يقول أحد الإخوة: انطلقتُ البارحةَ إلى أحد المساجدِ في مدينتي لأصلي صلاةَ الظهر، وصَلتُ قبل الأذانِ بحوالي عشرة دقائق، وبينما أنا ذاهبٌ إلى مكان الوضوء، إذ بي أرى سيارةَ نقلِ الموتى قد توقّفت في مكانها الخاص قرب مغسلةِ الأموات، نزلَ منها السائقُ وفتح البابَ لإخراجِ الميّت، سارعتُ للمساعدةِ في حمل ذلك الميتِ ابتغاءَ الأجرِ منَ الله سبحانه، قُمنا بإدخال الجنازةِ إلى المغسلة، وهناكَ كان يوجدُ قرابةُ الستة جنائز!! أخذت أُقلّب نظري، سبحان ربي، لربما كان بعضهم يسير على قدميه قبل ساعات، وها هو الآن على دَكّة الغُسل، سبحان الله، لربما كان بعضهم له مشاريع مستقبلية وآمال وأموال، قطعها الموت، تماماً كما قطع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الخط الطويل الممتد الذي خطه أمام أصحابه على التراب، إنه خط الأمل، قطعه عليه الصلاة والسلام بخط عرضي هو خط الأجل، الذي به تنتهي حياة الإنسان.
خرجت من مغسلة الأموات وصليت الظهر وبعدها صليت الجنازة على الأموات ثم عدت إلى بيتي، مع أعباء البيت والعيال نسيت ذلك الموقف، وفي اليوم التالي استيقظت قبل الفجر بقليل لكي أصلي الوتر، وبينما أنا ساجد، تذكرت مشهد الأموات في تلك المغسلة، وقلت: يا الله، ماذا يتمنى أولئك الآن؟! ألا يتمنى أحدهم لو يُعاد إلى الدنيا فلا يرفع جبهته عن الأرض حتى يموت!! ألا يتمنى أحدهم لو يُعاد إلى الدنيا فلا يعصي الله طرفة عين ولو عاش ألف سنة؟! ألا يتمنى أحدهم لو أُعيد إلى الدنيا فلا يؤخّر الصلاة عن وقتها ولو اجتمعت عليه جيوش الدنيا ولا أقول أشغالها!! ألا يتمنى أحدهم لو يُعاد إلى الدنيا فيمضي عمره كله في الدعوة إلى الله والسعي في رضاه ؟! ماذا يتمنى أولئك؟! أخذت أفكر! وأفكر! ثم نظرت إلى حالي، فوجدت أني في نعمة عظيمة، بل عظيمة جداً أن أمدّ الله في عمري ووفقني للسجود له سبحانه في حين انقطعت آجال أولئك الناس، يا الله ما أعظمها من نعمة أن لا زال في العمر بقية للعمل الصالح، يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.
إخواني وأحبائي، أجمع الناس علمائهم وعامّتهم على أن الموت يأتي بغتة، ليس له وقت محدد ولا مكان محدد ولا سبب محدد، فلا يُغَرَّنّ صاحبُ العشرين بشبابه، فقد مات الملايين من قبله وهم لم يبلغوا العاشرة، ولا يُغَرَّنّ صاحب المسكن الحصين والسيارة الحديثة والحرس والحشم، ففي قصص الأولين عبر وفي القرآن عظات وعظات، قال تعالى: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ). وقال سبحانه: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ).
وقال عز وجل:قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴿53﴾ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴿54﴾ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴿55﴾ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ﴿56﴾ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴿57﴾ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴿58﴾
أسأل الله أن يُمِدّ في أعمارنا على طاعته وأن يجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلّ خير وأن يجعل الموتَ راحةً لنا مِن كلّ شر، وأن يجعلَ خيرَ أعمالِنا خواتيمَها، وخير أيامنا يوم نلقاهُ وهو راضٍ عنّا.
دمتم بخير،
أخوكم المحب.
تعليق