من درس: الأسماء والصفات (الحلقة الأولى)
أ- دلالة المطابقة:
ب- دلالة تضمن .
جـ- دلالة التزام .
فمثلاً: اسم: "الله" هذا الاسم من أسماء الله يدل على ذات الله -سبحانه وتعالى- دلالة مطابقة، وهو يدل على الصفة المشتقة منه بالتضمن، وهي الألوهية .
فالاسم يدل على المسمى -وإن كثرت وتعددت- دلالة مطابقة .
واسم القدير: يستلزم إثبات القدرة له، والحي: يستلزم إثبات الحياة له، والرحيم: يستلزم إثبات الرحمة له، فهذه دلالة التزام .
ودلالته على بقية الصفات بالتضمن، فعندما نقول: الله قدير وعليم، فهذا الاسم يدل على أن الله حي، فدلالة الاسم على صفة أخرى غير الصفة التي تشتق منه تسمى: دلالة تضمن.
وسوف نقرأ كلام المصنف عند تقسيم الطوائف الأربع في موضوع التشبيه، وأن الطوائف التي نفت جميع الأسماء ونفت جميع الصفات خارجة من الملة كـالجهمية ؛ لأنها نفت ما ثبت في القرآن والسنة. فهي لم تثبت إلا وجوداً مطلقاً لا يوصف بأي شيء .
والذين قالوا: نثبت الأسماء فقط كـالمعتزلة ، والأسماء تدل على الذات دلالة واحدة فقط وهي المطابقة، فلا تضمن ولا لزوم، فالأسماء كلها مترادفات لا تدل على صفات، ولا يشتق منها صفات لله -سبحانه وتعالى- فلا يصفون الله -سبحانه وتعالى- بشيء من الصفات التي تشتق من أسمائه -سبحانه وتعالى- بطريقة اللزوم عند أهل السنة والجماعة .
وأما الأشاعرة فقالوا: نحن نثبت الأسماء ونثبت سبع صفات أو إحدى عشرة أو ثلاثة عشر، وبعضهم يجعلها عشرين، لكن أصلها سبع، يركب منها حتى تصير عشرين فقط، وهي الصفات العقلية: العلم والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصر والقدرة، ولا يثبتون الصفات الخبرية لله، كالغضب والرضا، واليد والاستواء والعلو، إنما يثبتون الصفات العقلية لأن العقل دل عليها .
وقد مر أن اشتراك المخلوق والخالق -سبحانه وتعالى- في لفظ الاسم لا يدل أبداً على الاشتراك في الحقيقة.
فنقول للأشاعرة قولوا في صفة الغضب والرضا واليد مثل ما تقولون في صفة العلم والحياة والإرادة والكلام، فله -سبحانه- علم وإرادة ليستا كعلم المخلوقين وإرادتهم، فكذلك له غضب ورضىً لا كغضب المخلوقين ورضاهم، ويجيء وينزل ليس كنزول المخلوقين ومجيئهم .
ونقول للمعتزلة : كما أنكم تثبتون الأسماء فأثبتوا أيضاً الصفات، فكما تقولون: الأسماء لا تشبه الأسماء، فكذلك الصفات لا تشبه الصفات .
ونقول للجهمية : بما أنكم تقولون وجود لا يشبه وجود المخلوقين، فقولوا في الحياة والإرادة والعلم واليد مثل ما قلتم في الوجود .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب، والمحبة والبغض، ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم ! قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما يثبت للعبد.
فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه، فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة !
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود، حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلاً له، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه. وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك. وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه.
فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم، والآخر حادث، أحدهما غني، والآخر فقير، أحدهما خالق، والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً.
ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك، لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قِدمه وهو موجود بنفسه.
والآخر لا يجب قِدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما: خالق، والآخر: ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير. فلو تماثلا، للزم أن يكون كل منهما واجب القِدم ليس بواجب القِدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما، فعُلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع. فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل، والله أعلم وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه.
فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه ] اهـ .
الشرح:
علم الكلام ثمرته قليلة، والمصنف رحمه الله أطال في الرد هنا، يريد أن يلزمهم بجنس كلامهم، وإلا فالأسلوب الفطري أخصر وأسهل للفهم .
فمن لا يثبت وجود الله لا بد أنه يثبت وجود المخلوقات، وهذه المخلوقات الموجودة كانت بعد أن لم تكن، وما كان بعد أن لم يكن فهو مفتقر إلى من أوجده، ومن أوجد يستلزم العقل أن يكون كائناً أزلياً لا أول لوجوده، أما هذا الذي كان بعد أن لم يكن فإنه مخلوق لخالق هو الله سبحانه وتعالى، وافتقار المخلوق إليه فهو افتقار إلى غني وإلى خالق أزلي لا أول لوجوده، وهذا أمر مقطوع به لا يكابر فيه إلا من سلب نعمة العقل بالكلية، فهذا شيء موجود وهذا شيء موجود، وتماثلهما ممتنع؛ لأنه اجتماع للضدين .
بل لهذا وجود مستقل وصفات مستقلة، ولهذا وجود مستقل وصفات مستقلة عن الآخر، فالاشتراك في كونهما موجودين لا يستلزم الاشتراك في الصفات، فهما متفقان من وجه ومختلفان من وجه، متفقان في الاسم: أن هذا يسمى شيء ويسمى موجود، ولكن مختلفان في الحقيقة؛ فهذا وجوده وجود كمال وأزلي، وهذا وجوده حادث وناقص، فاتفقا من وجه واختلفا من وجه .
فهذا كله لا يستلزم التشبيه ولا يقتضيه -ولله الحمد- فليس إثبات ما أثبته الله لنفسه أو رسوله مما يقتضي التشبيه أو يستلزمه .
والطائفة الأخيرة "الرابعة" هي: التي قالت بقضية الاشتراك الكلي والوجود الكلي، وكونه في الأعيان أو كونه في الأذهان .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار ، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد .
وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال: بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا وعلى كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه .
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً؛ بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها، كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق ؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد، لكن بوجهين مختلفين .
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة اخذوا هذا المعنى، وزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة اخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه. وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه،فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر. والمشبهة احسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه] اهـ .
الشرح:
قضية المشترك المطلق الكلي قد سبق أن قلنا: إنه لما وجد أناس ينكرون الحقائق رد عليهم آخرون، وأثبتوا الحقائق بإثبات المطلقات الكلية، ثم إثبات المعينات في الخارج .
فمثلاً: الوجود المطلق، علمه كلي، والوجود أمر مطلق في الذهن لم يعين ولم يخصص، ويتحول هذا المطلق إلى الحقيقة إذا عين بآحاده، فنقول: الله سبحانه وتعالى موجود، فكل ذلك يشمله لفظ الوجود، وهو يطلق على جميع معناه دون استثناء، وكذلك كلي -أي: أن جميع آحاده تدخل فيه كل الموجودات.
وكلمة الوجود: هو الذي جعل المعطلة ينفون صفات الله سبحانه وتعالى بزعم التشبيه، قالوا: لأن هذه كلها تشترك في حقيقة واحدة وهي الوجود .
فمثلاً: الله عليم والمخلوق عليم، إذاً يشتركان في العلم لكن الاشتراك المطلق الكلي ما لم يعين أو يخصص لا يستلزم التشبيه أبداً حتى يتعين؛ لأن هذه قضية معينة لا وجود لها في الأعيان "الذوات الخارجية"، وإنما توجد في ذهن الإنسان، فقولك -مثلاً- "الوجود ". لا يتصور به شيئاً معيناً أبداً، فإذا عينت وقلت: هذا موجود، أو زيد موجود، أو الله موجود، تعين هذا الموجود .
فمجرد الاشتراك في هذا الشيء المطلق الذهني الذي لا وجود له خارج الذهن لا يستلزم التشبيه بحال من الأحوال بدليل أننا عندما نقسم الوجود نقول: ينقسم إلى قسمين: خالق ومخلوق؛ لأن مجرد الوجود هو عام لا يدل على شي معين بإطلاق، فالفرق بين الموجود الكلي والمشترك اللفظي هو: اسم يطلق على شيئين مختلفين في الحقيقة لكن اللفظ واحد، مثل المشتري والعين، فلفظة العين -مثلاً- تطلق على العين التي هي الباصرة، وتطلق على الماء الذي يجري، وتطلق على الذهب. وكذلك المشتري، يطلق على المبتاع الذي يشتري شيئاً، ويقال للكوكب مشتري، ولكن ليس المشتري كـالمشتري، وليست العين كالعين .
لكن إثبات الصفات ليس من باب المشترك اللفظي فقط، بل ثبت أن علم المخلوقات غير علم الله، لكن يشتركان في مطلق كلي لا مجرد الاشتراك اللفظي، الذي يستخدم في علم البلاغة أو الأصول، بل علم الإنسان يعرف به الأشياء ويدرك حقائقها، ولكن بشكل محدود جداً، أما الله سبحانه وتعالى فإن علمه أكمل وأعظم وأعم .
فهناك اشتراك في الجنس، ولكنه لا يستلزم الاشتراك في الحقيقة أو الذات .
فالقضية ليست من باب المشترك اللفظي، وإنما هي من باب الاشتراك في المطلق الكلي الذي يوجد في الأذهان، ولا يوجد في الواقع إلا معيناً مختصاً، فمثلاً: الإنسان مطلق كلي موجود في الأذهان، لكن عندما نقول: زيد وعمر والملك والخادم، فليس الملك كالخادم، فهما يشتركان في الإنسانية، لكن يختلفان في الصفات والحقيقة .
وأعظم منه ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى، كالعلم والحياة والقدرة، وهي ثابتة لله عز وجل، وأثبتها الله للمخلوقات، فلا يستلزم الاشتراك في الإطلاق الكلي، وهو ذهني مجرد، فإذا عين المراد به وعين المسمى به الله أو المخلوق اختلف اختلافاً بيناً .
فـالفلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي والكندي من فلاسفة اليونان أو المنتسبين للإسلام لهم اصطلاح.
و المتكلمون الذين هم: المعتزلة والأشعرية وأمثالهم لهم اصطلاح، فـالفلاسفة يستخدمون عبارة واجب الوجود أو ممكن الوجود أو مستحيل الوجود، والمتكلمون يستخدمون عبارة قديم وحادث .
والفرق بينهم في الاستخدام والاصطلاح، أن الفلاسفة يقولون: العقل يدل على أن الأشياء إما واجبة بذاتها، وإما ممكنة، وإما ممتنعة الوجود لذاتها. فمثلاً يقولون: الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، لا يفتقر وجوده إلى أحد غيره، فالناس لا ينفون الوجود، وليست هي مشكلة الأنبياء مع أممهم، ولا مشكلة أهل السنة مع الطوائف الضالة، لأن الفلاسفة لا ينكرون الوجود، وإنما يسمونه واجب الوجود .
وإنما القضية: "قضية الألوهية" .
فواجب الوجود عندهم هو ما كان وجوده لذاته، لا يحتاج ولا يفتقر وجوده إلى غيره وهو الله.
وممتنع الوجود هو وجود شريك ومماثل لواجب الوجود .
ووجود أمثال الشجر والحجر يسمونها الممكنات، وبهذا نفهم اصطلاح الفلاسفة ، الذي يريد به أصحابه ما نسميه نحن المربوبات كما سماه الله في كتابه قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -فالمخلوقات أو العالمين: كلمة تشمل كل ما سوى الله -سبحانه- فكل ما عدا الله فهو مربوب، والرب هو الله عز وجل، والمربوبات هي الممكنات، فهذا تقسيم الفلاسفة .
وأما تقسيم المتكلمين فيقولون: الأشياء الموجودة إما أنها موجودة بعد أن لم تكن، وإما أنها أزلية الوجود، فالأزلي هو القديم الذي لا أول لوجوده وهو الله، والموجود بعد أن لم يكن هو الحادث .
وما دام أن الله سبحانه وتعالى موجود ومادام أنه واجب الوجود فلنثبت له ما شئنا والإثبات هذا وارد ومثبت في الكتاب السنة لكنه إثبات بلا تشبيه . فهم زادوا وغلوا في الإثبات حتى أثبتوها بما يشبه صفات المخلوقين وأما المعطلة فإنهم عرفوا جانباً من الحق وهو جانب عدم المشابهة وعدم المماثلة وهو حق وأن الله سبحانه وتعالى لا يشابه ولا يماثله شيء لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هذا حق عرفوه ولكنهم زادوا عليه بأن نفوا ماله من الحق سبحانه وتعالى وقالوا: إذاً لا نثبت له شيء حتى لا نقع في التشبيه .
أ- دلالة المطابقة:
ب- دلالة تضمن .
جـ- دلالة التزام .
فمثلاً: اسم: "الله" هذا الاسم من أسماء الله يدل على ذات الله -سبحانه وتعالى- دلالة مطابقة، وهو يدل على الصفة المشتقة منه بالتضمن، وهي الألوهية .
فالاسم يدل على المسمى -وإن كثرت وتعددت- دلالة مطابقة .
واسم القدير: يستلزم إثبات القدرة له، والحي: يستلزم إثبات الحياة له، والرحيم: يستلزم إثبات الرحمة له، فهذه دلالة التزام .
ودلالته على بقية الصفات بالتضمن، فعندما نقول: الله قدير وعليم، فهذا الاسم يدل على أن الله حي، فدلالة الاسم على صفة أخرى غير الصفة التي تشتق منه تسمى: دلالة تضمن.
وسوف نقرأ كلام المصنف عند تقسيم الطوائف الأربع في موضوع التشبيه، وأن الطوائف التي نفت جميع الأسماء ونفت جميع الصفات خارجة من الملة كـالجهمية ؛ لأنها نفت ما ثبت في القرآن والسنة. فهي لم تثبت إلا وجوداً مطلقاً لا يوصف بأي شيء .
والذين قالوا: نثبت الأسماء فقط كـالمعتزلة ، والأسماء تدل على الذات دلالة واحدة فقط وهي المطابقة، فلا تضمن ولا لزوم، فالأسماء كلها مترادفات لا تدل على صفات، ولا يشتق منها صفات لله -سبحانه وتعالى- فلا يصفون الله -سبحانه وتعالى- بشيء من الصفات التي تشتق من أسمائه -سبحانه وتعالى- بطريقة اللزوم عند أهل السنة والجماعة .
وأما الأشاعرة فقالوا: نحن نثبت الأسماء ونثبت سبع صفات أو إحدى عشرة أو ثلاثة عشر، وبعضهم يجعلها عشرين، لكن أصلها سبع، يركب منها حتى تصير عشرين فقط، وهي الصفات العقلية: العلم والحياة والإرادة والكلام والسمع والبصر والقدرة، ولا يثبتون الصفات الخبرية لله، كالغضب والرضا، واليد والاستواء والعلو، إنما يثبتون الصفات العقلية لأن العقل دل عليها .
وقد مر أن اشتراك المخلوق والخالق -سبحانه وتعالى- في لفظ الاسم لا يدل أبداً على الاشتراك في الحقيقة.
فنقول للأشاعرة قولوا في صفة الغضب والرضا واليد مثل ما تقولون في صفة العلم والحياة والإرادة والكلام، فله -سبحانه- علم وإرادة ليستا كعلم المخلوقين وإرادتهم، فكذلك له غضب ورضىً لا كغضب المخلوقين ورضاهم، ويجيء وينزل ليس كنزول المخلوقين ومجيئهم .
ونقول للمعتزلة : كما أنكم تثبتون الأسماء فأثبتوا أيضاً الصفات، فكما تقولون: الأسماء لا تشبه الأسماء، فكذلك الصفات لا تشبه الصفات .
ونقول للجهمية : بما أنكم تقولون وجود لا يشبه وجود المخلوقين، فقولوا في الحياة والإرادة والعلم واليد مثل ما قلتم في الوجود .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ فإن من نفى صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب، والمحبة والبغض، ونحو ذلك، وزعم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم ! قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً من الصفات، قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: حي، عليم، قدير، والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلاً لما يثبت للعبد.
فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه، فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول: هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة !
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود، حق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلاً له، فإن قال: أنا لا أثبت شيئاً، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر إلى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر إلى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه. وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك. وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجباً بنفسه، ولا قديماً أزلياً، ولا خالقاً لما سواه، ولا غنياً عما سواه.
فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم، والآخر حادث، أحدهما غني، والآخر فقير، أحدهما خالق، والآخر مخلوق، وهما متفقان في كون كل منهما شيئاً موجوداً ثابتاً.
ومن المعلوم أيضاً أن أحدهما ليس مماثلاً للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك، لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قِدمه وهو موجود بنفسه.
والآخر لا يجب قِدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما: خالق، والآخر: ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير. فلو تماثلا، للزم أن يكون كل منهما واجب القِدم ليس بواجب القِدم، موجوداً بنفسه غير موجود بنفسه، خالقاً ليس بخالق، غنياً غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما، فعُلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع. فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه، فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلاً قائلاً للباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبهاً قائلاً للباطل، والله أعلم وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه.
فالله تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضاً مختص بوجوده وعلمه وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه ] اهـ .
الشرح:
علم الكلام ثمرته قليلة، والمصنف رحمه الله أطال في الرد هنا، يريد أن يلزمهم بجنس كلامهم، وإلا فالأسلوب الفطري أخصر وأسهل للفهم .
فمن لا يثبت وجود الله لا بد أنه يثبت وجود المخلوقات، وهذه المخلوقات الموجودة كانت بعد أن لم تكن، وما كان بعد أن لم يكن فهو مفتقر إلى من أوجده، ومن أوجد يستلزم العقل أن يكون كائناً أزلياً لا أول لوجوده، أما هذا الذي كان بعد أن لم يكن فإنه مخلوق لخالق هو الله سبحانه وتعالى، وافتقار المخلوق إليه فهو افتقار إلى غني وإلى خالق أزلي لا أول لوجوده، وهذا أمر مقطوع به لا يكابر فيه إلا من سلب نعمة العقل بالكلية، فهذا شيء موجود وهذا شيء موجود، وتماثلهما ممتنع؛ لأنه اجتماع للضدين .
بل لهذا وجود مستقل وصفات مستقلة، ولهذا وجود مستقل وصفات مستقلة عن الآخر، فالاشتراك في كونهما موجودين لا يستلزم الاشتراك في الصفات، فهما متفقان من وجه ومختلفان من وجه، متفقان في الاسم: أن هذا يسمى شيء ويسمى موجود، ولكن مختلفان في الحقيقة؛ فهذا وجوده وجود كمال وأزلي، وهذا وجوده حادث وناقص، فاتفقا من وجه واختلفا من وجه .
فهذا كله لا يستلزم التشبيه ولا يقتضيه -ولله الحمد- فليس إثبات ما أثبته الله لنفسه أو رسوله مما يقتضي التشبيه أو يستلزمه .
والطائفة الأخيرة "الرابعة" هي: التي قالت بقضية الاشتراك الكلي والوجود الكلي، وكونه في الأعيان أو كونه في الأذهان .
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[ وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه، وهذا موضع اضطرب فيه كثير من النظار ، حيث توهموا أن الاتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد .
وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال: بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا وعلى كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه .
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فإن ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقاً كلياً؛ بل لا يوجد إلا معيناً مختصاً، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها، كان مسماها معيناً مختصاً به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصاً به، فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق ؟ ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد، لكن بوجهين مختلفين .
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة اخذوا هذا المعنى، وزادوا فيه على الحق فضلوا. وأن المعطلة اخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه. وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا، وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه،فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر. والمشبهة احسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه] اهـ .
الشرح:
قضية المشترك المطلق الكلي قد سبق أن قلنا: إنه لما وجد أناس ينكرون الحقائق رد عليهم آخرون، وأثبتوا الحقائق بإثبات المطلقات الكلية، ثم إثبات المعينات في الخارج .
فمثلاً: الوجود المطلق، علمه كلي، والوجود أمر مطلق في الذهن لم يعين ولم يخصص، ويتحول هذا المطلق إلى الحقيقة إذا عين بآحاده، فنقول: الله سبحانه وتعالى موجود، فكل ذلك يشمله لفظ الوجود، وهو يطلق على جميع معناه دون استثناء، وكذلك كلي -أي: أن جميع آحاده تدخل فيه كل الموجودات.
وكلمة الوجود: هو الذي جعل المعطلة ينفون صفات الله سبحانه وتعالى بزعم التشبيه، قالوا: لأن هذه كلها تشترك في حقيقة واحدة وهي الوجود .
فمثلاً: الله عليم والمخلوق عليم، إذاً يشتركان في العلم لكن الاشتراك المطلق الكلي ما لم يعين أو يخصص لا يستلزم التشبيه أبداً حتى يتعين؛ لأن هذه قضية معينة لا وجود لها في الأعيان "الذوات الخارجية"، وإنما توجد في ذهن الإنسان، فقولك -مثلاً- "الوجود ". لا يتصور به شيئاً معيناً أبداً، فإذا عينت وقلت: هذا موجود، أو زيد موجود، أو الله موجود، تعين هذا الموجود .
فمجرد الاشتراك في هذا الشيء المطلق الذهني الذي لا وجود له خارج الذهن لا يستلزم التشبيه بحال من الأحوال بدليل أننا عندما نقسم الوجود نقول: ينقسم إلى قسمين: خالق ومخلوق؛ لأن مجرد الوجود هو عام لا يدل على شي معين بإطلاق، فالفرق بين الموجود الكلي والمشترك اللفظي هو: اسم يطلق على شيئين مختلفين في الحقيقة لكن اللفظ واحد، مثل المشتري والعين، فلفظة العين -مثلاً- تطلق على العين التي هي الباصرة، وتطلق على الماء الذي يجري، وتطلق على الذهب. وكذلك المشتري، يطلق على المبتاع الذي يشتري شيئاً، ويقال للكوكب مشتري، ولكن ليس المشتري كـالمشتري، وليست العين كالعين .
لكن إثبات الصفات ليس من باب المشترك اللفظي فقط، بل ثبت أن علم المخلوقات غير علم الله، لكن يشتركان في مطلق كلي لا مجرد الاشتراك اللفظي، الذي يستخدم في علم البلاغة أو الأصول، بل علم الإنسان يعرف به الأشياء ويدرك حقائقها، ولكن بشكل محدود جداً، أما الله سبحانه وتعالى فإن علمه أكمل وأعظم وأعم .
فهناك اشتراك في الجنس، ولكنه لا يستلزم الاشتراك في الحقيقة أو الذات .
فالقضية ليست من باب المشترك اللفظي، وإنما هي من باب الاشتراك في المطلق الكلي الذي يوجد في الأذهان، ولا يوجد في الواقع إلا معيناً مختصاً، فمثلاً: الإنسان مطلق كلي موجود في الأذهان، لكن عندما نقول: زيد وعمر والملك والخادم، فليس الملك كالخادم، فهما يشتركان في الإنسانية، لكن يختلفان في الصفات والحقيقة .
وأعظم منه ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى، كالعلم والحياة والقدرة، وهي ثابتة لله عز وجل، وأثبتها الله للمخلوقات، فلا يستلزم الاشتراك في الإطلاق الكلي، وهو ذهني مجرد، فإذا عين المراد به وعين المسمى به الله أو المخلوق اختلف اختلافاً بيناً .
فـالفلاسفة مثل أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي والكندي من فلاسفة اليونان أو المنتسبين للإسلام لهم اصطلاح.
و المتكلمون الذين هم: المعتزلة والأشعرية وأمثالهم لهم اصطلاح، فـالفلاسفة يستخدمون عبارة واجب الوجود أو ممكن الوجود أو مستحيل الوجود، والمتكلمون يستخدمون عبارة قديم وحادث .
والفرق بينهم في الاستخدام والاصطلاح، أن الفلاسفة يقولون: العقل يدل على أن الأشياء إما واجبة بذاتها، وإما ممكنة، وإما ممتنعة الوجود لذاتها. فمثلاً يقولون: الله سبحانه وتعالى واجب الوجود، لا يفتقر وجوده إلى أحد غيره، فالناس لا ينفون الوجود، وليست هي مشكلة الأنبياء مع أممهم، ولا مشكلة أهل السنة مع الطوائف الضالة، لأن الفلاسفة لا ينكرون الوجود، وإنما يسمونه واجب الوجود .
وإنما القضية: "قضية الألوهية" .
فواجب الوجود عندهم هو ما كان وجوده لذاته، لا يحتاج ولا يفتقر وجوده إلى غيره وهو الله.
وممتنع الوجود هو وجود شريك ومماثل لواجب الوجود .
ووجود أمثال الشجر والحجر يسمونها الممكنات، وبهذا نفهم اصطلاح الفلاسفة ، الذي يريد به أصحابه ما نسميه نحن المربوبات كما سماه الله في كتابه قال تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -فالمخلوقات أو العالمين: كلمة تشمل كل ما سوى الله -سبحانه- فكل ما عدا الله فهو مربوب، والرب هو الله عز وجل، والمربوبات هي الممكنات، فهذا تقسيم الفلاسفة .
وأما تقسيم المتكلمين فيقولون: الأشياء الموجودة إما أنها موجودة بعد أن لم تكن، وإما أنها أزلية الوجود، فالأزلي هو القديم الذي لا أول لوجوده وهو الله، والموجود بعد أن لم يكن هو الحادث .
وما دام أن الله سبحانه وتعالى موجود ومادام أنه واجب الوجود فلنثبت له ما شئنا والإثبات هذا وارد ومثبت في الكتاب السنة لكنه إثبات بلا تشبيه . فهم زادوا وغلوا في الإثبات حتى أثبتوها بما يشبه صفات المخلوقين وأما المعطلة فإنهم عرفوا جانباً من الحق وهو جانب عدم المشابهة وعدم المماثلة وهو حق وأن الله سبحانه وتعالى لا يشابه ولا يماثله شيء لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] هذا حق عرفوه ولكنهم زادوا عليه بأن نفوا ماله من الحق سبحانه وتعالى وقالوا: إذاً لا نثبت له شيء حتى لا نقع في التشبيه .
تعليق