الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم،
أما بعد..
فأنقل لحضراتكم هذه القصة الواقعية التي قد يتعرض لها البعض منا في زحمة أحداث حياتنا اليومية، وتزاحم ضغوط الحياة؛
تلك الحياة التي تأخذ الغالب من الناس وتجرَّهم وتدفعهم إلى دوامةٍ لا هدف لها ولا فائدة منها سِــوَى ضَـيـَــــاع الـعُـمــــر هـبــــــاءً؛
إلا من رحِمَهُ الله بالتنبه والانتباه؛ لذاك الهدف الأسمى من وجودنا في دنيا الحياة، فيحيا عمره على مراد الله، لينال رضى المعبود سبحانه جلَّ في عُلاه
جعلنا الله وإياكم منهم بفضله وبرحمته...
وهذه قصة عادية؛ حدثت بالفعل وواقعية.. ليس فيها مؤثرات ولا أحداث عصيبة قوية؛ سوى موقف عابر يدعو للتأمل والتفكر، ومراجعة للنفس والتدبر؛
هذه القصة أنقلها لكم على لسان صاحبها وعلى عهدته، حيث يبدأ كلامه متحمسًا، فيقول:
جزاها الله خيرًا، وأدخلها أعلى الجنان؛ جزاها الله خيرًا، كانت لنا رمانة الميزان! [1]
كلمات كررها في حماسة شدت الانتباه إليه؛ خاصة بعدما ظهرت إنفعالاته واضحة جليَّة بكل البِشر والإبتهاج، ثم هدأ حماسه وبدأ في توضيح كلامه قائلًا:
هي أخت فاضلة، نحسبها إن شاء الله من الصالحات، ولا نزكي على الله أحدا..
إنها شقيقة زوجي، وتكبرها في العمر، ويزيد عمرها عن عمري أيضًا بسنوات قليلة..
هي أخت فاضلة من بيت كريم؛ لا تختلف كثيرًا عن زوجي الغالية التي رزقني الله بها من فضله العظيم وأنعم عليَّ بها.
وشقيقة زوجي هذه، التي أصفها برمانة الميزان؛
ما رأيتها يومًا إلا وانشرح صدري وزادت همتي للإكثار من الأعمال الصالحة، حتى ولو لم تتحدث معي عن هذه الأعمال، لكنها في كل مجلس يجمعنا؛
كان أغلب كلامها تدراسًا للقرآن الكريم، واستفسارًا عن معاني بعض الآيات وبعض أحكام التلاوة؛ لأنها تداوم على الحفظ بفضل الله تعالى
وكنت أعود للبيت في كل مرة وبداخلي دفعة قوية للإكثار من العمل الصالح، لا ألبث إلا أن أهدأ وأفتُر بعدها بأيام!!
عافانا الله وإياكم من الفتور
لكنَّ هذه المرة فالأمر يختلف تمامًا؛ برغم أن مجالستها معنا كسابقاتها؛ إلا أن الوضع مختلف..
ذلك أنني كنت في غفلة من أمري، وزادت معي هذه الغفلة بما نقلني لحال غير الحال، من اللهو وإضاعة الوقت فيما لا يُفيد،
فكنت لا أترك التلفاز لساعات طوال؛ أتنقل بين قنوات الأفلام والمسلاسلات وكل الملهيات عياذًا بالله..
لدرجة انني كنت أصلي الفرض قبل خروج وقته بقليل!!
كانت مشاعري مملوءة بالحزن وأنا على هذا الحال، وكانت زوجي بين هذا وذاك وتنجرف معي أيضًا للتلفاز وسائر الملهيات...
وشاء المولى تبارك وتعالى أن تصاب زوجى بمرض علاجه جراحة عادية تُعدُّ من جراحات اليوم الواحد؛
فبدأنا بعمل الإجراءات، ثم توكلنا على الله وذهبنا للمستشفى، وأتم الله نعمته علينا وخرجت زوجي معافاة بفضله سبحانه الذي أذن لها بالشفاء.
هنا بدأت شقيقة زوجي بضبط كفتي الميزان لدينا؛ دونما تدري أو تتعمد ذلك!!.. إنه ميزان حياتنا أنا وزوجي!!
فبعد خروجنا من المستشفى وعودتنا للبيت، جاءت معنا شقيقة زوجي -جزاها الله خيرًا-
لتساعد زوجي وتقوم بخدمتها في فترة النقاهة لحين معافاتها، وكان هذا إتفاق مُسبق بينهما...
وهنا بدأت رمانة الميزان تتضح لدينا وتؤثر فينا منذ اليوم الأول لإقامة أختنا الفاضلة معنا...
كان ذلك بمداومتها تذكيرنا بالله تعالى؛ لكن بصورة غير مباشرة..
بلا نصائح أو مواعظ؛ إنما بالأفعال، بداية من سعيها الدائم لأداء الصلاة المكتوبة في وقتها.. إلى باقي الأعمال الصالحة في الليل والنهار،
وأهم هذه الأعمال بعد الفريضة كان حرصها الدؤوب على قيام الليل، ثم إدراك صلاة الفجر في وقتها؛
لذا فقد حَرَصَت بشدة وطلبت منا منبها ليوقظها قبل صلاة الفجر بوقت يكفي لصلاة القيام،
واتفَقَت هي وزوجي أن يوقظ إحداهما الأخرى إذا قامت قبلها، وذلك في وقت السحر لإدراك صلاة الليل، ثم انتظار صلاة الفجر.
كُنتُ فيما مضى وبعد كل لقاء يجمعنا بها أحرص على صلاة القيام..
ومع ضيافتنا لها وإقامتها المؤقتة حرصت أكثر وأكثر على ذلك بتوفيق الله وبرحمته،
فكنا نصلي ثلاثتنا القيام في جماعة تارة، أو منفردين تارة اخرى، فشعرت حينها بتغير كبير في حياتي، وكذلك شعرت زوجي هي الأخرى بنفس الشعور!!
كانت أختنا الفاضلة إذا تركناها وخلت بنفسها للحظات تسارع بمواصلة قراءة وردها اليومي من القرآن الكريم...
لاحَظَت زوجي هذا الأمر حينما كانت تتركها بعض الوقت وتعود إليها،
ولاحَظتُ ذلك أيضًا إذا استأذنتُ من أختنا الفاضلة ونبهتها من خلف ساتر أنني خرجت من غرفتي؛ لتستعد وترتدي نقابها وتسمح لي بالمرور أمامها،
إذا كان لي حاجة في الخروج، أو كلفتني زوجي بتوصيل شيء إليها...
كُنَّا نلحظ أنها لا تضيع الوقت إذا وجدت الفرصة لاغتنامها في أيٍّ من الأعمال الصالحة؛
خاصة وأن طبيعة المرأة كسائر البشر؛ إذا اجتمعت مع مثيلاتها لاينقطعن عن الكلام في مواضيع شتى، وهذا ما كان يحدث بين الشقيقتين؛
حيث كان يصل إليَّ صوتهما أحيانا وأنا في غرفتي!!
وفي الأوقات التي أجلس فيها معهنَّ؛ لا ينقطع الكلام أيضًا؛ لكن مع الفارق في طبيعته
المهم أنها جمعت بين عادات العلاقات الإنسانية وبين حرصها الدائم على اغتنام أوقاتها في العمل الصالح
وهذا ما خلُصنا إليه أنا وزوجي من فهم أكثر وأكثر لأسلوب حياتها، حفظها الله،
وكان لذلك أثر بالغ علينا فعزمنا معًا على المدوامة على الأعمال الصالحة وبخاصة قيام الليل.
انقضت فترة إقامة شقيقة زوجي معنا، وعادت لبيتها،
وانقضت أيضًا فترة فتورنا أنا وزوجي بفضل الله وبرحمته، وعدنا نلتمس طريق القرب إلى الله تعالى
فالحمد لله الذي هدانا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ذلك الفضل من الله الذي هيأ ودبَّر لنا أمر التأثر بأمة من إمائه الصالحات -نحسبها كذلك ولا نزكي على الله أحدا-؛
فكانت لنا عونًا على البر والتقوى،
ذلك الفضل من الله الذي يهدي من يشاء إلى صراطه المستقيم.
وهنا توقف صاحب القصة عن سرد الأحداث وكادت عيناه تدمعان من شدَّة تأثره وانفعاله
هنا توقف عن الكلام وأنهى قصته؛ لكن الكلام تعقيبًا لا ينتهي، فأقول وبالله التوفيق؛
يا عباد الله وإمائه..
أينما كنتم.. فكونوا أنتم رمانة الميزان
فليكن كل واحد منا رمانة الميزان.. في أي مكان.. في أي زمان، ومع أي إنسان...
كُن رمانة الميزان؛ فقد آن الأوان لترك الغفلة والعمل على الدوام...
انشر الخير بأفعالك أمام الناس دون رياء أو استعلاء؛ واستعن بالله وضع أمامك وفي قلبك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"اتَّقِ اللهَ حيثُما كنتَ، وأَتْبِعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ" [2]
فتقوى الله عليها مدار الأعمال كلها، وهي كلمة جامعة لفعل الواجبات وترك المنهيات
ومتى اتقيت الله حيثما كنت؛ في أي زمان ومكان، وحافظت على الإكثار من الحسنات ومداومة العمل الصالح،
ثم تعاملت مع الناس بأحسن الأخلاق؛ فلا شك أنك حينها ستكون رمانة للميزان...
نعم؛ ستكون أنت كرمانة الميزان.. لنفسك أولا، ثم للآخرين.
فكن أنت رمانة الميزان.. في أي مكان، وفي أي زمان؛ خشية ورجاءً لله العزيز الرحمن...
هدانا الله وإياكم وثبتنا على الهداية، وزرقنا وإياكم العمل الصالح والقبول منه سبحانه، إنه ولي ذلك ومولاه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ومتى اتقيت الله حيثما كنت؛ في أي زمان ومكان، وحافظت على الإكثار من الحسنات ومداومة العمل الصالح،
ثم تعاملت مع الناس بأحسن الأخلاق؛ فلا شك أنك حينها ستكون رمانة للميزان...
نعم؛ ستكون أنت كرمانة الميزان.. لنفسك أولا، ثم للآخرين.
فكن أنت رمانة الميزان.. في أي مكان، وفي أي زمان؛ خشية ورجاءً لله العزيز الرحمن...
هدانا الله وإياكم وثبتنا على الهداية، وزرقنا وإياكم العمل الصالح والقبول منه سبحانه، إنه ولي ذلك ومولاه
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[1] رُمَّانة الميزان أو رُمَّانَةُ القَبَّانِ ، معناها في المعجم:
ثِقْلٌ مِنَ الحَديدِ على شَكْلِ كُرَةٍ ، تُحَرَّكُ عَلَى قَضِيبِ المِيزانِ -وَهُوَ ما يُعْرَفُ بِالقَبَّانِ- حَتَّى يَعْتَدِلَ فَيُقْرَأَ رَقْمُ الوَزْنِ .
فرمانة الميزان هي قطعة حديدية صغيرة في الميزان، يحركها التاجر لإحداث التوازن بين وحدات الكيلوجرام والمواد الموزونة،
والكلمة في موضعها هنا تعبيرا مجازيًا للدلالة على التشبيه بالدور الحيوي والفعال الذي يضبط الأمور ويجعلها متوازنة تماما كما تفعل تلك القطعة الحديدية.
[2] حسنه الإمام الألباني في: تخريج مشكاة المصابيح (5012)
تعليق