أين الحق ؟
كاتبته : * الزهراء *
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب العالمين
و الصلاة و السلام على سيد المرسلين
و الصلاة و السلام على سيد المرسلين
سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين
أما بعد 00
فهذه قصتي أحببت أن أرويها لما فيها من فوائد و عبَر ، و أشهد الله تعالى على صدقي و عدم مبالغتي في أدنى أمر من الأمور 0
جعلنا الله و إياكم من الذين أشارت إليهم أعلام الهداية و وضحت لهم طريق النجاة و سلكوا سبيل الإخلاص و اليقين 0
نشأت و ترعرعت في أسرة تحب العلم و تحرص عليه ، فأخي مهندس وأخواتي حاصلات على شهادات جامعية عليا من طب و هندسة و آداب و تجارة0أما والدي و والدتي فقد استطاعوا بعون الله تعالى أن يغرسوا فينا الكثير من الأخلاق الحسنة و المُثل العليا و أن يكونوا لنا قدوة في هذه الأخلاق 0 فوالدي ربّانا على المال الحلال، و مع أنه كان برتبة عميد و كان بإمكانه أن يجمع ثروة فيما لا يرضي الله تعالى و لكنه أبى ذلك0 و والدتي غرست فينا الأدب و العفّة و التهذيب ، وكان كل منهما يخاف علينا و يحرص على سمعتنا 0 أما من ناحية الاعتقاد ، فأفراد عائلتي ما كانوا من المسلمين السّنة ،بل كانوا ينتمون إلى إحدى الطوائف المنشقّة عن الإسلام 0
عشت طفولة ممتعة بين أحضان الطبيعة ، و انتقلت من المرحلة الإبتدائية إلى المرحلة الإعدادية و الثانوية ، و درست بعدها في معهد لإعداد المدرسين قسم اللغة الإنكليزية ،ثم تعيّنت بعد التخرج كمدرّسة في إحدى المدارس الإعدادية في منطقة ريفية 0 و بما أني كنت طموحة للأفضل ، فقد درست البكالوريا ثانية و دخلت كلية الآداب 0
كل هذه السنين التي مرّت من عمري ، كانت تبدو للعيان لامعة برّاقة ، ولكنها في الحقيقة ليست أكثر من زجاج متكسّر ! فمع أني حققت نجاحاً في مجالات شتى 00 إلا أني كنت ضمنياً ضائعة وأفتقد إلى الطمأنينة و السّكينة الرّوحية !! و خاصة في تلك السنوات الخدّاعات التي ظهر فيها الملاحدة و الكفرة والعلمانيون لينفثوا سمومهم في عقول و نفوس الناس إلا من رحم ربّك ! فأفسدوا الناس عامة بدعوتهم للتخلي عن إيمانهم و مبادئهم ، وأفسدوا المرأة خاصة بدعوتها إلى التبرج و السفور و مزاحمة الرجال و مخالفة فطرتها بحجة التحرر و التخلص من الرجعية و التخلّف !!
و بهذا ، فقد كنت ناجحة في المجال العلمي، لكن و للأسف ، كنت أنهل ثقافتي من ماء عكر و أنا أحسب أني أحسن صنعاً !
كنت ناجحة في المجال التعليمي ، لكني بالواقع ضللت و أضللت و أنا أظن أني صلحت و أُصلحت !!
كنت ناجحة في الحياة الإجتماعية ، و يلتفّ حولي الكثيرون يطرونني و يصفّقون لي ، و لكني ضمنيّاً كنت ضائعة و متشتتة !!
أربع و عشرون عاماً مرّوا من حياتي و أنا أعيش للحياة الدنيا ، أمرح و أضحك ، ألبس أجمل الثياب و أتزين بأبهى زينة ، حفلات رحلات زيارات 000 أما التفكير في الآخرة فقد كنت أتناساه و لكنه ما كان ينساني !! كان يراودني من حين لآخر ليزعج صفوتي و يقلق راحتي لبرهة من الزمن ثم يرتحل !! فكان يحضرني في مناسبات يُقدّرها الله تعالى لي كأن أرى جنازة مثلاً تمرّ من أمامي ، أو أن أسمع قرآناً أو قصة دينية أو وعظاً من التلفاز أو من معلمة الديانة !! فقد كنت منذ نعومة أظافري أتأثر كثيراً و تدمع عيوني لسماع هذه الأشياء لكن لفترة وجيزة فقط ثم أعود لأنغمس في الدنيا 0
المهم ، بقيت على هذا المنوال حتى جاء عام 1994 ليكون بداية لتحوّل جذري في حياتي ، فقد بدأت الابتلاءات و المحن بشتى أنواعها تتوالى عليّ و على عائلتي ،أزمات و أزمات اجتمعت لتهزّني من الأعماق و تجعلني أميل نحو الهدوء و الحزن 0 و حُبّب إلى نفسي قراءة الكتب التي تتعلق بفلسفة الوجود و الإنسان و الروحانيات 0
بعد حين من الزمن ، شاء الله تعالى أن أزور خالي في المشفى لعيادته بعد أن أجرى عملية جراحية ، و حين دخلت إلى غرفته فوجئت بضعفه و شحوبه و حالته المتردّية ، كان يلفظ أنفاسه الأخيرة متمدداً لا حول له و لا قوة !! الجميع من حوله واقفون عاجزون لا يستطيعون نفعه بشيء !! شهدت منظراً ما شهدته في حياتي قط ، منظر إنسان يخصّني يصارع الموت و يُحتضر ، ثم توفي و بدأ البكاء و الصراخ يعلو ، و الرعب يسود الجو ، حاولت الثبات قدر المستطاع كي أصبّر أسرته و أواسيهم ، لكن هذا الثبات لم يدم أكثر من فترة قليلة ثم انهارت أعصابي بعدها و أخذوني إلى المنزل ليبعدوني عن هذا الحدث ،إلا أن هذا الحدث كان قد انتقل ليعيش في أعماقي ، فقد صار التفكير بالموت هاجسي ، و التساؤلات خواطري : " كيف يموت الإنسان ؟ أين تذهب روحه ؟ ماذا بعد الموت ؟ هل فكرة التقمّص صحيحة أم أن الروح تعيش حياة برزخية إلى يوم القيامة ؟ هل يوجد عذاب في القبر ؟ أكيد سأموت يوماً ما ، فماذا سيحل ّ بي ؟! هل أنا على الصراط المستقيم يا ترى أم أني في ضلال مبين ؟! ماذا 00و هل 00 و كيف 000؟؟؟!!! "
عشت في دوامة و صراع فكري رهيب أرّقني و أحرقني 00 و روّعت فكرة الموت و الأمور ( الميتافيزيقية ) أيامي و لياليّ ، و جعلتني أخاف و أرتعب من البقاء في المنزل بمفردي أو من النوم في الغرفة لوحدي دون أخواتي،و خيّمت عليّ الأوهام في النهار و الكوابيس في الليل حتى اسودّت عيشتي ! حاولت أن أقرأ في بعض كتب المذهب عندنا و لكني ما وجدت فيها ما يشفي آلامي 0 فماذا عساي أن أفعل مع هذه المعضلة النفسيّة التي ألمّت بي؟ لا بد من الخروج منها و إلا أهلكتني !!
فكرت و فكرت 00و وصلت إلى قناعة معينة ، أنه يكفيني أن أؤمن بالله و أن أبتعد عن المحرّمات و أحب الناس كلّهم و لا أؤذي أحداً ، و أن أعمل أعمالاً خيرية و كفى 00 ثم قررت أن أملأ أوقاتي كلّها كي لا يبقى عندي أدنى و قت من الفراغ 00 صرت أداوم في المدرسة صباحاً ، ثم في الجامعة ظهراً و عصراً ، و في المساء كنت أعطي دروساً خصوصية لبعض الطالبات ، ثم أعود للمنزل بعد أن ينفذ وقودي فأغطّ في نوم عميق حتى الصباح 0 أما يوم الجمعة فكان لتنظيف المنزل و الحياة الإجتماعية 00و يوم الثلاثاء يوم إجازتي ، خصصته لممارسة هواية من هواياتي 00فاشتريت آلة موسيقية ( أورغ ) ، و سجّلت بمعهد خاص لتعليم العزف 00 و هكذا صارت أوقاتي مملوءة تماماً 0
بقيت على هذه الحال ما شاء الله لي أن أبقى ، و ظننت أني انتصرت على أزماتي بهروبي من ذاتي 00 لكن الله سبحانه أراد أن يُنبّهني و يذكّرني ! وكأنه يقول لي ( يا أمَتي أين المفرّ ؟) 000 فقد مرضت مرضاً شديداً بعد هذا العناء الطويل ، و أصبت بحمّى ألزمتني الفراش ، و تراجعت صحّتي و ضعف جسدي و شعرت أنه قد اقترب أجلي ، تأزّمت و خفت من المصير المجهول الذي ينتظرني ، بكيت و تضرّعت إلى الله تعالى00وناجيته بدموع غزيرة و قلب محروق :
( يا رب ، سبحانك ، لماذا خلقتني و أين المصير ؟ يا رب ، هل أنا على حق أم على باطل ؟ هل الملّة و المذهب الذي أنتمي إليه صحيح أم زائف ؟ لماذا وُلدت على هذا المذهب دون غيره ؟ و هل مفروض علي أن أتّبع آبائي و أجدادي أم أني أستطيع أن أبدّل مذهبي ؟!و إن كان، فأي دين أو مذهب أختار ؟! يا الله 00يا رحمن يا رحيم 00لا تقبض روحي الآن 00أحيني و سأبحث و أجتهد للآخرة ، فماذا تساوي هذه الدنيا بكل زخارفها أمام لحظة الموت ؟! 00 لا تقبضني يا رب حتى تهديني إلى الحق المبين ) 0
فاستجاب الله تعالى دعائي و ردّ إليّ صحتي و عافيتي 0 و بدأتُ مسيرتي في البحث عن الحقيقة 0
صرت أتردد إلى المكتبة للقراءة و الاطلاع على الكتب الدينية و الروحانية 00 و بدأت أتنقّل من كتاب دين إلى آخر ، و أبحث في شرائع و مذاهب و فلسفات متعددة 00 و ما أكثرها !!
ثم سألت نفسي بعد أن طال الطريق عليّ و كدت أتمزق بين فروعه و تشعّباته : " كم سيلزمني من العمر حتى أختم القراءة في كل حقل من هذه الحقول ؟؟!! و كيف سأعرف أيها منهم الحق ؟! "
عدت للرجوع إلى الخالق الهادي النور 00 و دعوته أن يعينني و ينوّر بصيرتي و يلهمني الهدى 0 0 سبحانه 0 و للمرة الثانية ، منّ عليّ الكريم الحيي الذي يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردّهما صفرا ، و استجاب لدعائي ، إذ كنت في معرض للكتاب فوقع بصري على المصحف الشريف و انشرح له صدري 00 فاشتريته ، و صرت أقرأ فيه قبل النوم ليلاً و بعد الاستيقاظ صباحاً ، و بدأت أشعر براحة نفسية ملحوظة ، و صرت أجد فيه حلاً لكثير من مشاكلي و ذهاباً لكثير من همّي و غمّي و حزني 0
بعد شهور جاء رمضان الخير و الرحمة و البركة ، و شعرت بهاتف داخلي يدعوني لصيام هذا الشهر فلبّيت النداء ، و بدأت رحلتي الروحية مع الصيام و القرآن و الدعاء 0 عشت في رمضان أمتع لحظات حياتي ، و خاصة تلك التي قبل الإفطار ، إذ كنت أخرج إلى الشرفة أدعو و أناجي الخالق و أسبّحه دون أن أكترث ببرد الشتاء آنذاك ، فحرارة الإيمان بداخلي كانت تكفيني !
وأذكر أني دعوت الله حينها بدعوات ثلاث كانت كلها مستجابة و بفترة وجيزة مما زادني إيماناً و تثبيتاً 0
لكن هذا المسار الذي سلكته لفت انتباه الأهل و أثار تساؤلاتهم ، و راحوا يحقّقون معي و يعترضونني بآرائهم و أفكارهم التي تربّوا عليها ،إلا أني صمدت بفضل الله تعالى و ما تأثرت ، و أكّدت لهم أن هذه الأمور تريحني نفسياً فقط فهدأوا 0
انتهى شهر المغفرة و الرحمة ، و مرت شهور بعده تعطّشت روحي خلالها للمزيد من العبادات و القربات ، كنت أستيقظ في فترة السّحر لأذكر الله بما يتيسّر و أدعوه 0 ثم كان صوت الآذان يصلني من بعيد من المنطقة المجاورة في هدوء الفجر و صفائه ليجعلني أتمنى أن أقوم و أصلّي ! لكن كيف يصلّون ؟ و من سأسأل عن كيفية الصلاة ؟ كان عندي صديقات مسلمات و لكني كنت أشعر بالحرج من أن أسألهم ، و ظننت بأن الخوض في المسائل الدينية سوف يكون أمراً شائكاً و حساساً و قد يوصلني إلى أمور غير مستحبة ، لذلك تركت الموضوع إلى أجل غير مسمى 0
توالت الأيام 00 و كأي فتاة في ريعان الصبا كان يتقدم لخطبتي الكثير من الشبّان ، إلا أني ما وجدت منهم الشخص المناسب بسبب ذوقي الصعب في اختياري لزوج المستقبل ، لكن أمي و بعض المقرّبين بدأوا يعظونني و ينصحونني كي لا أعقّد المسائل كثيراً و يبيّنون لي حاجة كل فتاة إلى الزواج حتى لا يأتي عليها يوم تجد فيه نفسها وحيدة ، و خاصة بعد وفاة الأهل و انشغال الأخوة 0 فأقنعوني إلى حد ما ، فدعوت الرب تبارك و تعالى أن يرزقني بالزوج الصالح الذي يأخذ بيدي إلى الصراط المستقيم و أتابع معه طريقي الذي ابتدأته في البحث عن الحق !
و ما هي إلا شهور حتى تقدّم لخطبتي شاب يعمل في الإمارات ،كان هذا الشاب يتميّز بصفات إيجابية عديدة و أهمها " الإيمان " فقد لمست كثرة ذكره لله في أول زيارة لنا مع أمه ، و حين أتيحت الفرصة ، أسرّ لي بأنه قد صام شهر رمضان الماضي و أنه يذهب إلى المسجد في كل يوم جمعة لحضور خطبة و صلاة الجمعة !! هذا الأمر جعلني أوافق على الفور 0و تمّت الخطوبة و كتب الكتاب ثم سافر و تبعته بعد شهرين إلى هناك ،سافرت كعروس تحلم بحياة ملؤها الحب و الإيمان و السكينة 0
هبطت الطائرة في مطار دبي ، و معها ، هبطت أحلامي الوردية إلى أرض الواقع المرير !! أجل 00فقد فوجئت بأن زوجي و للأسف الشديد كان على عكس ما تخيّلته تماماً فيما يخص مزاجه و أخلاقه و معاملته !! لن أطيل الوصف في هذا الجانب لكن يكفي أن أقول بأن حياتي معه كانت ألماً و عذاباً و شقاءً و دموعاً 00
كنت أحاول أن أتصبّر بالله و أقول في نفسي ربما تكون هذه المحنة تكفيراً عن ذنوبي ، ربما صقلاً لشخصيتي ، لن أفقد ثقتي بالله فهو لن يأتيني إلا بخير إن شاء الله تعالى00 فطلبت من زوجي أن يعلّمني الصلاة ففعل ، و ما كان يعرف آنذاك إلا ركعتي الجمعة فقط و لا يصلّي سواهما ، فتعلمتهما و صرت أصلّيهما حين أشعر بالضيق و الغمّ 0 ثم رحت أتوق للمزيد من الصلاة ، فسألت زوجي عن أوقات الصلوات و عدد الركعات ، فقال لي بأنه لا يعلم ، و لم يشجعني كثيراً على ذلك 0 لكن روحي الظمأى اشتاقت لتعلّم الصلاة على أصولها ، فمن عساي أن أسأل و أنا في بلاد الغربة و لا أعرف أحداً إلا بعض العائلات من أهل الطائفة ؟! خطر لي أن أذهب إلى المسجد المجاور لبيتنا و أسأل الإمام ، إلا أني خجلت و ما تجرّأت ،و خاصة أني كنت امرأة سافرة !!
لكن حين ينقطع الرجاء يبقى الأمل في رب الأرض و السماء 00
رفعت يدي إليه جلّ في علاه و دعوته أن يعلّمني و يهديني و ألححت في الدعاء ، و إذ بالجواب يأتيني بطريقة عجيبة ! فقد كنت في أحد الأيام أنظّف المنزل و أرتّب الأدراج ، و بينما أنا كذلك ، وقعت يدي على بطاقة مكتوب عليها بعض الآيات القرآنية ، و على خلف البطاقة مكتوب ما يلي : صلاة الصبح ركعتان 0 صلاة الظهر أربع ركعات 00000 الخ !
طبعاً قد يكون أحد الأشخاص قد أعطاها لزوجي فوضعها في الدّرج و نسيها ، لكني فرحت بترتيب رب العالمين كثيراً ، و لم أكد أصدّق عيوني ! فتعلّمت الصلاة و بدأت أواظب عليها 0
كنت أستمتع بالصلاة كثيراً ، إلا أن صلاتي كانت من غير وضوء ! فما كنت أعرف كيف يتوضّأون ! فكنت أدخل إلى الحمام قبل موعد الصلاة و أغتسل بشكل عشوائي ثم أصلّي 0 استمرّيت هكذا لفترة من الزمن ثم بدأت الشكوك تساورني في صحة صلاتي و شعرت بضرورة تعلّم الوضوء 0 لكن أنّى لي هذا ؟ و من سيعلّمني ؟!
سيعلّمني الأحد الصّمد ، العليم الخبير ! ففي أحد الأيام عاد زوجي من العمل و بيده جريدة ، و أخبرني أن وزارة التربية و التعليم تعلن عن حاجتها لمدرسين و مدرسات من شتى الاختصاصات ، و راح يشجعني للتقدّم لأن هكذا فرصة قد لا تعوّض ، فوافقت على فكرته و قدّمت طلباتي و بدأت أستعد لفحص المسابقة ، كان زوجي يشجّعني كثيراً لمصلحتي و لمصلحته تبعاً ! فأخبرني بأن لديه معارف في منطقة " خورفكان " حيث تعمل الزوجة هناك كمدرّسة و تستطيع أن تنفعني و تساعدني 0 فانطلقنا لزيارتهم ، و قامت السيدة بإحضار كل ما عندها من كتب تخص طرائق التدريس، و بعد أن انتهت الزيارة أخذنا الكتب و رجعنا إلى المنزل 0 و هناك ، جلست في الصالة أتصفّح الكتب و أطّلع عليها و إذ بورقة مطوية موجودة ضمن أحد الكتب لفتت انتباهي ، أخذت الورقة و فتحتها ، و إذ بكلمات مكتوبة بخط السيدة و بالقلم الرصاص : ( طريقة الوضوء : المضمضة ثلاث ، الاستنشاق ثلاث 0000الخ) !!!
فسبحان الله ، و الحمد لله ، و لا إله إلا الله ، و الله أكبر 0
أخبرت زوجي بما يحصل و علّمته مما علّمني ربي 0 و سبحان الله ، فقد كان يخاف الله برغم كل ما يُظهر من سوء ، و كان يتقبّل مني ما يتعلّق بأمور الدين و إن كان يجادل و يعاند في البداية !
كل شيء كان على ما يرام فيما يخص عبادتي ما عدا أمراً واحداً كان يريبني و يقلقني ، إذ كانت تأتيني وساوس شيطانية و نفسانية حين كنت أتشهّد في الصلاة و أقول : " أشهد الاّ إله إلا الله و أشهد أن محمداّ رسول الله "! فالملّة التي كنت أنتمي إليها كانت تشكك في نبوّة سيدنا محمد صلى الله عليه و سلّم ، و تثير حوله الشبهات و لا حول و لا قوة إلا بالله !
هذا الأمر كان يعذّبني و يؤرقني ، فكنت أستيقظ في جوف الليل أو قبل الفجر لأدعو الله أن يبصرني و يهديني 00
فو الله الذي لا إله إلا هو ، ما هي إلا أيام حتى حدث أمر غريب ، فقد زارنا صديق زوجي الذي كان يؤثّر عليه سابقاً و يأخذه إلى المسجد لحضور خطبة و صلاة الجمعة ، جاء ليبارك لنا في زواجنا و أحضر معه هدية ، كانت الهدية عبارة عن شيئين اثنين : مسجّلة ، و كتاب : ( سيرة رسول الله ) !!
أخذت الكتاب بقوة و بلهفة ، و قرأته و سهرت عليه حتى الثانية صباحاً و لم اتركه حتى أنهيته ، أنهيته و الدموع تنهمر من عيوني ثم قلت: ( أشهد ألاّ إله إلا الله و أشهد أنّ محمّداً رسول الله ) 0
و من ذاك اليوم صرت متيّمة في كل ما يتعلّق بأمور الدين الإسلامي ، صرت أتابع البرامج الدينية في التلفاز بشكل دائم ، أستمع لكلام المشائخ و أتعلّم منهم و أقارن بين ما يقولونه و بين ما كنت عليه سابقاً ، و بدأت أهدم القديم البالي و أبني الجديد السامي 0 صرت مولعة بسماع القرآن ، و أفضّله على الأغاني و المعازف من قبل أن أعرف أنها محرّمة !
و الجدير بالذكر ،أني كنت أعلّم زوجي بكل ما أتعلمه لأنه ما كان يملك الوقت الكافي لمشاهدة البرامج بسبب دوامه الطويل و الصعب ، فكان يستمع إلي و كلّه آذان صاغية ، و يوماً بعد يوم بدأ زوجي يتغير نحو الأفضل في أقواله و أفعاله و أخلاقه و معاملته لي و للآخرين ، إلى أن وصلنا بفضل الله تعالى إلى مرحلة من التآلف و الصداقة حسدت نفسي عليها !
حتى في الأمور الدنيوية صار التوفيق حليفنا ، إذ قُبلت في سلك التدريس و تعيّنت بمدرسة من أفضل مدارس دبي من حيث الإدارة و الكادر التدريسي و غيره، و سكنّا في بيت جميل و رخيص نسبياً وقريب من مدرستي ، ثم حصلت على رخصة قيادة و اشتريت سيارة ، و بدأ زوجي يرتقي في عمله وتتيسّر أمورنا عامة و لله الحمد 0
أما من الناحية الإجتماعية فكانت علاقتنا طيبة مع الجميع ، طبعاً ما كنّا نظهر لهم إسلامنا اتقاءً للمشاكل ، و لكنا كنا نتناقش معهم حين تسنح لنا الفرصة في بعض الأمور التي تخص جانب العقيدة و نبيّن لهم حقيقة الإسلام بأسلوب غير مباشر ، و بذلك كنا نتعايش بسلام مع المعارف في الإمارات و مع الأهل و الأقارب في سوريا أثناء الإجازات 0
لكن ! شاء الله تعالى أن يختبر إيماننا ليعلم أنعبده في الشدة و الضرّاء كما نعبده في الرّخاء و السراّء ! أنثبت عند المحن كما ثبت الصحابة الكرام ! ؟ إذ يقول الله سبحانه و تعالى في سورة آل عمران :
( إن يمسسكم قرح فقد مسّ القوم قرح مثله و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين * و ليمحّص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين * أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة و لمّا يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصّابرين * ) 0
فالذي حصل أني قد بدأت أزداد إيماناً و التزاماً حين باشرت عملي في مدرستي ، فكل ما حولي كان يعزّز ذلك : الحجاب كان ضرورياً و له جزء من درجة التقرير، و المواد التدريسية لا بد من ربطها ببعضها و بالتربية الإسلامية ، و المحاضرات الدينية كانت تُقام في المدرسة عند بعض المناسبات الدينية كرمضان أو ليلة الإسراء و المعراج و غيرها ، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كانا مستمرّين ، بالإضافة إلى توزيع الكتب و الأشرطة الدينية على مدار السنة 0
ثم ازداد التزامي أكثر و أكثر بتعيين أمينة مكتبة جديدة في المدرسة ، و قد كانت سيدة إماراتية قمّة في الالتزام و التدين و النشاط الدعوي ، هذه الإنسانة كان لها التأثير على معظم المدرسات بشكل عام و عليّ بشكل خاص ! فقد أحبّتني كثيراً و أحببتها أكثر في الله ، ما كنت أترك فرصة إلا و أذهب إليها في المكتبة نجلس معاً نذكر الله و نستمع إلى بعض الأشرطة ، و حين لمست مني التعطّش لطلب العلم الشرعي راحت تمدّني بالكتب و الأشرطة الإسلامية ، و تأخذني لحضور المحاضرات الدينية 0 و طبعاً ما كانت تعرف شيئاً عن حياتي الخاصة فيما يتعلّق بالدين و المذهب ، و ما أخبرت بذلك أحداً 0
فما حدث أن زوجي بدأ يلاحظ التزامي ، فما عاد الأمر مجرد صلاة الفرائض الخمسة و صيام رمضان فحسب ، بل صار الأمر يتطور و يزداد يوماً بعد يوم ! صار هناك صلاة النوافل و قيام الليل و صيام التطوع ، و الصدقات و قراءة الكتب و سماع الأشرطة و حضور المحاضرات 000و غير ذلك من الأمور الأساسية و الفرعية في الدين التي بدأتُ أطبقها في حياتي و أدعوه إليها !
هذا الأمر أقلقه و روّعه كثيراً ، و صار يعترضني و يقول لي : " لا تتطرّفي ، إلى أين ستصلين ؟ "
لكني أكّدت له أني لست متطرّفة بل أنا فقط أطبّق دين الله تعالى ، و ذكرت له قوله تعالى في سورة البقرة : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا و يوم القيامة يُردّون إلى أشدّ العذاب و ما الله بغافل عما تعملون ) 0
و كنت أعطيه أشرطة متنوعة ليستمع إليها في السيارة في طريقه للعمل ، فكانت تؤثّر به هذه الأشرطة كثيراً و تثبته و ترفع معنوياته 0
و بدأنا ندعو الناس من المعارف من أهل الطائفة هناك حسب ما يتيسّر لنا، و كان منهم من يتقبّل منّا بطريقة أو بأخرى و منهم من يعترض ، و منهم من يقتنع لكنه يخاف من التغيير و ما يصحبه من أذى المجتمع من أهل الملّة 0
الجدير بالذكر ، أني حتى ذلك الحين كنت لا أزال غير محجبة ! أقصد أني كنت أتحجب في المدرسة أو حين أخرج بمفردي لبعض حاجاتي ، لكن حين كنت أرافق زوجي كنت أرتدي ثياباً و زيّاً مختلفاً تماماً ، فقد كان يمنعني من الحجاب و يعترض عليه بشدّة !
و في أحد الأيام ذهبت إلى المكتبة العامة في دبي ، و قد كنت أتردد إليها في أوقات فراغي بهدف المطالعة ، فكتبها كانت مختارة و منتقاة فيما يتماشى مع الشريعة ، أما الكتب الكفرية و الفسقية فما كان لها مكان هناك !
المهم ، قدّر الله تعالى ، و لحاجة معينة ، أن أتعرّف في المكتبة على امرأة شامية متزوجة في الإمارات ولا تتجاوز التاسعة عشر من عمرها و تدرس في كلية الشريعة ! من خلال الحديث معها أخبرتها بأن زوجي يمنعني من الحجاب ، فراحت تجمع لي الأدلة من الكتاب و السنة لتقنعني بوجوب الحجاب و أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق 0 كان كلامها مؤثراً و بليغاً إلى أقصى حد فعدت إلى المنزل و عزمت على مواجهة زوجي في موضوع الحجاب و فعلت ذلك ، فثار بالبداية و غضب و لكني حاولت إقناعه بشتى الطرق 0 و حين رأى إصراري وافق و لكن على مضض 0
تحجّبت و كنت سعيدة جداً بحجابي ، و هذا قادني إلى الامتناع عن مصافحة الرجال !
من ذلك الوقت بدأ الأذى لنا ممن حولنا ، فبدأت أتعرض إلى الهمز و اللمز و الامتعاض من المحيطين ، و لكني كنت قد تهيأت نفسياً لمثل هذا و حملت نفسي على الصبر و الثبات ، و كان لي في رسول الله صلى الله عليه و سلّم و الصحابة أسوة حسنة 0
جاء موعد الإجازة و السفر إلى سورية ، كان ينتابني شعور من القلق و الكآبة و أحس و كأن شيئاً ما سيحدث ، لكني كنت أستعيذ بالله من هذه الوساوس 0 ثم سافرنا ، و هناك بدأت المأساة ! فأول شيء حدث أن تفاجأ الجميع بحجابي و عدم مصافحتي للرجال من غير المحارم ، و عدم مصافحة زوجي للنساء من غير المحارم مما قادنا إلى مواقف في منتهى الإحراج ! ثم تفاجأوا بزوجي يصلي ! و تيقّنوا من إسلامنا ! فأعلنوا الحرب علينا !!
كنت ألمح الغضب و الامتقاع في وجه زوجي فأحاول تثبيته قائلة :
" و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " ، و لكن السخط بدأ يظهر عليه بشكل واضح !
ثم نزلت عند أهلي و ذهب هو لزيارة أقاربه 0
أما أهلي و أقاربي فقد بدأت النقاشات بيننا تعلو و تستعر ! و وقفوا جميعاً ضدي ! لكني تصبّرت بالله و قلت بنفسي : حسبي الله و نعم الوكيل 0 يكفيني من البشر زوجي ، فهو معي و يساندني و يقف بجانبي0
لكن زوجي الذي أثق به و أعلّق عليه آمالي كان قد نزل عند أقاربه و استلموه ! فما تركوا وسيلة لصدّه عن سبيل الله إلا اتبعوها ، بالوسوسة و السخرية و التخويف و التهديد و التعنيف 00 ثم بالمغريات و الزخرفات الدنيوية بشتى أنواعها من نزهات و أكل و شرب و موسيقا و رقص و نساء كاسيات عاريات !!
فانقلب الرجل على عقبيه و انتكس !! و لا حول و لا قوة إلا بالله !!
ليس ذلك فحسب ، بل راح يغتابني و يبهّتني و يهجوني و يفشي أسراري و يذكرني بالسوء أمام أهله و أهلي ، و يتهمني بالتطرّف و التعقيد ! و يشكوني إليهم و يضع كل الحق علي في هذا الأمر و يبرّء نفسه !
اسودت الدنيا في وجهي و ضاقت عليّ بما رحبت ، و شعرت بقمّة الأسى و الألم ، فبكيت بحرقة ، و دعوت الله في جوف الليل و تضرّعت ! ثم غفوت بعد ذلك و إذ بي أرى في المنام أني أقرأ القرآن ، و بينما أنا أقرأ وصلت إلى موضع سجدة فسجدت ، و في سجودي رحت أدعو و أذكر الله ، و إذ ، سبحان الله ، بملائكة كالنور ينزلون من السماء و يجتمعون حولي يريدون أن يأخذوني ، و شعرت بالغبطة و الانشراح العظيم و تابعت قراءة القرآن في منامي و في الحقيقة ! فسمعتني أختي أقرأ و أوقظتني من النوم !
هذه الرؤية ، و لله الحمد و المنّة ، ساهمت في تثبيتي إلى حدكبير !
انتهت الإجازة الحزينة المؤلمة و عدنا إلى الإمارات ثانية ، وكان لا يزال في نفسي شيء من الأمل في أن يعود زوجي إلى إيمانه السالف ، فحاولت أن أكلّمه فرفض أن يسمع مني كلمة واحدة ، و راح يوبّخني بكلمات جارحة !
حاولت أن أعطيه أشرطة معينة فرفضها و رماها جانباً ، ثم منعني من سماع الأشرطة أو قراءة الكتب أو الخروج للمحاضرات ، و طلب مني أن أقطع صلتي بصديقتي أمينة المكتبة ، و حذّرني من أن أصلي أكثر من الفرائض ، أو أن أصوم النوافل ، و طلب مني خلع الحجاب و ارتداء الثياب المغرية ! ثم تراجع قليلاً و سمح لي أن أتحجب و لكن بحجاب يُظهر نصف شعري مع ثياب أنيقة تظهر المفاتن !!
طبعاً أنا رفضت معظم ما قاله ، و سايرته في موضوع الاستزادة في طلب العلم و العبادة مؤقّتاً راجية أن يعود إلى صوابه ! لكنه عاد أسوأ مما كان عليه في بداية زواجنا ، و صار يعاملني معاملة سيئة حين اطمأن أن أهلي ضدي في موضوع الدين ، فقد كان يهاب منهم نوعاً ما و خاصة من والدي !
فكرت بما عساي أن أفعله ، فاتصلت بأحد أصدقائه المسلمين ، و أخبرته باختصار عن انتكاس زوجي ، و طلبت منه أن يقف بجانبه و يحاول إرجاعه إلى إيمانه السابق ، فتحمّس الأخ للموضوع و دعى زوجي إليه ثم كلّمه بأسلوب غير مباشر عن خطر الردّة عن الإسلام ، و ذكّره بالآخرة و بالعقاب و الثواب ! و بذلك استطاع التأثير عليه بعض الشيء !
عدت للدوام في المدرسة بعد فترة انقطاع ، و استقبلتني أمينة المكتبة بحفاوة ، ثم راحت تدعوني لحضور محاضرة في مكان ما ، فاعتذرت منها 00 ثم لاحظت التغيير و الكآبة عليّ و أصرّت أن تعرف ما بي و لماذا أرفض الذهاب للمحاضرات ! فشعرت أني بحاجة إلى صديقة تحمل عني أعبائي التي أثقلت كاهلي ، فدعوتها إلى زيارتي ، ثم كلّمتها عن كل تفاصيل حياتي و عن الأزمة التي أعيشها لكني لم أخبرها عن اسم الطائفة التي كنت أنتمي لها ، فبكت و تعاطفت معي كثيراً و وعدتني أنها لن تتخلى عني أبداً 0 و في اليوم التالي أحضرت لي كتاباً يتحدث عن الطوائف المنشقّة عن الإسلام و موقف الشرع منها ، فأخذته و قرأت ما كُتب فيه عن طائفتي السابقة ، فتفاجأتُ بأنهم يذكرونهم أحياناً بأشياء غير صحيحة ! ثم صُعقت حين قرأت عبارة : (و لن تُقبل توبتهم ) !!!
يا للهول !! لن تقبل توبتهم ؟! معقول ؟! هذا ظلم !! لماذا ؟! أبَعد هذا كله لن تقبل توبتي ؟!
بكيت و بكيت 00 ثم اتصلت بصديقتي و ذكرت لها ما قرأتُ و طلبتُ منها أن تقطع صلتها بي ! فقد كنت شبه محطّمة وقتها !!
كادت المسكينة أن تجنّ ! و بكت لبكائي ،ثم اتصلت بي بعد نصف ساعة ، و قالت لي : " أختاه ، لقد اتصلت للتوّ بمركز الدعوة و الإرشاد في دبي و التابع للمملكة العربية السعودية ، و أخبرتهم عنك ففرحوا كثيراً بإسلامك ، و بنفس الوقت غضبوا لما هو مكتوب في هذا الكتاب كثيراً ! و قالوا أنه غير صحيح ، فباب التوبة مفتوح لكل الناس ما لم تغرغر الروح أو تطلع الشمس من مغربها !! فأبشري أختاه !! و يقول لك الشيخ أن تكلّميه في مركز الدعوة لتسمعيه بنفسك "
فاتصلتُ بالشيخ و راح يؤاسيني و يرفع معنوياتي و يثبتني بكلماته ، و عرض عليّ أن يرسل لي مجموعة من الكتب إلى أي عنوان قريب 0 فشكرته كثيراً و قلت له أنه لا يوجد عندي عنوان بريد إلا عنوان زوجي ، و هذا مُحال ! لكني سأحاول أن أجد وسيلة لجلب الكتب إن تمكّن لي ذلك 0
بعد بضعة أيام اتصلت بي صديقتي أمينة المكتبة و أخبرتني أنها اتصلت بأحد الشيوخ الثقات فأخبرها بضرورة إشهار إسلامي !
فوافقتُ على ما قاله الشيخ ، و ذهبتُ برفقتها و دون علم زوجي إلى مركز الدعوة و الإرشاد ، و التقيتُ بالشيخ الذي كان قد كلّمني بموضوع الكتب سابقاً ، و هو نائب مدير المركز و سعودي الجنسية ، فأشهرت إسلامي بعد أن كلّمني عن بعض القضايا التي تخص الدين ، و أعطاني شهادة إشهار الإسلام و مجموعة كبيرة من الكتب و الأشرطة 0 و عدت إلى المنزل و كأني قد وُلدت من جديد ، اغتسلت بنية الإسلام و شعرت براحة نفسية عارمة 0
بعد بضعة أيام دعتني صديقتي أمينة المكتبة إلى زيارتها فذهبت بعد أن أخذت موافقة زوجي 0 و إذ بها تخبرني بأن الشيخ قد قال لها بضرورة إشهار زوجي لإسلامه بسبب تمسكه بلقب الطائفة و الانتماء لها برغم أدائه لفرائض الإسلام! و إلا فأنا لا أحلّ له !! ثم جعلتني أكلّمه بنفسي كي أسمع الجواب و رأي الشرع من ذلك 0
استصعب الأمر عليّ كثيراً ، و عدتُ إلى المنزل و الهمّ يملؤني ، كيف سأفاتحه بالموضوع ؟!
حاولت أن أتلطف إليه ، و حين شعرتُ بأن مزاجه رائق كلّمته بالموضوع ! فما إن سمع مني ذلك حتى ثار و غضب ، و صار يزبد و يرعد ، و هددني بإخبار والدي !!
عندها ، جمعتُ قواي و كلّمته بحزم و شدة ، و قلت له :
" اسمعني جيداً ، قد صبرتُ عليك كثيراً و احتملتُ منك الكثير ، ليس لضعفي أو لذلّي ، و لكني أطيع الله في الصبر عليك 00و إن لم تُشهر إسلامك ، فأنت لا تحل ّ لي "
قال : "ماذا تقصدين "
قلت " " الطلاق و هذا من حقي ! "
عندما سمع مني ذلك هدأ و سكن ، و وافق على إشهار إسلامه 0 فقد كان يحبني كثيراً برغم كل ما يفعله معي 0
أشهر إسلامه ، و لكن هذا لم يغير شيئاً في أخلاقه أو سلوكه أو معاملته بل حتى في إيمانه ! فقد كانت قناعته أن يؤدي الفرائض فحسب و لا يزيد عن ذلك قيد أنملة ، و كل شيء أكثر من ذلك في رأيه هو عبارة عن ( تطرّف ) 00 و بذلك لا يهمّه أن يجلس مع أقوام يشربون الخمر و يرقصون و يختلطون رجالاً و نساء دون أن ينكر عليهم ذلك 0
و كانت قناعته أن لو رزقنا الله بأولاد فليس لنا أن نربيهم على الإسلام بل نتركهم يختارون الطريق الذي يريدون !
كانت قناعته ألا يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر ، و يعارض موضوع الدعوة !
و كان يرفض موضوع سكننا في منطقة مسلمين في حال عدنا إلى سورية!
عندها شعرت بالخطر على ديني معه ، و خفت من الفتنة !
فقد كنت أصبر على طبعه و سوء أخلاقه و معاملته فقط لأنه صار مسلماً ! و لكن بعد أن لمست هذا الضعف في إيمانه و التذبذب في عقيدته ! انعدمت المحبة نحوه و تلاشت الثقة فيه و سقط من عيني تماماً !
و سقط من عين أهلي كذلك بعد أن عرفوا حقيقته في كثير من الأمور!
ففكرت ، و استخرت ، ثم طلبت الطلاق !
رفض بالبداية ، و حاول أن يُصلح ، لكن وعوده كلها كانت زائفة !
عاودت طلب الطلاق ثانية ، و ألححت عليه ، فوافق أخيراً 0
تمّ الطلاق وافترقنا بعد أربع سنوات من حياتنا الزوجية و لا أولاد بيننا و لله الحمد ، ثم انتقلتُ لأسكن في سكن المدرسات و ما بقي لي سوى الله سبحانه فهو نعم المولى و نعم النصير0
بدأتُ حياة جديدة و مختلفة ، فصحيح أني صرت لوحدي في البلد ، لكن هذه الوحدة هيأت لي جواً لطلب العلم دون أن يعترض طريقي أحد ! فقد تعرفت على أخت شامية في السكن مجازة في حفظ القرآن بسند إلى رسول الله صلى الله عليه و سلّم و على رواية حفص عن عاصم 0 فقصدتها و طلبت منها أن تعلمني التجويد فوافقت ، و أتقنت تجويد القرآن و بدأت بالحفظ تحت إشرافها ، و بنفس الوقت ، كنت قد اتصلت بشيخ مركز الدعوة و أخبرته بأخباري فأعطاني رقم تليفون إحدى الأخوات الفاضلات و هي إماراتية مجازة في الدراسات الإسلامية و داعية لها نشاطات دعوية معتبرة ، فاتصلت بها و صارت لي نعم الأخت المحبة و الصادقة ، و دعتني لحضور دروس في فقه العبادات لأحد الشيوخ الإماراتيين ، فاستجبت لها و بدأت أتعلم الفقه بأدق تفاصيله ، و كانت الأخت تمدّني بالكتب و الأشرطة عن طريق شيخ مركز الدعوة ، و تبلغني في حال وجود أي محاضرة لأحد الدعاة 0 و من هنا بدأت رحلتي في طلب العلم على أصوله بعد أن كنت أكتسبه من هنا و هناك و بشكل عشوائي ، و تولّى الشيوخ و الأخت الداعية أمر تعليمي و تربيتي تربية إسلامية على منهج أهل السنّة و الجماعة و أهل السلف 0
بعد شهور من وجودي في السكن ، اتصل بي زوجي السابق و أخبرني بأنه نادم كثيراً على كل ما فعله ، و أنه تاب و يحتاج إلى وجودي معه كثيراً ، و خاصة أننا تعرّفنا على الإسلام معاً 0 ثم طلب مني أن أرجع إليه !
فكرت بالموضوع و استخرت الله فلم ينشرح صدري لذلك ، بل شعرت بالصدود و النفور منه ، فلطالما وعدني و أخلف ، و عاهدني و غدر ، و خاصمني وفجر ! و تذكرت مواقفه السابقة و قلت : " لا يلدغ المؤمن من جحره مرتين " 0 كلا ! لن أعود إليه ! و أخبرته برفضي ثم قمت بتغيير رقم جوالي كي لا يعاود الاتصال بي ثانية !
و عندها تذكّرتُ الماضي عندما دعوتُ الله أن يرزقني بالزوج الصالح الذي يأخذ بيدي إلى الصراط المستقيم 0 و قلت في نفسي : ( سبحان الله الرزاق الكريم الوهاب ! لقد استجاب دعائي و رزقني بالزوج الذي أخذ بيدي إلى الصراط المستقيم ! لكنه ما كان زوجاً صالحاً !! سبحان الله )
ثم قلت : ( أستغفر الله العظيم 00 ، فقد يُصلح الله أحواله و يلهمه رشده ، من يدري ؟؟!! ) 0
ثم مرّت الأيام و سمعت من بعض المقرّبين بأنه تأزّم نفسياً و عانى كثيراً بعد انفصالنا ، و أنه قد عاد للتدين و الالتزام و يبحث بعناء عن زوجة متدينة 0 ثم سمعت بعد سنة أو أكثر بأنه قد تزوج من فتاة من بنات الطائفة و لكنها و أهلها كانوا قد أسلموا من سنين 0 فعلمت حينها أنه إنسان صالح ، و لكن صلاحه قد ثبت مع امرأة أخرى غيري و ليس معي ، فسبحان الله اللطيف الخبير !
واصلتُ طريقي في طلب العلم و العبادة و الدعوة ، فقد بدأت أدعو إلى الله بعد أن تعلّمت العلم الصحيح ، و بدأت أعلّم التجويد لبضعة بنات في السكن 0 و شاء الله تعالى أن أتعرف على إنسانة أردنية شاركتني غرفتي لمدة شهرين ثم غادرت السكن بعد مجيء زوجها لتسكن معه ، هذه الإنسانة كانت نادرة الوجود بصدقها و طيبة قلبها و التزامها 0 أخبرتها بقصتي فصارت لي أختاً و صديقة ، بل توأماً لروحي ، وكانت متزوجة من إمام مسجد و شيخ داعية لا يقل عنها أخلاقاً و تديناً ، فوجدت منهما النخوة و الشهامة و وقفوا بجانبي لأبعد الحدود حتى شعرت معهم و كأني بين أهلي 0 بالإضافة طبعاً لزميلاتي في المدرسة و السكن و مشائخي الكرام 0 هذا كله من رحمة الله تعالى بي ، (فمن ترك شيئاً لله عوضه الله بخير منه ) 0
و هكذا استمرّت حياتي ما بين الإمارات في أيام الدوام المدرسي ، و بين سورية في فترة الإجازات ، و كنت أحاول أن أئتلف قلوب أهلي و أقاربي و أدعوهم إلى الإسلام ، فكنت أمدّهم بالكتب و الأشرطة و يدور بيننا نقاشات كثيرة ، لكن النتائج لم تكن مرضية تماماً ، كنت أخاف عليهم و أشفق عليهم ، و يحترق قلبي لأن يستجيبوا و يسلموا ، و خاصة والدي المريض ، فقد حاولت دعوته بشتى الطرق ، لكنه كان متأثراً بكتب المذهب كثيراً ، و بعد سلسلة طويلة من الاجتهادات ، بدأ يغير شيئاً من عقيدته في توحيد الله بكل معنى الكلمة و في الإيمان بالرسل ، و قد سمعته يوماً يقول : " أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمداً رسول الله " و كان هذا إنجازاً رائعاً و خطوة معتبرة 0 سافرت إلى دبي و ما هي إلا أشهر حتى توفي ! رحمة الله عليه 0
بعد أن توفي والدي بدأت أمي تلحّ علي بان أترك الإمارات و أعود إلى سورية بشكل نهائي ، لكني رفضت خوفاً على ديني من الفتنة ! و كذلك لشعوري بالغربة القاتلة بينهم ! فسبحان الله ، بدأت أشعر أن رابطة الدين أقوى و أمتن بكثير من رابطة الدم 0 و الغربة هي غربة الروح لا غربة الجسد 0 و رفضت كذلك لأني أردتُ متابعة طريقي في طلب العلم فدروس الفقه ما كانت قد انتهت بعد 00 فلم أطعهم و سافرت0
لكن السؤال الذي كان يطرح نفسه دائماً هو :
إلى متى سأبقى في الإمارات ؟!
تلك البلاد الجميلة الرائعة التي عشقتُ هواءها و ترابها و شوارعها و مساجدها و مدارسها و مبانيها الشامخة و حدائقها الخضراء و بحرها و حضارتها ، و رقيّها !! تلك البلاد التي وُلدت فيها من جديد دينياً و عقائدياً و فكرياً و نفسياً !! كم سأبقى فيها ؟! فمهما طال بقائي لا بُدّ لي من الرحيل منها بمجرد انتهاء إقامتي و عملي !
فالتفكير بمصيري كان يؤرقني و يقلقني ! لكني كنت أتوكل على الله و أقول لنفسي : إن الذي هداني و أوصلني إلى هذه المرحلة لن يضيعني إن شاء الله تعالى 0 و حين كان الكرب يشتد علي ، كان الله جل جلاله يكرمني ببعض الرؤى الجميلة التي كانت تؤنسني و ترفع معنوياتي ، كرؤية النبي صلى الله عليه و سلّم ، و رؤية الأنبياء عليهم السلام ، و رؤية الكعبة 0000و غير ذلك 0
بعد مضي ثلاث سنوات على وجودي في السكن ، بدأت الضغوطات تأتيني من قبل الأهل يلحّون علي لتقديم إستقالتي من الإمارات و العودة إلى سورية ، فمن وجهة نظرهم ، كان بقائي لوحدي في بلاد الغربة غير منطقي ، و خاصة أني قد انفصلت عن زوجي ! و لست مضطرة إلى ذلك لأن أحوال الأهل المادية جيدة و الحمد لله ! و راحت أمي تتصل بي يومياً و تلحّ علي بالرجوع !
فكّرتُ بالموضوع و بدأتُ أستشير شيوخي بالأمر ، و كانوا على فريقين ، الأول و هم الأكثر عدداً ، حذّروني من الرجوع و قالوا بأن سكني بينهم قد يعرّضني للفتنة و التخلّي عن ثوابتي تدريجياً 0 و نصحوني بأن أتزوج إنساناً مسلماً ملتزماً و أهجرهم 0
أما الفريق الثاني فنصحوني بالعودة ، و السكن بينهم و محاولة دعوتهم و الأخذ بأيديهم لإنقاذهم من النار ، فهم أولى الناس بالدعوة ، و طلبوا مني أن أمثّل لهم الإسلام في أقوالي و أفعالي و أخلاقي عسى الله أن يشرح صدورهم و أكون سبباً في هدايتهم ، و ذكروني بالحديث : " لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " 0
تملّكتني الحيرة حقيقة فالأمر خطير ! إنه أكبر من أمور الدنيا بكل ما فيها ، بل هو يخص الحياة الأبدية في الآخرة !
فكرت بالرأي الأول ، فقلت ، إن الزواج عند هذه الملّة من غير أهل الطائفة هو جريمة عظيمة بالنسبة لهم ! وكانوا في السابق يقتلون من يفعل ذلكّ، أما حالياً فقد تغيّر معظمهم و صاروا يكتفون بهجر الفاعل و التبرؤ منه !
ثم سألت نفسي :
" هل يا ترى أقوى على هجر أهلي و عائلتي و ذويّ ؟! هل أحتمل البعد نهائياً عن الأطفال عيال أخواتي الذين أحبهم حباً جماً ؟!
هل أستطيع أن أحرم نفسي من دخول منزل أهلي و أخواتي إلى الأبد ؟!
ياله من أمر يدمي القلب !
لكني تذكرت قول الله تعالى في سورة التوبة : ( قل إن كان آباؤكم و إخوانكم و أزواجكم و عشيرتكم و أموال اقترفتموها و تجارة تخشون كسادها و مساكن ترضونها أحب إليكم من الله و رسوله و جهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره و الله لا يهدي القوم الفاسقين ) 0
فقلت إذاً أقتدي بالصحابة و الصحابيات الكرام و أفعل ذلك محتسبة أجري عند الله تعالى !
ففسحت المجال لنفسي لأن أتعرف على بعض من كانوا يتقدمون لخطبتي ضمن الضوابط الشرعية طبعاً ، فقد تقدّم لي العديد بعد انفصالي عن زوجي و معظمهم عن طريق صديقاتي اللاتي أحببنني كثيراً 0
لكن ما حدث أني ما وجدت المناسب منهم ! بل أني صُدمت من مواقف سلبية و تصرفات سيئة من البعض صدمة كبيرة ! و خاصة أنهم كانوا من المسلمين الملتزمين الذين من المفترض أن يكونوا قدوة لغيرهم و يمثّلوا الإسلام في سلوكهم !
حزنتُ و تأثرتُ كثيراً و أدركتُ أن عصر الصحابة و السلف الصالح قد ولّى !! و أن الرجل الذي أريده غير موجود ، فأنّى لي بإنسان يعيش لله و يكون الإسلام عنده هو أهم من أهله و ماله و ولده و نفسه ؟! أنّى لي برجل شجاع لا يخشى في الله لومة لائم ؟!
قد ألتقي به هناك 00 في الدار الآخرة إن شاء الله تعالى !
و تراجعتُ عن فكرة الزواج لأني صرت قلّما أثق بأحد ! و خاصة أن طريق الرجعة إلى أهلي سوف يكون قد أغلق ! فلو تطلّقت مثلاً أو ترمّلت ، فإني سوف أتشرّد !! هذا ، بالإضافة إلى أني جرّبت أن أختبر أهلي لأعرف ردة فعلهم فيما يخص زواجي ، و إذ بهم يقومون و لا يقعدون ! يصيحون و يبكون ! يهددون و يوعدون ! يتوسلون و يترجّون !!
كل هذه الأمور جعلتني أعزف عن هذا الرأي و أتحول إلى الرأي الآخر 0
و بدأت الاتصالات و المباحثات و المفاوضات مع الأهل و على رأسهم أمي0
فوضعت شروطاً متعددة قبل تقديم استقالتي فوافقوا عليها ، و راحت أمي تعدني و تمنّيني و تبدي استعدادها لفعل كل ما يجعلني مرتاحة نفسياً و لو أن تبني لي مسجداً !! فقلت لها أني لا أريد منها أن تبني لي مسجداً و لكني فقط أريد أن أستقلّ بغرفة خاصة مع حمّامها و شُرفتها، فوافقت 0 و راحت تؤكد لي أن الجميع يتقبّلون إسلامي و لن يزعجني منهم أحد قط0
فقدّمت استقالتي آنذاك ، و ودّعت الأخوات و الصديقات بدموع غزيرة، و جمعتُ أشيائي وحاجاتي ، ثم شحنتُ كتبي و أشرطتي و سافرت ! كان شعوري حينها كشعور المهاجر من ديار الوطن إلى ديار الغربة !
و حين وصلتُ ، وجدتُ كل ما حولي يثير الغضب و السخط ! و تفاجأت بأن كل ما سمعته من وعود و أماني و كلمات معسولة من الأهل كان عبارة عن كذب و زيف !!
طبعاً ، أخي و أخواتي كانوا محايدين نوعاً ما ، لكن أمي المتعصّبة و المتشرّبة بمذهبها بدأت تخلّ بعهودها !
فرفضت أن تعطيني غرفة مع أن المنزل كبير و واسع، و بدأت تعلن الحرب علي !
تألّمتُ كثيراً و تمنّيتُ لو أني متّ قبل أن أعود من الإمارات و كانت صدمتي فوق التصور !
بكيت و لجأت إلى الله تعالى بالدعاء فشعرت بقوة تدفعني و تحثّني أن أقاوم و لا أستسلم !
انتظرت حتى انتهى عرس أخي و استقرّ سكنه في الشقة التي فوق شقّتنا ، ثم سافرت كل واحدة من أخواتي إلى بيتها ، و توجهتُ إلى الغرفة المنشودة ، و أخرجتُ الأثاث منها و بدأتُ بتنظيفها ، و عندما أرادت امي أن تتدخّل ، كلّمتها بحزم و ذكّرتها بوعودها ، و حذّرتها بأنها لو اعترضتني فإنها سترى مني فعلاً لن يسرّها أبداً !
فسكتت و تركتني و شأني ، ثم بدأت أؤثث الغرفة على النحو الذي يناسبني ، فاشتريت تلفاز مع " دش " كي أتمكّن من رؤية المحطات الدينية و قنوات الإمارات لأني لا أريدها أن تغيب عن بالي لارتباطها بمخيّلتي بعصر الازدهار ! و اشتريت مكتبة جمعتُ فيها كتبي و أشرطتي ، و اشتريت كمبيوتر و موبايل كي أبقى على تواصل مع صديقاتي و مشائخي ، و فرشت الغرفة فرشاً عريياً أنيقاً كي أستقبل فيها صديقاتي المسلمات ، و وضعت باباً يفصل بين غرفتي و حمّامي و باقي البيت ، كي تتمكن صديقاتي من الوضوء براحتهن ، و أضفت إلى كل ذلك بعض الكماليات الأخرى ، فوضعت مظلّة على شرفة غرفتي كي تحجبني عن الجيران ، و ملأتُ الشرفة بالأزهار و النباتات ، كي أحس ببعض الشفافية و الروحانية حين أخرج لأتمشى و أقرأ أذكار الصباح و المساء 0و لم أنسى تعليق التقويم كي أتمكن من معرفة مواقيت الصلاة إذ أني لا أسمع الآذان! لأنه لا يوجد إلا مسجداً واحداً في أقصى المدينة ! فالغالبية العظمى من سكان منطقتنا هم من غير المسلمين !
و بذلك استطعت بفضل الله سبحانه و تعالى أن أجعل لنفسي واحة خضراء في قلب الصحراء 0
ثم انتقلت للخطوة الثانية ، إذ قمت بشراء شقة من الأموال التي جمعتها في دبي و أجّرتها ، و بذلك أمّنت لنفسي مورداً مالياً لا بأس به يغنيني عن حاجة الناس ، و عدت لمواصلة دراستي في الجامعة التي تركتها بعد زواجي و سفري 0 و كذلك بدأتُ بمحاولة العودة للعمل في سلك التدريس هنا 0 و شعرتُ بأن التدريس سوف يمكنني من أداء رسالة معينة في غرس الهدى و الحق في عقول الطالبات 0
أما الخطوة الثالثة و الأهم ، كانت في مبادرتي مباشرةً بالاتصال مع صديقاتي المسلمات اللاتي أعرفهنّ من أيام المعهد و الجامعة 0 فقد جمعتنا الدنيا في الماضي على أمورها و مشاغلها من دراسة و محاضرات و تدريس و غير ذلك ، و ما كنا نتطرق للحديث في الدين بسبب تعدد الطوائف ! أما في الحاضر فصارت الآخرة تجمعنا ، و حب الله و رسوله و الإسلام يضمّنا ! صرنا نجتمع بشكل دوري كل أسبوع عند واحدة نتدارس القرآن و التفسير و الفقه ، و قمت بنسخ مكتبتي لكل واحدة منهنّ لما فيها من صحّة و مصداقية و بُعد عن البدع و التحريف و التشويه 0و أمددتهن بما علّمني ربي من تجويد القرآن و علم على منهج أهل السنة و الجماعة ، و كنّ يتقبّلن ذلك برغبة ، و يجتهدن في العلم و التعليم ، و الصلاح و الإصلاح 0
و هكذا تفضّل الله علي سبحانه بتلك الصحبة الحسنة من أخوات فاضلات طيبات تجمع بيننا المحبة الخالصة في الله 0
طبعاً هذا المسار لم يكن ممهّداً مسهّلاً أمامي ، بل كان مملوءاً بالصعوبات و الأذى من مجتمعي وخاصة من أمي التي كانت تراقب سكناتي و حركاتي ، و لا تفتر عن توبّيخي و الصراخ في وجهي و رميي بألفاظ قاسية جارحة ! فكانت تعترضني في حجابي و الزيّ الذي ألبسه ، و تسخر مني حين تجدني أصلّي ، و تعنّفني حين تراني أجلس في غرفتي أتابع بعض البرامج الدينية ، و تشتعل غضباً عندما أذهب للقاء صديقاتي المسلمات ! في بعض الأحيان كانت تتبع أسلوباً آخراً في الضغط علي كي تردّني عن ديني ، فتراها تبكي و تتمارض و تقول بأنني أنا سبب مأساتها فإن ماتت فبسببي و بحسرتها علي !
حاولت أن أتصبّر بالله و أثبت ، لكني بصراحة لا أخفي أنني قد مررت بمرحلة عشت فيها بحرب نفسية و كآبة شديدة ! حننت فيها للإمارات و تحرّقت شوقاً للأيام الخالية ! فبغضّ النظر عن اصطدامي مع الأهل و المجتمع ، فقد كانت الفتن تحيط بي من كل جانب ، فالذين أعيش معهم هم أناس لا يصلّون ، لا يصومون ، لا يزكّون ! و أخواتي سافرات متبرجات و على آخر موضة ! بالإضافة إلى المسلسلات و الأفلام و الأغاني و المعازف و الاختلاط ! يعني باختصار ، مسارهم يختلف عن مساري تماماً ، فلا أنا أفهم لغتهم و لا هم يفهمون لغتي !
هذه الأمور اجتمعت علي و جعلتني أشعر لفترة من الفترات بأنني بدأت أفقد من خشوعي في الصلاة ، و أتراجع قليلاً عن شيء من عباداتي ، و أتخلّى عن بعض الأمور التي كنت أتورّع عنها في السابق ، و ضعف توكلي و يقيني قليلاً !
و بالنتيجة ، بدأت أستشعر عقوبة الله تعالى لي لانصرافي عنه و حَيدي عن الصراط الذي هداني إليه بعض الشيء ! فابتُليت بالنسيان ، إذ بدأت أنسى بعض آيات الله و بعض الأحاديث و الآثار 0 و كذلك استشعرت العقوبة في قلّة التوفيق في بعض الأمور ، و كذلك بتوالي المرض و قلة البركة في المال و الوقت !!
عندها جزعت كثيراً ، و أسرعت للدعاء و رددت :
" ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب "0
و طلبت من بعض الصالحين من المشائخ و الصديقات أن يدعوا لي ، ثم غيّرت برنامج نومتي و قومتي ! فصرت أسهر الليل كله حتى الصباح ، ثم أنام في الفترة الصباحية حتى الظهر ، و بذلك تمكّنت من تجنب الاختلاط بمن حولي و اكتفاء شرهم في معظم النهار ،و استطعت أن أهنأ بالفراغ و الهدوء و الوحدة في الليل كي أصلي التهجّد و أقرأ الكتب و أتابع البرامج و أحفظ القرآن و أراجع نفسي دون أن يعترضني أحد !
ثم شاء الله أن تذهب إحدى صديقاتي إلى الحج ، فأوصيتها بالدعاء لي هناك عند الكعبة ، و سبحان الله ، بدأت أموري تُفرج رويداً رويداً ، و بدأ الأهل و الأقارب و المعارف يتقبّلون إسلامي إلى حد ما و لا يزعجونني ، حتى أمي قد هدأت قليلاً و لكن ليس بالكلّية !
و بدأت من جديد أدعو الأهل و الأقارب و المعارف إلى الإسلام سواء عن طريق الكتاب و الشريط ، أو عن طريق الحوار و النقاش ، أو بالدعاء لهم 0 فلاحظت أن منهم من أعرض تماماً و رفض الفكرة ، و منهم من اقتنع بالإسلام و لكنه خاف من المجتمع ، و منهم من كان مذبذباً لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء ! أما الأطفال فكانوا يدخلون غرفتي و يصلّون معي فأفرح بهم ثم أجلسهم و أحكي لهم قصص الصالحين و أكلمهم عن الثواب و العقاب بما يتماشى مع عقولهم ، و عن الجنة و ما فيها ، فيتأثرون كثيراً و يشتاقون لدخول الجنة و يكونون في قمة الإيمان و الحماس 0 لكنهم حين يعودون إلى أهليهم و ينخرطون مع الضالين من الناس ، أجدهم قد نسوا كل ما قلته لهم ، و خاصة أن أهاليهم يحدثونهم بأشياء مغايرة لما أحدثهم به ، و خاصة أن أمي تتولّى موضوع إضلالهم و هدم كل ما بنيته ! لكن و مع كل ذلك أشعر و أن بذور الإسلام قد دخلت في قلوبهم و استقرت فيها و إن شاء الله تعالى ستثمر يوماً ما ، و كذلك أتفاءل بهداية قومي في المستقبل لما وجدته من بوادر خير كثيرة عندهم 0
هدى الله جميع هذه الطوائف و الملل و ردّهم إلى دينه و سنّة نبيه رداً جميلاً 00آمين
و هكذا استقرّت أموري نسبيّاً، و عدت بفضل الله تعالى إلى نشاطي السابق في العبادة و طلب العلم و الدعوة بشتى طرقها و اتجاهاتها0
و صار هدفي في هذه الحياة هو الثبات على الحق في الأيام الباقية من عمري ، و الاستزادة من العلم و العبادات و الطاعات ، و أن يجعلني الله تعالى مفتاح خير مغلاق شر و يستعملني في طاعته حتى ألقاه و هو راض ٍ عني سبحانه 0 و قد أوصيت أن أدفن لوحدي إذا توفّاني الله في إحدى البساتين و المزارع التي يملكها أهلي في الضيعة !
أسأل الله تعالى أن يحسن ختامنا و يتولى أمر ديننا و دنيانا و حياتنا و مماتنا فإنه وليّ ذلك و القادر عليه 0
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيد المرسلين ، سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين 0 سبحانك اللهم و بحمدك أشهد ألاّ إله إلا انت أستغفرك و أتوب إليك 0
* * *
* الزهراء *
تعليق