في حضن والدي عشت سعيدة... أحببت هذه الحياة ..
طفولتي مرحة .. أيامي كانت سعيدة .. لقيت منها الحب
والعطف والحنان .. فأنا ثمرة صبرهما وانتظارهما فترة طويلة ولم
يرزقها غيري .. أغدق علي والدي جم حبه .. حتى أحببته أكثر
من أمي .. كنت أنتظره بفارغ الصبر حتى يعود من عمله .. أقف
أمام الباب أحس الدفء والحبور بلقائه .. إن غاب حزنت وتألمت
لغيابه..
أبي كان إنسانًا كريمًا .. محافظًا على طاعة ربه .. لقد غرس في
نفسي حب الخير وحب الله ورسوله .. كان شديد الحرص على أن
أراه يفعل الخير .. وأسمع منه عبارات الشكر والثناء لله سبحانه
وتعالى .. كم شجعني على الأعمال الصالحة وأنا في سن مبكرة..
أراه كثير الصلاة.. كثير الصيام.. كثير الذكر له .. صوته عذب
شجي مؤثر في القرآن الكريم.. بل كان يبكي.. وحين أراه هكذا
ينتابني الخوف.. فأهرب إلى أمي مسرعة وجلة... أسألها وبكل
براءة: لم يبكي والدي؟ من الذي أغضبه؟ فتجيبني أمي بأن أباك
يخاف الله.. ويخاف عقابه وناره.. لذا فهو يبكي من خشية الله ..
ارتاحت بعدها نفسي.. واطمأن قلبي.. لم أنس دعوات والدي لي :
( اللهم فقهها في الدين وعلمها التأويل ). كان يسعده أن أكون
داعية إلى الله .. عالمة بأمور ديني .. حافظة كتاب الله.. ما أكثر
وعن الأنبياء ... القصص التي كان يحدثني بها عن الرسول
والصحابة...
سافر والدي ذات يوم.. وكان الفراغ قاسيًا وأقسى منه غياب
أب ... استأذنت أمي لأذهب لمكتبة التسجيلات التي بجوار منزلنا
لأشتري شريط قرآن لأنه أشار علي بحفظ سورة كريمة لها فضل
عظيم.. عدت إلى البيت مسرورة فقد حصلت على الشريط، إن ه
للشيخ عبد الله خياط.. بحماس شديد استمعت إلى الآيات ..
حاولت حفظها ومع التكرار وبمساعدة أمي الحبيبة .. حفظت
الآيات.. عاد والدي من السفر ومعه نفائس الكتب والجديد من
الأشرطة والقيم من الهدايا... لم أمهله حتى يستريح من السفر ..
زففت إليه بشرى حفظي لتلك السورة .. إنها سورة الملك.. طلب
مني أن أتلوها عليه .. قرأتها عليه .. رأيته خاشعًا منصتًا.. وعندما
ُ كلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سََأَلهُمْ خَزَنَتُهَا َأَلمْ : وصلت عند قوله تعالى
سقطت دمعات من مقلتيه. يَْأتِ ُ كمْ نَذِيرٌ
حاول إخفاءها ولم يستطع .. تأثرت ببكائه فبكيت .. آه ما
أروعها من أيام .. ولحظات لا تنسى؛ لقد علمني والدي الكثير
والكثير من الأخلاق والآداب الإسلامية .. علمني كيف أعمل
بإحسان، وكيف أن الله يراقبني ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء
بإساءته بل ويعفو ويصفح .. كان دائمًا يقول لي أن الدنيا فانية ..
وأن زينتها وبهجتها زائلة .. نشأت في بيت يشع بنور الإيمان أسرة
محافظة شعارها الكتاب والسنة.. سارت الأيام عجلى.. دخلت
المدرسة.. أخذت انهل من معين العلم الصافي.. أحبني الجميع ...
معلماتي.. زميلاتي.. أقاربي.. سلسلة من النجاح والتفوق.. وحًقا
الدنيا لا تصفو لأحد.. إنها دار الابتلاء والمحن والمنغصات..
ذات يوم .. وكان يوم الجمعة يومًا مشهودًا.. كان والدي إمام
المصلين وخطيبهم.. انتهى من خطبته وشرع في الصلاة.. سجد
سجدة وكانت الأخيرة لم يقم بعدها.. اهتزت أركان المسجد حزنًا
على من أحب الله ورسوله.. بكت من كان داعية إلى الله بلسانه
وقلمه ونفسه.. فجع المصلون بوفاة هذا الرجل الصالح الذي لا
أزكيه على الله والله حسيبه..
كانت الصدمة قوية عليَّ وعلى والدتي .. لقد رحل الحبيب..
فارق هذه الحياة .. رحمه الله وغفر له.. تذكرت في تلك
اللحظات حَثَّه لي على الصبر والاحتساب.. حضر الكثير لتعزيتنا في
الفقيد الغالي.. تقبل خالي العزاء من الرجال؛ أما أنا فتقبلت العزاء
من النساء.
وعندما رأيت كثرة النساء وتجمُّعَهن تذكرت والدي وهو
يخطب بالناس ويدعوهم إلى الله.. تذكرته وهو واقف على المنبر..
كان كلامه مؤثرًا ينفذ إلى القلوب فيؤثر فيها .. استجمعت قواي
واستعنت بالله.. وتحدثت أمامهن عن نهاية كل إنسان وعن موته
وحياته .. عن نعيم الجنة وعذاب النار.. بعدها أخذت أتلو آيات
من القرآن حتى بكين تأثرًا .. هذه أول مرة ألقي فيها كلمة أمام
مثل هذا الجمع.. عاد بعدها المعزون إلى بيوتهم وبقيت أنا وأمي
وخالي.. معنا عدة شهور.. وذات يوم مررت من الغرفة التي يوجد
بها أمي وخالي.. سمعت ودون قصد.. الحوار الذي دار بينهما.
فكري يا أختي.. فما زلت في عز شبابك... وقد ترزقين منه
الذرية الصالحة... ومن الصعب أن تمكثي أنت وابنتك هنا
بمفردكما .. وهو رجل صالح فيه خير كثير..
يا أخي عش معنا... لا أريد زوجًا... لا أريد بيتًا غير هذا لن
يخرجك أحد من بيتك.. فعندما تتزوجين سيسكن معك أنت
وابنتك هنا في هذا البيت.
لحظتها بكت أمي بحرقة.. تذكرت الماضي السعيد والحاضر
المجهول .. إنها ترفض هذه الفكرة من أساسها فجرحها في فقدان
أبي مازال طريًا ينزف.
أخذ خالي يلح عليها وأمي ترفض؛ مما أدى إلى غضبه فتركنا
وسافر... مرت الأيام وكأنها سنين.. خيم علينا شبح الخوف
والحزن والوحدة..
ذات يوم وأنا عائدة من المدرسة.. إذ بأشخاص عند أمي.. إنهم
أخوالي .. جاؤوا ليضغطوا على أمي ويرغموها على الزواج ..
وفع ً لا حدث كل ما توقعته.. وافقت مرغمة لكنها استمهلتهم كي
تستعد.. كنت أبكي بحرقة أصبر نفسي وأواسيها.. أتجرع الغصص
والآلام ولا أظهر لها ذلك.. لا أريد أن أحزنها.. ولا أريد أن أكون
أنانية..
أتساءل: من هذا الذي سيحل مكان والدي الحبيب؟..
بعد لقاء أمي بأهلها ولشدة ما عانت من هم مرضت ..
استدعيت لها الطبيبة.. أشارت عليَّ أن أهتم بها وبغذائها وأن تأخذ
الدواء في مواعيده.. وطلبت مني أمرًا غريبًا .. فهي تعرف حالنا
وظروفنا التي نمر بها.. طلبت مني أن تبتعد أمي عن غرفتها فإن
رفضت فيلزمني أن أغير ما بها أو أن تغير الغرفة.. وافقت الوالدة
على أن تنتقل إلى غرفتي وحملت لها ما تحتاج إليه.. وفي زاوية من
غرفتها وجدت شري ً طا قديمًا لا أعلم ما به وما يحويه.. ولكن شكله
قديم أثار فضولي.. قمت بتشغيله.. لقد فوجئت بما يحتويه
الشريط.. إنه عبارة عن نصائح وكلمات من والدي..
يقولها لزهرة حياته وفلذة كبده وشمس يومه وربيع عمره ابنته..
إنه يوصيني.. كان عمري آنذاك سبع سنوات حسبما فهمت من
والدي.. وبعد نقاش تلا آيات من الذكر الحكيم ثم أنشودة للصغار
أنشدتُها لأمي ولأبي الذي (أحبه وأشتاق إليه وأسأل الله أن يجمعني
به في مستقر رحمته) .. لست أدري ما الذي جعلني أرفع صوت
والدي وهو يتلو آيات الله.. أخذت أجهش بالبكاء وأنا أستمع
إليه.. إنه صوت الحق يعلو.. يملأ أرجاء المنزل.. كانت أمي تسترق
السمع.. لقد نهضت من سريرها وهي متعبة.. مرهقة.. وصلت إليَّ
وهي باكية.. صرخت .. ابنتي! لن أتزوج غير أبيك.. نعم لن
أتزوج غيره.. مهما كانت النتيجة..
دخلت الجامعة.. كلية الشريعة.. نجحت وبتفوق بفضل من
الله.. دائمًا كنت أتذكر دعاء أبي لي: (اللهم فقهها في الدين).
عاد أخوالي مرة أخرى إلينا ليُرْ ِ جعوا لها الموضوع الأول :
تزوجي؛ الرجل صالح.. وهو يريدك.. لن تجدي أفضل منه ..
تزوجي فالناس يتكلمون.. ابنتك سوف تتركك وحيدة بعد أن
تتزوج.. ألقوا إليها بآخر وسيلة لديهم.. سنغضب عليك ونقاطعك
إذا لم توافقي عليه.. أخيرًا أذعنت أمي لكلام إخوانها..
وأخيرًا جاء الزوج الذي كان يلبس ثوب الصلاح والكرم
والجود وهو على خلاف ذلك.. حقيقة أقولها .. لا أدري كيف
خدع به الجميع؟.. كيف يكون هذا الإنسان بدي ً لا عن والدي؟..
كيف سيحل محله؟.. لقد شربت أنا وأمي من إناء واحد حلو
المذاق.. إنه حب وشهامة ووفاء والدي.. وها نحن ذا نتجرع كأس
البؤس.. كأس يبتلي عباده.. فإما صبر وشكر وإما جحود
وتراض.. ونحن والحمد لله رضينا بقضاء الله وقدره.
زوج والدتي كان قاسيًا في أوامره.. جارحًا في كلامه.. مؤذيًا
في أعماله.. عصبيًا في تصرفاته.. يسمع الأغاني.. يخرج للسفر إلى
الخارج.. لقد طغى وتكبر..
إننا نتأمل الخير والفرج مع إشراقة شمس كل يوم.. ندعو الله أن
يصلح باله وينير بصيرته للحق.. ويهدي قلبه..
أمي حائرة لا تدري ماذا تفعل.. أصبرها وأصبر نفسي ..
أذكرها بأن الدنيا فانية.. وأنا راحلون عنها.. وفي ليلة لا تنسى ..
سهر زوج أمي أمام ما يسمي بالدش.. ذلك الفساد والدمار ( بعد
أن أدخله بيتنا) .. رافعًا صوته.. ذلك الصوت الصاخب المزعج..
بمناظر مخزية فاضحة.. حاولت أن أسد أذني.. لم أستطع.. أخذت
أستمع لصوت ذلك القارئ الشيخ عبد الله خياط أسترجع تلك
الأيام الرائعة في ظل والدي يرحمه الله.. يوم اشتريت هذا الشريط
لأحفظ سورة الملك كما أشار علي أبي الحبيب.. رفعت الصوت..
حتى لا أسمع غيره.. قلت في نفسي لعل الله يهديه.. عندما سمع
القرآن.. غضب.. ثار.. أقام الدنيا لهول المصيبة التي ارتكبتها.. كل
ذلك لأنه سمع القرآن؛ لقد تحجر قلبه.. توجه مسرعًا إلى غرفتي ..
فتح الباب ودون استئذان.. متهجمًا ليصفعني.. لم أبك.. لكنني
تألمت.. خفضت صوت القرآن.. ذلك الصوت الذي كان يتردد
صداه في منزلنا.. هتف هاتف أن توضئي.. وصلي لله ركعتين.. أما
هو خرج من غرفتي ليكمل مشاهدته فرحًا مغتب ً طا بما قام به ..
وكأنه حقق انتصارًا عظيمًا.. لكن ما أغاظه وكدر صفوه هو أنه
عندما رآني أخرج للوضوء ويعني ذلك أنني سأصلي.. استغرب! ..
سأل نفسه لِمَ لم تبك؟.. لِمَ لم تحس؟.. لِمَ لم تتألم؟ .. من أين لها
هذا الصبر؟.. ما هذه القوة التي تحملها فتاة في مثل سنها؟.. لِمَ هي
أفضل مني؟ .. ترى أهذا من والدتها أم أنه من والدها؟.. ولكن
حدث غريب حصل في تلك الليلة؛ وهو أن زوج أمي قام بإغلاق
ذلك الفساد .. وذهب إلى فراشة مبكرًا على غير عادته.
مثل هذه الأحداث لم تؤثر على تحصيلي الدراسي.. فقد نجحت
وبتفوق ولله الحمد.. لم يفرح لي أحد من أقاربي سوى أمي الحنون
التي تعيش لإسعادي وطلب رضاي.. أما زوج أمي فقد زاد عتوه
وجبروته... يدخل المنزل بصراخ.. ويخرج بسب وشتم .. أصبحت
الحياة معه لا تطاق .. احتارت أمي معه.. تسأل الله إما هدايته أو
فراقه..
ويقدر الله .. والقدر سر الله في خلقه .. أن يصيبه مرض يلزمه
الفراش.. فلا يستطيع الكلام ولا الحراك .. تكثر
المكالمات..والاتصالات.. لكن لا جواب.. رجل عليل مريض
بحاجة إلى صديق يواسيه.. أخ يسانده يقف بجانبه .. يحتاج إلى
عطف.. حنان.. زملاء السهر تخلوا عنه؛ فهم لا يعرفون سوى
المادة.. لم يزره أحد منهم.. جاء دوري.. وقفت معه في شدته ..
أخذت أخفف عنه ألمه وأمسح عنه دمعاته.. أعطيته الدواء في
مواعيده.. لقد علمني والدي أن أدفع السيئة بالحسنة.. نسيت كل
معاملته لي.. الوقت ليس لتصفية الحسابات.. ما مضى انقضى.. أنا
أريد أن أكسبه.. فهذا مجال دعوة واحتساب أجر.. كان يرمقني
بعينه ولا يستطيع تفسير سر اهتمامي به.. مرت الأيام.. كنت أعود
من الجامعة.. أتوجه إليه مباشرة.. أسأل أمي عن أحواله.. أحيانًا
كنت أراجع دروسي عنده.. الوالدة كانت متعبة؛ فهي تلازمه فترة
غيابي وطوال الليل.. وذات يوم وأنا عنده.. إذ به يناديني باسمي ..
مد يده إلي.. فرحت عندما سمعت صوته .. استدعيت أمي ..
وأسرعت إليه.. أمسكت بيده.. ذرفت الدموع من عينيه.. وجَّه
الكلام لي : سامحيني يا ابنتي.. اصفحي عن كل ما بدر مني ..
لقد قسوت عليك كثيرًا.. يجهش بالبكاء.. أرجوك يا ابنتي
سامحيني.. لقد كنت أفضل مني.
يا رب سامحني.. يا رب تب علي.. على تقصيري في حقك..
اللهم إني أعلنها توبة صادقة إليك.. أصابتني الدهشة والفرح وأنا
أسمع كلامه.. لحظتها سجدت لله شكرًا.
قلت له: لقد عفوت عنك.. وأسأل الله أن يغفر لك ويتقبل
توبتك. تحسنت أحواله.. ومع مرور الأيام.. أشياء كثيرة تغيرت في
حياتنا بعد أن تماثل زوج أمي للشفاء.. لقد عاد منزلنا كما كان
في عهد والدي يرحمه الله .. بين يشع بنور الإيمان .. ويرتل في
أرجائه آيات القرآن.. ولله الفضل أو ً لا وأخيرًا.
نقلتها من كتاب اسمه ( قصص من الحياة) واتمنا ان تعجبكم
والسلام عليكم ورحمة الله..منقول
طفولتي مرحة .. أيامي كانت سعيدة .. لقيت منها الحب
والعطف والحنان .. فأنا ثمرة صبرهما وانتظارهما فترة طويلة ولم
يرزقها غيري .. أغدق علي والدي جم حبه .. حتى أحببته أكثر
من أمي .. كنت أنتظره بفارغ الصبر حتى يعود من عمله .. أقف
أمام الباب أحس الدفء والحبور بلقائه .. إن غاب حزنت وتألمت
لغيابه..
أبي كان إنسانًا كريمًا .. محافظًا على طاعة ربه .. لقد غرس في
نفسي حب الخير وحب الله ورسوله .. كان شديد الحرص على أن
أراه يفعل الخير .. وأسمع منه عبارات الشكر والثناء لله سبحانه
وتعالى .. كم شجعني على الأعمال الصالحة وأنا في سن مبكرة..
أراه كثير الصلاة.. كثير الصيام.. كثير الذكر له .. صوته عذب
شجي مؤثر في القرآن الكريم.. بل كان يبكي.. وحين أراه هكذا
ينتابني الخوف.. فأهرب إلى أمي مسرعة وجلة... أسألها وبكل
براءة: لم يبكي والدي؟ من الذي أغضبه؟ فتجيبني أمي بأن أباك
يخاف الله.. ويخاف عقابه وناره.. لذا فهو يبكي من خشية الله ..
ارتاحت بعدها نفسي.. واطمأن قلبي.. لم أنس دعوات والدي لي :
( اللهم فقهها في الدين وعلمها التأويل ). كان يسعده أن أكون
داعية إلى الله .. عالمة بأمور ديني .. حافظة كتاب الله.. ما أكثر
وعن الأنبياء ... القصص التي كان يحدثني بها عن الرسول
والصحابة...
سافر والدي ذات يوم.. وكان الفراغ قاسيًا وأقسى منه غياب
أب ... استأذنت أمي لأذهب لمكتبة التسجيلات التي بجوار منزلنا
لأشتري شريط قرآن لأنه أشار علي بحفظ سورة كريمة لها فضل
عظيم.. عدت إلى البيت مسرورة فقد حصلت على الشريط، إن ه
للشيخ عبد الله خياط.. بحماس شديد استمعت إلى الآيات ..
حاولت حفظها ومع التكرار وبمساعدة أمي الحبيبة .. حفظت
الآيات.. عاد والدي من السفر ومعه نفائس الكتب والجديد من
الأشرطة والقيم من الهدايا... لم أمهله حتى يستريح من السفر ..
زففت إليه بشرى حفظي لتلك السورة .. إنها سورة الملك.. طلب
مني أن أتلوها عليه .. قرأتها عليه .. رأيته خاشعًا منصتًا.. وعندما
ُ كلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سََأَلهُمْ خَزَنَتُهَا َأَلمْ : وصلت عند قوله تعالى
سقطت دمعات من مقلتيه. يَْأتِ ُ كمْ نَذِيرٌ
حاول إخفاءها ولم يستطع .. تأثرت ببكائه فبكيت .. آه ما
أروعها من أيام .. ولحظات لا تنسى؛ لقد علمني والدي الكثير
والكثير من الأخلاق والآداب الإسلامية .. علمني كيف أعمل
بإحسان، وكيف أن الله يراقبني ويجازي المحسن بإحسانه والمسيء
بإساءته بل ويعفو ويصفح .. كان دائمًا يقول لي أن الدنيا فانية ..
وأن زينتها وبهجتها زائلة .. نشأت في بيت يشع بنور الإيمان أسرة
محافظة شعارها الكتاب والسنة.. سارت الأيام عجلى.. دخلت
المدرسة.. أخذت انهل من معين العلم الصافي.. أحبني الجميع ...
معلماتي.. زميلاتي.. أقاربي.. سلسلة من النجاح والتفوق.. وحًقا
الدنيا لا تصفو لأحد.. إنها دار الابتلاء والمحن والمنغصات..
ذات يوم .. وكان يوم الجمعة يومًا مشهودًا.. كان والدي إمام
المصلين وخطيبهم.. انتهى من خطبته وشرع في الصلاة.. سجد
سجدة وكانت الأخيرة لم يقم بعدها.. اهتزت أركان المسجد حزنًا
على من أحب الله ورسوله.. بكت من كان داعية إلى الله بلسانه
وقلمه ونفسه.. فجع المصلون بوفاة هذا الرجل الصالح الذي لا
أزكيه على الله والله حسيبه..
كانت الصدمة قوية عليَّ وعلى والدتي .. لقد رحل الحبيب..
فارق هذه الحياة .. رحمه الله وغفر له.. تذكرت في تلك
اللحظات حَثَّه لي على الصبر والاحتساب.. حضر الكثير لتعزيتنا في
الفقيد الغالي.. تقبل خالي العزاء من الرجال؛ أما أنا فتقبلت العزاء
من النساء.
وعندما رأيت كثرة النساء وتجمُّعَهن تذكرت والدي وهو
يخطب بالناس ويدعوهم إلى الله.. تذكرته وهو واقف على المنبر..
كان كلامه مؤثرًا ينفذ إلى القلوب فيؤثر فيها .. استجمعت قواي
واستعنت بالله.. وتحدثت أمامهن عن نهاية كل إنسان وعن موته
وحياته .. عن نعيم الجنة وعذاب النار.. بعدها أخذت أتلو آيات
من القرآن حتى بكين تأثرًا .. هذه أول مرة ألقي فيها كلمة أمام
مثل هذا الجمع.. عاد بعدها المعزون إلى بيوتهم وبقيت أنا وأمي
وخالي.. معنا عدة شهور.. وذات يوم مررت من الغرفة التي يوجد
بها أمي وخالي.. سمعت ودون قصد.. الحوار الذي دار بينهما.
فكري يا أختي.. فما زلت في عز شبابك... وقد ترزقين منه
الذرية الصالحة... ومن الصعب أن تمكثي أنت وابنتك هنا
بمفردكما .. وهو رجل صالح فيه خير كثير..
يا أخي عش معنا... لا أريد زوجًا... لا أريد بيتًا غير هذا لن
يخرجك أحد من بيتك.. فعندما تتزوجين سيسكن معك أنت
وابنتك هنا في هذا البيت.
لحظتها بكت أمي بحرقة.. تذكرت الماضي السعيد والحاضر
المجهول .. إنها ترفض هذه الفكرة من أساسها فجرحها في فقدان
أبي مازال طريًا ينزف.
أخذ خالي يلح عليها وأمي ترفض؛ مما أدى إلى غضبه فتركنا
وسافر... مرت الأيام وكأنها سنين.. خيم علينا شبح الخوف
والحزن والوحدة..
ذات يوم وأنا عائدة من المدرسة.. إذ بأشخاص عند أمي.. إنهم
أخوالي .. جاؤوا ليضغطوا على أمي ويرغموها على الزواج ..
وفع ً لا حدث كل ما توقعته.. وافقت مرغمة لكنها استمهلتهم كي
تستعد.. كنت أبكي بحرقة أصبر نفسي وأواسيها.. أتجرع الغصص
والآلام ولا أظهر لها ذلك.. لا أريد أن أحزنها.. ولا أريد أن أكون
أنانية..
أتساءل: من هذا الذي سيحل مكان والدي الحبيب؟..
بعد لقاء أمي بأهلها ولشدة ما عانت من هم مرضت ..
استدعيت لها الطبيبة.. أشارت عليَّ أن أهتم بها وبغذائها وأن تأخذ
الدواء في مواعيده.. وطلبت مني أمرًا غريبًا .. فهي تعرف حالنا
وظروفنا التي نمر بها.. طلبت مني أن تبتعد أمي عن غرفتها فإن
رفضت فيلزمني أن أغير ما بها أو أن تغير الغرفة.. وافقت الوالدة
على أن تنتقل إلى غرفتي وحملت لها ما تحتاج إليه.. وفي زاوية من
غرفتها وجدت شري ً طا قديمًا لا أعلم ما به وما يحويه.. ولكن شكله
قديم أثار فضولي.. قمت بتشغيله.. لقد فوجئت بما يحتويه
الشريط.. إنه عبارة عن نصائح وكلمات من والدي..
يقولها لزهرة حياته وفلذة كبده وشمس يومه وربيع عمره ابنته..
إنه يوصيني.. كان عمري آنذاك سبع سنوات حسبما فهمت من
والدي.. وبعد نقاش تلا آيات من الذكر الحكيم ثم أنشودة للصغار
أنشدتُها لأمي ولأبي الذي (أحبه وأشتاق إليه وأسأل الله أن يجمعني
به في مستقر رحمته) .. لست أدري ما الذي جعلني أرفع صوت
والدي وهو يتلو آيات الله.. أخذت أجهش بالبكاء وأنا أستمع
إليه.. إنه صوت الحق يعلو.. يملأ أرجاء المنزل.. كانت أمي تسترق
السمع.. لقد نهضت من سريرها وهي متعبة.. مرهقة.. وصلت إليَّ
وهي باكية.. صرخت .. ابنتي! لن أتزوج غير أبيك.. نعم لن
أتزوج غيره.. مهما كانت النتيجة..
دخلت الجامعة.. كلية الشريعة.. نجحت وبتفوق بفضل من
الله.. دائمًا كنت أتذكر دعاء أبي لي: (اللهم فقهها في الدين).
عاد أخوالي مرة أخرى إلينا ليُرْ ِ جعوا لها الموضوع الأول :
تزوجي؛ الرجل صالح.. وهو يريدك.. لن تجدي أفضل منه ..
تزوجي فالناس يتكلمون.. ابنتك سوف تتركك وحيدة بعد أن
تتزوج.. ألقوا إليها بآخر وسيلة لديهم.. سنغضب عليك ونقاطعك
إذا لم توافقي عليه.. أخيرًا أذعنت أمي لكلام إخوانها..
وأخيرًا جاء الزوج الذي كان يلبس ثوب الصلاح والكرم
والجود وهو على خلاف ذلك.. حقيقة أقولها .. لا أدري كيف
خدع به الجميع؟.. كيف يكون هذا الإنسان بدي ً لا عن والدي؟..
كيف سيحل محله؟.. لقد شربت أنا وأمي من إناء واحد حلو
المذاق.. إنه حب وشهامة ووفاء والدي.. وها نحن ذا نتجرع كأس
البؤس.. كأس يبتلي عباده.. فإما صبر وشكر وإما جحود
وتراض.. ونحن والحمد لله رضينا بقضاء الله وقدره.
زوج والدتي كان قاسيًا في أوامره.. جارحًا في كلامه.. مؤذيًا
في أعماله.. عصبيًا في تصرفاته.. يسمع الأغاني.. يخرج للسفر إلى
الخارج.. لقد طغى وتكبر..
إننا نتأمل الخير والفرج مع إشراقة شمس كل يوم.. ندعو الله أن
يصلح باله وينير بصيرته للحق.. ويهدي قلبه..
أمي حائرة لا تدري ماذا تفعل.. أصبرها وأصبر نفسي ..
أذكرها بأن الدنيا فانية.. وأنا راحلون عنها.. وفي ليلة لا تنسى ..
سهر زوج أمي أمام ما يسمي بالدش.. ذلك الفساد والدمار ( بعد
أن أدخله بيتنا) .. رافعًا صوته.. ذلك الصوت الصاخب المزعج..
بمناظر مخزية فاضحة.. حاولت أن أسد أذني.. لم أستطع.. أخذت
أستمع لصوت ذلك القارئ الشيخ عبد الله خياط أسترجع تلك
الأيام الرائعة في ظل والدي يرحمه الله.. يوم اشتريت هذا الشريط
لأحفظ سورة الملك كما أشار علي أبي الحبيب.. رفعت الصوت..
حتى لا أسمع غيره.. قلت في نفسي لعل الله يهديه.. عندما سمع
القرآن.. غضب.. ثار.. أقام الدنيا لهول المصيبة التي ارتكبتها.. كل
ذلك لأنه سمع القرآن؛ لقد تحجر قلبه.. توجه مسرعًا إلى غرفتي ..
فتح الباب ودون استئذان.. متهجمًا ليصفعني.. لم أبك.. لكنني
تألمت.. خفضت صوت القرآن.. ذلك الصوت الذي كان يتردد
صداه في منزلنا.. هتف هاتف أن توضئي.. وصلي لله ركعتين.. أما
هو خرج من غرفتي ليكمل مشاهدته فرحًا مغتب ً طا بما قام به ..
وكأنه حقق انتصارًا عظيمًا.. لكن ما أغاظه وكدر صفوه هو أنه
عندما رآني أخرج للوضوء ويعني ذلك أنني سأصلي.. استغرب! ..
سأل نفسه لِمَ لم تبك؟.. لِمَ لم تحس؟.. لِمَ لم تتألم؟ .. من أين لها
هذا الصبر؟.. ما هذه القوة التي تحملها فتاة في مثل سنها؟.. لِمَ هي
أفضل مني؟ .. ترى أهذا من والدتها أم أنه من والدها؟.. ولكن
حدث غريب حصل في تلك الليلة؛ وهو أن زوج أمي قام بإغلاق
ذلك الفساد .. وذهب إلى فراشة مبكرًا على غير عادته.
مثل هذه الأحداث لم تؤثر على تحصيلي الدراسي.. فقد نجحت
وبتفوق ولله الحمد.. لم يفرح لي أحد من أقاربي سوى أمي الحنون
التي تعيش لإسعادي وطلب رضاي.. أما زوج أمي فقد زاد عتوه
وجبروته... يدخل المنزل بصراخ.. ويخرج بسب وشتم .. أصبحت
الحياة معه لا تطاق .. احتارت أمي معه.. تسأل الله إما هدايته أو
فراقه..
ويقدر الله .. والقدر سر الله في خلقه .. أن يصيبه مرض يلزمه
الفراش.. فلا يستطيع الكلام ولا الحراك .. تكثر
المكالمات..والاتصالات.. لكن لا جواب.. رجل عليل مريض
بحاجة إلى صديق يواسيه.. أخ يسانده يقف بجانبه .. يحتاج إلى
عطف.. حنان.. زملاء السهر تخلوا عنه؛ فهم لا يعرفون سوى
المادة.. لم يزره أحد منهم.. جاء دوري.. وقفت معه في شدته ..
أخذت أخفف عنه ألمه وأمسح عنه دمعاته.. أعطيته الدواء في
مواعيده.. لقد علمني والدي أن أدفع السيئة بالحسنة.. نسيت كل
معاملته لي.. الوقت ليس لتصفية الحسابات.. ما مضى انقضى.. أنا
أريد أن أكسبه.. فهذا مجال دعوة واحتساب أجر.. كان يرمقني
بعينه ولا يستطيع تفسير سر اهتمامي به.. مرت الأيام.. كنت أعود
من الجامعة.. أتوجه إليه مباشرة.. أسأل أمي عن أحواله.. أحيانًا
كنت أراجع دروسي عنده.. الوالدة كانت متعبة؛ فهي تلازمه فترة
غيابي وطوال الليل.. وذات يوم وأنا عنده.. إذ به يناديني باسمي ..
مد يده إلي.. فرحت عندما سمعت صوته .. استدعيت أمي ..
وأسرعت إليه.. أمسكت بيده.. ذرفت الدموع من عينيه.. وجَّه
الكلام لي : سامحيني يا ابنتي.. اصفحي عن كل ما بدر مني ..
لقد قسوت عليك كثيرًا.. يجهش بالبكاء.. أرجوك يا ابنتي
سامحيني.. لقد كنت أفضل مني.
يا رب سامحني.. يا رب تب علي.. على تقصيري في حقك..
اللهم إني أعلنها توبة صادقة إليك.. أصابتني الدهشة والفرح وأنا
أسمع كلامه.. لحظتها سجدت لله شكرًا.
قلت له: لقد عفوت عنك.. وأسأل الله أن يغفر لك ويتقبل
توبتك. تحسنت أحواله.. ومع مرور الأيام.. أشياء كثيرة تغيرت في
حياتنا بعد أن تماثل زوج أمي للشفاء.. لقد عاد منزلنا كما كان
في عهد والدي يرحمه الله .. بين يشع بنور الإيمان .. ويرتل في
أرجائه آيات القرآن.. ولله الفضل أو ً لا وأخيرًا.
نقلتها من كتاب اسمه ( قصص من الحياة) واتمنا ان تعجبكم
والسلام عليكم ورحمة الله..منقول
تعليق