الفجر الجديد قصة وعبرة
( 1 )
(( ....... تراه مؤدباً وخلوقاً ... وذا غيرة على دين الله تدعو للإعجاب والإكبار عندما يقبل عليك بمحياه الجميل ، وطلعته البهية ، وابتسامته المشرقة الصافية ...... ثم يلقي عليك تلك التحية الطيبة " السلام عليكم ورحمة الله "
ويحادثك وكأنك له أقرب قريب ، عندها تشعر بفرحة غامرة ..... عندما يحادثك ذلك الشاب المحبوب التقي .
وما تلك اللحية السوداء الكثة .. الوسيمة .. إلا لتكسبه وقاراً واحتراماً كبيرين .. رأيت الكل يحترمه شيباً وشباناً وكأنه شيخ القبيلة ، فإليه يرجعون في كثير من أمورهم .
وعندما يتحدث .. يجذبك حديثه وحماسه لقضايا المسلمين ..
ويخيم السكون على الجميع وهم يرمقون بأعينهم ذلك الخطيب .. الذي تجد لكلمته وقعاً عظيماً في القلوب ..فتجعل الناس في خشوع مهيب .. فحديثه سهل مفهوم لعامة الناس .. وبسهولة يقنعك بما يتحدث عنه .
فكم اهتدى على يديه من البشر !!
وترى القلوب تخشع والعيون تدمع عندما يعظ ويخطب .. وإنك لتعجب عندما ترى الناس يتهافتون للسلام عليه .. وكأن لهم حاجة عنده إنه الحب في الله .......... فهم يحبونه بكل معنى الحب ..
والعجب هنا عندما تسمع ذلك الرجل الذي تجاوز السبعين من عمره وهو يناديه يا شيخ .. نعم فهو الشيخ أبو يوسف
وهذا العجوز هو الشيخ أبو وضاح شيخ القبيلة والأول لم يتخط الثلاثين بعد ...... ))
فلم أصل إلى هنا .. حتى رأيت الدموع تترقرق في مًُقلتي أبي ، نعم فقد كنت أحدثه عمن رأيت في تلك الرحلة الجماعية التي قمت بها أنا ورفاقي ..
فقد نذرنا أنفسنا للدعوة إلى دين الله .. وقمنا بزيارة بعض القبائل البدوية القريبة من مدينتنا ، لنلقي عليهم بعض الدروس الدينية ، ونرشدهم إلى سلوك الطريق الصحيح .. ولله الحمد الجميع يرحب بنا ويدعونا للمزيد ..
سألت أبي بلهفة عن سر تلك الدموع .. ؟
فأجابني والحسرة تملأ قلبه : لقد تذكرته .. !!
وبدون تردد قلت له : من ؟ ( خالد ) .. ؟
لم أكن بحاجة إلى جوابه إنه حقاً يقصده .. أعني أخي خالد ، فقد ذكرني أنا أيضاً به .
سبحت الله وكبرته عندما حدقت في تلك النجوم الجميلة ، وكأنها عقد من اللؤلؤ انتثر وتبعثر فوق قطيفة سوداء ..
آه . . آه . . ما أجمل الليل ، وما أروع سكونه .. !!
صالح : محمد ألم تنم بعد .. ؟
محمد : وأنت يا صالح لماذا لم تنم ؟
صالح : كنت سأنام لو لم أر أبي يبكي عندما أخبرته عن ذلك الشاب التقي .. صحيح يا محمد ما سر بكاء أبي .. ؟
أعرف جيداً أنك تعلم بكاءه فقد سمعتك تقول له خالد من هو خالد الذي بكى أبي من أجله .. ؟
( هذا ما سألني عنه أخي الصغير صالح ذي الثلاثة عشر ربيعاً .. ) .
فقلت له : ألم تعلم أن أبي كان يدعى أبا خالد .. ؟
صالح : تقصد أنه أخي .. ؟
محمد : نعم .. فخالد هو أخونا ..
صالح : وأين هو الآن .. ؟
محمد : لقد تُوفي منذ ما يقرب ( أحد عشر عاماً ) أي عندما كان عمرك سنتين فأنت لا تتذكره بل لا تعرفه .
صالح : أستحلفك بالله يا محمد أن تخبرني عن أخي خالد الذي أبكى أبي هذا اليوم .
محمد : لولا أنك لم تستحلفني بالله لما كنت سأقول لك فأنت بذلك تدعوني لأن أفتح جرحاً قديماً ظننته اندمل وطوته السنون .
فإليك يا أخي الصغير قصة أخينا الكبير خالد :
( 2 )
كنا منذ أكثر من ( خمسة عشر عاماً ) ، نسكن في إحدى القرى الشمالية بل قل " هجره " لأن أكثر من فيها من السكان هاجروا إلى المدن لحياة أفضل .
ولم يكن عدد السكان كثيراً فبسهولة تستطيع أن تعد بيوتهم ، بالإضافة إلى المسجد والمدرسة الابتدائية فقط .
ولكم كانت قريتنا جميلة ووادعه فهي تقبع بين جبلين من الحجارة السوداء ، مما يكسبها روعة وجمالاً .. وترى فيها عيناً تنبثق وتروي تلك الحقول والمزارع الخضراء ، فهي بذلك واحة غناء ، تجذب أهل المدن إليها ليستمتعوا فيها بإجازاتهم .
وكما تعلم يا أخي فأبي فلاح ماهر كما تراه .
وإني أتذكر وهو يعمل في مزرعته بكل جد ونشاط ، وأنا وأخي خالد نلعب ونمرح هنا وهناك .. نسقي الزرع معه .. ونطعم الماشية ونرعاها .. وبالطبع كل هذا بعد المذاكرة ، فأبي كان حريصاً على أن نكون من المتفوقين في دراستنا .
وتمر السنين ويأخذ أخي خالد الشهادة الابتدائية بكل تفوق وامتياز .
أما أنا فكنت في الصف الثالث الابتدائي ، فلم يكن بيني وبين أخي خالد سوى ثلاثة أعوام .
كان خالد نعم الابن البار بوالديه .. فقد كان أبي يحبه حباً لا يجارى وكذلك أمي فكم كانت أخلاقه عظيمة مع صغر سنه حتى إنه اشتهر عند جميع أهل القرية بأخلاقه الحسنة ، فكان يحترم الكبير ويرحم الصغير ويساعد أهل القرية في استصلاح مزارعهم ورعي ماشيتهم .
أيضاً مع صغر سنه كان ذا أسلوب لبق لا يعرف تلك الألفاظ النابية التي يتداولها عادة الأطفال فيما بينهم ، فهو يترفع عن مثل تلك الكلمات ، وقد تجده بين إخوانه الطلاب يساعد هذا ويشرح لذاك .
وكان طبيعياً أن يأخذ كل سنة جائزة المدرسة للطالب المثالي ، فهو معروف لدى الأساتذة بأدبه وذكائه وتعاونه مع الآخرين ، وقبل ذلك كله كان محافظاً على الصلاة .
وحقيقة كانت أخلاقه أكبر من أن توصف مقارنة بصغر سنه . فأنا كنت أحبه وأحترمه وأقدره .
رأى أبي أنه من الأفضل أن يرحل من القرية أسوة بمن سبقوه .. فهذا هو الوقت المناسب لرحيله ، لأنه يريد أن يوفر لنا حياة أفضل ، بعد أن أصبحنا معه وأمي خمسة إخوة ، أنا وخالد ، ومريم ، وسلمى ، وخولة .. بالإضافة إلى أن خالداً قد أخذ الشهادة الابتدائية ، وقريتنا لا يوجد بها متوسطة ، وأبي يريد أن يكمل خالد دراسته إلى أن يتخرج ، وهذا مما زاد من إصرار أبي على الرحيل من القرية .
رحلنا إلى مدينة (( ...... )) وهي تعتبر مدينة زراعية ، حيث يوجد فيها مشروعات زراعية عظيمة .. التحق أبي بأحد المشاريع التي تقوم في زراعتها على " البيوت المحمية "
واستمر أبي في عمله الجديد يعطيه بسخاء كل قوته وجهده حتى أصبح من أهم المزارعين في المشروع .
كانت المدينة غريبة علينا ، لم نعتد تلك الوجوه الجديدة .. والمساكن غير المساكن التي ألفناها .. " يا إلهي كم هي كبيرة هذه المدينة " هذا ما كنا نردده دوماً .. حقاً لم نعتد ذلك .
ففي القرية تستطيع أن ترى جميع رجال القرية في المسجد .. وهنا العكس تماماً فكل يوم ترى أشخاصاً لم ترهم من قبل ..
وأهل القرية كالأسرة الواحدة ، متعاونين ، ومتحابين فيما بينهم ، وأخلاقهم البسيطة البعيدة عن التكلف والمجاملات ، تعطيك ثقة وراحة لا حدود لهما .
وتمر السنة تلو الأخرى ، ونبدأ في التأقلم التدريجي مع هذه الحياة الجديدة حتى ألفناها ..
وأتخرج أنا من الابتدائية لأنتقل إلى المتوسطة بشوق شديد ، ويفرح أبي لذلك فرحاً شديداً ، فله الآن اثنان من الأبناء قد أخذوا الشهادة الابتدائية ، وننتظر بشوق نتيجة خالد .......
ويدخل علينا خالد وهو يقفز من الفرح " .. لقد نجحت .. أبي نجحت .. " ولكم كانت فرحة أبي كبيرة بنجاح أخي خالد .
- مبروك يا بني الحمد الله على نجاحك .
وبكل أدب اقترب خالد من أبي فقبل يده ورأسه وقال : هذا كله بفضل الله ثم بفضلك يا أبي فقد كنت لي خير سند ومشجع حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ..
وتبدأ السنة الدراسية الجديدة ، وأنا في الصف الأول متوسط وخالد – وهو الأهم – في الأول ثانوي ، وأخواتي لازلن في المرحلة الابتدائية ..
مريم في الصف الخامس .. وسلمى في الصف الثالث .. أما خولة فهي في الصف الأول ، وسعادتها لا توصف وهي ترتدي الزي المدرسي ، وتحمل الحقيبة لأول مرة ، وقد كانت تعد الأيام شوقاً لهذا اليوم .. " وفي هذه السنة يا صالح كنت قد بدأت تقف وقفتك الأولى كي تسير ، فتقف قليلاً ثم تسقط ، ولكنك تحاول .. وتحاول " .
وبعد شهر من بداية الدراسة حدثني خالد عن ستة من الشبان في المدرسة كانوا يكونون " شلة " تسمى ( شلة أبوسعد )
جميعهم قد تخطوا الثامنة عشر من عمرهم ، كانت سمعتهم سيئة جداً جداً .! حتى إن المدرسين كانوا في حذر شديد في تعاملهم مع أفراد هذه الشلة ، لدرجة جعلت المدير يفرقهم عن بعضهم " أي جعل كل فرد منهم في فصل مستقل حتى لا تحدث مشاكل " .
قال لي خالد : إن لديهم رموزاً عجيبة يتحدثون بها فيما بينهم ، لا أفهمها ولا غيري من الطلاب في المدرسة يفهمها ،
وبصراحة شدتني هذه الرموز فهي تارة حركات باليد ، وتارة أحرف وكلمات متقطعة ، صعبة الفهم إلا عندهم .
قلت له : أظنها لعبة يلعبونها للتسلية ... ؟
قال : لا ، ليست كذلك .. فأنا أرى أثرها على تقسيمات وجوههم ، فتراهم يضحكون مرة .. ويغضبون مرة .. وهكذا .. أظنها يا محمد تتحدث عن أسرار خطيرة فهم يلجأون إليها كي لا يعلم من حولهم بهذه الأسرار .. !!
قلت : يا خالد ما دمت تظن أنها خطيرة فابتعد عنهم كي لا يؤذوك .
قال : لا .. يا محمد ، فأنا في أشد الشوق لمعرفة خفاياها ، وسأحاول فتح هذا اللغز بنفسي .
وفي المدرسة .. مرَّ خالد على شلة ( أبو سعد ) ..
خالد : السلام عليكم يا شباب .
وبصعوبة خرج الرد ومن فرد واحد بقوله .. وعليكم !!
لم يبدِ خالد امتعاضه من صمتهم وهذا الرد .. بل سألهم عن أخبارهم وعن استعدادهم لامتحانات هذا الشهر .. ؟؟
وهم تارة يردون وأخرى يضحكون ، وهو مصمم على المضي قدماً فيما يريد كشفه فهو بهذا الأسلوب يريد التقرب إليهم وريداً رويداً حتى يثقوا به .
وتمر الأيام وهو يكلمهم ، ويمازحهم حتى ألفوه ، ولكن كانوا حريصين على ألا يفضوا إليه بشيء من أسرارهم .
وذات مساء كان خالد عائداً من زيارة زميله " عبد الله " قابل اثنين من شلة أبو سعد قابل " زيداً وياسراً " أما البقية وهم " حسام ، شاكر ، وليد ، إبراهيم " فلم يرهم مع أخويهم ولذلك وجدها فرصة لأن يسأل عنهم ، فأجابوه : بأنهم ينتظرونهم في مكان قريب من هنا .
فاجأهم بقولهم : أريد الذهاب معكما . !!
نظر زيد وياسر إلى بعض وكأنهما يتساءلان أيذهب معنا أم لا .. ؟
فلم يجدا مانعاً من ذلك فقد أصبح خالد جليسهم في المدرسة ولا مانع من الاستفادة منه فهو من المتفوقين .
ذهب خالد معهم ، فدخلوا به أحياء وممرات لم يألفها خالد من قبل ينظر هنا وهناك " .. يا إلهي أكثر البيوت مهجورة إن لم تكن كلها .. !! " .
فقال : زيد ، ياسر ما هذا المكان المهجور .. ؟
قالا له : لا عليك إنهم ينتظرونا في إحدى هذه البيوت .
فقال خالد مستنكراً : يا إلهي .. وهل يستطيع أحد من البشر العيش في هذه الأطلال ؟ .. إنها مخلوعة الأبواب والنوافذ ، والقطط والكلاب لا تهجرها .. فكيف يعيشون .. أو قل يدخلون فيها ؟
لم يباليا بكثرة تساؤلات خالد فتركوها تذهب أدراج الرياح ، فما هي إلا لحظات حتى وقفوا .. أشار ياسر إلى أحد البيوت قائلاً : هنا الشباب يا خالد ، ادخل .. لا عليك سأدخل قبلك .
دخل خالد ذلك البيت الخرب فوجد فيه غرفة واحدة فارغة لا يوجد بها سوى هؤلاء الشباب الذين تجمعوا حول إبراهيم فهو الرئيس هنا ويدعى أبا سعد وكان بحوزته صندوق قديم .
سلم عليهم فرحبوا به وأجلسوه بينهم ، فرح خالد بهذه الثقة حيث أحس أنه بدأ يكشف بعض غموضهم بدخوله في وكرهم ، " فهذه فرصته التي طالما انتظرها كي يسـألهم عن سر تلك الرموز والإشارات التي يتبادلونها فيما بينهم " .
فلم يتردد حيث سألهم عن سر تلك الرموز ..
تعجب الجميع من هذا السؤال .. !!
فقال أبو سعد : سرها هنا .
وأشار إلى الصندوق . نظر خالد إليه نظرة المتعجب الذي ينتظر الجواب !!
فتح أبو سعد الصندوق وأخرج منه ورقة صفراء ملفوفة بعناية ..
ثم قال : إذا استنشقت هذه فستعرف بسهولة ما تريد .
أخذها خالد وهو ينظر في شك وريبة إلى أبي سعد وهذه الورقة الصفراء ، ثم فتحها ونظر إليها .
فقال : ما هذه يا أبا سعد .. ؟
أبو سعد : افعل ما قلت لك وستعرف .
فعل خالد ما قال له أبو سعد وكان ما كان من أثرها ثم راح في سبات عميق .
( 1 )
(( ....... تراه مؤدباً وخلوقاً ... وذا غيرة على دين الله تدعو للإعجاب والإكبار عندما يقبل عليك بمحياه الجميل ، وطلعته البهية ، وابتسامته المشرقة الصافية ...... ثم يلقي عليك تلك التحية الطيبة " السلام عليكم ورحمة الله "
ويحادثك وكأنك له أقرب قريب ، عندها تشعر بفرحة غامرة ..... عندما يحادثك ذلك الشاب المحبوب التقي .
وما تلك اللحية السوداء الكثة .. الوسيمة .. إلا لتكسبه وقاراً واحتراماً كبيرين .. رأيت الكل يحترمه شيباً وشباناً وكأنه شيخ القبيلة ، فإليه يرجعون في كثير من أمورهم .
وعندما يتحدث .. يجذبك حديثه وحماسه لقضايا المسلمين ..
ويخيم السكون على الجميع وهم يرمقون بأعينهم ذلك الخطيب .. الذي تجد لكلمته وقعاً عظيماً في القلوب ..فتجعل الناس في خشوع مهيب .. فحديثه سهل مفهوم لعامة الناس .. وبسهولة يقنعك بما يتحدث عنه .
فكم اهتدى على يديه من البشر !!
وترى القلوب تخشع والعيون تدمع عندما يعظ ويخطب .. وإنك لتعجب عندما ترى الناس يتهافتون للسلام عليه .. وكأن لهم حاجة عنده إنه الحب في الله .......... فهم يحبونه بكل معنى الحب ..
والعجب هنا عندما تسمع ذلك الرجل الذي تجاوز السبعين من عمره وهو يناديه يا شيخ .. نعم فهو الشيخ أبو يوسف
وهذا العجوز هو الشيخ أبو وضاح شيخ القبيلة والأول لم يتخط الثلاثين بعد ...... ))
فلم أصل إلى هنا .. حتى رأيت الدموع تترقرق في مًُقلتي أبي ، نعم فقد كنت أحدثه عمن رأيت في تلك الرحلة الجماعية التي قمت بها أنا ورفاقي ..
فقد نذرنا أنفسنا للدعوة إلى دين الله .. وقمنا بزيارة بعض القبائل البدوية القريبة من مدينتنا ، لنلقي عليهم بعض الدروس الدينية ، ونرشدهم إلى سلوك الطريق الصحيح .. ولله الحمد الجميع يرحب بنا ويدعونا للمزيد ..
سألت أبي بلهفة عن سر تلك الدموع .. ؟
فأجابني والحسرة تملأ قلبه : لقد تذكرته .. !!
وبدون تردد قلت له : من ؟ ( خالد ) .. ؟
لم أكن بحاجة إلى جوابه إنه حقاً يقصده .. أعني أخي خالد ، فقد ذكرني أنا أيضاً به .
سبحت الله وكبرته عندما حدقت في تلك النجوم الجميلة ، وكأنها عقد من اللؤلؤ انتثر وتبعثر فوق قطيفة سوداء ..
آه . . آه . . ما أجمل الليل ، وما أروع سكونه .. !!
صالح : محمد ألم تنم بعد .. ؟
محمد : وأنت يا صالح لماذا لم تنم ؟
صالح : كنت سأنام لو لم أر أبي يبكي عندما أخبرته عن ذلك الشاب التقي .. صحيح يا محمد ما سر بكاء أبي .. ؟
أعرف جيداً أنك تعلم بكاءه فقد سمعتك تقول له خالد من هو خالد الذي بكى أبي من أجله .. ؟
( هذا ما سألني عنه أخي الصغير صالح ذي الثلاثة عشر ربيعاً .. ) .
فقلت له : ألم تعلم أن أبي كان يدعى أبا خالد .. ؟
صالح : تقصد أنه أخي .. ؟
محمد : نعم .. فخالد هو أخونا ..
صالح : وأين هو الآن .. ؟
محمد : لقد تُوفي منذ ما يقرب ( أحد عشر عاماً ) أي عندما كان عمرك سنتين فأنت لا تتذكره بل لا تعرفه .
صالح : أستحلفك بالله يا محمد أن تخبرني عن أخي خالد الذي أبكى أبي هذا اليوم .
محمد : لولا أنك لم تستحلفني بالله لما كنت سأقول لك فأنت بذلك تدعوني لأن أفتح جرحاً قديماً ظننته اندمل وطوته السنون .
فإليك يا أخي الصغير قصة أخينا الكبير خالد :
( 2 )
كنا منذ أكثر من ( خمسة عشر عاماً ) ، نسكن في إحدى القرى الشمالية بل قل " هجره " لأن أكثر من فيها من السكان هاجروا إلى المدن لحياة أفضل .
ولم يكن عدد السكان كثيراً فبسهولة تستطيع أن تعد بيوتهم ، بالإضافة إلى المسجد والمدرسة الابتدائية فقط .
ولكم كانت قريتنا جميلة ووادعه فهي تقبع بين جبلين من الحجارة السوداء ، مما يكسبها روعة وجمالاً .. وترى فيها عيناً تنبثق وتروي تلك الحقول والمزارع الخضراء ، فهي بذلك واحة غناء ، تجذب أهل المدن إليها ليستمتعوا فيها بإجازاتهم .
وكما تعلم يا أخي فأبي فلاح ماهر كما تراه .
وإني أتذكر وهو يعمل في مزرعته بكل جد ونشاط ، وأنا وأخي خالد نلعب ونمرح هنا وهناك .. نسقي الزرع معه .. ونطعم الماشية ونرعاها .. وبالطبع كل هذا بعد المذاكرة ، فأبي كان حريصاً على أن نكون من المتفوقين في دراستنا .
وتمر السنين ويأخذ أخي خالد الشهادة الابتدائية بكل تفوق وامتياز .
أما أنا فكنت في الصف الثالث الابتدائي ، فلم يكن بيني وبين أخي خالد سوى ثلاثة أعوام .
كان خالد نعم الابن البار بوالديه .. فقد كان أبي يحبه حباً لا يجارى وكذلك أمي فكم كانت أخلاقه عظيمة مع صغر سنه حتى إنه اشتهر عند جميع أهل القرية بأخلاقه الحسنة ، فكان يحترم الكبير ويرحم الصغير ويساعد أهل القرية في استصلاح مزارعهم ورعي ماشيتهم .
أيضاً مع صغر سنه كان ذا أسلوب لبق لا يعرف تلك الألفاظ النابية التي يتداولها عادة الأطفال فيما بينهم ، فهو يترفع عن مثل تلك الكلمات ، وقد تجده بين إخوانه الطلاب يساعد هذا ويشرح لذاك .
وكان طبيعياً أن يأخذ كل سنة جائزة المدرسة للطالب المثالي ، فهو معروف لدى الأساتذة بأدبه وذكائه وتعاونه مع الآخرين ، وقبل ذلك كله كان محافظاً على الصلاة .
وحقيقة كانت أخلاقه أكبر من أن توصف مقارنة بصغر سنه . فأنا كنت أحبه وأحترمه وأقدره .
رأى أبي أنه من الأفضل أن يرحل من القرية أسوة بمن سبقوه .. فهذا هو الوقت المناسب لرحيله ، لأنه يريد أن يوفر لنا حياة أفضل ، بعد أن أصبحنا معه وأمي خمسة إخوة ، أنا وخالد ، ومريم ، وسلمى ، وخولة .. بالإضافة إلى أن خالداً قد أخذ الشهادة الابتدائية ، وقريتنا لا يوجد بها متوسطة ، وأبي يريد أن يكمل خالد دراسته إلى أن يتخرج ، وهذا مما زاد من إصرار أبي على الرحيل من القرية .
رحلنا إلى مدينة (( ...... )) وهي تعتبر مدينة زراعية ، حيث يوجد فيها مشروعات زراعية عظيمة .. التحق أبي بأحد المشاريع التي تقوم في زراعتها على " البيوت المحمية "
واستمر أبي في عمله الجديد يعطيه بسخاء كل قوته وجهده حتى أصبح من أهم المزارعين في المشروع .
كانت المدينة غريبة علينا ، لم نعتد تلك الوجوه الجديدة .. والمساكن غير المساكن التي ألفناها .. " يا إلهي كم هي كبيرة هذه المدينة " هذا ما كنا نردده دوماً .. حقاً لم نعتد ذلك .
ففي القرية تستطيع أن ترى جميع رجال القرية في المسجد .. وهنا العكس تماماً فكل يوم ترى أشخاصاً لم ترهم من قبل ..
وأهل القرية كالأسرة الواحدة ، متعاونين ، ومتحابين فيما بينهم ، وأخلاقهم البسيطة البعيدة عن التكلف والمجاملات ، تعطيك ثقة وراحة لا حدود لهما .
وتمر السنة تلو الأخرى ، ونبدأ في التأقلم التدريجي مع هذه الحياة الجديدة حتى ألفناها ..
وأتخرج أنا من الابتدائية لأنتقل إلى المتوسطة بشوق شديد ، ويفرح أبي لذلك فرحاً شديداً ، فله الآن اثنان من الأبناء قد أخذوا الشهادة الابتدائية ، وننتظر بشوق نتيجة خالد .......
ويدخل علينا خالد وهو يقفز من الفرح " .. لقد نجحت .. أبي نجحت .. " ولكم كانت فرحة أبي كبيرة بنجاح أخي خالد .
- مبروك يا بني الحمد الله على نجاحك .
وبكل أدب اقترب خالد من أبي فقبل يده ورأسه وقال : هذا كله بفضل الله ثم بفضلك يا أبي فقد كنت لي خير سند ومشجع حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ..
وتبدأ السنة الدراسية الجديدة ، وأنا في الصف الأول متوسط وخالد – وهو الأهم – في الأول ثانوي ، وأخواتي لازلن في المرحلة الابتدائية ..
مريم في الصف الخامس .. وسلمى في الصف الثالث .. أما خولة فهي في الصف الأول ، وسعادتها لا توصف وهي ترتدي الزي المدرسي ، وتحمل الحقيبة لأول مرة ، وقد كانت تعد الأيام شوقاً لهذا اليوم .. " وفي هذه السنة يا صالح كنت قد بدأت تقف وقفتك الأولى كي تسير ، فتقف قليلاً ثم تسقط ، ولكنك تحاول .. وتحاول " .
وبعد شهر من بداية الدراسة حدثني خالد عن ستة من الشبان في المدرسة كانوا يكونون " شلة " تسمى ( شلة أبوسعد )
جميعهم قد تخطوا الثامنة عشر من عمرهم ، كانت سمعتهم سيئة جداً جداً .! حتى إن المدرسين كانوا في حذر شديد في تعاملهم مع أفراد هذه الشلة ، لدرجة جعلت المدير يفرقهم عن بعضهم " أي جعل كل فرد منهم في فصل مستقل حتى لا تحدث مشاكل " .
قال لي خالد : إن لديهم رموزاً عجيبة يتحدثون بها فيما بينهم ، لا أفهمها ولا غيري من الطلاب في المدرسة يفهمها ،
وبصراحة شدتني هذه الرموز فهي تارة حركات باليد ، وتارة أحرف وكلمات متقطعة ، صعبة الفهم إلا عندهم .
قلت له : أظنها لعبة يلعبونها للتسلية ... ؟
قال : لا ، ليست كذلك .. فأنا أرى أثرها على تقسيمات وجوههم ، فتراهم يضحكون مرة .. ويغضبون مرة .. وهكذا .. أظنها يا محمد تتحدث عن أسرار خطيرة فهم يلجأون إليها كي لا يعلم من حولهم بهذه الأسرار .. !!
قلت : يا خالد ما دمت تظن أنها خطيرة فابتعد عنهم كي لا يؤذوك .
قال : لا .. يا محمد ، فأنا في أشد الشوق لمعرفة خفاياها ، وسأحاول فتح هذا اللغز بنفسي .
وفي المدرسة .. مرَّ خالد على شلة ( أبو سعد ) ..
خالد : السلام عليكم يا شباب .
وبصعوبة خرج الرد ومن فرد واحد بقوله .. وعليكم !!
لم يبدِ خالد امتعاضه من صمتهم وهذا الرد .. بل سألهم عن أخبارهم وعن استعدادهم لامتحانات هذا الشهر .. ؟؟
وهم تارة يردون وأخرى يضحكون ، وهو مصمم على المضي قدماً فيما يريد كشفه فهو بهذا الأسلوب يريد التقرب إليهم وريداً رويداً حتى يثقوا به .
وتمر الأيام وهو يكلمهم ، ويمازحهم حتى ألفوه ، ولكن كانوا حريصين على ألا يفضوا إليه بشيء من أسرارهم .
وذات مساء كان خالد عائداً من زيارة زميله " عبد الله " قابل اثنين من شلة أبو سعد قابل " زيداً وياسراً " أما البقية وهم " حسام ، شاكر ، وليد ، إبراهيم " فلم يرهم مع أخويهم ولذلك وجدها فرصة لأن يسأل عنهم ، فأجابوه : بأنهم ينتظرونهم في مكان قريب من هنا .
فاجأهم بقولهم : أريد الذهاب معكما . !!
نظر زيد وياسر إلى بعض وكأنهما يتساءلان أيذهب معنا أم لا .. ؟
فلم يجدا مانعاً من ذلك فقد أصبح خالد جليسهم في المدرسة ولا مانع من الاستفادة منه فهو من المتفوقين .
ذهب خالد معهم ، فدخلوا به أحياء وممرات لم يألفها خالد من قبل ينظر هنا وهناك " .. يا إلهي أكثر البيوت مهجورة إن لم تكن كلها .. !! " .
فقال : زيد ، ياسر ما هذا المكان المهجور .. ؟
قالا له : لا عليك إنهم ينتظرونا في إحدى هذه البيوت .
فقال خالد مستنكراً : يا إلهي .. وهل يستطيع أحد من البشر العيش في هذه الأطلال ؟ .. إنها مخلوعة الأبواب والنوافذ ، والقطط والكلاب لا تهجرها .. فكيف يعيشون .. أو قل يدخلون فيها ؟
لم يباليا بكثرة تساؤلات خالد فتركوها تذهب أدراج الرياح ، فما هي إلا لحظات حتى وقفوا .. أشار ياسر إلى أحد البيوت قائلاً : هنا الشباب يا خالد ، ادخل .. لا عليك سأدخل قبلك .
دخل خالد ذلك البيت الخرب فوجد فيه غرفة واحدة فارغة لا يوجد بها سوى هؤلاء الشباب الذين تجمعوا حول إبراهيم فهو الرئيس هنا ويدعى أبا سعد وكان بحوزته صندوق قديم .
سلم عليهم فرحبوا به وأجلسوه بينهم ، فرح خالد بهذه الثقة حيث أحس أنه بدأ يكشف بعض غموضهم بدخوله في وكرهم ، " فهذه فرصته التي طالما انتظرها كي يسـألهم عن سر تلك الرموز والإشارات التي يتبادلونها فيما بينهم " .
فلم يتردد حيث سألهم عن سر تلك الرموز ..
تعجب الجميع من هذا السؤال .. !!
فقال أبو سعد : سرها هنا .
وأشار إلى الصندوق . نظر خالد إليه نظرة المتعجب الذي ينتظر الجواب !!
فتح أبو سعد الصندوق وأخرج منه ورقة صفراء ملفوفة بعناية ..
ثم قال : إذا استنشقت هذه فستعرف بسهولة ما تريد .
أخذها خالد وهو ينظر في شك وريبة إلى أبي سعد وهذه الورقة الصفراء ، ثم فتحها ونظر إليها .
فقال : ما هذه يا أبا سعد .. ؟
أبو سعد : افعل ما قلت لك وستعرف .
فعل خالد ما قال له أبو سعد وكان ما كان من أثرها ثم راح في سبات عميق .
تعليق