أيها المظلومُ كـفَّ عن ظُلمِكْ..!
من الُمضحك المبكي في أيامِنا هذه -أيام العجائب- أن يُطالب المظلوم بالكفِ عن ظلمهِ، والمرهوبِ بالتوبةِ عن إرهابهِ والذليلِ بالتمتع بذله!!
هذا ما تلمسُهُ وتسمعُهُ بين الحينِ والآخر من بعض ممن ينتسبُ للعلمِ أو الفكرِ ممن نحسنُ الظنَ فيهم ولاشك!
تلمسُ هذا جلياً عندما يأتي التنظيرُ والتوجيهُ حول علاقتنا مع الغربيين من كفارِ أهلِ الكتابِ تحديداً؛ فهذا التنظيرُ يقلبُ الموازين، ويبُعثِرُ الأوراقَ، فيتهمُ الضحيةَ ويُنزّه الجلاد!
ومن مظاهرِ ذلك: تصوير المسلمين عموماً بأنهم هم المتسببون في جلب عداوة الغربيين (النصارى)، وذلك لسوءِ تعاملهم وجفائِهم! ومن أجل هذا الذنبِ العظيم يُطالبُ المسلمُ بما لا يُطالب هذا الآخر من: اللينِ والمهادنةِ والتلطفِ حتى وصلَ الأمرُ أحياناً للمطالبةِ بتركِ بعض المسلَّمات الشرعية التي اكتسبت مكانتها من دلالة النصوص عليها، ومن اتفاق جمهور أهل العلم الراسخين على اختلاف مذاهبهم على وجوب العمل بها.
وكأن المتبني لهذا النوع من الطرح ينسى أو يتغافل عن الواقع الأليم الذي تعيشهُ الأمة المسلمة، والذي من أبرزِ مظاهرهِ: العدوان الآثم على بلاد المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان، والتدخل الماكر والسافر في شؤونهم، والتسبب في إحداث القلاقل والفتن.
وهذا العدوان الآثم من يقودهُ ويعين عليه؟ أليس هو الغرب بقياداته المختلفة: السياسية أو العسكرية وكذلك الفكرية والدينية!
فلماذا لا يُوجِّه هؤلاء الإخوة المجتهدون اللومَ والمطالبةَ للجلادِ والمعتدي فهو أحق بها وأهل لها؟!
ومن زاويةٍ أخرى مهمة: نسمع منذ سنواتٍ طويلة عن جهودٍ حثيثةٍ من مؤتمرات وندوات وتنازلات ومجاملات في ما يسمى (بحوار الأديان)، والسؤال المشروع: ما الفائدة التي حصَّلها المسلمون من هذه المؤتمرات؟!
هل تحسنت صورة المسلمين في نظرهم؟
هل أدى ذلك لكف شرهم ودفع أذاهم أو على الأقل التخفيف منه؟
والجواب الذي ينطقُ به الواقع: هو أن صورة المسلمين ومن خلال التعامل الرسمي، والتصريحات والممارسات، وما يواجه أبناء المسلمين هناك، وما تواجهه الجهات والمؤسسات الخيرية والإنسانية الإسلامية من تضييق وشكوك ومحاربة؛ هي -وبهذه المعطيات- صورة سيئة من معالمها (الشك والريبة والنفور والاتهام)، بل وصل الأمر وتجاوز حد الصبر، والتحمل للنيل من مقدسات المسلمين؛ كما حصل من التعدي السافر على مشاعر المسلمين قاطبة، والمتمثل بالتعدي على جناب سيد الخلق، ومنقذ البشرية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -! ومن هم شائنوه؟! وفي هذا السياق؛ وقبل أيام نطالع في الصحف وبعض المواقع الإلكترونية؛ تصاريح وتواقيع للعدد ممن عُـرفوا بالعلم الشرعي، وبلغوا فيه مكانةً عالية وغيرهم من مشارب وتخصصات شتى؛ وهم يُوجهون برقيات التهنئة للغربيين من مشركي أهل الكتاب؛ يهنئونهم فيها بأعيادهم السنوية!
وجاء في تصريح لأحد المشاركين في هذا البيان والمؤصلين له؛ وهو من العلماء المعاصرين المعروفين بالعلم والمكانة؛ عدد من المسائل رأيتُ لزاماً الوقوف عندها -بحسب ما قرأت من تصاريح-:
منها قوله: "إن هذه المسألة مما اختلف فيها الناس، وأيدها شيخُ الإسلام، وتجوز لما فيها من مصلحة، وهذه المصلحة يراها في: التحالف مع الذين يحكمون قيم الوئام والسلام، وإنقاذ البشرية من ويلات الحروب!".
ولي مع هذا الكلام وقفات -وليسمح لي فضيلة الشيخ بذلك-:
1- هل هذه المسألة مما اختلف فيها الناس؟ والذي نقرأهُ في كتب أهل العلم، ومن جميع المذاهب الأربعة تشددهم في هذه المسألة؛ بل قد تواطأ كلامُ أهلِ العلم من مفسرين وفقهاء ومحدثين في مدوناتهم حول: عدم جواز تهنئة الكفار بأعيادهم التي تُمثِّل منسكاً هم ناسكوه كما قال اللهُ: (ولكلِ أمةٍ جعلنا منسكاً هم ناسكوه).
ومن أدلتهم آيات كثيرة في القرآن تنهى عن "شهود الزور" الذي فسره حبر الأمة ابن عباس وكبار أئمة التفسير: مجاهد وعكرمة والضحاك بأنه: "أعياد المشركين"، ومن أهل التفسير غير هؤلاء؟ ومن كلامهم: أن رسولَ الله أبطلَ أعيادِ المشركين فكيف يُجيز تهنئتهم في أمرٍ أبطله؟
ونقل شيخِ الإسلام ابن تيمية -وهو ثقةٌ في نقلة- اتفاق الصحابة والفقهاء على شروط أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - والذي منها: منعُ أهلِ الكتاب من إظهار أعيادهم ونقل العلامةُ المحققُ ابن القيم في أحكام أهل الذمة: "وكما أنهم لا يجوز لهم إظهاره فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم، وقد صرّح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم"، وذكر صاحب عون المعبود عن القاضي الحسن بن منصور الحنفي: "أن من اشترى فيه -أي في عيدهم- شيئا لم يكن يشتريه في غيره أو أهدى فيه هدية، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظمه الكفرة فقد كفر! وإن أراد بالشراء التنعم والتنزه وفي الإهداء التحاب جرياً على العادة لم يكن كفراً؛ لكنه كان مكروهاً كراهة تشبه بالكفرة؛فحينئذٍ يحترز عنه".
وذكر الحافظ ابن حجر عند حديثه عن حديث أنس في الاكتفاء بعيدي الفطر والأضحى؛ قال: "واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم" (الفتح (2/442).
وتَشدُدُ العلماءُ هؤلاء -وغيرهم كثير جداً- في هذه المسألة؛ يعود لأنهم يرون هذه الأعياد من جملة دينهم ومناهجهم.
وبعد هذه النقولات الواضحة والصحيحة كيف يتشددُ هذا الجمعُ الكبير من الصحابةِ والفقهاء والمفسرين في شهود أعياد الكفار أو مشاركتهم بفرحٍ أو بيّع أو شرّاء؛ بل قبل ذلك كيف يُبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأعياد ويسقط اعتبارها؛ ثم نقول إن الشرعَ وعلماءه يجيزون التهنئة! فهذا من التناقض الذي يُستغربُ ممن ينتسبُ للعلم والتدقيق فهمهُ والقول به!.
ثانياً: استدلالُ الشيخِ - حفظه الله - بعمومات في القرآن تدل على البرِ والقسطِ والإحسان مع غير المعتدين منهم؛ فهذا الاستدلال أعم من الدعوى -محل النزاع- وحديثنا في "مسألةٍ خاصة" ورد عليها، وفيها كلامُ أهل العلم متواترا من خلال فهمهم للنصوص العامة والخاصة؛ وخلاصته: أن الإحسان يكون في أمرٍ لا نهي فيه وفي هذا جمعٌ بين النصوص وهو أولى بلا شك.
ثالثاً: وهو من المسائل المهمة: حيث نسب الشيخُ القولَ بجواز تهنئة الكفار بعيدهم لشيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية - رحمه الله -! وهذه النسبةُ غيرُ صحيحةٍ وفيها إيهام شديد وتعمية على عامة الناس! ومثلُها من مثلِ الشيخِ مستغرب! وذلك لأمرين:
أولهما: أن ابن تيمية من أكثر العلماء حديثاً في مسألة: "التشبه بالكفار من حيث تأصيل المسألة وذكر أنواعها وما يدخل في التشبه وما لا يدخل، ومن ذلك حديثه عن أعياد أهل الكتاب"، بل وألف فيها كتاباً مستقلاً وهو "اقتضاء الصراط المستقيم"، وأبدى فيه وأعاد؛ لذلك فإن النسبةَ له لابد أن تكون بعد استقراء ما كتبه في هذا الكتاب أو في الفتاوى؛ ويظهر لكل مطلع على كلام شيخ الإسلام أنه يحذر كل الحذر من مشابهة أهل الكتاب في مواسمهم الخاصة ومنها أعيادهم تحديداً؛ لذا فإنه من الخطأ البين نسبة مثل هذا القول بالجواز له - رحمه الله -! كيف وهو الذي ينطلق من أن الأعيادَ من جملة الشرع والمناهج والمناسك؛ "فلا فرق بين مشاركتهم في عيدهم وبين مشاركتهم في سائر المناهج" (اقتضاء الصراط ص316)، ويذهب - رحمه الله - إلى عدم جواز مشاركتهم بأي نوعٍ من أنواع المشاركة؛ بل إن المسلم الذي يَتشبهُ بهم أو يُشاركهم يُنهى المسلمون عن إعانته! فإذا بلغ شيخ الإسلام إلى هذا الحد من التفصيل والتحذير من مشاركة الكفار في ذلك فكيف يجيز مشاركتهم المباشرة بالتعبير عن فرح المسلم بما هم عليه من اعتقادٍ فاسد في الله - تعالى -وبنبي الله عيسى؟ وذلك من خلال تهنئتهم!!
ثانياً: اعتمد الشيخ سلمه الله على روايةٍ عن الإمام أحمد ونسبت كذلك لشيخ الإسلام في جواز التهنئة؛ والسياق الذي جاءت فيه الرواية هو القول بعدم جواز تهنئة أهل الكتاب وتعزيتهم، ثم ذكروا أن هناك رواية عن أحمد رجحها شيخ الإسلام بالجواز؛ وأقول: هذه الرواية بما أنها نسبةٌ للشيخ وليست تصريحاً منه؛ فإن المنهج العلمي المتجرد يقتضي جمع كلام شيخ الإسلام من كتبه، ورد ما نقل عنه مما فيه إجمال إلى المبين من كلامه هو بنفسه.
ثم إن هذه الرواية عنه قُيدِّت بوجود المصلحة الراجحة كمثل رجاء إسلامه أو أن تكون التهنئة مقرونة بدعوته للإسلام؛ وهذا الجواز إنما يكون في الأمور العادية وليس في باب الأعياد التي أصلها ديني اعتقادي كما سبق قوله؛ حتى يمكن الجمع بين أقواله ولا تتضارب؛ وكتب الحنابلة تبين صحة هذا التوجيه لمن أراد الحق وبحث عنه!
والتقيد بالمصلحة الراجحة يدل على أن الأصل في مثل هذه الأمور عدم الجواز فتأمل! أما الحديث عن "المصلحة" فمن شروط اعتبارها كما لا يخفى على فضيلةِ الشيخ وفقه الله؛ عدم معارضتها للنصوص الخاصة هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى ألا تكون المصلحة متوهمة غير حقيقة! وألا تكون هناك مفاسد مترتبة على هذا القول تربو على المصالح فيه! وإذا كانت في مسائل عامةٍ لعموم المسلمين فمن الذي يُقدرها وكيف؟
وأقول: إن إطلاق القول بالمصلحة بشكل عام دون اعتبار للمكان والظرف وطبيعة المستفتي؛ فيه نظرٌ كبير؛لاسيما وكلامُ جمهور أهل العلم من صحابةٍ ومفسرين وفقهاء وغيرهم على خلافها؛ وبقرينة أن الممارسة العملية والمجاملات المحضة مع هؤلاء الغربيين من خلال مؤتمرات التقريب بين الأديان، أو من خلال تجمعات أخرى مشتركة -وما أكثرها- لم تثمر تلك الثمار المرجوة، ولم تفد تحسين صورة المسلمين عند القوم؛ بل لا يزال المسلم -وفي الجملة- متهماً في نظرهم بشتى أنواع التهم من إرهابٍ وتخلف.. إلخ! كذلك كثير من أبناء المسلمين اليوم تجاوزَ مرحلةَ التهنئة إلى المشاركة الفعلية في هذه الأعياد مع ما يحتف بها من منكرات؛ وهم يفعلون ذلك على استحياء أو مع استشعار الحرمة؛ وبعد صدور مثل هذه الفتاوى لاحظتُ -كما لاحظ غيري- أن هناك من توسع في هذا الباب وبدأ ينادي بما هو فوق التهنئة من مشاركة ونحوها بناءً على هذا التوجه الجديد!.
وخلاصة القول: إن هذه المسألة إذا تصدى لها العلماء المعروفون؛ وخرجت مخرج الحكم العام وليست الفتوى الخاصة لسائل معين فهي تحتاج لبيان وتفصيل؛ وتفريق بين الأمور العادية مما نص العلماء على جواز مجاملتهم فيها كالتعزية والتهنئة بأمر عادي، وبين ما كان من دينهم وشعائرهم؛ والتفريق كذلك بين ما يضطر إليه بعض المسلمين في بلاد الغرب، وبين المسلم الذي يعيش في بلده ومجتمعه المسلم، وبلا شك أن للأقليات المسلمة في بلادِ الغرب أوضاعاً وظروفاً خاصة قد تقتضي نوعاً من التوسع؛ للضرورة أو للحاجة فيتعين التفريق!.
وبعد: فإن تعامل المسلم مع غيره بحاجة لكثير من التأمل في النصوص ومراجعة صادقة لكلام الفقهاء في المدونات القديمة؛ فإن بعض الاجتهادات التي كانت في ظروفٍ معينة قد لا يتأتى أو يتعذرُ تطبيقُها الآن، ولكن الأمر لا يَحسن الاستقلال فيه بالرأي، والحكم وهو يخص عامة المسلمين، فما تعم به البلوى فهو بحاجةٍ متعينة للاجتهاد الجماعي الذي هو أقربُ للصواب، والقبول بتوفيق الله، لاسيما في مثل هذه المسائل المهمة، وفق الله علماء المسلمين جميعاً لكل خير، وحسبنا أن العالم المجتهد بين الأجر والأجرين. والله أعلم
من الُمضحك المبكي في أيامِنا هذه -أيام العجائب- أن يُطالب المظلوم بالكفِ عن ظلمهِ، والمرهوبِ بالتوبةِ عن إرهابهِ والذليلِ بالتمتع بذله!!
هذا ما تلمسُهُ وتسمعُهُ بين الحينِ والآخر من بعض ممن ينتسبُ للعلمِ أو الفكرِ ممن نحسنُ الظنَ فيهم ولاشك!
تلمسُ هذا جلياً عندما يأتي التنظيرُ والتوجيهُ حول علاقتنا مع الغربيين من كفارِ أهلِ الكتابِ تحديداً؛ فهذا التنظيرُ يقلبُ الموازين، ويبُعثِرُ الأوراقَ، فيتهمُ الضحيةَ ويُنزّه الجلاد!
ومن مظاهرِ ذلك: تصوير المسلمين عموماً بأنهم هم المتسببون في جلب عداوة الغربيين (النصارى)، وذلك لسوءِ تعاملهم وجفائِهم! ومن أجل هذا الذنبِ العظيم يُطالبُ المسلمُ بما لا يُطالب هذا الآخر من: اللينِ والمهادنةِ والتلطفِ حتى وصلَ الأمرُ أحياناً للمطالبةِ بتركِ بعض المسلَّمات الشرعية التي اكتسبت مكانتها من دلالة النصوص عليها، ومن اتفاق جمهور أهل العلم الراسخين على اختلاف مذاهبهم على وجوب العمل بها.
وكأن المتبني لهذا النوع من الطرح ينسى أو يتغافل عن الواقع الأليم الذي تعيشهُ الأمة المسلمة، والذي من أبرزِ مظاهرهِ: العدوان الآثم على بلاد المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان، والتدخل الماكر والسافر في شؤونهم، والتسبب في إحداث القلاقل والفتن.
وهذا العدوان الآثم من يقودهُ ويعين عليه؟ أليس هو الغرب بقياداته المختلفة: السياسية أو العسكرية وكذلك الفكرية والدينية!
فلماذا لا يُوجِّه هؤلاء الإخوة المجتهدون اللومَ والمطالبةَ للجلادِ والمعتدي فهو أحق بها وأهل لها؟!
ومن زاويةٍ أخرى مهمة: نسمع منذ سنواتٍ طويلة عن جهودٍ حثيثةٍ من مؤتمرات وندوات وتنازلات ومجاملات في ما يسمى (بحوار الأديان)، والسؤال المشروع: ما الفائدة التي حصَّلها المسلمون من هذه المؤتمرات؟!
هل تحسنت صورة المسلمين في نظرهم؟
هل أدى ذلك لكف شرهم ودفع أذاهم أو على الأقل التخفيف منه؟
والجواب الذي ينطقُ به الواقع: هو أن صورة المسلمين ومن خلال التعامل الرسمي، والتصريحات والممارسات، وما يواجه أبناء المسلمين هناك، وما تواجهه الجهات والمؤسسات الخيرية والإنسانية الإسلامية من تضييق وشكوك ومحاربة؛ هي -وبهذه المعطيات- صورة سيئة من معالمها (الشك والريبة والنفور والاتهام)، بل وصل الأمر وتجاوز حد الصبر، والتحمل للنيل من مقدسات المسلمين؛ كما حصل من التعدي السافر على مشاعر المسلمين قاطبة، والمتمثل بالتعدي على جناب سيد الخلق، ومنقذ البشرية سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم -! ومن هم شائنوه؟! وفي هذا السياق؛ وقبل أيام نطالع في الصحف وبعض المواقع الإلكترونية؛ تصاريح وتواقيع للعدد ممن عُـرفوا بالعلم الشرعي، وبلغوا فيه مكانةً عالية وغيرهم من مشارب وتخصصات شتى؛ وهم يُوجهون برقيات التهنئة للغربيين من مشركي أهل الكتاب؛ يهنئونهم فيها بأعيادهم السنوية!
وجاء في تصريح لأحد المشاركين في هذا البيان والمؤصلين له؛ وهو من العلماء المعاصرين المعروفين بالعلم والمكانة؛ عدد من المسائل رأيتُ لزاماً الوقوف عندها -بحسب ما قرأت من تصاريح-:
منها قوله: "إن هذه المسألة مما اختلف فيها الناس، وأيدها شيخُ الإسلام، وتجوز لما فيها من مصلحة، وهذه المصلحة يراها في: التحالف مع الذين يحكمون قيم الوئام والسلام، وإنقاذ البشرية من ويلات الحروب!".
ولي مع هذا الكلام وقفات -وليسمح لي فضيلة الشيخ بذلك-:
1- هل هذه المسألة مما اختلف فيها الناس؟ والذي نقرأهُ في كتب أهل العلم، ومن جميع المذاهب الأربعة تشددهم في هذه المسألة؛ بل قد تواطأ كلامُ أهلِ العلم من مفسرين وفقهاء ومحدثين في مدوناتهم حول: عدم جواز تهنئة الكفار بأعيادهم التي تُمثِّل منسكاً هم ناسكوه كما قال اللهُ: (ولكلِ أمةٍ جعلنا منسكاً هم ناسكوه).
ومن أدلتهم آيات كثيرة في القرآن تنهى عن "شهود الزور" الذي فسره حبر الأمة ابن عباس وكبار أئمة التفسير: مجاهد وعكرمة والضحاك بأنه: "أعياد المشركين"، ومن أهل التفسير غير هؤلاء؟ ومن كلامهم: أن رسولَ الله أبطلَ أعيادِ المشركين فكيف يُجيز تهنئتهم في أمرٍ أبطله؟
ونقل شيخِ الإسلام ابن تيمية -وهو ثقةٌ في نقلة- اتفاق الصحابة والفقهاء على شروط أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه - والذي منها: منعُ أهلِ الكتاب من إظهار أعيادهم ونقل العلامةُ المحققُ ابن القيم في أحكام أهل الذمة: "وكما أنهم لا يجوز لهم إظهاره فلا يجوز للمسلمين ممالأتهم عليه ولا مساعدتهم ولا الحضور معهم باتفاق أهل العلم، وقد صرّح به الفقهاء من أتباع الأئمة الأربعة في كتبهم"، وذكر صاحب عون المعبود عن القاضي الحسن بن منصور الحنفي: "أن من اشترى فيه -أي في عيدهم- شيئا لم يكن يشتريه في غيره أو أهدى فيه هدية، فإن أراد بذلك تعظيم اليوم كما يعظمه الكفرة فقد كفر! وإن أراد بالشراء التنعم والتنزه وفي الإهداء التحاب جرياً على العادة لم يكن كفراً؛ لكنه كان مكروهاً كراهة تشبه بالكفرة؛فحينئذٍ يحترز عنه".
وذكر الحافظ ابن حجر عند حديثه عن حديث أنس في الاكتفاء بعيدي الفطر والأضحى؛ قال: "واستنبط منه كراهة الفرح في أعياد المشركين والتشبه بهم" (الفتح (2/442).
وتَشدُدُ العلماءُ هؤلاء -وغيرهم كثير جداً- في هذه المسألة؛ يعود لأنهم يرون هذه الأعياد من جملة دينهم ومناهجهم.
وبعد هذه النقولات الواضحة والصحيحة كيف يتشددُ هذا الجمعُ الكبير من الصحابةِ والفقهاء والمفسرين في شهود أعياد الكفار أو مشاركتهم بفرحٍ أو بيّع أو شرّاء؛ بل قبل ذلك كيف يُبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه الأعياد ويسقط اعتبارها؛ ثم نقول إن الشرعَ وعلماءه يجيزون التهنئة! فهذا من التناقض الذي يُستغربُ ممن ينتسبُ للعلم والتدقيق فهمهُ والقول به!.
ثانياً: استدلالُ الشيخِ - حفظه الله - بعمومات في القرآن تدل على البرِ والقسطِ والإحسان مع غير المعتدين منهم؛ فهذا الاستدلال أعم من الدعوى -محل النزاع- وحديثنا في "مسألةٍ خاصة" ورد عليها، وفيها كلامُ أهل العلم متواترا من خلال فهمهم للنصوص العامة والخاصة؛ وخلاصته: أن الإحسان يكون في أمرٍ لا نهي فيه وفي هذا جمعٌ بين النصوص وهو أولى بلا شك.
ثالثاً: وهو من المسائل المهمة: حيث نسب الشيخُ القولَ بجواز تهنئة الكفار بعيدهم لشيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية - رحمه الله -! وهذه النسبةُ غيرُ صحيحةٍ وفيها إيهام شديد وتعمية على عامة الناس! ومثلُها من مثلِ الشيخِ مستغرب! وذلك لأمرين:
أولهما: أن ابن تيمية من أكثر العلماء حديثاً في مسألة: "التشبه بالكفار من حيث تأصيل المسألة وذكر أنواعها وما يدخل في التشبه وما لا يدخل، ومن ذلك حديثه عن أعياد أهل الكتاب"، بل وألف فيها كتاباً مستقلاً وهو "اقتضاء الصراط المستقيم"، وأبدى فيه وأعاد؛ لذلك فإن النسبةَ له لابد أن تكون بعد استقراء ما كتبه في هذا الكتاب أو في الفتاوى؛ ويظهر لكل مطلع على كلام شيخ الإسلام أنه يحذر كل الحذر من مشابهة أهل الكتاب في مواسمهم الخاصة ومنها أعيادهم تحديداً؛ لذا فإنه من الخطأ البين نسبة مثل هذا القول بالجواز له - رحمه الله -! كيف وهو الذي ينطلق من أن الأعيادَ من جملة الشرع والمناهج والمناسك؛ "فلا فرق بين مشاركتهم في عيدهم وبين مشاركتهم في سائر المناهج" (اقتضاء الصراط ص316)، ويذهب - رحمه الله - إلى عدم جواز مشاركتهم بأي نوعٍ من أنواع المشاركة؛ بل إن المسلم الذي يَتشبهُ بهم أو يُشاركهم يُنهى المسلمون عن إعانته! فإذا بلغ شيخ الإسلام إلى هذا الحد من التفصيل والتحذير من مشاركة الكفار في ذلك فكيف يجيز مشاركتهم المباشرة بالتعبير عن فرح المسلم بما هم عليه من اعتقادٍ فاسد في الله - تعالى -وبنبي الله عيسى؟ وذلك من خلال تهنئتهم!!
ثانياً: اعتمد الشيخ سلمه الله على روايةٍ عن الإمام أحمد ونسبت كذلك لشيخ الإسلام في جواز التهنئة؛ والسياق الذي جاءت فيه الرواية هو القول بعدم جواز تهنئة أهل الكتاب وتعزيتهم، ثم ذكروا أن هناك رواية عن أحمد رجحها شيخ الإسلام بالجواز؛ وأقول: هذه الرواية بما أنها نسبةٌ للشيخ وليست تصريحاً منه؛ فإن المنهج العلمي المتجرد يقتضي جمع كلام شيخ الإسلام من كتبه، ورد ما نقل عنه مما فيه إجمال إلى المبين من كلامه هو بنفسه.
ثم إن هذه الرواية عنه قُيدِّت بوجود المصلحة الراجحة كمثل رجاء إسلامه أو أن تكون التهنئة مقرونة بدعوته للإسلام؛ وهذا الجواز إنما يكون في الأمور العادية وليس في باب الأعياد التي أصلها ديني اعتقادي كما سبق قوله؛ حتى يمكن الجمع بين أقواله ولا تتضارب؛ وكتب الحنابلة تبين صحة هذا التوجيه لمن أراد الحق وبحث عنه!
والتقيد بالمصلحة الراجحة يدل على أن الأصل في مثل هذه الأمور عدم الجواز فتأمل! أما الحديث عن "المصلحة" فمن شروط اعتبارها كما لا يخفى على فضيلةِ الشيخ وفقه الله؛ عدم معارضتها للنصوص الخاصة هذا من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى ألا تكون المصلحة متوهمة غير حقيقة! وألا تكون هناك مفاسد مترتبة على هذا القول تربو على المصالح فيه! وإذا كانت في مسائل عامةٍ لعموم المسلمين فمن الذي يُقدرها وكيف؟
وأقول: إن إطلاق القول بالمصلحة بشكل عام دون اعتبار للمكان والظرف وطبيعة المستفتي؛ فيه نظرٌ كبير؛لاسيما وكلامُ جمهور أهل العلم من صحابةٍ ومفسرين وفقهاء وغيرهم على خلافها؛ وبقرينة أن الممارسة العملية والمجاملات المحضة مع هؤلاء الغربيين من خلال مؤتمرات التقريب بين الأديان، أو من خلال تجمعات أخرى مشتركة -وما أكثرها- لم تثمر تلك الثمار المرجوة، ولم تفد تحسين صورة المسلمين عند القوم؛ بل لا يزال المسلم -وفي الجملة- متهماً في نظرهم بشتى أنواع التهم من إرهابٍ وتخلف.. إلخ! كذلك كثير من أبناء المسلمين اليوم تجاوزَ مرحلةَ التهنئة إلى المشاركة الفعلية في هذه الأعياد مع ما يحتف بها من منكرات؛ وهم يفعلون ذلك على استحياء أو مع استشعار الحرمة؛ وبعد صدور مثل هذه الفتاوى لاحظتُ -كما لاحظ غيري- أن هناك من توسع في هذا الباب وبدأ ينادي بما هو فوق التهنئة من مشاركة ونحوها بناءً على هذا التوجه الجديد!.
وخلاصة القول: إن هذه المسألة إذا تصدى لها العلماء المعروفون؛ وخرجت مخرج الحكم العام وليست الفتوى الخاصة لسائل معين فهي تحتاج لبيان وتفصيل؛ وتفريق بين الأمور العادية مما نص العلماء على جواز مجاملتهم فيها كالتعزية والتهنئة بأمر عادي، وبين ما كان من دينهم وشعائرهم؛ والتفريق كذلك بين ما يضطر إليه بعض المسلمين في بلاد الغرب، وبين المسلم الذي يعيش في بلده ومجتمعه المسلم، وبلا شك أن للأقليات المسلمة في بلادِ الغرب أوضاعاً وظروفاً خاصة قد تقتضي نوعاً من التوسع؛ للضرورة أو للحاجة فيتعين التفريق!.
وبعد: فإن تعامل المسلم مع غيره بحاجة لكثير من التأمل في النصوص ومراجعة صادقة لكلام الفقهاء في المدونات القديمة؛ فإن بعض الاجتهادات التي كانت في ظروفٍ معينة قد لا يتأتى أو يتعذرُ تطبيقُها الآن، ولكن الأمر لا يَحسن الاستقلال فيه بالرأي، والحكم وهو يخص عامة المسلمين، فما تعم به البلوى فهو بحاجةٍ متعينة للاجتهاد الجماعي الذي هو أقربُ للصواب، والقبول بتوفيق الله، لاسيما في مثل هذه المسائل المهمة، وفق الله علماء المسلمين جميعاً لكل خير، وحسبنا أن العالم المجتهد بين الأجر والأجرين. والله أعلم
تعليق