الباحثة عن الحقيقة ... مريم جميلة
ولدت في «نيويورك» عام 1934م لأبوين يهوديين من أصل ألماني، وكان اسمها «مارجريت ماركوس».
إنَّ أقدار الله في خلقه عجيبةٌ، وتصاريفه مدهشةٌ، وهدايته لخلقه تحار فيها العقول، ولا تُدركها الأبصار، فمهما أراد من شيءٍ حصل، وإذا قدَّر شيئًا وقضاه لا بد من وقوعه كما أمضاه، -سبحانه- إذا قضى أمرًا فإنَّما يقول له كن فيكون.
كانت هذه مقدَّمة لا بد منها للحديث عن «مريم جميلة»، تلك اليهودية الأمريكيَّة الَّتي هداها الله -تعالى- للإسلام في سياقٍ عجيبٍ، وجذبٍ مدهشٍ، وفي زمنٍ لم يكن فيه للإسلام رواجٌ، ولا للمسلمين سوق نافعة، ولكنَّها الهداية، لا تعرف الحواجز، ولا تقف دونها العقبات، وتنفذ إلى القلوب نفاذ الشَّمس إلى الأرض، وتسري إلى العقول سريان الضِّياء إلى الظَّلام.
نشأتها
ولدت هذه المرأة العظيمة في «نيويورك» 1934م، لأبوين يهوديين من أصل ألماني، وكان اسمها «مارجريت ماركوس»، وكان لطريقة نشأتها في تلك البيئة المتلوثة بركام الجاهليَّة دليلٌ على عناية الله -تعالى- بها، فهي لم تذق الخمر في حياتها ولم تلتق بالرِّجال، ولم تحضر حفلات القوم، وكل هذا عجيبٌ من مثلها، وكانت وهي في طفولتها تحضر الدُّروس الَّتي تقيمها مدرسة الأحد اليهوديَّة، وتسمع الحاخام وهو يخبرهم بأنَّ العرب واليهود هم أولاد إبراهيم الخليل -عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلوات وأتمُّ التَّسليم- فصارت تتمنى أن تذهب إلى فلسطين لرؤية أولاد عمها والاجتماع بهم، ثمَّ إنَّها صدمت بعد ذلك يوم أن رأت أبويها يحتفلان بقرار التَّقسيم سنة 1947م، ويجمعان التَّبرعات لإقامة الدَّولة المسخ، ثمَّ يحتفلان بانتصار اليهود سنة 1367هـ/ 1948م، فصارت تناقش أبويها بقوَّةٍ في إقامة دولة اليهود على أحزان العرب وآلامهم، فعجبًا من كلامها.
طريق الهداية
ثمَّ إنَّها أقبلت على القراءة المطوّلة والعجيبة من فتاةٍ مثلها، فقد قادتها هذه القراءة إلى الهداية، وأبعدتها عن الغواية، وقرأت أوَّل ما قرأت ترجمة القرآن للبريطاني المسلم «محمَّد بيكتهول»، فتأثرت بما قرأت، وكان لقوة التَّرجمة أثرٌ في حياتها لم يزل، وقد قارنت بين هذه التَّرجمة وترجمة «يوسف علي» الَّتي وصفتها بأنَّها ضعيفةٌ وتبريريَّةٌ، أي أنَّ المترجم لم يستطع أن ينفك عن أسر النَّظرة الغربية وهو يترجم معاني كتاب الله -تعالى-، وهذه ملاحظةٌ جيِّدةٌ منها تدلُّ على تعمُّقٍ وفهمٍ.
كما عثرت في مكتبة «نيويورك» العامَّة على كتاب «مشكاة المصابيح» مترجمًا إلى الإنجليزيَّة، وهو كتاب في الحديث النَّبوي الشَّريف، فعكفت عليه حتَّى فرغت منه!! ولو سألت طلاب العلم منَّا اليوم ومثقفينا عن هذا الكتاب فلربما جهلوا عنوانه، ناهيك عن قراءته، ومن رحمة الله بها أنَّها اطَّلعت على هذا القدر الكبير من الأحاديث في مرحلةٍ مبكرةٍ، فهذا الاطِّلاع الواسع حماها من القرآنيين وضلالاتهم، واستطاعت أن تفهم الإسلام فهمًا جليًّا باطَّلاعها على مصدريه، والاغتراف من معينهما.
اتصالها بشخصيات إسلامية
واصلت «مريم» دراستها الجامعية في جامعة «نيويورك»، كلية الآداب، لكنَّها مرضت فانقطعت عن الدِّراسة سنتين، وتناوشتها الوساوس في مرضها من كلِّ جانب حتَّى ألحدت مدَّةً، لكنَّ الله تداركها بمزيدٍ من القراءة والاطِّلاع، والعجيب أنَّها استطاعت بهمتها ودأبها أن تتصل بشخصياتٍ إسلاميَّةٍ رفيعة القدر في عصرها، فقد أرسلت لـ«البشير الإبراهيمي» في الجزائر، و«سعيد رمضان» في «جنيف»، و«معروف الدّواليبي»، في سورية، والأستاذ «سيِّد قطب» في سجنه بالقاهرة -رحمة الله عليهم جميعًا-، وقد دلَّها الأستاذ «سعيد رمضان» على الأستاذ «سيِّد»، وطلب منها أن تراسله، وأرسلت رسائل عديدة لشخصيات أخرى، لكن كانت نقطة التحوُّل في حياتها هي صلتها بالأستاذ «المودودي» -يرحمه الله تعالى- وقد عرفته بقراءتها مقالة في مجلةٍ إسلاميَّةٍ كانت تصدر في «جنوب أفريقيا»، وأيضًا كان الأستاذ «سيِّد قطب» هو الَّذي نصحها بالاتصال بـ«المودودي»، وقد أعجبت بالمقالة جدًّا، وأرسلت للأستاذ المودودي رسالةً على عنوانه في باكستان، فما راعها إلا مجيء الجواب بعد قرابة شهرين، فسرت به أيما سرور، واستمرت المراسلات بينهما قرابة ثلاث سنين، وكانت تنقل له في مراسلتها ما يقال عنه في إعلام أمريكا وكندا.
ثقافةٌ رفيعةٌ
وهذه المراسلات اتَّضح منها عمق ثقافة «مريم جميلة» إلى الحدِّ المدهش، فقد سألته أسئلةً متنوعةً عن عدَّة شخصياتٍ، وناقشته مناقشة مطولة في أشياء بدرت منهم، فعلى سبيل المثال سألته عن «شاه ولي الله الدّهلوي»، وهو من الأعلام الكبار في تاريخ الهند، ويعدُّ من جملة المجددين، حيث إنَّها ظنَّت أنَّه أراد اختراع مذهب جديدٍ خارج عن المذاهب الأربعة، فبيّن لها «المودودي» أنَّ «الشَّاه» أراد أن يجتهد في تقرير المذاهب الأربعة، والاستفادة منها جميعًا، ولم يكن كما ذهب ظنّها، وسألته عن «إقبال» الشَّاعر المشهور، وقالت له: إنَّ «إقبال» نصر القوميَّة والوطنيَّة في شعره، فصدقها الأستاذ «المودودي»، وأخبرها أن هذا من الأمور الَّتي بالغ فيها «إقبال» -يرحمه الله- وسألته عن «عبدالنَّاصر» وقالت: إنَّه شخصٌ يريد أن يعمل لنفسه ولمجده الشَّخصي، وأنَّ كلّ مساعداته لأفريقيا وغيرها تصبُّ في مصلحته الشَّخصيَّة، وهذا فهمٌ دقيقٌ منها في ذلك الوقت العصيب الَّذي طغت فيه سمعة «عبدالنَّاصر» على مفاهيمَ كثيرةٍ، وكانت شخصيته القويَّة، ودعاواه القوميَّة، قد ضللت أكثر النَّاس، فأن تفهم «مريم جميلة» شخصية «عبدالنَّاصر» بهذا الوضوح في آخر الخمسينيات فهذا يعد فهمًا متقدِّمًا.
وسألته عن «أتاتورك» والمآسي الَّتي صنعها في تركيا، ولها قولٌ جميلٌ في «النّورسي»، حيث قالت عنه: "إنَّه ليس بمبالغة أن نقول: إن ما تبقى من الإيمان الإسلامي في تركيا إنَّما يرجع إلى الجهود والمثابرة لبديع الزَّمان النّورسي"، وسألته عن «القاديانيَّة» الَّتي كانت آنذاك في بداية انتشارها وتأسيس مساجدها الضِّرار في أمريكا، وهذه الأسئلة والمناقشات جرت في زمن يهوديَّتها، وهذا عجيبٌ، فهي قد وصلت إلى مستوى رفيعٍ من الفهم والنُّضج والوعي والثَّقافة وهي يهوديَّة لم يصل إليه أغلب المسلمين!!
اعتناقها للإسلام
ثمَّ شرح الله صدرها في سنة (1381هـ ــ 1961م) فذهبت إلى إمام مسجدٍ في «بروكلين» في «نيويورك» وهو «داود فيصل» وأسلمت على يديه، وسمَّت نفسها بـ«مريم جميلة»، وابتدأت في حياتها مدَّة عجيبة كلّها ابتلاءات ومحن، فعلى سبيل المثال كانت تذهب إلى المسجد، وتناقش المسلمين الَّذين كانوا يغضبون من آرائها عن «عبدالنَّاصر» و«أتاتورك»!! وجاءها طالب سعودي في الجامعة ليخبرها أنَّ على كل المسلمين أن يصلُّوا مع النصارى في كنيسة الجامعة، فإن لم يستطيعوا فعلى الأقل يحضرون دروس الأخلاق النَّصرانيَّة في الجامعة!
ورأت المركز التِّجاري التُّونسي في «نيويورك» فولجته سعيدة به لتفاجأ بالخمور تملأ المركز من أرضه إلى سقفه!! وفوجئت بامرأةٍ فرنسيَّةٍ موظفة في المركز أخبرتها أنَّ «بورقيبة» بدأ مرحلة جديدة في تونس ترك فيها الدِّين خلف ظهره!.
بحثها عن عملٍ
وكانت بعد تخرجها في الجامعة تبحث عن عملٍ فذهبت إلى المركز العربي في «نيويورك»، فما إن عرفوا أنَّها كانت يهوديَّة فأسلمت، وأنَّها تعارض أعمال وأفكار «عبدالنَّاصر» حتَّى أعرضوا عنها بعد مقابلةٍ باردةٍ.
وكانت تصلِّي الجمعة في المسجد، وقد اتفق الطَّلبة على أن يتداولوا الخطب فيما بينهم، فلمَّا وصلتها النّوبة كتبت خطبةً بديعةً رائعةً عن وضع المسلمين وكيفية علاج أمراضهم، وألقاها أحد الطلبة نيابةً عنها، فقامت عليها قيامة سائر الطلاب؛ لأنَّها ذكرت القوميَّة ورموزها بسوءٍ، وبيَّنت أنَّها علَّة العلل في الجسم الإسلامي!!
وكان هناك منَ الطَّلاب من يشكك في الحديث النَّبوي!! ومن كان يزين لها طريقة أتاتورك ونهرو!!
محنٌ كثيرةٌ
وهكذا تعرضت لمحنٍ كثيرةٍ في عقيدتها وفكرها وثقافتها، وكانت تخبر الأستاذ «المودودي» بكلِّ هذا، ثم بعد ذلك أخبرها والداها بأنَّهما سيتقاعدان قريبًا، ويتركان شقتهما ذات الغرف الأربعة ويسكنان في شقةٍ أخرى صغيرةٍ، وأنَّها ليس بوسعها أن تكون معهما، ولا بد أن تدبر أمرها!! وقد كان عمرها آنذاك سبعة وعشرين عامًا فضاقت عليها الدُّنيا.
وكان الأستاذ «المودودي» قد عرض عليها مرارًا أن تنتقل إلى باكستان لكنَّها كانت مترددة، ثمََّّ بعد كل الذي جرى عليها قررت الذَّهاب، وأقنع «المودودي» أمّها وأباها وطمأنهما على ابنتهما الَّتي ستجد كل الرِّعاية والاهتمام، وفعلًا حزمت حقائبها وتركت «نيويورك» سنة 1382هـ/ 1962م واتجهت إلى «لاهور» بالباخرة!! فيا لها من رحلةٍ شاقَّةٍ لكن الإيمان العظيم يذللُّ المصاعب والمشاق، والغريب أنَّها وقفت في الإسكندرية ونزلت من الباخرة، فصادفت مسجدًا فصلَّت فيه، فسألها الإمام عن وجهتها فأخبرته أنَّها ذاهبة إلى باكستان، فما كان منه إلا أن قال لها غفر الله له: هل أنت غبيةٌ لتتركي أمريكا؟!
فانظروا -رعاكم الله- إلى هذا الإمام ومقدار فهمه وإلى صبر «مريم جميلة» على ما واجهته.
استقرارها في باكستان
ثمَّ إنَّها وصلت «لاهور»، وأحسن إليها الأستاذ «المودودي»، وأسكنها في بيته سنتين، ثمَّ إنَّه زوجها لأحد أتباعه وهو «محمَّد يوسف خان»، وهو متزوج وعنده خمسة من الأولاد، لكن هذه المرأة العجيبة لم تمانع في التَّعدُّد، وقد اقتنعت به وهي ما زالت في أمريكا، وكانت تغضب من المانعين له مثل «بورقيبة»، أو من المبررين له تبريرًا ضعيفًا، ثمَّ طبَّقته بنفسها في «لاهور»، ومن الطَّريف أنَّها عرضت على «المودودي» الزواج منها لكنَّه اعتذر!!
وهي تعيش اليوم مع ضرتها في بيت واحد، وهي سعيدةٌ بحياتها، وراضيةٌ، ولها ابنان وابنتان واثنا عشر حفيدًا.
وعاشت في «لاهور» من سنة 1383هـ/ 1963م إلى يوم النَّاس هذا ولم تخرج أبدًاَّ، ولم تعد إلى أمريكا التي يتمنى كثير منَّا الذَّهاب إليها والعيش فيها!..
أبو الأعلى المودودي
وعاشت حياةً إسلاميَّةً رائعةً، وهي مشرفةٌ على حلقاتٍ نسائيَّةٍ في بيتها، وما زالت تكتب الكتب وترسل الرسائل إلى الآن -حفظها الله-، وقد كلمتها بالهاتف ورجوتها أن تأتي للحجِّ، لكنها اعتلت عليَّ بضعفها وكبرها، وقلت لها: إنَّ مجيئك إلى المملكة سيكون له أثرٌ كبيرٌ على المسلمات اللواتي سيعرفن قصَّتك أو عرفنها، لكنَّها اعتذرت -حفظها الله-، فقلت لها: ما وصيتك للمسلمين؟ فقالت: ادرسوا القرآن والحديث، ولا تتبعوا الحضارة الغربيَّة، وادرسوا الثَّقافة الإسلاميَّة.
محطاتٌ مهمَّةٌ في حياتها
1- بقيت بضع سنوات وهي ملحدةٌ تمامًا، بسبب أنَّها لم تجد دينًا يشبع نهمها الثَّقافي والفكري والرُّوحي حتَّى أضاء الإسلام حياتها.
2- لبست الحجاب الكامل والتزمت به، فلقد رأيت لها صورةً وهي بالجلباب الأسود السَّابغ ولا يظهر من جسدها شيءٌ، وهذه أعظم رسالة لكلِّ المسلمات اللواتي يتساهلنَ في لبس الحجاب، ويتهاونَّ به، فهذه كانت يهوديَّة أمريكيَّة فأسلمت والتزمت بالحجاب الكامل السَّابغ.
3- حاولت أن تدعو والديها للإسلام مرارًا عندما كانت في أمريكا وبعد وصولها إلى «لاهور» برسائلَ متعددةٍ لكنَّهما رفضا، وماتا كافرين سنة 1405هـ/ 1985م، وهكذا الإيمان إذا تمكنت بشاشته من القلوب لا يستطيع صاحبه إلا أن يدعو من يحبّ إليه، ولا يتصور قعوده عن تلك المهمَّة الجليلة.
4- وصل عدد كتبها الَّتي ألفتها إلى قرابة 14 كتابًا -وما زالت تؤلف حفظها الله- وكلُّها تفيض بروحٍ وثابةٍ، وفهمٍ متميِّزٍ، واطِّلاعٍ وثقافةٍ واسعةٍ، وأفردت كتابًا في مأساة الفلسطينيين سمَّته «أحمد خليل»، ونشره الأستاذ «المودودي» في باكستان.
5- تعد «المودودي» أعظم مفكري القرن، على أنَّها كانت تراسل شخصيَّات مثل الأستاذ «سيِّد قطب» وجملة غيره ذكرتهم لكم في ثنايا ما كتبته آنفًا، وهذه شهادةٌ محترمةٌ من امرأةٍ واسعة الثَّقافة عظيمة الاطِّلاع مثلها.
6- أظنُّ أنَّ القراء الكرام يوافقونني على عدِّ هذه المرأة مثلًا كبيرًا ومهمًّا في الوصول إلى الهداية عن طريق الاقتناع الكامل الَّذي تولَّد إثر قراءةٍ مطولةٍ وثقافةٍ واسعةٍ ومراسلاتٍ مع عددٍ كبيرٍ منَ الشَّخصيات الإسلاميَّة رفيعة المستوى، وهي بهذا تصلح أن تكون مثلًا رائعًا لبنات جنسها اللواتي يقرأن قليلًا، وثقافة الكثرة الكاثرة منهنَّ ضعيفة.
وأخيرًا أقول: ما أعظم التَّبعة الملقاة علينا في إيصال الإسلام لكلِّ البشر، إذ كم فيهم من أمثال «مريم جميلة» ممَّن يبحثون عن الحقِّ ويريدونه!.
منقول
تعليق