أتانا , من بلاد الياسمين الأبيض يحمل في حقيبته دمعات أمه وأبيه وإخوته وأصحابه
أتانا , ويحمل في حقيبته أمالا طويت في وريقات الماضي لتحكي موت مستقبل عقد عليه آمال كثيرة رميت في جب مليئة بالدماء ..
أية آمال هذه التي سييحققها , وغيوم هذه البلاد التي وصل إليها بعد معاناة , تجثم على صدره وهو يجر حقيبته السوداء وقد ضربتها كل حصيات الطريق الطويل فنالت منها ومزقتها وأحدثت بها ثقوبا كنفسه المتشرذمة ..
وقف أمام محل ضخم كتب عنوانه على ورقة وتنهد :
- كأنه محل خالي عبد الرحمن في الوطن , وأنقذه صوت صاحب المحل ينظر إليه قائلا :
- من أنت وماذا تريد ؟
وأخبره ..فاعتذر منه أنه تأخر وقد وظف رجلا قبله
جر أسامة رجليه لا يدري أين المسير ...
رفع رأسه للسماء المتلبد كأنه يستجدي القطر ليغسل همه , أو كأنه لا يريد أن يلمح أحد مطر عينيه فلا تخدش رجولته , ولكن من هذا الذي سيلوم ندىالقلب لما يبكي الأهل والوطن والتهجير والتقتيل من ؟
وقادته قدماه ليقف أمام فندق كبير رأى ياسمينة قمرية لجينية مدلاة على بوابته فتبسم بمرار , كم تشبهين ياسمينة أمي ... ولكن رائحتك ليست شامية ... ليست كذلك ..
وما ان أراد أن يبتعد عن البوابة حتى صاح فيه حارس الأمن يسأله ويستفسر عنه وأسامة يجيب بتلقائية :
- من الشام أنا , من قرية الياسمين الدمشقية , من قلب العزة أنا , من هناك طردني الدم والقتل فما أحسن الإبحار في بحاره التي ملأها الأسد وزبانيته من عروق أهلي وناسي , من الشام أنا .. من الشام , من الشام واستمر يردد وكأنه يستدعي حواري شامه وهواءها وشجرها وبساتين الغوطة ومياه أنهارها في قلبه .
دمعت عينا حارس الأمن فأخبره بان هنا عمل فتعال ..
تبعه أسامة , مغيب لا يملك إلا الموافقة , فقط الموافقة ..
رمقه المدير من وراء مكتبه الضخم قائلا :
- مبيت ومأكل ومشرب وعمل وراتب ما رأيك ؟ ورأى المبيت : جحر لا يقبله جرذ ..كأنه قبر مغطى بعفن الدنيا ورائحة نتنة تزكم الأنف وليسأل المدير
- والعمل , ما هو ردد أسامة وقد برقت له بارقة أمل رغم كراهية ما رأى من مكان مبيته فليرضى مؤقتا لعل الله يبدل الحال
- تنظيف غرف الفندق والحمامات .
وانتفض أسامة وأهازيج الشام الحماسية تطرق رأسه وقلبه وتدفع بالدماء إلى وجهه والعبارات الحزينة الساخطة الرافضة إلى لسانه
- أنا مهندس ياسيدي من جامعة دمشق العريقة , أنا أزين البيوت يا سيدي وأزرع الياسمين في حدائق القلوب ياسيدي وأروي بساتين المساجد ياسيدي,أنا درست خمس سنوات يا سيدي ونلت تقدير امتياز , أنا مهندس مهندس مهندس كررها أسامة وهو يحاول أن يبتلع دموعه حتى لا تخدش رجولته .
وأخذ يركض في الشوارع ويجري على الأرصفة
أنا مهندس يا خالتي قالها لي لما جاء به القدر لمكاني وهو يحكي لي باكيا , والله أنا مهندس يا خالتي ,,,
أبكاني أسامة ,ويبكيني كل حر عزيز في قومه ووطنه وفيئه سنديان وسرو جباله , يبكيني مثل أسامة وغير أسامة من زهور بلادنا الشامية يفرون من وطنهم خوفا من أن يكونوا سيوفا مسلطا على رقاب إخوانهم .
أبكاني اسامة ويبكيني فأنا امرأة ضعيفة بقلب أضعف ولا حول ولا قوة لي إلا هذا القلم الذي به يصرخ المداد أن اسكبيني واروي بي جفاف وتخاشب ضمائر الحكام والشعوب ..
أبكاني أسامة الحر .. أسامة الشامي , أسامة العربي , أسامة الإسلامي ..
كما أبكاني قبله أسامة الفلسطيني , أسامة العربي , أسامة الإسلامي ..
فهل سيأتي يوم يكون فيه أسامة في وطنه عزيزا لا تتقاذفه الخطوب ..
وهل سيأتي يوم أرى فيه من له قلب أسامة الشاب ينبض متناغما مع ذويه وقومه ويزأر رافضا جورا وخنوعا ...؟
سيأتي لأن أسامة رفض الهوان رغم الحاجة
سيأتي لأن أسامة رفض القتال في صفوف جيش الظلم رغم الجبروت عليه
سيأتي لأن أسامة من شام العزة ولن يرضى بغير ياسمين أمه ليتطيب به
ولا تبكي يا بني لا تبكي يا أامة وتبكيني فهذا اليوم سيأتي يا أسامة
سيأتي بسيف شامي يشق لك طريقا لتعود لحضن أمك وتروي عطش السنين ...
فتذكر يا أسامة لما تعود بإذن الله , أنك يوما أبكيت قلبا فلسطينيا , ذاق مثلك طعم الظلم ...
فاثبت ولما تعود ستكون رافعا لرأس العزة الشامية ...مهما أبكيت وبكيت
م.ن
تعليق