الحمد لله ربِّ العالمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وليُّ الصالحين, وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله, الصادق الوعد الأمين, صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن سارَ على طريقته وانتهج نهجه إلى يوم الدين, وعلى رُسُل الله أجمعين, "رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ", اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم, إلهي لا تُعذِّبني فإني مقرٌّ بالذي قد كان مني, يظن الناس بي خيرًا وإني لَشرُّ الناس إن لم تعفُ عني.
الخوف من الله وخشيته عزَّ وجلَّ من أهَمِّ مراتب الإيمان
أحبتي في الله، أعظم العبودية الخوف من الله, خشية الله، "فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" آل عمران:175، "فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ"المائدة:44، "فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ" النحل:51، انظروا، الله يأمرنا بالخوف والخشية من الله. ويقول ربُّنا تبارك وتعالى: "وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى" النازعات41:40، ويقول ربُّنا: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" الرحمن:46. النبي صلى الله عليه وسلم يروي حديثًا عجيبًا, جاء عند البخاري ومسلم من حديث أبي سعيدٍ الخدري ومن أبي هريرة، عن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنَّ رَجُلاً قَدْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللهُ مَالاً، فَقَالَ لبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أيُّ أبٍ كُنْتُ لَكُمْ؟ قَالُوا خَيْرَ أبٍ قَالَ فإنِّي لَمْ أعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ فإذَا مِتُّ فاحْرِقُونِي ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ، ففَعَلُوا, فجَمَعَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ فقَالَ: مَا حَمَلَكَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ، فتَلَقَّاهُ برَحْمَتِهِ " صحيح البخاري الحديث عن الخوف والخشية من أهَمِّ مراتب الإيمان, لكن في الحديث في رواية أبي هريرة مسألة لابد أن نشير إليها, أن نَحُلَّ إشكالية الحديث، وهو قول الرجل لبنيه "لَئِنْ قَدَرَ اللهُ عَلَيَّ لَيُعذِّبَني" هل كان الرجل يشك في قدرة الله؟ هذا ظاهر كلام الرجل, بعض أهل العلم قال إن قَدَرَ هنا بمعنى ضَيَّق وهي تأتي بهذا المعنى في القرآن وفي اللغة, والبعض الآخر قال قدر من القُدرة, ولكن الرجل قال هذا جهلاً وهذا هو الراجح عند شُرَّاح الحديث وعند فقهاء الإسلام, وقيل إن الرجل قال الكلمة في حالة من حالات الذُهول لما حضرته الوفاة, فقالها في حالة من حالات الخطأ وذهول العقل، فأيًّا ما كان فنحن لا نعتقد أن الرجل كان كافرًا؛ لأن الرجل كان يخاف الله ويخشى الله، وعلم أنه عند الموت سيُعذَّب، وأن الله سيقدر عليه ويعذبه, فظن أنه يفرُّ بهذا, فلما سأله ربه ما حملك على ما صنعت؟ قال مخافتك يا ربِّ, أو قال خشيتك هي التي حملتني على هذا؛ فغفر الله لذلك. الله سبحانه وتعالى يصف المؤمنين كاملي الإيمان بشدة الوَجَل, الوجل صُفرة الخوف, اقرأ معي في صورة الأنفال:"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ" الأنفال4:2 ويقول ربُّنا تبارك وتعالى عن أولياء الشيطان: "فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ" آل عمران:175.
ما خافه إلّا مؤمن وما أمِنَه إلّا منافق
إبراهيم التَّيْمِي يقول: "ينبغي لمن لا يحزن في الدنيا أن يخافَ أن يكون من أهل النار", يا أهل الفرح والسرور في الدنيا, يا أهل المسرحيات الكوميدية، والأفلام الكوميدية، والسعي في سياحة في الأرض, يا من لا ترجون لله وقارًا، ينبغي لمن لا يحزن أن يخافَ أن يكون من أهل النار, لماذا يا إبراهيم؟ قال: "لأن الله قَصَّ علينا أن أهلَ الجنة يقولون: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ" فاطر:34 إذًا كانوا في الدنيا كان في حُزن، وربُّنا أذهب الحَزَن بدخول الجنة "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ " فاطر:34. ويُذكر عن الحسن البصري أنه قال عن النفاق: "ما خافه إلّا مؤمن وما أمِنَه إلّا منافق". وفي صحيح مسلم عن حنظلة الأسيدي كاتب الوحي أنه لَقِيَ أبا بكر: "فقَالَ: كَيْفَ أنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟، قَالَ قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سبْحَانَ اللهِ! مَا تَقُولُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسِلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بالنَّارِ والجَنَّةِ، حَتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ والأوْلاَدَ والضَّيْعَاتِ، فنَسِينَا كَثِيرًا – عَدَّهُ نِفَاقًا - قَالَ أبُو بَكْرٍ: فوَاللهِ، إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فانْطَلَقْتُ أنَا وأبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ومَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ والجَنَّةِ، حَتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فإذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ والأوْلاَدَ والضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلاَئِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وفِي طُرُقِكُمْ، ولَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ، سَاعَةً وسَاعَةً، سَاعَةً وسَاعَةً، سَاعَةً وسَاعَةً" صحيح مسلم أي ساعة لحظوظك الدنيوية أن تُعافِسَ أهلَك وأولادَك ومالَك, وساعة للقرب من ربِّك سبحانه وتعالى, لكن الشاهد خوف الصحابة الكرام من حبوط العمل وخوف الصحابة من النفاق, لقد كان عمر بن الخطاب يخاف على نفسه من النفاق، ويقول لحُذَيْفَةَ صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَذَكَرَني رسول الله صلى الله عليه وسلم لك؟"، عمر، أعدل من عرفناه في تاريخ البشرية بعد النبيين يخاف على نفسه النفاق.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان نموذجًا للخوف والخشية
"فعَنْ عَائِشَةَ أنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرُ قَدَمَاهُ، فقَالَتْ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللهِ، وقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ ومَا تَأخَّرَ؟ قَالَ: أفَلاَ أُحِبُّ أنْ أكُونَ عَبْدًا شَكُورًا" صحيح البخاري وكان يقول: "واللهِ إنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ وأتْقَاكُمْ لَهُ" صحيح البخاري وكان يدعو في ختام صلواته، يقول: "اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ خَشْيَتَكَ فِي الغَيْبِ والشَّهَادَةِ" صححه الألباني أسألك أن ترزقني الخوف منك والخشية في الغَيْب، والشهادة أمام الناس وإذا خلوت بك يا رب. وكان يقول في دعائه: "اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا تَحُولُ بِهِ بَيْنَنَا وبَيْنَ مَعَاصِيكَ" حسنه الألباني وقد روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس مرة على شَفِيرِ قبرٍ فبكى حتى بَلَّ الثرى, ثم قال: "يَا إخْوَانِي لِمِثْلِ هَذَا فأَعِدُّوا, لِمِثْلِ هَذَا فأعَدُّوا" حسنه الألباني. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر النارفأشاح بوجهه فتعوَّذ منها، ثم ذكر النارفأشاحبوجهه فتعوذ منها، ثم قال: "اتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بشَقِّ تَمْرَةٍ، فمَنْ لَمْ يَجِدْ فبكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ" صحيح البخاري.
الخوف على أقسام وأنواع:
القسم الأول
خوف الهيبة والتعظيم والإجلال لله رب العالمين، من ذلك خوف الملائكة, يخافون ربهم من فوقهم, لا يخشون الذنوب والمعاصي، فإنهم لا يذنبون ولا يعصون الله ما أمرهم, لكن خوف هيبة, خوف إجلال وتعظيم, وكذلك خوف النبيين وعلى رأسهم محمد صلى الله عليهم أجمعين, يخافون ربهم إجلالاً له, وهيبة له, ووقارًا له سبحانه وتعالى.
القسم الثاني
خوف المذنبين, الرسول صلى الله عليه وسلم دَلَّ على القسم الأول، وقال: "لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أعْلَمُ لضَحِكْتُمْ قَلِيلاً ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا" صحيح البخاري خوف العقوبة, خوف الذنب, خوف المذنبين هو القسم الثاني, وهو خوفٌ يقع من المؤمنين إذا أذنبوا, ومَن مِنَّا لا يذنب؟! ومَن منا لا يُخطئ؟! وهذا الخوف يَتَوَلَّد عن تصديق الوعيد وذِكر الجناية, ومراقبة العاقبة, الوعيد، نعلم أن الله يحاسب ويؤاخذ ويُعذِّب, فنحن نقرأ آيات الوعيد, وأحاديث الوعيد بالنار, ونقرأ أن هذا الوعيد مرتبط بذنوب مُعيَّنة, فنذكر ذنوبنا ونذكر ما أسرفنا فيه على أنفسنا، فنخاف فنتوب فنرجع فنستغفر.
القسم الثالث
خوف المَكر, وخوف حُبُوطِ الأعمال، وهو خوف المتَّقين وخوف الصالحين, يعملون لله بالطاعات, ويخافون ألّا تُقبَلَ, يخافون أن تُرَدَّ في وجوههم, هؤلاء هُمُ المُشْفِقُونَ من عباد الله المؤمنين المتقين, المنافق يُدِلُّ على الله بعمله, يعتقد أنه سيدخل الجنة بلا حساب؛ لأنه صلى ركعتين أو لأنه تصدق بقروشٍ قليلة, لكن المؤمن يعمل الصالحات ويخاف ألّا تُقبل منه, وقد كان الصحابة من أعلى الناس خوفًا.
الخوف المحرَّم:
هناك خوف يقع فيه الناس كثيرًا, وهو خوفٌ من غير الله, منه خوف السر, أنتم تعلمون من يذهب لصاحب قبر ويطلب منه شفاء المريض ونجاح الولد، وينذِر له من دون الله, تقول له: "اتَّقِ الله يا أخي، لا تفعل هذا، لا نذرَ إلّا لله, لا تدعُ إلّا الله, إذا سألت فاسأل الله", يقول لك: "حتى لا يَضُرَّني، فيخافونهم كما يخافون الله, والله سبحانه وتعالى يَنْعَى على هذا فيقول: "أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ" الزمر:36 ويقول سبحانه وتعالى حكايةً عن قوم هود أنهم قالوا لهود "إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ"هود:54، الخوف المُحَرَّم وهو تَرْكُ بعض الواجبات الشرعية, خوفًا من النَّكير, أو خوفًا من السلاطين, أو خوفًا من شيء من نحو هذا، وكذلك الخوف الطبيعيُّ، خوفنا على أولادنا, وخوفنا على أموالنا, وهذا طبيعيٌّ، ولكن نحن نُقَنِّنُهُ, بعلمنا أنه لن يصيبَنا إلّا ما كتب الله.
أسِيــرُ الخَطَايَـــــا عِنْـــدَ بَابِــــــكَ وَاقِـــــــفُ ... عَلَى وَجَـــــــلٍ مِمَّــــــا بِهِ أنْتَ عَـــــارِفُ
يَخَــافُ ذُنُوبـــًا لَــمْ يَغِبْ عَنْـــكَ غَيْبُـهَا ... ويَرْجُوكَ فِيـــــــهَا فهُــــــــــوَ رَاجٍ خَائِـــــــفُ
فمَـنْ ذَا الَّـــــذِي يَرْجُــو سِوَاكَ ويَبْتَغِـــي ... ومَالَكَ فِي فَصْلِ القَضَـــاءِ مُخَالِــــــفُ
فيـًــا سَيِّدِي لاَ تُخْزِنِي فِــــــي صَحِيفَتِي ... إذَا نُشِرَتْ يَوْمَ الحِسَابِ الصَّحَائِفُ
وكُـــــنْ مُؤْنِسِي فِــــي ظُلْمَةِ القَبْرِ عِنْدَمَا ... يَصُـــــدُّ ذَوُو وُدِّي ويَجْفُـــو المُؤَالِـــــفُ
لَئِــــــنْ ضَـــــاقَ عَنِّـــــــي عَفْــــــوُكَ الوَاسِـــــعُ ... الَّـــذِي أُرَجِّي لإسْرَافِي فإنِّــي لَتَالِـــفُ
اللهم اغفر لنا وارحمنا وتجاوز عنَّا وأسْكِنَّا درجات العُلى من الجنان يا كريم يا منَّان، وصلِّ اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تم بحمد الله
رابط المادة
http://www.way2allah.com/khotab-item-30825.htm
شاهدوا الدرس للنشر على النت في قسم تفريغ الدروس تفضلوا هنا:
https://forums.way2allah.com/forumdisplay.php?f=36
تم بحمد الله
رابط المادة
http://www.way2allah.com/khotab-item-30825.htm
شاهدوا الدرس للنشر على النت في قسم تفريغ الدروس تفضلوا هنا:
https://forums.way2allah.com/forumdisplay.php?f=36
تعليق