هذا ما رأيت في رحلة الأحزان
للشيخ خالد الراشد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا بفضل الله اول عمل لى
فى مجموعة تفريغ الدروس والله أسأله ان يتقبل ويكون لوجهه الكريم )
للشيخ خالد الراشد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته هذا بفضل الله اول عمل لى
فى مجموعة تفريغ الدروس والله أسأله ان يتقبل ويكون لوجهه الكريم )
إن مرور الليالي والأيام يدل على اقتراب الأجل، وإن الأحداث العظيمة والكوارث الجسيمة فيها عبرة لنا؛ علّنا نرجع إلى ربنا تبارك وتعالى، وما حدث في مناطق شرق آسيا بما يسمى بـ(تسونامي) سببه الرئيسي هو ذنوب العباد، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فلكي نسلم من مثل هذه الكوارث علينا التزام الأوامر والنواهي الإلهية، فهو المخلص الوحيد من مثل هذه الحوادث الأليمة.
مرور الأيام معناه دنو الأجل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71]. أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله، وكل ضلالة في النار. معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وحياكم الله وبياكم وسدد على طريق الحق خطاي وخطاكم، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعني وإياكم في دار كرامته، وأن يحفظني وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين، لا ضالين ولا مضلين. أحبتي! انتهى عام، ونحن على وشك أن نبدأ عاماً آخر، فما أسرع انقضاء الأيام والليالي، فالأيام والليالي تبليان كل جديد، وتقربان كل بعيد، وتأتيان بكل موعود ووعيد. إن مرور الأيام وانقضاء الليالي له معنى واحد وهو: أني أنا وأنت نقترب من النهاية، ومعناه: أن الأجل يقترب والفرصة تقل يوماً بعد يوم، ولا معنى له غير هذا المعنى، فكل ليلة وكل يومٍ ينقضي هو من عمري ومن عمرك أنت، والآجال تنقص ولا تزيد، والأعمار تنقص يوماً بعد يوم لا تزيد، فأعمارنا في نقصان يوماً بعد يوم. وعلى مدى عام إلى يومنا هذا حدثت أحداث، واستجدت أمور، وتغيرت أشياء لا يعلم بها إلا الحكيم الخبير الذي قال: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]. إن محاسبة النفس في نهاية العام دليل على الجدية والهمة العالية، فالتاجر الناجح هو الذي يراجع الحسابات حيناً بعد حين؛ لذلك أمرنا الله بمراجعة الحسابات فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [الحشر:18]، والكيّس هو الذي يحاسب نفسه كل يوم، فإن لم يكن ففي الأسبوع مرة، فإن لم يكن ففي الشهر مرة، فإن لم يكن ففي السنة مرة، فإن لم يكن ففي العمر مرة، فلابد أن نقف ونراجع حساباتنا، ولن أقف مع ما فعلتَ أنتَ أو فعلتِ أنتِ أو ماذا قدمنا أو أخرنا، فخلال العام الماضي حدثت أمور جسام، وآيات عظام يخوف الله بها عباده، ولعلي مع نهاية هذا العام أقف وقفات، مع ما حدث في هذا الكون الذي يدبره الواحد الأحد، والذي لا يتحرك متحرك في كونه إلا بعلمه، ولا يسكن ساكن في أرضه ولا في سمائه إلا بقدرته وأمره وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ * وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ * قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:59-67].......
أعظم الأحداث في شرق آسيا
لعل أعظم ما حدث في عامنا المنصرم هو ما حدث في شرق آسيا، تلك الآية العظيمة التي بلغ خبرها القاصي والداني، كيف لا وفي دقائق معدودة حدث ما حدث من الآيات العظام، لقد تغير مجرى هذا الكون رأساً على عقب، لقد تحركت الأرض، وماجت الجبال، وفاضت المياه والبحار والأنهار، واهتزت الأرض تحت أقدام البشر، فمات من مات، وهلك من هلك، وشرد من شرد، وأصيب من أصيب، وحدثت مصائب وآلام لا يعلم بها إلا الله، لقد حدثت في دقائق معدودة، ولكن للأسف الشديد فإن سكان الأرض لم يستفيدوا من تلك الآية، ولم ينزلوها في مكانها الصحيح، فالذي حدث أن وسائل الإعلام نقلت لنا الخبر وتكلمت عن أسباب الزلازل وأسباب الفيضانات، ونظروا إليها من المنظور العلمي، وما ذكروا أنها عقوبة من الله جزاء مخالفة أهل الأرض أوامر الله تبارك وتعالى، فالأمر أمره، والأرض أرضه، والسماء سماؤه، يفعل ما يشاء و لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]. لقد رأينا بأم أعيننا على شاشات التلفاز والقنوات تلك الأحداث التي جرت، لكن ليس الخبر كالمعاينة، فقد نقلت لنا وسائل الإعلام الخبر إلا أننا لا نستطيع أن نتصور ما حدث هناك حقيقة، فالذي حدث -والله الذي لا إله إلا هو- أمر يفوق تصور الإنسان، ولا يستطيع الإنسان بعقله المحدود أن يتصور ما حدث هناك، حتى حين ترى وتقف في تلك الأماكن فإن العقل يقف حيراناً، كيف حدث هذا؟! وكيف تم هذا في لحظات؟! وما هي تلك القوة التي أحدثت كل هذا الدمار في لحظات معدودة؟! إنها قوة الجبار الذي إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون. وقد ذهبت إلى هناك وشاهدت بأم عيني ماذا حل من الدمار، ورأيت ومع إنني رأيت لكنني والله لا أستطيع أن أصور حقيقة الأمر، فالأمر أكبر مما أستطيع أن أستوعبه أنا أو تفهمه أنت، والأمر أعظم من أن نذكره في كلمات، والأيام القادمة وما يليها ستكشف لنا حقيقة الأمر الذي كان هناك، في كل يوم كنت أتنقل من منطقة إلى منطقة والسؤال الذي كان يدور في خاطري دائماً ماذا كان يصنع هؤلاء حتى حل عليهم هذا؟ هل هو زنا وشرب خمور؟ الأمر أعظم من هذا كله، والأيام القادمة ستكشف لنا الحقيقة.......
دوافع الرحلة
ما الذي دفعني للذهاب؟ لقد شاهدت مثلكم ما بُثَّ على شاشات الفضائيات، ورأينا ما حل من الدمار، لكن حز في خاطري أنني رأيت الصليب يتجول هنا وهناك في بلاد المسلمين، حز في خاطري أني رأيت المعونات تقدم إلى المسلمين ممن يضعون الصليب على صدورهم وعلى ظهورهم! فقلت: أين نحن عن إخواننا هناك؟ وأين الهيئات والمنظمات الإسلامية؟ نعم لقد قدمت معونات وبلادنا أيضاً ممن قدم المعونات لكنها كلها ذهبت تحت إطار الأمم المتحدة التي يتزعمها الصليب، والذي قدم تلك المعونات هو الصليب للمسلمين هناك، فحز في خاطري أن أيام العيد قادمة وأنه ليس بين المسلمين من يواسيهم في مصابهم وفي آلامهم إلا أبناء الصليب، ورأيت من فتيات الصليب ومن شبابه متطوعين أتوا من كل مكان لكي يساعدوا في عمليات الإنقاذ والإعمار والتنظيف وإخراج الموتى، وما رأيت من العرب أحداً، ولا من المسلمين أحداً، ورأيت من شبابهم وكبار سنهم صغاراً وكباراً يتجولون بين الملاجئ والمستشفيات، وليس ذلك منهم حباً في الإسلام والمسلمين، والله! ما جاءوا لأنهم يحبوننا، لكنهم جاءوا حتى يبينوا للمنكوبين أن الصليب معهم، وأن الصليب يساعدهم في نكباتهم. فقررت الذهاب قبيل بداية شهر ذي الحجة بأيام، قالوا لي: تأخر إلى ما بعد الحج، لكني أعرف أن الجرح إذا تطاول عليه الزمان يبرأ يوماً بعد يوم، والذي نراه اليوم ليس كالذي نراه غداً وبعد غد، اليوم سترى أشياء ثم هذه الأشياء ستندثر وتختفي، ولن ترى ما تراه في بداية الأمر وفي أول المصاب، ثم إني أردت أن أكون بين أولئك في أيام العيد لأنظر كيف سيقضون أيام العيد! فقررت السفر، فاخترت صحبة للذهاب معي، لكن صحبتي تخلت وتقاعست في آخر اللحظات، وعذرهم أن الظروف الأمنية لا تسمح، وأن الظروف الصحية لا تسمح، وأن الأوضاع هناك مضطربة ولا أحد يستطيع أن يذهب إلى هناك، فقلت: سبحان الله! كيف ذهب أبناء الصليب وما وضعوا هذه العراقيل وهذه العقبات، لماذا عندما نقدم دائماً نتأخر ونضع العراقيل ونضع العقبات ولا يضعونها هم؟! لذلك تقدموا هم وتأخرنا نحن، فقررت السفر ولو كنت بمفردي. واستشرت أمي رحمها الله فقالت: ما دام الأمر طاعة، وفي مرضاة الله فصلِّ واستخر ثم توكل على الله، فكانت هذه الكلمات دافعاً لي على أن أعزم على الذهاب ولو كنت سأذهب بمفردي، فاتصلت على الإخوان في الكويت من جمعية إحياء التراث الكويتي، ولهم مكتب هناك، ثم مع بداية الأحداث فتحوا مكتباً آخر في المناطق المنكوبة فقالوا: سنستقبلك وسنرتب لك الأمور، وهذا شجعني على الذهاب حتى وإن كنت بمفردي. فما الذي دفعني للذهاب؟ لقد دفعني إلى ذلك أولاً: أن الذي حدث هناك آية من آيات الله أردت أن تكون واعظاً لي أنا أولاً ثم واعظاً للذين سأنقل لهم الصورة، وأردت من ذهابي أيضاً أن أرى بأم عيني حقيقة ما حدث، فصحيح أننا سمعنا ونقل لنا من هنا ومن هناك لكن ليس الخبر كالمعاينة، وليس من رأى كمن سمع، فأعددت العدة للسفر، وأسميت الرحلة من أولها إلى آخرها برحلة الأحزان، فهذا ما رأيت في رحلة الأحزان، وكيف لا تكون رحلة أحزان وقد رأيت مصرع آلاف من البشر؟! كيف لا تكون رحلة أحزان وقد رأيت من أحوال المسلمين ما يدمي القلب، ويقض المضجع، ويدمع العين؟! لقد رأيت أهوالاً عظاماً لعلي أستطيع أن أصورها لكم في هذه الساعة المحدودة وإلا فالأمر أعظم مما سأتكلم وأعظم مما سأقول.......
بداية رحلة الأحزان
انطلقت من هنا في يوم الخميس الثالث من ذي الحجة في الخامسة من مساء يوم الخميس عن طريق جسر الملك فهد ، من هنا بدأت أحزاني، والجسر فيه زحام شديد لا يعلمه إلا الله، فكنت أتلفّت يمنة فلا أرى إلا شباباً من شبابنا ومن أبنائنا والموسيقى في كل مكان، والضحكات من هنا وهناك، وهم طوابير، فوالله! لقد وقفنا في الطابور أكثر من ساعتين حتى استطعنا أن نصل إلى المكان الذي نختم جوازاتنا فيه، ونتجاوز النقطة إلى النقطة التي تليها على مدى تلك الساعات، ووالله! ما رأيت إلا أمماً من الشباب تجاوزت الآلاف، أين سيذهبون؟ وماذا يريدون من الذهاب إلى هناك؟ وهل الوقت أصلاً يسمح لمثل هذا اللهو؟ فأمتنا جراحاتها في كل مكان، فهل هذا وقت لهو وضحك وتوزيع ابتسامات، هل هذا وقت معاص ومنكرات، فما رئي صلاح الدين مبتسماً، وحين سئل قال: كيف أبتسم والأقصى بين أيدي الصليبيين؟ فكم للأقصى وهو يئن ويشتكي؟! هاهو الأقصى يلوك جراحه والمسلمون جموعهم آحاد يا ويحنا ماذا أصاب شبابنا أو ما لنا سعد ولا مقداد؟......
بداية الأحزان من قبل الإقلاع
تجاوزنا أول النقاط ووصلنا إلى مطار البحرين، وهناك اختلط الحابل بالنابل فلا تعرف الرجال من النساء، ولا تعرف هل هذا رجل أم امرأة! فتقدمت بجوازي وتذكرة سفري إلى تلك التي تعمل في خطوط طيران الخليج، وكانت تتبسم لمن قبلي كلهم، وهذه هي وظيفتهم التبسم في وجه العملاء، فلما رأتني استنكرت وعبس وجهها وتغير، وكنت أعرف أن الرحلة إلى اندونيسيا مليئة بالنساء والخادمات، فقلت لها: لي مطلب واحد وهو: أن أكون على النافذة، وأن أكون بجانب رجل، قالت: ليس عندي لك مكان إلا هذا، قلت: من حقي أن أطلب المكان الذي أريده فأنا راكب على هذه الطائرة، ومن واجبكم أن تقدموا الخدمات المسموحة والممكنة لي، قالت: ليس هناك إلا ما أعطيتك إياه، قلت: أكيد لا يوجد غير هذا المكان؟ قالت: لا يوجد غير هذا المكان، ثم أعطتني تذكرة سفري، وبطاقة صعود الطائرة، قلت لأصحابي الذين رافقوني إلى المطار: هل يعقل أني سأركب في طائرة لمدة تسع ساعات بجانب امرأة؟ فكيف لو نمت وسقطت عليها بجانبي، أو هي نامت وسقطت علي، لا والله! لا يعقل، فتكلمنا مع أحد مسئولي المطار الذين يتعاملون مع الركاب، فقال: هات التذكرة، ثم أعطاني المكان الذي أريد، فلماذا لم تقدم لي تلك المرأة هذه الخدمة؟ أصبح الإسلام متهماً في كل مكان، والمصيبة ليس منهم وإنما هي من أبناء جلدتنا، والمصيبة ليست خارجية بل المصيبة في فهم أبنائنا وبناتنا لهذا الدين. فتجاوزنا هذه المرحلة ثم ركبت الطائرة فإذا بثلاثة من الشباب العرب في حالة سكر، جلسوا بجانبي، أنا على النافذة وهم في الثلاثة الكراسي الوسطى في الطائرة، ثم انتظرنا قبل الإقلاع نحو نصف ساعة، فبدءوا يطلقون السب والشتم واللعان، وبدءوا يستهزءون بالعرب والمسلمين، فسكت ثم تمادوا يسبون الإسلام، لقد بدأ أبناء الإسلام يتطاولون على الإسلام، ويقول أحد هؤلاء السكارى: يظنون أن الدين صلاة، ليس هذا هو الدين، -فيتناقش مع صاحبه وكأنه ينزل عليه الوحي في الطائرة، قالوا: يظنون أن الدين صلاة وإطلاق لحى، إن الدين طهارة القلب ليس صلاة ولا كثرة عبادة، وهنا لم أستطع السكوت أكثر مما سكت، فلقد تجاوزوا الحد، فقلت لهم: اسمعوا يا سكارى؟! أمركم على أنفسكم لكن لا تتجاوزوا في الكلام، فلقد ضايقتم ركاب الطائرة، فقال لي: يا أفغاني! يا كلب!!! اذهب وقاتل من أجل فلسطين يا جبان! قلت في نفسي والله! الأفغاني أفضل من وجهك ولكنهم سكارى، فعقولهم في وادٍ وهم في وادٍ آخر، وقد قال الله عن عباد الرحمن: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، فهذا إن كان في كامل عقله وقواه فكيف بسكران مثل هذا؟ فقلت: لقد ضايقتم ركاب الطائرة، قال: ما أحد اشتكى إلا أنت، وهنا ثارت الطائرة كلها عليهم، وقامت لهم امرأة محجبة -لله درها- وأسمعتهم من غليظ الكلام، قالت: ألا تخشون الله في الأرض، أما تخافون من العقوبة بين السماء والأرض؟ أما تخشون وأنتم تسمعون عن العقوبات الإلهية في كل مكان، كيف تأتون الآن وتعصون الله؟ والله! لا أجالسكم في مكان واحد ثم انطلقت إلى الأمام، لقد تقاعس الرجال عن إنكار المنكر، فقامت المرأة وأنكرت عليهم، فتوعدوني وقالوا لي: الموعد في مطار أبو ظبي! وهنا تذكرت أحد أصحابي أحتاجه في مثل هذا الموقف، وأعرفه تمام المعرفة، وباستطاعته أن يمسك اثنين بقبضته، فتمنيته معي في ذلك الموقف لكن أراد الله أمراً آخر. فلما وصلنا إلى مطار أبو ظبي بحثت عنهم فلم أجدهم، وفترة الانتظار في أبو ظبي تمتد إلى ثلاث ساعات، وما أدراك ما مطار أبو ظبي؟! فالمنكرات في كل مكان، فأين الفرار؟ فما وجدت مهرباً إلا إلى الله، فرأيت مصلى صغيراً فأويت إليه، فمكثت فيه لمدة ثلاث ساعات أقرأ القرآن، كما فر كثير من الصالحين إلى ذلك المكان، فلا مفر من الفتن إلا إلى الله تبارك وتعالى.......
أخبار الرحلة على الطائرة إلى إندونيسيا
عندما حانت ساعة الرحيل انطلقت إلى البوابة التي ينادى عليها ففوجئت أن السكارى معي على نفس الطائرة، فقلت: لم أتخلص منكم هناك وستظلون معي تسع ساعات الآن؟! فركبوا معي وكانوا في الكراسي التي أمامي تماماً لكنهم لم يتكلموا بكلمة طوال الرحلة، ماذا كانوا يصنعون؟ إنهم كانوا يتبادلون كئوس الخمر لتسع ساعات حتى أهلكهم الخمر، فناموا باقي الرحلة، فأقلعنا في الساعة الثانية ليلاً، أي: أنه بعد ساعتين أو ثلاث سيكون وقت صلاة الفجر، وعلى متن الطائرة أكثر من ثلاثمائة راكب ما بين رجل وامرأة وأكثرهم نساء، فنظرت في واقع هؤلاء النساء: ما الذي دفعهن للسفر آلاف الأميال؟ لقد تركن بيوتهن وتركن أهليهن وتركن كل شيء بحثاً عن لقمة العيش، مع العلم أن اندونيسيا ليست بالبلد الفقير، فهي أكبر دولة مسلمة من حيث تعداد السكان، وتعدادها أكثر من مائتين وعشرين إلى مائتين وثلاثين مليوناً، وهي رابع أكبر دولة في العالم، فجزرها وأراضيها تمتد ما بين المحيط الأطلسي والمحيط الهندي، وحتى تقطع اندونيسيا من أولها إلى آخرها تحتاج أن تركب الطائرة لمدة خمس ساعات، إنها جزر مترامية الأطراف، غنية بالنفط والمعادن والمياه والزراعة والقوة البشرية وبكل شيء، والعجيب أن شعبها من أفقر شعوب العالم! سأذكر لك السبب حين نصل إلى تلك الديار. فوفقني الله إلى رجل اندونيسي فيه من الخير الشيء الكثير، فبدأنا نتكلم أنا وإياه على مدى الرحلة عن أحوال المسلمين هنا وهناك، وأعجبني -رغم أنه لا يتكلم العربية بطلاقة- استشهاده بآيات القرآن، فقد كان يستشهد بآيات القرآن ويضعها في مكانها الصحيح، فحانت صلاة الفجر، فقلت له: نصلي ثم لابد -إبراءً للذمة- أن نخبر أهل الطائرة أنه قد حان وقت صلاة الفجر، فبدأ هو يطوف على من أمامنا وأنا أطوف على من خلفنا: أنه قد حانت صلاة الفجر، وركاب الطائرة تجاوزوا الثلاثمائة، فوالله! ما صلى إلا خمسة، سبحان الله! نحن بين السماء والأرض، وأنت بحاجة إلى أن تستشعر أنك في حاجة إلى الله في مثل هذا الظرف، وأسألكم بالله لو حدث خلل فني بسيط في الطائرة من الذي سيجيرنا من عذاب الله؟ ومن الذي سيدفع عنا عذابه؟ ومن الذي سندعوه في تلك اللحظات؟ ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا لما وصلنا إلى الشاطئ عصيناه ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ وما سقطنا لأن الحافظ الله......
تعليق