توبة عاص
قال الراوي : لقد تغير صاحبي.. نعم تغير.. ضحكاته الوقورة تصافح أذنيك كنسمات الفجر الندية وكانت من قبل ضحكات ماجنة مستهترة تصك الآذان وتؤذي المشاعر.. نظراته الخجولة تنم عن طهر وصفاء وكانت من قبل جريئة وقحة.. كلماته تخرج من فمه بحساب وكانت من قبل يبعثرها هنا وهناك.. تصيب هذا وتجرح ذاك.. لا يعبأ بذلك ولا يهتم.. وجهه هاديء القسمات تزينه لحية وقورة وتحيط به هالة من نور وكانت ملامحه من قبل تعبر عن الانطلاق وعدم المبالاة.. نظرت إليه وأطلت النظر ففهم ما يدور بخلدي فقال : لعلك تريد أن تسألني : ماذا غيرك؟
قلت : نعم هو ذلك.. فصورتك التي أذكرها منذ لقيتك آخر مرة من سنوات ، تختلف عن صورتك الآن ..
فتنهد قائلا : سبحان مغير الأحوال..
قلت : لابد أن وراء ذلك قصة؟
قال : نعم.. قصة كلما تذكرتها ازددت إيمانا بالله القادر علي كل شيء قصة تفوق الخيال.. ولكنها وقعت لي فغيرت مجري حياتي.. وسأقصها عليك..
ثم التفت قائلا : كنت في سيارتي متجها إلي القاهرة.. وعند أحد الجسور الموصلة إلي احدي القرى فوجئت ببقرة تجري ويجري وراءها صبي صغير.. وارتبكت.. فاختلت عجلة القيادة في يدي ولم أشعر إلا وأنا في أعماق الماء(ماء ترعة الإبراهيمية) ورفعت رأسي الي أعلي علي أجد متنفسا.. ولكن الماء كان يغمر السيارة جميعها.. مددت يدي لأفتح الباب فلم ينفتح.. هنا تأكدت أني هالك لا محالة.
وفي لحظات – لعلها ثوان – مرت أمام ذهني صور سريعة متلاحقة ، هي صور حياتي الحافلة بكل أنواع العبث والمجون.. وتمثل لي الماضي شبحا مخيفا وأحاطت بي الظلمات كثيفة.. وأحسست بأني أهوي إلي أغوار سحيقة مظلمة فانتابني فزع شديد فصرخت في صوت مكتوم.. يارب.. ودرت حول نفسي مادا ذراعي أطلب النجاة لا من الموت الذي أصبح محققا.. بل من خطاياي التي حاصرتني وضيقت علي الخناق.
أحسست بقلبي يخفق بشدة فانتفضت.. وبدأت أزيح من حولي تلك الأشباح المخيفة وأستغفر ربي قبل أن ألقاه وأحسست كأن ما حولي يضغط علي كأنما استحالت المياه إلي جدران من الحديد فقلت إنها النهاية لا محالة.. فنطقت بالشهادتين وبدأت أستعد للموت.. وحركت يدي فإذا بها تنفذ في فراغ.. فراغ يمتد إلي خارج السيارة.. وفي الحال تذكرت أن زجاج السيارة الأمامي مكسور.. شاء الله أن ينكسر في حادث منذ أيام ثلاثة.. وقفزت دون تفكير ودفعت بنفسي من خلال هذا الفراغ.. فإذا الأضواء تغمرني وإذا بي خارج السيارة.. ونظرت فإذا جمع من الناس يقفون علي الشاطيء كانوا يتصايحون بأصوات لم أتبينها.. ولما رأوني خارج السيارة نزل اثنان منهم وصعدا بي إلي الشاطيء.
وقفت علي الشاطيء ذاهلا عما حولي غير مصدق أني نجوت من الموت وأني الآن بين الأحياء.. كنت أنظر إلي السيارة وهي غارقة في الماء فأتخيل حياتي الماضية سجينة هذه السيارة الغارقة.. أتخيلها تختنق وتموت.. وقد ماتت فعلا.. وهي الآن راقدة في نعشها أمامي لقد تخلصت منها وخرجت.. خرجت مولودا جديدا لا يمت إلي الماضي بسبب من الأسباب.. وأحسست برغبة شديدة في الجري بعيدا عن هذا المكان الذي دفنت فيه ماضي الدنس ومضيت.. مضيت إلي البيت إنسانا آخر غير الذي خرج قبل ساعات.
دخلت البيت وكان أول ما وقع عليه بصري صور معلقة علي الحائط لبعض الممثلات والراقصات وصور لنساء عاريات.. واندفعت الي الصور أمزقها.. ثم ارتميت علي سريري أبكي ولأول مرة أحس بالندم علي ما فرطت في جنب الله.. فأخذت الدموع تنساب في غزارة من عيني.. وأخذ جسمي يهتز.. وفيما أنا كذلك إذ بصوت المؤذن يجلجل في الفضاء وكأنني أسمعه لأول مرة... فانتفضت واقفا وتوضأت.. وفي المسجد وبعد أن أديت الصلاة أعلنت توبتي ودعوت الله أن يغفر لي ومنذ ذلك الحين وأنا كما تري..
قلت : هنيئا لك يا أخي وحمدا لله علي سلامتك لقد أراد الله بك خيرا والله يتولاك ويرعاك ويثبت علي الحق خطاك.
تعليق