السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعَرّف على الإسلام للدكتور منقذ السقار
خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها
إن المفهوم الإسلامي للعبادة قد تجسد في الشريعة الإسلامية العظيمة، التي أمر الله المؤمنين بتحقيقها في الأرض وجعلها دستوراً لحياتهم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية ﴿ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون﴾ (الجاثية: 18)، فالشريعة هي ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه المختلفة التي شرعها لمنفعة المؤمنين جميعاً إلى قيام الساعة.
أولاً: خصائص الشريعة الإسلامية
وتمتاز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع التي قامت وتقوم إلى قيام الساعة بخصائص، أهمها:
أ. ربانية المصدر والغاية
أول خصيصة للشريعة الإسلامية أنها ربانية المصدر والغاية، فهي من الله ، وتهدف إلى بلوغ رضاه، فالمسلم يستمد شرائعه المختلفة من مصدرين أصيلين، هما القرآن الكريم الذي أوحاه الله بحروفه، ثم السنة النبوية، وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التي أمر الله بالتأسي بها بقوله تعالى: ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ (الحشر: 7)، فالنبي يحمل رسالة الله إلى الناس، وما يقرره بقوله وفعله إنما هو بوحي الله وأمره ﴿ وما ينطق عن الهوى ^ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ (النجم: 3-4).
ومن هذين المصدرين وتأسيساً على قواعدهما اشتق العلماء عدداً من المصادر الفرعية للشريعة كالإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان والعرف وغيرها.
والخروج عن هذه المصادر إلى أحكام البشر إنما هو تحاكم إلى الهوى ومشاركة لغير الله في إحدى خصائصه تبارك وتعالى ﴿ ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين﴾ (الأعراف: 54)، فكما خلق وحده فإنه يشرع وحده.
ومشاركة غيره له في التشريع اعتداء على حق الله بالتشريع، وهو استعباد لخلق الله، لذلك لما دخل عدي بن حاتم على النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ قوله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾ (التوبة: 31)، فاستغرب عدي ، حتى فسَّره النبي بقوله: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) ([1])، فعبادتهم لأحبارهم، ليس سجودهم وركوعهم لهم، بل الإذعان لما أحدثوه في الدين في مجامعهم التي جعلت من رجال الدين مشرعين مع الله.
وتهدف الشريعة إلى تحقيق رضا الله الذي شرَّع بحكمته البالغة للإنسانية ما يسعدها في دنياها وأخراها ﴿كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾ (إبراهيم: 1)، وشريعته خير كلها، لأنها صدرت عن الله العليم بما يصلح أحوالنا وبما يناسب فطرنا وتكويننا ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ (الملك: 14)، وهي بهذه المثابة تسمو على غيرها من الشرائع البشرية التي يتلبسها قصور الإنسان وجهله وما يكتنف تشريعه من الهوى الذي يجعل المشرِّع البشري يميل بتشريعاته إلى حراسة مصالحه الشخصية والفئوية، كما هو الحال في تشريعات النظم العلمانية.
أما حين تكون الشريعة إلهية؛ فإنها لا تحابي في أحكامها جنساً أو عرقاً أو لوناً، فالجميع عبيد لله متساوون أمام أحكامه ﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ^ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ^ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون﴾ (المائدة: 48-50).
إن كون هذه الشريعة من الله يعطيها هيبة وسلطاناً في النفوس والضمائر لا تجده في قانون ما، فالناس منقادون إليها بسلطة الإيمان الذي يملأ قلوبهم، منقادون إليها ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية، يرقبون في ذلك كله جزاء الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتتميز الشريعة في مسألة الجزاء عن غيرها من القوانين في أنها القانون الوحيد الذي يجازي في الدنيا والآخرة، فالمؤمن يلتزم حدودها، طمعاً في سعادة الدنيا التي يعيشها في جنبات الطاعة والفضيلة، ثم هو موعود بحسن الجزاء في الآخرة، بالجنة التي أعدها الله للأتقياء من عباده، فلأجلهما معاً يمتثل المؤمن قانون الشريعة ويلتزم به.
وللتعرف على أهمية هذه الخصيصة نذكر أن أمريكا أدركت مضار الخمر الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وعزمت على تحريمه، وأصدرت تشريعاً بذلك، ثم بذلت الملايين لتنفيذ هذا القانون، وبعد سنوات من النفير في الأمن والمحاكم ، وبعد سجن الألوف من المدمنين عادت أمريكا إلى إباحة الخمر، مع يقينها بما فيه من الفساد، لكنها عجزت وعجز قانونها البشري أن يجد له بين الناس قبولاً.
وفي مقابله فإن الإسلام حين حرم الخمر، لم يستعن بشرطة أو جنود أو محاكم، ولم يجد عنتاً ولا مشقة في جعل المجتمع المسلم أطهر المجتمعات الإنسانية، بابتعاده عن المسكرات بأنواعها، إن طهارة المجتمع من هذه الآفة لم يتطلب سوى آية أنزلها الله في تحريمه، وهي قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ (المائدة: 90).
فالتزم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، بل وتساءلوا عن مصير إخوانهم ممن شرب الخمر ومات قبل تحريمها، يقول أنس بن مالك: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة لأنس: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال أنس: فخرجتُ، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها.
قال أنس: فجرتْ في سِكك المدينة.
فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم؟ فأنزل الله: ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ﴾ (المائدة: 93)([2])، أي لن يحاسبوا عن شربها قبل التحريم لأنه لا عقوبة إلا بتشريع.
ب. العدل والمساواة
العدل اسم من أسماء الله تعالى، وهو صفة لازمة للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه، ومظاهر عدل الله في شرائعه كثيرة، من أولها أنه تعالى لا يحاسب الإنسان على ما لا يقدر عليه، بل لم يكلفه أصلاً بما يعجزه ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ (البقرة: 286)، فشرائع الله مبناها على اليسر والسهولة ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ (البقرة: 185) ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ (المائدة: 6)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أحب الدين إلى الله الحنيفيةُ السمحةُ)).([3])
ومن عدله تبارك وتعالى أنه رفع التكليف بأحكام الشريعة عن الأطفال الذين لم يحوزوا كمال العقل الذي يجيز محاسبتهم، كما أسقطه عمن حُرِم نعمة العقل ابتداءً ، يقول صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبَّ، وعن المعتوه حتى يعقل))([4])، كما يعفو الله عمن وقع في الخطأ من غير إرادته لذلك أو من وقع فيه مكرهاً أو ناسياً تحريمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).([5])
وإذا كانت الشريعة لا تحاسب من هو دون التكليف على خطئه؛ فإنه يعلم أنها - من باب أولى - لا تحاسبه على ذنب غيره، فالمرء مسؤول عن عمله الشخصي ﴿ قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيءٍ ولا تكسب كل نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ (الأنعام: 164).
وعليه فالإسلام لا يقر بالذنب الأصلي المتوارث عن الأبوين [آدم وحواء]، فالأبوان تحملا وزريهما بنفسيهما، واستغفرا الله منه، فتاب عليهما، ولا علاقة لذريتهما بذنبهما من قريب أو بعيد، بل كلٌ مسؤول عن عمله ﴿فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ^ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة: 37-39).
وأيضاً فإن شرائع الله تبارك وتعالى راعت - لعدالتها - الفروق بين الذكر والأنثى، فلم تكلف المرأة بما لا يلائم طبيعتها كالجهاد والخروج من المنزل للتكسب والإنفاق، وغيرهما مما لا يتناسب وأنوثتها أو يخالف رونق حياتها وصفاء أحاسيسها.
ولم تميز الشريعة العادلة في أحكامها العامة بين ملك وسوقة، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير، فالجميع متساوون أمام شرائع الله، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في ما يربو على مائة ألف من أصحابه، فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى))([6])، فالخيرية مبناها على العبادة والاستقامة، لا الحسب والجاه، ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
وقد طبَّق النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه عدل الإسلام وقِيَمه حين رفض التمييز في إقامة الشرائع بين شريف ووضيع، فقد حكم صلى الله عليه وسلم على سارقة من أشراف قريش بقطع يدها الخؤون، فاستشفع الناس لها، طلبوا من أسامة بن زيد - بما له من مكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لها عنده، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله)).
ثم قام فخطب الناس، فقال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ [أي ابنته صلى الله عليه وسلم]؛ لقطعتُ يدها)).([7])
وهكذا فالعدل سمة شريعة الله الذي أمر به وشرعه بين خلقه ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل: 90).
ج. الشمول والتوازن
لما كان الإسلام رسالة الله الخاتمة وكلمته الباقية إلى قيام الساعة، فإن الله تلطف فيه على الإنسانية بكل ما يصلح شؤونها في دار معاشها ثم في دار جزائها، فكملت أنعم الله بكمال تشريعاته ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ (المائدة: 3).
والإسلام بنيان شمولي يغطي مناحي الحياة المختلفة، فهو دين عبادة، وهو أيضاً منظومة من الشرائع الأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي تحقق سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا ثم الآخرة.
إن الإسلام ينظم علاقات الإنسان المختلفة من لدن ميلاده إلى وفاته، وهو يحرس حقوقه حتى فيما قبل الميلاد وما بعد الوفاة، وأما ما بينهما فإنه يتناول بأحكامه تفاصيل سلوكه الشخصي بما يتضمنه من عادات وآداب، وهو يرشِّد أيضاً علاقة الإنسان مع أسرته ومجتمعه، لا بل يتناول حاله مع الكون كله بما فيه من حيوان وجماد ﴿وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ﴾ (الأنعام: 38).
أما على الصعيد الجماعي فإن شرائع الإسلام تنظم المجتمع وتضبط حقوق من فيه وواجباتهم، وتنظم علاقة الدولة والأمة المسلمة مع القريب من الناس والبعيد ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين﴾ (النحل: 89).
وتلبي هذه الشرائع حاجات الإنسان المختلفة، فهي تعنى بجسده، ولا تهمل روحه، تبتغي الآخرة، ولا تفرط في الدنيا، تربط المجتمع ولا تغفل مصالحه، وهي في نفس الوقت تحقق ذاتية الفرد وتحرس مصالحه وحقوقه، توازن عجيب، لا إفراط فيه ولا تفريط، وأي عجب ، فذلك تقدير اللطيف الخبير.
إن هذه الثنائيات عبرت عنها نصوص عدة في القرآن والسنة، منها قوله تعالى: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين﴾ (القصص: 77) فلئن كانت الآخرة هي الغاية والمرتجى؛ فإن الدنيا هي الوسيلة والمعاش، ومثله قوله تعالى في وصف المؤمنين فهم ينفقون أموالهم من غير إسراف يبدد المال ولا تقتير يمنع النفع: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً﴾ (الفرقان: 67)، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً﴾ (الإسراء: 29).
وقال صلى الله عليه وسلم موجهاً عثمان بن مظعون لما رغِب في ابتغاء سمو الروح بتعذيب الجسد، فأراد هجر النوم والنساء والدوام على الصيام: ((يا عثمان أرغبتَ عن سنتي؟.. فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)).([8])
وفي الجمع بين الدنيا والآخرة يقول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ^ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون﴾ (الجمعة: 9-10).
ولما أراد أناس من أصحابه الإعراض عن الدنيا وملذاتها وهجر النساء والترهب، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فأولئك في الديارات والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم))، ونزلت فيهم الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ (المائدة: 87).([9])
د. المثالية الواقعية
كثيراً ما تجنح الشرائع التي يشرعها الإنسان نحو المثالية التي لا تتحقق، فجمهورية أفلاطون الفاضلة لم تجاوز عقله وقلمه، وفي مقابله قد يخضع البعض للواقع الجاثم على المجتمع ، فيعمد إلى تكييف نفسه ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافاً بوطأة هذا الواقع وإذعاناً له، فحين عجزت مجتمعات الغرب عن منع الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من الاعتراف بهذا الواقع وتقنينه، ليصبح شرعة مباحة عند الناس؛ تفني الجنس البشري وتهدد وجوده بما تحمله تلك الآثام من أمراض وبلايا اجتماعية، ليتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).([10])
وأما الإسلام فإنه دين واقعي مثالي، فواقعيته مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً، وأما مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصلاح المجتمع، ولا يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة.
واقعيته يوضحها تلاؤم تشريعاته مع فطرة الإنسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها الله فشرع ما يناسبها ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ (الملك: 14)، فلم يأمر الإسلام بالتعفف عن النكاح، ولا منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية من الافتراق بالطلاق ﴿وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً﴾ (النساء: 130).
ولم يأمر الإسلام بإعطاء الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، بل شرع ما يرد الإساءة ويردع الجاني ويمنعه من التمادي، ولكنه رغب أيضاً في العفو والمسامحة والصفح، قال تعالى: ﴿ وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ^ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيلٍ﴾ (الشورى: 40-41).
وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في تدرج الإسلام في معالجة الأمراض والآثام المستفحلة في المجتمع، فعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في أمة تشرب الخمر شُربَها للماء؛ تدرج في تحريم الخمر، فأشار أولاً إلى ما فيها من السوء، ليهجرها أصحاب العزائم والأحلام: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون﴾ (البقرة: 219)، فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما فيها من الإثم والضرر أعظم.
ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها سائر النهار، لأنها تشغل عن الصلاة وتفسدها، فتضايق عليهم وقت شربها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ (النساء: 43).
لما نزلت هذه الآية أحس الصحابة أن الله يشدد عليهم في الخمر، فدعا عمر t الله فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ (المائدة: 90-91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال: (انتهينا انتهينا). ([11])
تقول أم المؤمنين عائشة: (إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً).([12])
لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف شاخت المحاضر في الدراسات الإسلامية في جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث الإسلام" إلى دراسة الشريعة الإسلامية، فيقول: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضّر قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديراً كافياً .. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية.."([13])
([1]) أخرجه الترمذي ح (3095).
([2]) أخرجه البخاري ح (4620)، ومسلم ح (1980).
([3]) أخرجه البخاري معلقاً باب ((الدين يسر))، وأحمد ح (2108).
([4]) أخرجه الترمذي ح (1423)، وابن ماجه ح (3042)، وأحمد ح (943).
([5]) أخرجه ابن ماجه ح (3043).
([6])أخرجه أحمد ح (22978).
([7]) أخرجه البخاري ح (3475)، ومسلم ح (1688).
([8]) أخرجه أبو داود ح (1369).
([9]) أخرجه ابن جرير في التفسير (4/9) ، وابن المبارك في الزهد ح (1031).
([10]) أخرجه ابن ماجه ح (4019).
([11]) أخرجه الترمذي ح (3049)، والنسائي ح (5540)، وأبو داود ح (3670).
([12])أخرجه البخاري ح (4993).
([13]) قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل (203).
تعَرّف على الإسلام للدكتور منقذ السقار
خصائص الشريعة الإسلامية ومقاصدها
إن المفهوم الإسلامي للعبادة قد تجسد في الشريعة الإسلامية العظيمة، التي أمر الله المؤمنين بتحقيقها في الأرض وجعلها دستوراً لحياتهم الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية والسياسية ﴿ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون﴾ (الجاثية: 18)، فالشريعة هي ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه المختلفة التي شرعها لمنفعة المؤمنين جميعاً إلى قيام الساعة.
أولاً: خصائص الشريعة الإسلامية
وتمتاز الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع التي قامت وتقوم إلى قيام الساعة بخصائص، أهمها:
أ. ربانية المصدر والغاية
أول خصيصة للشريعة الإسلامية أنها ربانية المصدر والغاية، فهي من الله ، وتهدف إلى بلوغ رضاه، فالمسلم يستمد شرائعه المختلفة من مصدرين أصيلين، هما القرآن الكريم الذي أوحاه الله بحروفه، ثم السنة النبوية، وهي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته التي أمر الله بالتأسي بها بقوله تعالى: ﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ (الحشر: 7)، فالنبي يحمل رسالة الله إلى الناس، وما يقرره بقوله وفعله إنما هو بوحي الله وأمره ﴿ وما ينطق عن الهوى ^ إن هو إلا وحي يوحى ﴾ (النجم: 3-4).
ومن هذين المصدرين وتأسيساً على قواعدهما اشتق العلماء عدداً من المصادر الفرعية للشريعة كالإجماع والقياس والاستصحاب والاستحسان والعرف وغيرها.
والخروج عن هذه المصادر إلى أحكام البشر إنما هو تحاكم إلى الهوى ومشاركة لغير الله في إحدى خصائصه تبارك وتعالى ﴿ ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين﴾ (الأعراف: 54)، فكما خلق وحده فإنه يشرع وحده.
ومشاركة غيره له في التشريع اعتداء على حق الله بالتشريع، وهو استعباد لخلق الله، لذلك لما دخل عدي بن حاتم على النبي صلى الله عليه وسلم سمعه يقرأ قوله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله﴾ (التوبة: 31)، فاستغرب عدي ، حتى فسَّره النبي بقوله: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه، وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه)) ([1])، فعبادتهم لأحبارهم، ليس سجودهم وركوعهم لهم، بل الإذعان لما أحدثوه في الدين في مجامعهم التي جعلت من رجال الدين مشرعين مع الله.
وتهدف الشريعة إلى تحقيق رضا الله الذي شرَّع بحكمته البالغة للإنسانية ما يسعدها في دنياها وأخراها ﴿كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد﴾ (إبراهيم: 1)، وشريعته خير كلها، لأنها صدرت عن الله العليم بما يصلح أحوالنا وبما يناسب فطرنا وتكويننا ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ (الملك: 14)، وهي بهذه المثابة تسمو على غيرها من الشرائع البشرية التي يتلبسها قصور الإنسان وجهله وما يكتنف تشريعه من الهوى الذي يجعل المشرِّع البشري يميل بتشريعاته إلى حراسة مصالحه الشخصية والفئوية، كما هو الحال في تشريعات النظم العلمانية.
أما حين تكون الشريعة إلهية؛ فإنها لا تحابي في أحكامها جنساً أو عرقاً أو لوناً، فالجميع عبيد لله متساوون أمام أحكامه ﴿ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ^ وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيراً من الناس لفاسقون ^ أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومٍ يوقنون﴾ (المائدة: 48-50).
إن كون هذه الشريعة من الله يعطيها هيبة وسلطاناً في النفوس والضمائر لا تجده في قانون ما، فالناس منقادون إليها بسلطة الإيمان الذي يملأ قلوبهم، منقادون إليها ظاهراً وباطناً، سراً وعلانية، يرقبون في ذلك كله جزاء الله الذي لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء.
وتتميز الشريعة في مسألة الجزاء عن غيرها من القوانين في أنها القانون الوحيد الذي يجازي في الدنيا والآخرة، فالمؤمن يلتزم حدودها، طمعاً في سعادة الدنيا التي يعيشها في جنبات الطاعة والفضيلة، ثم هو موعود بحسن الجزاء في الآخرة، بالجنة التي أعدها الله للأتقياء من عباده، فلأجلهما معاً يمتثل المؤمن قانون الشريعة ويلتزم به.
وللتعرف على أهمية هذه الخصيصة نذكر أن أمريكا أدركت مضار الخمر الصحية والاجتماعية والاقتصادية، وعزمت على تحريمه، وأصدرت تشريعاً بذلك، ثم بذلت الملايين لتنفيذ هذا القانون، وبعد سنوات من النفير في الأمن والمحاكم ، وبعد سجن الألوف من المدمنين عادت أمريكا إلى إباحة الخمر، مع يقينها بما فيه من الفساد، لكنها عجزت وعجز قانونها البشري أن يجد له بين الناس قبولاً.
وفي مقابله فإن الإسلام حين حرم الخمر، لم يستعن بشرطة أو جنود أو محاكم، ولم يجد عنتاً ولا مشقة في جعل المجتمع المسلم أطهر المجتمعات الإنسانية، بابتعاده عن المسكرات بأنواعها، إن طهارة المجتمع من هذه الآفة لم يتطلب سوى آية أنزلها الله في تحريمه، وهي قوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون﴾ (المائدة: 90).
فالتزم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، بل وتساءلوا عن مصير إخوانهم ممن شرب الخمر ومات قبل تحريمها، يقول أنس بن مالك: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فنزل تحريم الخمر، فأمر منادياً فنادى، فقال أبو طلحة لأنس: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال أنس: فخرجتُ، فقلت: هذا مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. فقال لي: اذهب فأهرقها.
قال أنس: فجرتْ في سِكك المدينة.
فقال بعض القوم: قُتِل قوم وهي في بطونهم؟ فأنزل الله: ﴿ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ﴾ (المائدة: 93)([2])، أي لن يحاسبوا عن شربها قبل التحريم لأنه لا عقوبة إلا بتشريع.
ب. العدل والمساواة
العدل اسم من أسماء الله تعالى، وهو صفة لازمة للرب في أوامره وتشريعاته وجزائه، ومظاهر عدل الله في شرائعه كثيرة، من أولها أنه تعالى لا يحاسب الإنسان على ما لا يقدر عليه، بل لم يكلفه أصلاً بما يعجزه ﴿ لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ﴾ (البقرة: 286)، فشرائع الله مبناها على اليسر والسهولة ﴿ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ﴾ (البقرة: 185) ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم من حرجٍ ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾ (المائدة: 6)، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((أحب الدين إلى الله الحنيفيةُ السمحةُ)).([3])
ومن عدله تبارك وتعالى أنه رفع التكليف بأحكام الشريعة عن الأطفال الذين لم يحوزوا كمال العقل الذي يجيز محاسبتهم، كما أسقطه عمن حُرِم نعمة العقل ابتداءً ، يقول صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشبَّ، وعن المعتوه حتى يعقل))([4])، كما يعفو الله عمن وقع في الخطأ من غير إرادته لذلك أو من وقع فيه مكرهاً أو ناسياً تحريمه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)).([5])
وإذا كانت الشريعة لا تحاسب من هو دون التكليف على خطئه؛ فإنه يعلم أنها - من باب أولى - لا تحاسبه على ذنب غيره، فالمرء مسؤول عن عمله الشخصي ﴿ قل أغير الله أبغي رباً وهو رب كل شيءٍ ولا تكسب كل نفسٍ إلا عليها ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ (الأنعام: 164).
وعليه فالإسلام لا يقر بالذنب الأصلي المتوارث عن الأبوين [آدم وحواء]، فالأبوان تحملا وزريهما بنفسيهما، واستغفرا الله منه، فتاب عليهما، ولا علاقة لذريتهما بذنبهما من قريب أو بعيد، بل كلٌ مسؤول عن عمله ﴿فتلقى آدم من ربه كلماتٍ فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم ^ قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينكم مني هدًى فمن تبع هداي فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون ^ والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ (البقرة: 37-39).
وأيضاً فإن شرائع الله تبارك وتعالى راعت - لعدالتها - الفروق بين الذكر والأنثى، فلم تكلف المرأة بما لا يلائم طبيعتها كالجهاد والخروج من المنزل للتكسب والإنفاق، وغيرهما مما لا يتناسب وأنوثتها أو يخالف رونق حياتها وصفاء أحاسيسها.
ولم تميز الشريعة العادلة في أحكامها العامة بين ملك وسوقة، ولا بين أبيض وأسود، ولا بين غني وفقير، فالجميع متساوون أمام شرائع الله، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم في ما يربو على مائة ألف من أصحابه، فقال: ((يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى))([6])، فالخيرية مبناها على العبادة والاستقامة، لا الحسب والجاه، ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليمٌ خبيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
وقد طبَّق النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه عدل الإسلام وقِيَمه حين رفض التمييز في إقامة الشرائع بين شريف ووضيع، فقد حكم صلى الله عليه وسلم على سارقة من أشراف قريش بقطع يدها الخؤون، فاستشفع الناس لها، طلبوا من أسامة بن زيد - بما له من مكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم - أن يشفع لها عنده، فقال له صلى الله عليه وسلم: ((أتشفع في حد من حدود الله)).
ثم قام فخطب الناس، فقال: ((إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقتْ [أي ابنته صلى الله عليه وسلم]؛ لقطعتُ يدها)).([7])
وهكذا فالعدل سمة شريعة الله الذي أمر به وشرعه بين خلقه ﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون﴾ (النحل: 90).
ج. الشمول والتوازن
لما كان الإسلام رسالة الله الخاتمة وكلمته الباقية إلى قيام الساعة، فإن الله تلطف فيه على الإنسانية بكل ما يصلح شؤونها في دار معاشها ثم في دار جزائها، فكملت أنعم الله بكمال تشريعاته ﴿اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً﴾ (المائدة: 3).
والإسلام بنيان شمولي يغطي مناحي الحياة المختلفة، فهو دين عبادة، وهو أيضاً منظومة من الشرائع الأخلاقية والاجتماعية، والاقتصادية والسياسية التي تحقق سعادة الفرد والمجتمع في الدنيا ثم الآخرة.
إن الإسلام ينظم علاقات الإنسان المختلفة من لدن ميلاده إلى وفاته، وهو يحرس حقوقه حتى فيما قبل الميلاد وما بعد الوفاة، وأما ما بينهما فإنه يتناول بأحكامه تفاصيل سلوكه الشخصي بما يتضمنه من عادات وآداب، وهو يرشِّد أيضاً علاقة الإنسان مع أسرته ومجتمعه، لا بل يتناول حاله مع الكون كله بما فيه من حيوان وجماد ﴿وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أممٌ أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ﴾ (الأنعام: 38).
أما على الصعيد الجماعي فإن شرائع الإسلام تنظم المجتمع وتضبط حقوق من فيه وواجباتهم، وتنظم علاقة الدولة والأمة المسلمة مع القريب من الناس والبعيد ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيءٍ وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين﴾ (النحل: 89).
وتلبي هذه الشرائع حاجات الإنسان المختلفة، فهي تعنى بجسده، ولا تهمل روحه، تبتغي الآخرة، ولا تفرط في الدنيا، تربط المجتمع ولا تغفل مصالحه، وهي في نفس الوقت تحقق ذاتية الفرد وتحرس مصالحه وحقوقه، توازن عجيب، لا إفراط فيه ولا تفريط، وأي عجب ، فذلك تقدير اللطيف الخبير.
إن هذه الثنائيات عبرت عنها نصوص عدة في القرآن والسنة، منها قوله تعالى: ﴿وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين﴾ (القصص: 77) فلئن كانت الآخرة هي الغاية والمرتجى؛ فإن الدنيا هي الوسيلة والمعاش، ومثله قوله تعالى في وصف المؤمنين فهم ينفقون أموالهم من غير إسراف يبدد المال ولا تقتير يمنع النفع: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً﴾ (الفرقان: 67)، وقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً﴾ (الإسراء: 29).
وقال صلى الله عليه وسلم موجهاً عثمان بن مظعون لما رغِب في ابتغاء سمو الروح بتعذيب الجسد، فأراد هجر النوم والنساء والدوام على الصيام: ((يا عثمان أرغبتَ عن سنتي؟.. فإني أنام وأصلي، وأصوم وأفطر، وأنكح النساء، فاتق الله يا عثمان، فإن لأهلك عليك حقاً، وإن لضيفك عليك حقاً، وإن لنفسك عليك حقاً، فصم وأفطر، وصل ونم)).([8])
وفي الجمع بين الدنيا والآخرة يقول الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ^ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون﴾ (الجمعة: 9-10).
ولما أراد أناس من أصحابه الإعراض عن الدنيا وملذاتها وهجر النساء والترهب، قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم، فأولئك في الديارات والصوامع، فاعبدوا الله ولا تشركوا به، وحجوا واعتمروا، واستقيموا يستقم بكم))، ونزلت فيهم الآية: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾ (المائدة: 87).([9])
د. المثالية الواقعية
كثيراً ما تجنح الشرائع التي يشرعها الإنسان نحو المثالية التي لا تتحقق، فجمهورية أفلاطون الفاضلة لم تجاوز عقله وقلمه، وفي مقابله قد يخضع البعض للواقع الجاثم على المجتمع ، فيعمد إلى تكييف نفسه ومبادئه مع الحالة الراهنة اعترافاً بوطأة هذا الواقع وإذعاناً له، فحين عجزت مجتمعات الغرب عن منع الخمر أو الزنا أو الفواحش لم تجد ما يمنعها من الاعتراف بهذا الواقع وتقنينه، ليصبح شرعة مباحة عند الناس؛ تفني الجنس البشري وتهدد وجوده بما تحمله تلك الآثام من أمراض وبلايا اجتماعية، ليتحقق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم بقوله: ((لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا)).([10])
وأما الإسلام فإنه دين واقعي مثالي، فواقعيته مبنية على أنه سلوك إنساني يعيشه الناس يومياً، وأما مثاليته فيحققها أنه يهدف إلى إصلاح المجتمع، ولا يرضى بالتعايش والمهادنة مع الخطأ والرذيلة.
واقعيته يوضحها تلاؤم تشريعاته مع فطرة الإنسان وتحقيقها لحاجاته ورغباته التي علمها الله فشرع ما يناسبها ﴿ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير﴾ (الملك: 14)، فلم يأمر الإسلام بالتعفف عن النكاح، ولا منع من استحالت عليهم الحياة الزوجية من الافتراق بالطلاق ﴿وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعاً حكيماً﴾ (النساء: 130).
ولم يأمر الإسلام بإعطاء الخد الأيسر لمن ضرب الخد الأيمن، بل شرع ما يرد الإساءة ويردع الجاني ويمنعه من التمادي، ولكنه رغب أيضاً في العفو والمسامحة والصفح، قال تعالى: ﴿ وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ^ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيلٍ﴾ (الشورى: 40-41).
وتسطع هذه المزاوجة بين الواقع والمثال في تدرج الإسلام في معالجة الأمراض والآثام المستفحلة في المجتمع، فعندما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في أمة تشرب الخمر شُربَها للماء؛ تدرج في تحريم الخمر، فأشار أولاً إلى ما فيها من السوء، ليهجرها أصحاب العزائم والأحلام: ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون﴾ (البقرة: 219)، فالخمر فيها منافع محدودة (كالتجارة) لكن ما فيها من الإثم والضرر أعظم.
ثم في مرحلة أخرى منع المسلمين من تناولها سائر النهار، لأنها تشغل عن الصلاة وتفسدها، فتضايق عليهم وقت شربها ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون﴾ (النساء: 43).
لما نزلت هذه الآية أحس الصحابة أن الله يشدد عليهم في الخمر، فدعا عمر t الله فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزل قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجسٌ من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون ^ إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون﴾ (المائدة: 90-91)، فدُعي عمر، فقُرئت عليه، فقال: (انتهينا انتهينا). ([11])
تقول أم المؤمنين عائشة: (إنما نزل أول ما نزل منه [أي من القرآن] سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام؛ نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا. لقالوا: لا ندع الزنا أبداً).([12])
لهذا ولغيره يدعو المستشرق الشهير جوزيف شاخت المحاضر في الدراسات الإسلامية في جامعتي أكسفورد وليدن في كتابه "تراث الإسلام" إلى دراسة الشريعة الإسلامية، فيقول: "من أهم ما أورثه الإسلام للعالم المتحضّر قانونه الديني الذي يسمى (بالشريعة)، والشريعة الإسلامية تختلف اختلافاً واضحاً عن جميع أشكال القانون إلى حدّ أن دراستها أمر لا غنى عنه؛ لكي نقدر المدى الكامل للأمور القانونية تقديراً كافياً .. إن الشريعة الإسلامية شيء فريد في بابه، وهي جملة الأوامر الإلهية التي تنظم حياة كل مسلم من جميع وجوهها، وهي تشتمل على أحكام خاصة بالعبادات والشعائر الدينية كما تشتمل على قواعد سياسية وقانونية.."([13])
([1]) أخرجه الترمذي ح (3095).
([2]) أخرجه البخاري ح (4620)، ومسلم ح (1980).
([3]) أخرجه البخاري معلقاً باب ((الدين يسر))، وأحمد ح (2108).
([4]) أخرجه الترمذي ح (1423)، وابن ماجه ح (3042)، وأحمد ح (943).
([5]) أخرجه ابن ماجه ح (3043).
([6])أخرجه أحمد ح (22978).
([7]) أخرجه البخاري ح (3475)، ومسلم ح (1688).
([8]) أخرجه أبو داود ح (1369).
([9]) أخرجه ابن جرير في التفسير (4/9) ، وابن المبارك في الزهد ح (1031).
([10]) أخرجه ابن ماجه ح (4019).
([11]) أخرجه الترمذي ح (3049)، والنسائي ح (5540)، وأبو داود ح (3670).
([12])أخرجه البخاري ح (4993).
([13]) قالوا عن الإسلام، عماد الدين خليل (203).
تعليق