الإنابة إلى حب الصحابة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وأزواجه أُمَّهات المؤمنين وذُريَّته وأهْل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.
وبعدُ:
فيقول الله - تعالى -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح: 29].
وإنَّ الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - هم أصحابه الذين الْتَفُّوا حوله، وصَدَّقوه، ونصروه، وعزَّروه، ووقَّروه، وبَذَلوا في سبيل حِفْظ دين الله - عز وجل - وتبليغه أعمارَهم وأموالهم وأرواحهم.
فيقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "الأصحاب: جمع صاحب، والصاحب: اسم فاعل من صَحِبه يَصْحبه، وذلك يقع على قليل الصُّحبة وكثيرها؛ لأنه يُقال: صَحِبته ساعة، وصَحِبته شهرًا، وصَحِبته سنة؛ قال الله - تعالى -: (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)[النساء: 36]، قد قيل: هو الرفيق في السفر، وقيل: هو الزوجة".
وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: "كلُّ مَن صَحِب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو شهرًا أو يومًا، أو رآه مؤمنًا به، فهو من أصحابه، له من الصُّحبة بقَدْر ذلك"[1].
ولَمَّا كان شرف هؤلاء الصحابة - رضوان الله عليهم - من شَرَفِ صاحبهم عليه - أزْكى الصلاة والسلام - وشَرف ما صَحِبوه عليه، وهو دين الله - تعالى - في الأرض، ورسالته الخاتمة لجميع الرسالات.
كان واجبُنا تجاه الصحابة هو بعضًا مِن واجبنا تجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجاه دِين الله - عز وجل -.
قال العلامة حافظ أحمد الحكمي - رحمه الله تعالى -: "الواجب لهم علينا سلامةُ قلوبنا وألسنتنا لهم، ونَشْر فضائلهم، والكفُّ عن مساويهم، وما شَجَر بينهم، والتنويه بشأْنهم؛ كما نوَّه - تعالى - بذِكْرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، وثبتتِ الأحاديث الصحيحة في الكتب المشهورة من الأُمَّهات وغيرها في فضائلهم؛ إذ يقول الله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال: 74].
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]، وقال - تعالى -: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 18][2].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "وهذا مما لا نعلم فيه خِلافًا بين أهْل الفقه والعلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهْل السُّنة والجماعة، فإنهم مُجْمعون على أنَّ الواجب الثناءُ عليهم - أي: الصحابة - والاستغفار لهم، والترحُّم عليهم، والترضِّي عنهم، واعتقاد مَحبتهم وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول"[3].
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: "الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، قال: ثم قرأ: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحشر: 8] الحشر، فهؤلاء المهاجرون، وهذه منزلة قد مضت (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر: 9] الحشر. قال: هؤلاء الأنصار، وهذه منزلة قد مضت.
ثم قرأ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10] الحشر. قد مضت هاتان، وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت".
واليوم وقد أصبَحَ رموز الدين مستهدفين بهجوم شَرِسٍ من الكَذِب والعدوان، ألا يُحَرِّك ذلك فينا نوعَ شعور بالواجب نحوهم؛ إذ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انصرْ أخاك ظالِمًا أو مظلومًا))؛ البخاري، فكيف بخيرِ إخوة الإسلام، ومَن نَشَروا الحقَّ وأقاموا العَدل؟!
ألاَ ننتصر لهم؟!
من الذي أساء للصحابة وأمهات المؤمنين؟!
وحتى ننتصر لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم أُمَّهات المؤمنين - رضوان الله عليهم جميعًا - لا بدَّ من معرفة مَن الذي أساء إليهم أولاً، وهل هم فقط أعداء الدين الذين ما عَرَفوا حقيقتهم، ولا تربَّوا على سيرتهم، ولا ادَّعوا يومًا حُبَّهم، وملؤوا الدنيا فخرًا بعِزِّهم؟!
أو هم أيضًا من كان الصحابةُ سببًا في نَجاتهم وبلوغ الدِّين لهم، والذين يدَّعون موالاتهم ويسألون الله صُحْبتهم في الآخرة، ثم هم أبعدُ ما يكونون عنهم في سَمتهم وسلوكهم وخُلقهم، والتزامهم شرائعَ الدين؟ حتى زعم البعضُ أنَّ ما كان يصلح لهم ما عاد يَصلح لنا، بل تجاسَر البعضُ بالقول بأنَّ الدِّين نزَل في الصحراء، فهو لأهل الصحراء.
أَوَ لَسْنا لَمَّا قَلَّتْ صِلَتُنا بهم، واندثرتْ في حياتنا معالِمُ طريقهم؛ حتى أغرينا الأعداء بالتطاول عليهم، قد أسأْنا؟!
الصحابة في قلوبنا وضمائرنا وحياتنا:
بل إنه من المُؤسفِ حقًّا أنَّ الكثيرين منَّا يُحبون الصحابة - إنْ صَدَقتْ دعوى الحب - حبًّا باردًا لَم يَمسَّ شَغافَ قلوبِهم؛ لتنفعلَ به جوارحُهم، ويبدو أثرُه قويًّا في سائر أمور حياتهم، رُبَّما لأنهم لَم يعرفوا من أخبارهم الموثَّقة ما يسمحُ لهم بتدبُّر سِيرتهم، واعتماد منهجهم في الحياة.
وشتَّان بين حبِّ الولد لأبيه الذي لَم يَره في حياته، وإنِ استقرَّتْ في نفسه بعضُ الروايات عنه ومواقفَ سَمِعَها من هنا وهناك، فأحْدَثَتْ نوعًا من الصِّلَة بينهما، وبين حُبِّ الولد لأبيه الذي لَم يَغبْ عن حياته منذ خَرَج إلى الدنيا يتطلَّع إليه، وسَكَن رَوْع نفسه بين يديه، ثم عَاشَ في كَنفه، يَقتفي أثرَه، وما زال بعد الموت يُحْيِي ذِكْرَه.
عودة الحب:
ولَصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ بأعظم من هذا الحب؛ فإنَّ الذي يقرأ عن الصحابة - رضوان الله عليهم - كيف ثَبتوا وبَذَلوا، حتى غيَّروا وجْه الدنيا من النقيض الشرِّ إلى النقيض الخير، لا يَملك - ما كان له قلب يعي - إلا أن يُحبَّهم، وتَمتلئ نفسُه بأسمى معاني التقدير لهم، وتَعلو هِمَّته؛ ليَسلكَ دَرْبهم، ويكون على أثَرِهم.
بل لا يعلم قَدْرَ الصحابة على الحقيقة إلاَّ مَن سَلَك نَهجهم في حياته، وسأل نفسَه وهو يتدبر سيرتهم: هل لو قُدِّر له أنْ يواجِه مثل ما واجَه الصحابة من مواقف، أكان يُبلي بلاءَهم؟
لقد كان لِصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السِّمات والقُدرات ما بَهَر العلماء والباحثين في العالَم كلِّه على اختلاف أوطانهم وأديانهم، حتى عَكَفوا على دراسة تاريخهم، وتحليل نقاط القوَّة في شخصيَّاتهم، فلم يَملك البعض إلا أنْ يضَعَهم على رؤوس قوائم العظماء في الدنيا على مدى التاريخ، بينما عَجَز البعضُ عن فَهْم حقيقة الدين في نفوسهم وأثره فيهم - وكيف أنَّه صنَعَ من البشر الذين هم لحمٌ ودَمٌ حصونًا ونجومًا - فأنكرَ وجودَهم أصلاً، حتى قيل عن عمر بن الخطاب - فيما بَلَغنا -: إنه أسطورة لا تُصَدَّق.
ولا عَجب، فمن الناس من يوصِّله عَقْلُه إلى الحقِّ، وتَعْجِز هِمَّتُه عن اتِّباعه، وتأبَى نفسُه الاعترافَ به.
ومثل هؤلاء الذين يُنكرون وجود الصحابة حقيقة، لا يُرَدُّ عليهم فقط بالحقائق التاريخيَّة الموثَّقة لَدَينا بأعظم ما عَرَف التاريخ من وسائل التوثيق، من خلال الإسناد وكُتب الرجال - فلعلَّ بعضَهم يعرِفُ عنها ما لا يَعرفه الكثيرون منَّا - وإنما يردُّ على أمثال هؤلاء بوجود أشباه لعُمَر، فهل من رجالٍ ونساء على الأَثَر؟
واجب نصرة الصحابة ولزوم الطريق:
ولعلَّ أوَّل ما يَجب أن نَعْلَمه إذا أردْنا أن ننتصرَ للصحابة - رضوان الله عليهم - هو أنَّ انتصارَنا لهم ليس فقط بدافِع حُبِّ البشر لعظمائهم - وإنهم لَلْعُظماء - وإنما هو واجبٌ شرعي يلزمنا القيام به؛ لِما في الانتصار لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحِفْظ مكانتهم من صيانة لِمَا نقلوه إلينا من قرآن وسُنة، اللذين هما المستهدَف الحقيقي لأعداء الدين من وراء سَبِّهم وانتقاصهم لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا ما سقطوا سقطتْ مَرْويَّاتهم، وضاعَ الدِّين، وحاشا أن يكون.
فعن أبي زُرْعة الرازي قال: "وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يَجرحوا شهودنا؛ ليُبطلوا الكتاب والسُّنة..."[4].
وكما أننا ننتصرُ للصحابة من أجْل الدِّين، فإننا لا ننتصر لهم إلا بالدِّين، ذلك الدين الذي ضَحوا من أجله، وبه عاشوا وماتوا عليه، وكانوا أشدَّ الناس بذلاً وإنكارًا للذات في سبيل نُصرته، بل لا ننتصر لهم إلا بلزوم طريقهم، والسَّيْر على أَثَرِهم.
فلستَ تلقَى الصَّحْب ما خالفتَ زمانهم وطريقهم، وكيف يَحمي ظَهْر القوم مَن ليس يسير خلفهم؟!
وحتى يُمكننا لزومُ الطريق نحتاج إلى عدة أمور، منها:
معرفة الطريق:
ولا تكون معرفة الطريق إلا بالدراسة الواعية لسيرتهم، من خلال الروايات الصحيحة الثابتة، والوسائل العلمية الموثَّقة، وليس من خلال الأعمال الدراميَّة وبرامج المنوَّعات، التي تستوي من خلالها معلومات المسلم عن دينه، بمعلومات غير المسلم عن الإسلام، ألاَ فإنَّ "هذا العلم دينٌ، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم"[5].
اتباع الطريق:
إذ يقول الله - عز وجل - في كتابه الحكيم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31].
ويقوله - تعالى -: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54].
ويقول - عز وجل - أيضًا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21]، ويقول - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36].
ويقول أيضًا - سبحانه وتعالى -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63].
فلنأخذْ إذًا بحظِّنا من العمل بهذه الآيات الكريمة أو لنترك.
أمَّا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانوا في سَمتهم الظاهر، وخُلقهم الباطن، كأعظم ما يكون الأتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتشبُّه به ولزوم هَدْيه وسُنته، وقد وطَّنوا أنفسهم على تمام الانقياد لأمر الله - عز وجل - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل فِكْرٍ وقوْلٍ وعمل، فما أن ينزلَ الأمرُ من السماء، حتى يسمع الجميعُ ويُطيع؛ كبيرُهم وصغيرهم، غَنِيُّهم وفقيرُهم، الرجل منهم والمرأة، لا فَرقَ عندهم بين أمر يتعلَّق بالظاهر أو الباطن، وإنما شرعٌ مُحْكَمٌ؛ مَلَك عليهم قلوبَهم، وانشرحتْ به نفوسُهم، وذَلَّتْ له جميعُ أمور حياتهم.
الدلالة على الطريق والثَّبَات عليه:
وذلك بالدعوة إلى الله - عز وجل - على بصيرة، فإنَّها سبيلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يَسَع المؤمنَ الْحَيْدُ عنه؛ إذ يقوله - تعالى -: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108].
ولا يَخْفى أن منهجَ الدعوة إلى الله - عز وجل - توقيفي يلزمنا فيه الانقياد لشَرْع الله - تعالى - واتِّباع سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وإنِ استُخْدِمَتْ فيه الوسائلُ التي تناسب كلَّ عصرٍ ومكان، ما كانتْ لِتُخالِفَ الشرْعَ الحنيف.
أما ما يُصيب البعض - خاصَّة في وقت الشدائد - من القنوط من نَصْر الله بتمام التزام الشرْع، فيَهرعون إلى التنازلات والتأويلات، وابتداع طُرقٍ تُخالف سبيلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله، بزَعْم خدمة الدين، فإنه يُخلخل صفوف الدُّعاة، ولا يَزيد جهودَهم إلا ضعفًا وتفريقًا، كما لا يزيد عامَّة المسلمين إلا اضطرابًا وتشتيتًا.
فكيف والتاريخ يثبتُ أنَّ الأُمَّة ما كان ليُصيبها الذلُّ والاستضعاف إلا بتخلِّيها عن الشرْع، وما كانتْ تقوم إلى الانتصارات العظيمة إلا بالرجوع إليه؟!
ثم ولا شكَّ في أنَّ تعميقَ أثر الدِّين في حياتنا، وتصحيح منهجنا فيه وفي الدعوة إليه، وما لذلك من أثَرٍ على عودة الكثيرين من المسلمين إلى الجادة، فضلاً عن تزايُد أعداد المسلمين يومًا بعد يومٍ، لَهو من أعظم ما يَرُدُّ كيْدَ أعداء الدِّين إلى نحورهم، وهو من أكبر وسائل الانتصار لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّهات المؤمنين.
الانتصار للدين بإعلاء كلمته:
ومع كون التزام خُلُق الإسلام وأحكامه، واعتماد منهج عام لاتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور حياتنا كافةً - واجبًا علينا في كلِّ وقتٍ، فإنَّه قد يَعرِض إلينا من الْمِحَن ما تحمل في طيَّاتها مِنَحًا وأسبابًا لعودة الناس إلى الحقِّ والدعوة إليه.
وليس الانتصار للدين - في وقتِ الهجوم على ثوابته ورموزه - بأعظمَ من العودة إليه بكلِّيتنا عودة لا رجعةَ فيها، مع قيام كلٍّ منَّا بدوره وَفْق ما يُمكنه ويَستطيع، ومثال ذلك:
• أن يقوم المعلمون بتعريف الطلاب بصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّهات المؤمنين - رضوان الله عليهم - وبيان فضْلهم، وغَرْس حُبِّهم وإكرامهم، والرغبة في التشبُّه بهم في نفوسهم.
• وأنْ يقوم كُتَّابُ التاريخ والباحثون فيه بدورهم في تنقيح الكُتب التاريخيَّة، وبَيَان ما لَحِقَ بها من زَيفٍ، واستخلاص الروايات الصحيحة الثابتة، ثم إعادة تدوين التاريخ بالوثائق والضوابط العلميَّة؛ حتى يتمَّ تصحيح الصورة الخاطئة التي صَنَعها أعداء الإسلام عن ثوابته ورموزه عند أصحاب العقائد الأخرى، أو عند بعض الفِرَق الضالَّة من المسلمين، فضلاً عن إزالة الشُّبهات التي عَشَّشَتْ خيوطُها الزائفة في عقول بعض المسلمين.
• وكذلك أن يقوم المترجِمون بترجمة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضوان الله عليهم - إلى مختلف اللغات، والعمل على نشْرِها وتوزيعها في بِقاع العالَم كافةَّ.
• أما العلماء والمكتشفون، فعليهم أن يَربِطوا جهودَهم في الأبحاث والاكتشافات بجهود أجدادهم المسلمين، وأنْ يُعلنوا ذلك في المحافل الدوليَّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، مع وضْع الأسماء الإسلامية على مُكْتشفاتهم ونِتاج أبحاثهم.
وكذلك العكوف على إثبات الحقائق العلمية التي ورَدَتْ في الكتاب والسُّنة تجريبيًّا؛ لِمَا في ذلك من بيانٍ للإعجاز في مصادر الدين، وتأكيدِ كونه من عند ربِّ العالمين.
• فضلاً عن صَقْل الأقلام الأدبيَّة بالثقافة الإسلاميَّة والشرعيَّة بما يُمكِّنها من الارتقاء إلى بيان الحقِّ، والدفاع عن رموز الدين وثوابته.
فإذا كان لكلِّ دعوة رجالُها من الأدباء والشعراء والمثقفين، الذين يُمهِّدون لها بين العامَّة، ويُروِّجون لها فِكريًّا وإعلاميًّا، فإن خيرَ ما دُعِي له وجَرَتْ به الأقلام هو دينُ الله - عز وجل -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
• ومثل هذا يُقال للعاملين في مجالات الإعلام الأخرى، والقانون والاقتصاد والسياسة وغيرها، فإنَّ حقًّا لِهذا الدينِ مُتعلِّقٌ برقبة كلِّ مسلمٍ في الزَّود عنه، وإعلاء كلمته بقَدْر ما يَستطيع، وليس ما مَضَى على سبيل الْحَصر، فلنْ يعدمَ كلُّ مسلم في موقعه أن يَجِدَ دورًا - هو أعلم به منَّا - للمشاركة في نُصرة الدين والذَّبِّ عن رموزه، وكلُّ ما نحتاجه هو: أنْ يسألَ كلٌّ منَّا نفسه عمَّا يُمكنه تقديمه لهذا الدين، ثم يَشْرع من فوره؛ ليبدأَ عملَه الفردي في نُصرة دين الله - عز وجل - من خلال منظومة كُبرى تعمل في سبيل إرضاء الله - عز وجل -.
أما الانتصار بإظهار الحب، فبمثابة الرد الفوري على كلِّ مَن تطاوَل على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمهات المؤمنين، بإظهار مكانتهم في قلوبنا وحياتنا، ومنزلتهم في ديننا، وقد يكون ذلك بكَثرة التسمية بأسمائهم وإشاعة سمتهم، سواء ما كان منه انقيادًا لأوامر الدين من باب الطاعة، أم ما كان من العادات والْمُباحات من باب النُّصرة والمحبَّة.
فإنَّ الناس ليتطلعون إلى مَن يحبون ويوقِّرون، فيتشبَّهون بهم، ويُحيون تراثهم؛ حتى نَجِدَ الملوك والأمراء يرتدون ملابس أجدادهم في المحافل الدوليَّة - وإن خالفتْ تقاليدهم وأعرافَهم هم أنفسهم في عصرنا الحاضر - في إشارة منهم لافتخارهم بأجدادهم، وأنَّ لهم جذورًا تاريخيَّة ينتمون إليها.
فهل عَرَفَتِ الدنيا تاريخًا أعظمَ وأجدادًا أجَلَّ من تاريخ الإسلام وسلفه الصالح؟
فكيف ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن تشبَّه بقومٍ، فهو منهم))، وفي لفظ: ((ليس منَّا مَن تشبَّه بغيرنا))؟! جيد[6].
ولأن نصرة الدين واجب إلى قيام الساعة، فإن علينا إعدادَ أجيال قادرة على حَمْل رسالة الدين والعَيْش لها.
على ألاَّ يدفعنا استعجالُ ثَمرة الجهود الدعوية إلى الْحَيْدِ عن نَهْج السلف الصالح، ومنهج الدعوة التوقيفي، وإلاَّ فقد تَمرُّ أجيالٌ بعد أجيال، ولا نرى هذه الثمرة؛ لكوننا حِدْنا عن الهدف الذي هو عبادة الله - عز وجل - بما شَرَعه، إلى الوسيلة التي هي إعدادُ أجيال تَحمل رسالةَ تحقيق هذا الهدف.
ولو أنَّ كثيرًا من الجهود المبذولة في الدعوة قد رُوعِي فيها هذا الفرقُ الجوهري بين الهدف والوسيلة، لرُبَّما كنَّا قد قطعْنا أشواطًا طويلة في طريق نُصرة الدين ووحدة المسلمين.
ولأمْكننا اليومَ الانتصارُ لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّهات المؤمنين - رضوان الله عليهم - بما يَليق بمقامهم، وبما يراه العالَم من عِزِّ المسلمين وشِدَّة إيمانهم، لا بما يسمعُه فقط عن تاريخ أسلافهم.
فقدر الله وما شاء فعَل.
وأسأل الله - عز وجل - أن يوفِّقنا إلى ما يُحبُّ ويَرضى.
اللهم آمين.
والحمد لله ربِّ العالمين.
_________
[1] التعريف: ورَدَ في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، لشيخ الإسلام الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -.
[2] 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية.
[3] "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -".
[4] "الموسوعة العقدية - الدُّرر السنية".
[5] ورد عن محمد بن سيرين في "صحيح مسلم"، مركز الفتوى - إسلام ويب.
[6] تخريج الأحاديث عن الموسوعة الحديثية - الدُّرر السنية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، مَن يهده الله فلا مُضِل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وأزواجه أُمَّهات المؤمنين وذُريَّته وأهْل بيته، كما صليتَ على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد.
وبعدُ:
فيقول الله - تعالى -: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)[الفتح: 29].
وإنَّ الذين كانوا معه - صلى الله عليه وسلم - هم أصحابه الذين الْتَفُّوا حوله، وصَدَّقوه، ونصروه، وعزَّروه، ووقَّروه، وبَذَلوا في سبيل حِفْظ دين الله - عز وجل - وتبليغه أعمارَهم وأموالهم وأرواحهم.
فيقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "الأصحاب: جمع صاحب، والصاحب: اسم فاعل من صَحِبه يَصْحبه، وذلك يقع على قليل الصُّحبة وكثيرها؛ لأنه يُقال: صَحِبته ساعة، وصَحِبته شهرًا، وصَحِبته سنة؛ قال الله - تعالى -: (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)[النساء: 36]، قد قيل: هو الرفيق في السفر، وقيل: هو الزوجة".
وكذلك قال الإمام أحمد وغيره: "كلُّ مَن صَحِب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو شهرًا أو يومًا، أو رآه مؤمنًا به، فهو من أصحابه، له من الصُّحبة بقَدْر ذلك"[1].
ولَمَّا كان شرف هؤلاء الصحابة - رضوان الله عليهم - من شَرَفِ صاحبهم عليه - أزْكى الصلاة والسلام - وشَرف ما صَحِبوه عليه، وهو دين الله - تعالى - في الأرض، ورسالته الخاتمة لجميع الرسالات.
كان واجبُنا تجاه الصحابة هو بعضًا مِن واجبنا تجاه النبي - صلى الله عليه وسلم - وتجاه دِين الله - عز وجل -.
قال العلامة حافظ أحمد الحكمي - رحمه الله تعالى -: "الواجب لهم علينا سلامةُ قلوبنا وألسنتنا لهم، ونَشْر فضائلهم، والكفُّ عن مساويهم، وما شَجَر بينهم، والتنويه بشأْنهم؛ كما نوَّه - تعالى - بذِكْرهم في التوراة والإنجيل والقرآن، وثبتتِ الأحاديث الصحيحة في الكتب المشهورة من الأُمَّهات وغيرها في فضائلهم؛ إذ يقول الله - تعالى -: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال: 74].
(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رضي الله عنهم وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]، وقال - تعالى -: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا)[الفتح: 18][2].
ويقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -: "وهذا مما لا نعلم فيه خِلافًا بين أهْل الفقه والعلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - والتابعين لهم بإحسان، وسائر أهْل السُّنة والجماعة، فإنهم مُجْمعون على أنَّ الواجب الثناءُ عليهم - أي: الصحابة - والاستغفار لهم، والترحُّم عليهم، والترضِّي عنهم، واعتقاد مَحبتهم وموالاتهم، وعقوبة من أساء فيهم القول"[3].
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله تعالى عنه- قال: "الناس على ثلاث منازل، فمضت منزلتان وبقيت واحدة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت، قال: ثم قرأ: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الحشر: 8] الحشر، فهؤلاء المهاجرون، وهذه منزلة قد مضت (وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)[الحشر: 9] الحشر. قال: هؤلاء الأنصار، وهذه منزلة قد مضت.
ثم قرأ: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الحشر: 10] الحشر. قد مضت هاتان، وبقيت هذه المنزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت".
واليوم وقد أصبَحَ رموز الدين مستهدفين بهجوم شَرِسٍ من الكَذِب والعدوان، ألا يُحَرِّك ذلك فينا نوعَ شعور بالواجب نحوهم؛ إذ يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((انصرْ أخاك ظالِمًا أو مظلومًا))؛ البخاري، فكيف بخيرِ إخوة الإسلام، ومَن نَشَروا الحقَّ وأقاموا العَدل؟!
ألاَ ننتصر لهم؟!
من الذي أساء للصحابة وأمهات المؤمنين؟!
وحتى ننتصر لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنهم أُمَّهات المؤمنين - رضوان الله عليهم جميعًا - لا بدَّ من معرفة مَن الذي أساء إليهم أولاً، وهل هم فقط أعداء الدين الذين ما عَرَفوا حقيقتهم، ولا تربَّوا على سيرتهم، ولا ادَّعوا يومًا حُبَّهم، وملؤوا الدنيا فخرًا بعِزِّهم؟!
أو هم أيضًا من كان الصحابةُ سببًا في نَجاتهم وبلوغ الدِّين لهم، والذين يدَّعون موالاتهم ويسألون الله صُحْبتهم في الآخرة، ثم هم أبعدُ ما يكونون عنهم في سَمتهم وسلوكهم وخُلقهم، والتزامهم شرائعَ الدين؟ حتى زعم البعضُ أنَّ ما كان يصلح لهم ما عاد يَصلح لنا، بل تجاسَر البعضُ بالقول بأنَّ الدِّين نزَل في الصحراء، فهو لأهل الصحراء.
أَوَ لَسْنا لَمَّا قَلَّتْ صِلَتُنا بهم، واندثرتْ في حياتنا معالِمُ طريقهم؛ حتى أغرينا الأعداء بالتطاول عليهم، قد أسأْنا؟!
الصحابة في قلوبنا وضمائرنا وحياتنا:
بل إنه من المُؤسفِ حقًّا أنَّ الكثيرين منَّا يُحبون الصحابة - إنْ صَدَقتْ دعوى الحب - حبًّا باردًا لَم يَمسَّ شَغافَ قلوبِهم؛ لتنفعلَ به جوارحُهم، ويبدو أثرُه قويًّا في سائر أمور حياتهم، رُبَّما لأنهم لَم يعرفوا من أخبارهم الموثَّقة ما يسمحُ لهم بتدبُّر سِيرتهم، واعتماد منهجهم في الحياة.
وشتَّان بين حبِّ الولد لأبيه الذي لَم يَره في حياته، وإنِ استقرَّتْ في نفسه بعضُ الروايات عنه ومواقفَ سَمِعَها من هنا وهناك، فأحْدَثَتْ نوعًا من الصِّلَة بينهما، وبين حُبِّ الولد لأبيه الذي لَم يَغبْ عن حياته منذ خَرَج إلى الدنيا يتطلَّع إليه، وسَكَن رَوْع نفسه بين يديه، ثم عَاشَ في كَنفه، يَقتفي أثرَه، وما زال بعد الموت يُحْيِي ذِكْرَه.
عودة الحب:
ولَصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحقُّ بأعظم من هذا الحب؛ فإنَّ الذي يقرأ عن الصحابة - رضوان الله عليهم - كيف ثَبتوا وبَذَلوا، حتى غيَّروا وجْه الدنيا من النقيض الشرِّ إلى النقيض الخير، لا يَملك - ما كان له قلب يعي - إلا أن يُحبَّهم، وتَمتلئ نفسُه بأسمى معاني التقدير لهم، وتَعلو هِمَّته؛ ليَسلكَ دَرْبهم، ويكون على أثَرِهم.
بل لا يعلم قَدْرَ الصحابة على الحقيقة إلاَّ مَن سَلَك نَهجهم في حياته، وسأل نفسَه وهو يتدبر سيرتهم: هل لو قُدِّر له أنْ يواجِه مثل ما واجَه الصحابة من مواقف، أكان يُبلي بلاءَهم؟
لقد كان لِصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من السِّمات والقُدرات ما بَهَر العلماء والباحثين في العالَم كلِّه على اختلاف أوطانهم وأديانهم، حتى عَكَفوا على دراسة تاريخهم، وتحليل نقاط القوَّة في شخصيَّاتهم، فلم يَملك البعض إلا أنْ يضَعَهم على رؤوس قوائم العظماء في الدنيا على مدى التاريخ، بينما عَجَز البعضُ عن فَهْم حقيقة الدين في نفوسهم وأثره فيهم - وكيف أنَّه صنَعَ من البشر الذين هم لحمٌ ودَمٌ حصونًا ونجومًا - فأنكرَ وجودَهم أصلاً، حتى قيل عن عمر بن الخطاب - فيما بَلَغنا -: إنه أسطورة لا تُصَدَّق.
ولا عَجب، فمن الناس من يوصِّله عَقْلُه إلى الحقِّ، وتَعْجِز هِمَّتُه عن اتِّباعه، وتأبَى نفسُه الاعترافَ به.
ومثل هؤلاء الذين يُنكرون وجود الصحابة حقيقة، لا يُرَدُّ عليهم فقط بالحقائق التاريخيَّة الموثَّقة لَدَينا بأعظم ما عَرَف التاريخ من وسائل التوثيق، من خلال الإسناد وكُتب الرجال - فلعلَّ بعضَهم يعرِفُ عنها ما لا يَعرفه الكثيرون منَّا - وإنما يردُّ على أمثال هؤلاء بوجود أشباه لعُمَر، فهل من رجالٍ ونساء على الأَثَر؟
واجب نصرة الصحابة ولزوم الطريق:
ولعلَّ أوَّل ما يَجب أن نَعْلَمه إذا أردْنا أن ننتصرَ للصحابة - رضوان الله عليهم - هو أنَّ انتصارَنا لهم ليس فقط بدافِع حُبِّ البشر لعظمائهم - وإنهم لَلْعُظماء - وإنما هو واجبٌ شرعي يلزمنا القيام به؛ لِما في الانتصار لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحِفْظ مكانتهم من صيانة لِمَا نقلوه إلينا من قرآن وسُنة، اللذين هما المستهدَف الحقيقي لأعداء الدين من وراء سَبِّهم وانتقاصهم لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا ما سقطوا سقطتْ مَرْويَّاتهم، وضاعَ الدِّين، وحاشا أن يكون.
فعن أبي زُرْعة الرازي قال: "وإنَّما أدَّى إلينا هذا القرآن والسُّنن أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما يريدون أن يَجرحوا شهودنا؛ ليُبطلوا الكتاب والسُّنة..."[4].
وكما أننا ننتصرُ للصحابة من أجْل الدِّين، فإننا لا ننتصر لهم إلا بالدِّين، ذلك الدين الذي ضَحوا من أجله، وبه عاشوا وماتوا عليه، وكانوا أشدَّ الناس بذلاً وإنكارًا للذات في سبيل نُصرته، بل لا ننتصر لهم إلا بلزوم طريقهم، والسَّيْر على أَثَرِهم.
فلستَ تلقَى الصَّحْب ما خالفتَ زمانهم وطريقهم، وكيف يَحمي ظَهْر القوم مَن ليس يسير خلفهم؟!
وحتى يُمكننا لزومُ الطريق نحتاج إلى عدة أمور، منها:
معرفة الطريق:
ولا تكون معرفة الطريق إلا بالدراسة الواعية لسيرتهم، من خلال الروايات الصحيحة الثابتة، والوسائل العلمية الموثَّقة، وليس من خلال الأعمال الدراميَّة وبرامج المنوَّعات، التي تستوي من خلالها معلومات المسلم عن دينه، بمعلومات غير المسلم عن الإسلام، ألاَ فإنَّ "هذا العلم دينٌ، فانظروا عمَّن تأخذون دينكم"[5].
اتباع الطريق:
إذ يقول الله - عز وجل - في كتابه الحكيم: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آل عمران: 31].
ويقوله - تعالى -: (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)[النور: 54].
ويقول - عز وجل - أيضًا: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الأحزاب: 21]، ويقول - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)[الأحزاب: 36].
ويقول أيضًا - سبحانه وتعالى -: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63].
فلنأخذْ إذًا بحظِّنا من العمل بهذه الآيات الكريمة أو لنترك.
أمَّا صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكانوا في سَمتهم الظاهر، وخُلقهم الباطن، كأعظم ما يكون الأتباع لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتشبُّه به ولزوم هَدْيه وسُنته، وقد وطَّنوا أنفسهم على تمام الانقياد لأمر الله - عز وجل - وأمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - في كل فِكْرٍ وقوْلٍ وعمل، فما أن ينزلَ الأمرُ من السماء، حتى يسمع الجميعُ ويُطيع؛ كبيرُهم وصغيرهم، غَنِيُّهم وفقيرُهم، الرجل منهم والمرأة، لا فَرقَ عندهم بين أمر يتعلَّق بالظاهر أو الباطن، وإنما شرعٌ مُحْكَمٌ؛ مَلَك عليهم قلوبَهم، وانشرحتْ به نفوسُهم، وذَلَّتْ له جميعُ أمور حياتهم.
الدلالة على الطريق والثَّبَات عليه:
وذلك بالدعوة إلى الله - عز وجل - على بصيرة، فإنَّها سبيلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا يَسَع المؤمنَ الْحَيْدُ عنه؛ إذ يقوله - تعالى -: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)[يوسف: 108].
ولا يَخْفى أن منهجَ الدعوة إلى الله - عز وجل - توقيفي يلزمنا فيه الانقياد لشَرْع الله - تعالى - واتِّباع سبيل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه، وإنِ استُخْدِمَتْ فيه الوسائلُ التي تناسب كلَّ عصرٍ ومكان، ما كانتْ لِتُخالِفَ الشرْعَ الحنيف.
أما ما يُصيب البعض - خاصَّة في وقت الشدائد - من القنوط من نَصْر الله بتمام التزام الشرْع، فيَهرعون إلى التنازلات والتأويلات، وابتداع طُرقٍ تُخالف سبيلَ الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الدعوة إلى الله، بزَعْم خدمة الدين، فإنه يُخلخل صفوف الدُّعاة، ولا يَزيد جهودَهم إلا ضعفًا وتفريقًا، كما لا يزيد عامَّة المسلمين إلا اضطرابًا وتشتيتًا.
فكيف والتاريخ يثبتُ أنَّ الأُمَّة ما كان ليُصيبها الذلُّ والاستضعاف إلا بتخلِّيها عن الشرْع، وما كانتْ تقوم إلى الانتصارات العظيمة إلا بالرجوع إليه؟!
ثم ولا شكَّ في أنَّ تعميقَ أثر الدِّين في حياتنا، وتصحيح منهجنا فيه وفي الدعوة إليه، وما لذلك من أثَرٍ على عودة الكثيرين من المسلمين إلى الجادة، فضلاً عن تزايُد أعداد المسلمين يومًا بعد يومٍ، لَهو من أعظم ما يَرُدُّ كيْدَ أعداء الدِّين إلى نحورهم، وهو من أكبر وسائل الانتصار لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّهات المؤمنين.
الانتصار للدين بإعلاء كلمته:
ومع كون التزام خُلُق الإسلام وأحكامه، واعتماد منهج عام لاتِّباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في أمور حياتنا كافةً - واجبًا علينا في كلِّ وقتٍ، فإنَّه قد يَعرِض إلينا من الْمِحَن ما تحمل في طيَّاتها مِنَحًا وأسبابًا لعودة الناس إلى الحقِّ والدعوة إليه.
وليس الانتصار للدين - في وقتِ الهجوم على ثوابته ورموزه - بأعظمَ من العودة إليه بكلِّيتنا عودة لا رجعةَ فيها، مع قيام كلٍّ منَّا بدوره وَفْق ما يُمكنه ويَستطيع، ومثال ذلك:
• أن يقوم المعلمون بتعريف الطلاب بصحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّهات المؤمنين - رضوان الله عليهم - وبيان فضْلهم، وغَرْس حُبِّهم وإكرامهم، والرغبة في التشبُّه بهم في نفوسهم.
• وأنْ يقوم كُتَّابُ التاريخ والباحثون فيه بدورهم في تنقيح الكُتب التاريخيَّة، وبَيَان ما لَحِقَ بها من زَيفٍ، واستخلاص الروايات الصحيحة الثابتة، ثم إعادة تدوين التاريخ بالوثائق والضوابط العلميَّة؛ حتى يتمَّ تصحيح الصورة الخاطئة التي صَنَعها أعداء الإسلام عن ثوابته ورموزه عند أصحاب العقائد الأخرى، أو عند بعض الفِرَق الضالَّة من المسلمين، فضلاً عن إزالة الشُّبهات التي عَشَّشَتْ خيوطُها الزائفة في عقول بعض المسلمين.
• وكذلك أن يقوم المترجِمون بترجمة سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضوان الله عليهم - إلى مختلف اللغات، والعمل على نشْرِها وتوزيعها في بِقاع العالَم كافةَّ.
• أما العلماء والمكتشفون، فعليهم أن يَربِطوا جهودَهم في الأبحاث والاكتشافات بجهود أجدادهم المسلمين، وأنْ يُعلنوا ذلك في المحافل الدوليَّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، مع وضْع الأسماء الإسلامية على مُكْتشفاتهم ونِتاج أبحاثهم.
وكذلك العكوف على إثبات الحقائق العلمية التي ورَدَتْ في الكتاب والسُّنة تجريبيًّا؛ لِمَا في ذلك من بيانٍ للإعجاز في مصادر الدين، وتأكيدِ كونه من عند ربِّ العالمين.
• فضلاً عن صَقْل الأقلام الأدبيَّة بالثقافة الإسلاميَّة والشرعيَّة بما يُمكِّنها من الارتقاء إلى بيان الحقِّ، والدفاع عن رموز الدين وثوابته.
فإذا كان لكلِّ دعوة رجالُها من الأدباء والشعراء والمثقفين، الذين يُمهِّدون لها بين العامَّة، ويُروِّجون لها فِكريًّا وإعلاميًّا، فإن خيرَ ما دُعِي له وجَرَتْ به الأقلام هو دينُ الله - عز وجل -: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[فصلت: 33].
• ومثل هذا يُقال للعاملين في مجالات الإعلام الأخرى، والقانون والاقتصاد والسياسة وغيرها، فإنَّ حقًّا لِهذا الدينِ مُتعلِّقٌ برقبة كلِّ مسلمٍ في الزَّود عنه، وإعلاء كلمته بقَدْر ما يَستطيع، وليس ما مَضَى على سبيل الْحَصر، فلنْ يعدمَ كلُّ مسلم في موقعه أن يَجِدَ دورًا - هو أعلم به منَّا - للمشاركة في نُصرة الدين والذَّبِّ عن رموزه، وكلُّ ما نحتاجه هو: أنْ يسألَ كلٌّ منَّا نفسه عمَّا يُمكنه تقديمه لهذا الدين، ثم يَشْرع من فوره؛ ليبدأَ عملَه الفردي في نُصرة دين الله - عز وجل - من خلال منظومة كُبرى تعمل في سبيل إرضاء الله - عز وجل -.
أما الانتصار بإظهار الحب، فبمثابة الرد الفوري على كلِّ مَن تطاوَل على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمهات المؤمنين، بإظهار مكانتهم في قلوبنا وحياتنا، ومنزلتهم في ديننا، وقد يكون ذلك بكَثرة التسمية بأسمائهم وإشاعة سمتهم، سواء ما كان منه انقيادًا لأوامر الدين من باب الطاعة، أم ما كان من العادات والْمُباحات من باب النُّصرة والمحبَّة.
فإنَّ الناس ليتطلعون إلى مَن يحبون ويوقِّرون، فيتشبَّهون بهم، ويُحيون تراثهم؛ حتى نَجِدَ الملوك والأمراء يرتدون ملابس أجدادهم في المحافل الدوليَّة - وإن خالفتْ تقاليدهم وأعرافَهم هم أنفسهم في عصرنا الحاضر - في إشارة منهم لافتخارهم بأجدادهم، وأنَّ لهم جذورًا تاريخيَّة ينتمون إليها.
فهل عَرَفَتِ الدنيا تاريخًا أعظمَ وأجدادًا أجَلَّ من تاريخ الإسلام وسلفه الصالح؟
فكيف ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((مَن تشبَّه بقومٍ، فهو منهم))، وفي لفظ: ((ليس منَّا مَن تشبَّه بغيرنا))؟! جيد[6].
ولأن نصرة الدين واجب إلى قيام الساعة، فإن علينا إعدادَ أجيال قادرة على حَمْل رسالة الدين والعَيْش لها.
على ألاَّ يدفعنا استعجالُ ثَمرة الجهود الدعوية إلى الْحَيْدِ عن نَهْج السلف الصالح، ومنهج الدعوة التوقيفي، وإلاَّ فقد تَمرُّ أجيالٌ بعد أجيال، ولا نرى هذه الثمرة؛ لكوننا حِدْنا عن الهدف الذي هو عبادة الله - عز وجل - بما شَرَعه، إلى الوسيلة التي هي إعدادُ أجيال تَحمل رسالةَ تحقيق هذا الهدف.
ولو أنَّ كثيرًا من الجهود المبذولة في الدعوة قد رُوعِي فيها هذا الفرقُ الجوهري بين الهدف والوسيلة، لرُبَّما كنَّا قد قطعْنا أشواطًا طويلة في طريق نُصرة الدين ووحدة المسلمين.
ولأمْكننا اليومَ الانتصارُ لصحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُمَّهات المؤمنين - رضوان الله عليهم - بما يَليق بمقامهم، وبما يراه العالَم من عِزِّ المسلمين وشِدَّة إيمانهم، لا بما يسمعُه فقط عن تاريخ أسلافهم.
فقدر الله وما شاء فعَل.
وأسأل الله - عز وجل - أن يوفِّقنا إلى ما يُحبُّ ويَرضى.
اللهم آمين.
والحمد لله ربِّ العالمين.
_________
[1] التعريف: ورَدَ في كتاب "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -"، لشيخ الإسلام الإمام ابن تيميَّة - رحمه الله تعالى -.
[2] 200 سؤال وجواب في العقيدة الإسلامية.
[3] "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلى الله عليه وسلم -".
[4] "الموسوعة العقدية - الدُّرر السنية".
[5] ورد عن محمد بن سيرين في "صحيح مسلم"، مركز الفتوى - إسلام ويب.
[6] تخريج الأحاديث عن الموسوعة الحديثية - الدُّرر السنية
تعليق