد كثير من الناس آلهة مخلوقة مصنوعة كالشجر والحجر والبشر ، ولذا سأل اليهود والمشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة الله ومن أي شيء هو ، فأنزل الله تعالى : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وعرف عباده بنفسه فقال جل ثناؤه : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقال عز من قائل : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إلى أن قال تعالى اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ وقال جل ثناؤه : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وأقام سبحانه لهم آياته شواهد وبينات ، فقال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقال سبحانه : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ووصف نفسه بنعوت الجمال والكمال فقال تعالى : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ 16 مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وقال تعالى : غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وقال جل ثناؤه : هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
هذا الرب الإله الحكيم القادر الذي عرف عباده بنفسه ، وأقام لهم آياته شواهد وبينات ، ووصف نفسه بصفات الكمال دلت على وجوده وربوبيته وألوهيته الشرائع النبوية ، والضرورة العقلية ، والفطرة الخلقية ، وأجمعت الأمم على ذلك ، وسأبين لك شيئا من ذلك فيما يلي ، فأما أدلة وجوده وربوبيته فهي :
1 - خلق هذا الكون وما فيه من بديع الصنع :
يحيط بك أيها الإنسان هذا الكون العظيم ويتكون من سماوات وكواكب ومجرات ، وأرض ممدودة فيها قطع متجاورات يختلف ما ينبت فيها باختلافها ، وفيها من كل الثمرات ، ومن كل المخلوقات تجد زوجين اثنين . . فهذا الكون لم يخلق نفسه ، ولا بد له من خالق حتما ، لأنه لا يمكن أن يخلق نفسه ، فمن الذي خلقه على هذا النظام البديع ؟ وأكمله هذا الكمال الحسن ؟ وجعله آية للناظرين إلا الله الواحد القهار الذي لا رب سواه ولا إله غيره ؟ قال تعالى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ فتضمنت هاتان الآيتان ثلاث مقدمات هي :
1 - هل خلقوا من العدم ؟
2 - هل خلقوا أنفسهم ؟
3 - هل خلقوا السماوات والأرض ؟
فإذا لم يكونوا خلقوا من عدم ، ولم يخلقوا أنفسهم ، ولم يخلقوا السماوات والأرض ، فتعين أنه لا بد من الإقرار بوجود خالق خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وهو الله الواحد القهار .
2 - الفطرة :
الخلق مفطورون على الإقرار بالخالق ، وأنه أجل وأكبر وأعظم وأكمل من كل شيء ، وهذا الأمر راسخ في الفطرة أشد رسوخا من مبادئ العلوم الرياضية ، ولا يحتاج إلى إقامة الدليل إلا من تغيرت فطرته ، وعرض لها من الأحوال ما يصرفها عما تسلم به قال تعالى : فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وقال صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم : فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ وقال - أيضا - صلى الله عليه وسلم : ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا : كل مال نحلته عبدا حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .
3 - إجماع الأمم :
أجمعت الأمم - قديمها وحديثها - بأن لهذا الكون خالقا وهو الله رب العالمين ، وأنه خالق السماوات والأرض ، ليس له شريك في خلقه ، كما أنه ليس له شريك في ملكه سبحانه .
ولم ينقل عن أية أمة من الأمم الماضية أنها كانت تعتقد أن آلهتها شاركت الله في خلق السماوات والأرض ، بل كانوا يعتقدون أن الله خالقهم وخالق آلهتهم ، فلا خالق ولا رازق غيره ، والنفع والضر بيده سبحانه قال تعالى مخبرا عن إقرار المشركين بربوبيته : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وقال جل ثناؤه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ .
4 - الضرورة العقلية :
لا تجد العقول بدا من الإقرار بأن لهذا الكون خالقا عظيما ، لأن العقل يرى الكون مخلوقا محدثا ، وأنه لم يوجد نفسه ، والمحدث لا بد له من محدث .
والإنسان يعلم أنه تمر به أزمات ومصائب ، وحينما لا يقدر البشر على دفعها فإنه يتجه بقلبه إلى السماء ، ويستغيث بربه ليفرج همه ، ويكشف غمه ، وإن كان في سائر أيامه ينكر ربه ويعبد صنمه ، فهذه ضرورة لا تدفع ، ولا بد من الإقرار بها ، بل إن الحيوان إذا ألمت به مصيبة رفع رأسه وشخص ببصره إلى السماء ، وقد أخبر الله عن الإنسان أنه إذا أصابه ضر أسرع إلى ربه يسأله أن يكشف ضره ، قال تعالى : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا وقال تعالى مخبرا عن حال المشركين : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقال عز من قائل : وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ .
هذا الإله الذي أوجد الكون من عدم ، وخلق الإنسان في أحسن تقويم ، وركز في فطرته عبوديته والاستسلام له ، وأذعنت العقول لربوبيته وألوهيته ، وأجمعت الأمم على الاعتراف بربوبيته . . . لا بد أن يكون واحدا في ربوبيته وألوهيته ، فكما أنه لا شريك له في الخلق ، فكذلك لا شريك له في ألوهيته ، والأدلة على ذلك كثيرة منها .
1 - ليس في هذا الكون إلا إله واحد هو الخالق الرازق ، ولا يجلب النفع ويدفع الضر إلا هو ، ولو كان في هذا الكون إله آخر لكان له فعل وخلق وأمر ، ولا يرضى أحدهما بمشاركة الإله الآخر ولا بد لأحدهما من مغالبة الآخر وقهره ، والمغلوب لا يمكن أن يكون إلها ، والغالب هو الإله الحق ، لا يشاركه إله في ألوهيته كما لم يشاركه إله في ربوبيته ، قال تعالى : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ .
2 - لا يستحق العبادة إلا الله الذي له ملك السماوات والأرض ، لأن الإنسان يتقرب إلى الإله الذي يجلب له النفع ويدفع عنه الضر ، ويصرف عنه الشر والفتن ، وهذه الأمور لا يستطيعها إلا من ملك السماوات والأرض وما بينهما ، ولو كان معه آلهة كما يقول المشركون لاتخذ العباد السبل الموصلة إلى عبادة الله الملك الحق ، لأن جميع هؤلاء المعبودين من دون الله إنما كانوا يعبدون الله ويتقربون إليه ، فحري بمن أراد أن يتقرب إلى من بيده النفع والضر أن يعبد الإله الحق الذي يعبده من في السماوات والأرض بما فيهم هؤلاء الآلهة المعبودون من دون الله ، قال تعالى : قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا وليقرأ مريد الحق قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ 22 لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ إن هذه الآيات تقطع تعلق القلب بغير الله بأربعة أمور هي : الأول : أن هؤلاء الشركاء لا يملكون مثقال ذرة مع الله ، والذي لا يملك مثقال ذرة لا ينفع ولا يضر ، ولا يستحق أن يكون إلها أو مشاركا لله ، والله هو الذي يملكهم ويتصرف فيهم وحده .
الثاني : أنهم لا يملكون شيئا من السماوات والأرض ، وليس لهم مثقال ذرة من مشاركة فيهما .
الثالث : ليس لله معين من خلقه ، بل هو الذي يعينهم على ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم لكمال غناه عنهم ، واضطرارهم إليهم .
الرابع : أن هؤلاء الشركاء لا يملكون أن يشفعوا عند الله لأتباعهم ، ولا يؤذن لهم فيها ، ولا يأذن - سبحانه - إلا لأوليائه أن يشفعوا ، ولا يشفع الأولياء إلا لمن رضي الله قوله وعمله واعتقاده .
3 - انتظام أمر العالم كله وإحكام أمره أدل دليل على أن مدبره إله واحد ، وملك واحد ، ورب واحد ، لا إله للخلق غيره ، ولا رب لهم سواه ، فكما يمتنع وجود خالقين لهذا الكون ، فكذلك يمتنع وجود إلهين قال تعالى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فلو فرض أن في السماء والأرض إلها غير الله لفسدتا ، ووجه الفساد أنه إذا كان مع الله إله آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرا على الاستبداد والتصرف ، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ، ويحدث بسببه الفساد وإذا كان البدن يستحيل أن يكون المدبر له روحان متساويان ، ولو كان كذلك لفسد وهلك ، وهذا محال ، فكيف يتصور هذا في الكون وهو أعظم .
4 - إجماع الأنبياء والمرسلين على ذلك : تجمع الأمم على أن الأنبياء والمرسلين هم أكمل الناس عقولا ، وأزكاهم أنفسا ، وأفضلهم أخلاقا ، وأنصحهم لرعاياهم ، وأعلمهم بمراد الله ، وأرشدهم إلى الطريق القويم والصراط المستقيم ، لأنهم يتلقون الوحي عن الله ، فيبلغونه للناس ، وقد اتفق جميع الأنبياء والمرسلين من أولهم آدم - عليه السلام - إلى آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - على دعوة أقوامهم إلى الإيمان بالله ، وترك عبادة ما سواه ، وأنه الإله الحق ، قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقال - جل ثناؤه - عن نوح - عليه السلام - إنه قال لقومه : لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وقال - سبحانه - عن آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - إنه قال لقومه : قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
هذا الإله الذي أوجد الكون من عدم فأبدعه ، وخلق الإنسان في أحسن تقويم وكرمه ، وركز في فطرته الإقرار بربوبيته وألوهيته ، وجعل نفسه لا تستقر إلا إذا استسلمت إليه وسارت على منهجه ، وفرض على روحه ألا تطمئن إلا إذا سكنت إلى بارئها ، واتصلت بخالقها ، ولا صلة لها إلا من خلال صراطه المستقيم الذي بلغته الرسل الكرام ، ومنحه عقلا لا يستقيم أمره ، ولا يقوم بوظيفته على أكمل وجه إلا إذا آمن به سبحانه .
فإذا استقامت الفطرة ، واطمأنت الروح ، واستقرت النفس ، وآمن العقل تحققت له السعادة والأمن والاطمئنان في الدنيا والآخرة .
وإن أبى الإنسان غير ذلك عاش مشتتا متفرقا يهيم في أودية الدنيا ، ويتوزع بين آلهتها ، لا يدري من يحقق له النفع ، ومن يدفع عنه الضر ، ومن أجل أن يستقر الإيمان في النفس ، وتتضح شناعة الكفر ، ضرب الله لذلك مثلا - لأن المثل مما يقرب المعنى إلى الذهن - ، قارن فيه بين رجل تفرق أمره بين آلهة متعددة ورجل يعبد ربه وحده فقال سبحانه : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضا فيه ، وهو بينهم موزع ، ولكل منهم فيه توجيه ، ولكل منهم عليه تكليف ، وهو بينهم حائر لا يستقر على منهج ، ولا يستقر على طريق ، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ، وعبد يملكه سيد واحد ، وهو يعلم ما يطلبه منه ويكلفه به ، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح ، فلا يستويان فهذا يخضع لسيد واحد وينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين ، وذاك يخضع لسادة متشاكسين فهو معذب قلق لا يستقر على حال ، ولا يرضي واحدا منهم فضلا عن أن يرضي الجميع .
وبعد أن أوضحت الأدلة الدالة على وجود الله وربوبيته وألوهيته يحسن أن نتعرف على خلقه للكون والإنسان ، وأن نتلمس حكمته في ذلك .
ووحدانيته وألوهيته سبحانه
يعبد كثير من الناس آلهة مخلوقة مصنوعة كالشجر والحجر والبشر ، ولذا سأل اليهود والمشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفة الله ومن أي شيء هو ، فأنزل الله تعالى : قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ وعرف عباده بنفسه فقال جل ثناؤه : إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وقال عز من قائل : اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إلى أن قال تعالى اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ وقال جل ثناؤه : قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ وأقام سبحانه لهم آياته شواهد وبينات ، فقال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وقال سبحانه : وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ووصف نفسه بنعوت الجمال والكمال فقال تعالى : اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ 16 مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وقال تعالى : غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وقال جل ثناؤه : هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ .
هذا الرب الإله الحكيم القادر الذي عرف عباده بنفسه ، وأقام لهم آياته شواهد وبينات ، ووصف نفسه بصفات الكمال دلت على وجوده وربوبيته وألوهيته الشرائع النبوية ، والضرورة العقلية ، والفطرة الخلقية ، وأجمعت الأمم على ذلك ، وسأبين لك شيئا من ذلك فيما يلي ، فأما أدلة وجوده وربوبيته فهي :
1 - خلق هذا الكون وما فيه من بديع الصنع :
يحيط بك أيها الإنسان هذا الكون العظيم ويتكون من سماوات وكواكب ومجرات ، وأرض ممدودة فيها قطع متجاورات يختلف ما ينبت فيها باختلافها ، وفيها من كل الثمرات ، ومن كل المخلوقات تجد زوجين اثنين . . فهذا الكون لم يخلق نفسه ، ولا بد له من خالق حتما ، لأنه لا يمكن أن يخلق نفسه ، فمن الذي خلقه على هذا النظام البديع ؟ وأكمله هذا الكمال الحسن ؟ وجعله آية للناظرين إلا الله الواحد القهار الذي لا رب سواه ولا إله غيره ؟ قال تعالى : أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ فتضمنت هاتان الآيتان ثلاث مقدمات هي :
1 - هل خلقوا من العدم ؟
2 - هل خلقوا أنفسهم ؟
3 - هل خلقوا السماوات والأرض ؟
فإذا لم يكونوا خلقوا من عدم ، ولم يخلقوا أنفسهم ، ولم يخلقوا السماوات والأرض ، فتعين أنه لا بد من الإقرار بوجود خالق خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وهو الله الواحد القهار .
2 - الفطرة :
الخلق مفطورون على الإقرار بالخالق ، وأنه أجل وأكبر وأعظم وأكمل من كل شيء ، وهذا الأمر راسخ في الفطرة أشد رسوخا من مبادئ العلوم الرياضية ، ولا يحتاج إلى إقامة الدليل إلا من تغيرت فطرته ، وعرض لها من الأحوال ما يصرفها عما تسلم به قال تعالى : فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وقال صلى الله عليه وسلم : ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ ثم يقول أبو هريرة : واقرؤوا إن شئتم : فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ وقال - أيضا - صلى الله عليه وسلم : ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا : كل مال نحلته عبدا حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا .
3 - إجماع الأمم :
أجمعت الأمم - قديمها وحديثها - بأن لهذا الكون خالقا وهو الله رب العالمين ، وأنه خالق السماوات والأرض ، ليس له شريك في خلقه ، كما أنه ليس له شريك في ملكه سبحانه .
ولم ينقل عن أية أمة من الأمم الماضية أنها كانت تعتقد أن آلهتها شاركت الله في خلق السماوات والأرض ، بل كانوا يعتقدون أن الله خالقهم وخالق آلهتهم ، فلا خالق ولا رازق غيره ، والنفع والضر بيده سبحانه قال تعالى مخبرا عن إقرار المشركين بربوبيته : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وقال جل ثناؤه : وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ .
4 - الضرورة العقلية :
لا تجد العقول بدا من الإقرار بأن لهذا الكون خالقا عظيما ، لأن العقل يرى الكون مخلوقا محدثا ، وأنه لم يوجد نفسه ، والمحدث لا بد له من محدث .
والإنسان يعلم أنه تمر به أزمات ومصائب ، وحينما لا يقدر البشر على دفعها فإنه يتجه بقلبه إلى السماء ، ويستغيث بربه ليفرج همه ، ويكشف غمه ، وإن كان في سائر أيامه ينكر ربه ويعبد صنمه ، فهذه ضرورة لا تدفع ، ولا بد من الإقرار بها ، بل إن الحيوان إذا ألمت به مصيبة رفع رأسه وشخص ببصره إلى السماء ، وقد أخبر الله عن الإنسان أنه إذا أصابه ضر أسرع إلى ربه يسأله أن يكشف ضره ، قال تعالى : وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا وقال تعالى مخبرا عن حال المشركين : هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقال عز من قائل : وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ .
هذا الإله الذي أوجد الكون من عدم ، وخلق الإنسان في أحسن تقويم ، وركز في فطرته عبوديته والاستسلام له ، وأذعنت العقول لربوبيته وألوهيته ، وأجمعت الأمم على الاعتراف بربوبيته . . . لا بد أن يكون واحدا في ربوبيته وألوهيته ، فكما أنه لا شريك له في الخلق ، فكذلك لا شريك له في ألوهيته ، والأدلة على ذلك كثيرة منها .
1 - ليس في هذا الكون إلا إله واحد هو الخالق الرازق ، ولا يجلب النفع ويدفع الضر إلا هو ، ولو كان في هذا الكون إله آخر لكان له فعل وخلق وأمر ، ولا يرضى أحدهما بمشاركة الإله الآخر ولا بد لأحدهما من مغالبة الآخر وقهره ، والمغلوب لا يمكن أن يكون إلها ، والغالب هو الإله الحق ، لا يشاركه إله في ألوهيته كما لم يشاركه إله في ربوبيته ، قال تعالى : مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ .
2 - لا يستحق العبادة إلا الله الذي له ملك السماوات والأرض ، لأن الإنسان يتقرب إلى الإله الذي يجلب له النفع ويدفع عنه الضر ، ويصرف عنه الشر والفتن ، وهذه الأمور لا يستطيعها إلا من ملك السماوات والأرض وما بينهما ، ولو كان معه آلهة كما يقول المشركون لاتخذ العباد السبل الموصلة إلى عبادة الله الملك الحق ، لأن جميع هؤلاء المعبودين من دون الله إنما كانوا يعبدون الله ويتقربون إليه ، فحري بمن أراد أن يتقرب إلى من بيده النفع والضر أن يعبد الإله الحق الذي يعبده من في السماوات والأرض بما فيهم هؤلاء الآلهة المعبودون من دون الله ، قال تعالى : قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا وليقرأ مريد الحق قوله تعالى : قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ 22 لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ إن هذه الآيات تقطع تعلق القلب بغير الله بأربعة أمور هي : الأول : أن هؤلاء الشركاء لا يملكون مثقال ذرة مع الله ، والذي لا يملك مثقال ذرة لا ينفع ولا يضر ، ولا يستحق أن يكون إلها أو مشاركا لله ، والله هو الذي يملكهم ويتصرف فيهم وحده .
الثاني : أنهم لا يملكون شيئا من السماوات والأرض ، وليس لهم مثقال ذرة من مشاركة فيهما .
الثالث : ليس لله معين من خلقه ، بل هو الذي يعينهم على ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم لكمال غناه عنهم ، واضطرارهم إليهم .
الرابع : أن هؤلاء الشركاء لا يملكون أن يشفعوا عند الله لأتباعهم ، ولا يؤذن لهم فيها ، ولا يأذن - سبحانه - إلا لأوليائه أن يشفعوا ، ولا يشفع الأولياء إلا لمن رضي الله قوله وعمله واعتقاده .
3 - انتظام أمر العالم كله وإحكام أمره أدل دليل على أن مدبره إله واحد ، وملك واحد ، ورب واحد ، لا إله للخلق غيره ، ولا رب لهم سواه ، فكما يمتنع وجود خالقين لهذا الكون ، فكذلك يمتنع وجود إلهين قال تعالى : لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فلو فرض أن في السماء والأرض إلها غير الله لفسدتا ، ووجه الفساد أنه إذا كان مع الله إله آخر يستلزم أن يكون كل واحد منهما قادرا على الاستبداد والتصرف ، فيقع عند ذلك التنازع والاختلاف ، ويحدث بسببه الفساد وإذا كان البدن يستحيل أن يكون المدبر له روحان متساويان ، ولو كان كذلك لفسد وهلك ، وهذا محال ، فكيف يتصور هذا في الكون وهو أعظم .
4 - إجماع الأنبياء والمرسلين على ذلك : تجمع الأمم على أن الأنبياء والمرسلين هم أكمل الناس عقولا ، وأزكاهم أنفسا ، وأفضلهم أخلاقا ، وأنصحهم لرعاياهم ، وأعلمهم بمراد الله ، وأرشدهم إلى الطريق القويم والصراط المستقيم ، لأنهم يتلقون الوحي عن الله ، فيبلغونه للناس ، وقد اتفق جميع الأنبياء والمرسلين من أولهم آدم - عليه السلام - إلى آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - على دعوة أقوامهم إلى الإيمان بالله ، وترك عبادة ما سواه ، وأنه الإله الحق ، قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ وقال - جل ثناؤه - عن نوح - عليه السلام - إنه قال لقومه : لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ وقال - سبحانه - عن آخرهم محمد - صلى الله عليه وسلم - إنه قال لقومه : قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .
هذا الإله الذي أوجد الكون من عدم فأبدعه ، وخلق الإنسان في أحسن تقويم وكرمه ، وركز في فطرته الإقرار بربوبيته وألوهيته ، وجعل نفسه لا تستقر إلا إذا استسلمت إليه وسارت على منهجه ، وفرض على روحه ألا تطمئن إلا إذا سكنت إلى بارئها ، واتصلت بخالقها ، ولا صلة لها إلا من خلال صراطه المستقيم الذي بلغته الرسل الكرام ، ومنحه عقلا لا يستقيم أمره ، ولا يقوم بوظيفته على أكمل وجه إلا إذا آمن به سبحانه .
فإذا استقامت الفطرة ، واطمأنت الروح ، واستقرت النفس ، وآمن العقل تحققت له السعادة والأمن والاطمئنان في الدنيا والآخرة .
وإن أبى الإنسان غير ذلك عاش مشتتا متفرقا يهيم في أودية الدنيا ، ويتوزع بين آلهتها ، لا يدري من يحقق له النفع ، ومن يدفع عنه الضر ، ومن أجل أن يستقر الإيمان في النفس ، وتتضح شناعة الكفر ، ضرب الله لذلك مثلا - لأن المثل مما يقرب المعنى إلى الذهن - ، قارن فيه بين رجل تفرق أمره بين آلهة متعددة ورجل يعبد ربه وحده فقال سبحانه : ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ يضرب الله المثل للعبد الموحد والعبد المشرك بعبد يملكه شركاء يخاصم بعضهم بعضا فيه ، وهو بينهم موزع ، ولكل منهم فيه توجيه ، ولكل منهم عليه تكليف ، وهو بينهم حائر لا يستقر على منهج ، ولا يستقر على طريق ، ولا يملك أن يرضي أهواءهم المتنازعة المتشاكسة المتعارضة التي تمزق اتجاهاته وقواه ، وعبد يملكه سيد واحد ، وهو يعلم ما يطلبه منه ويكلفه به ، فهو مستريح مستقر على منهج واحد صريح ، فلا يستويان فهذا يخضع لسيد واحد وينعم براحة الاستقامة والمعرفة واليقين ، وذاك يخضع لسادة متشاكسين فهو معذب قلق لا يستقر على حال ، ولا يرضي واحدا منهم فضلا عن أن يرضي الجميع .
وبعد أن أوضحت الأدلة الدالة على وجود الله وربوبيته وألوهيته يحسن أن نتعرف على خلقه للكون والإنسان ، وأن نتلمس حكمته في ذلك .