محبة الله والطريق اليها
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فاعلموا -يا إخواني- أن محبة الله تعالى والطريق إليها موضوع له أهمية عظيمة في حياتنا التي نعيشها اليوم. فمن الأسباب المهمة الملجئة لطرق الموضوع: أنه إذا تأمل الإنسان نفسه، وتأمل مَن حوله، فإننا نجد -أيها الإخوة- أن كثيراً من عباداتنا مثل الصلاة وغيرها، قد تحولت إلى عادات. فصرنا ندخل المساجد، ونكبر وراء الإمام، ونقوم بأداء الركعات، ثم نسلم ونحن لم نفقه من أمر الصلاة شيئاً. وإذا أتى الصيام تناول الواحد السحور بعملية أوتوماتيكية ثم يفطر، وهكذا يمر شهر رمضان وهو لم يستفد من الصيام شيئاً. ويذهب الواحد إلى الحج، وقد تثور في نفسه بعض المشاهد التي تذكره بالله عز وجل؛ ولكن إذا كرر هذه العبادة، فإن هذا الحماس وهذا التأثير يتلاشى. كذلك -يا إخواني- كثيرٌ من الذين يتمسكون بالإسلام، ويلتزمون به يكون تمسكهم بالإسلام في البداية على غير أساس صحيح؛ لأنهم دخلوا في هذا التمسك تقليداً لا محبة لله عز وجل، كأن يرى مَن حوله يصلون فيصلي، ويرى من حوله لا يسمعون الأغاني فيترك الأغاني، ويرى مَن حوله يقصر ثوبه فيقصر ثوبه، تقليداً لا حباً في الله عز وجل، فبَعد فترة من الزمن ينتكس هذا الشخص وينقلب على عقبيه. فالشاهد -أيها الإخوة- أن هذا الموضوع (محبة الله عز وجل) موضوع مهم وخطير جداً. حتى نصحح العبادات، وحتى نصحح الالتزام بالإسلام، ونصحح طريق السير إلى الله تعالى لا بد أن نعرف: ما هي محبة الله؟ كيف تكون محبة الله؟ ما هي علامات حب الله للعبد؟ وما هي الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله عز وجل؟ أشياء كثيرة لا بد من معرفتها. والمحبة -أيها الإخوة- من أعمال القلوب؛ لأننا نعلم أن الإيمان هو: قول القلب، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح. وهنا كلامٌ سأسوقه إليكم الآن وهو مُجَمَّعٌ أكثره من كلام العالم الرباني شيخ الإسلام الثاني ابن القيم رحمه الله تعالى، جمعتُ بعضَه، ووجدت بعضه مجموعاً في بحوث لبعض الأشخاص. ولا بد قبل البداية -أيها الإخوة- أن أسرد عليكم مقدمات لهذا الموضوع ذكرها هذا الرجل الفذ في بعض كتبه؛ لأنها عظيمة في المعنى. فيقول رحمه الله تعالى: " الحمد لله الذي جعل المحبة إلى الظَفَر بالمحبوب سبيلاً، ونصب طاعته والخضوع له على صدق الـمحبة دليلاً، وحرَّك بها النفوس -يعني: بالمحبة- إلى أنواع الكمالات إيثاراً لطلبها وتحصيلاً، والمحبة: هي روح الإيمان والأعمال، والمقامات والأحوال، التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه " عبادة ليس فيها محبة كالجسد لا روح فيه، تدخل وتخرج من العبادة بدون أي تأثير. ثم يقول رحمه الله: " الـمحبة: هي المنـزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى علَمها شَمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروَّح العابدون فهي قوت القلوب -محبة الله قوت القلوب، هي الوقود، وهي الدافع للأعمال- وغذاء الأرواح، وقرة العيون، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو في جملة الأموات، والنور الذي مَن فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه حلت به أنواع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال، تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها، وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا أبداً بغيرها واصليها، وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها، وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائماً إلى الحبيب، وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة. والمحبة -أيها الإخوة- تتنوع، كل إنسان يحب شيئاً، وأنت إذا نظرت إلى مراد الأشخاص ومحبيهم في الدنيا، وجدتها متعددة! فسبحان من صرَّف عليها القلوب أنواعاً وأقساماً بين بريته، وفصلها تفصيلاً! فجعل لكل محبوب لمحبه نصيباً! فقسمها بين: - محب للرحمن. - ومحب للأوثان. - ومحب للنيران. - ومحب للصلبان. - ومحب للأوطان. - ومحب للإخوان. - ومحب للقرآن. - ومحب للنسوان. - ومحب للأثمان.
يعني: الأموال والتجارات. - ومحب للألحان.
يعني: الأغاني. فهي شجرة: عرقها الفكر في العواقب -ماذا سيحدث بعد الموت- وساقها: الصبر، وأغصانها: العلم، وورقها: حسن الخلق، وثمرتها: الحكمة.
فإذا غُرِسَت هذه الشجرة في القلب، وسُقِيَت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهما ركنا العمل الصالح أثْمَرَت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بأمر ربها، أصلها ثابت في قرار القلب، وفرعها متصل بسدرة المنتهى. ولأجل المحبة -أيها الإخوة- أنزل الله الكتاب والحديد، فجعل الكتاب هادياً إليها، ودالاً عليها، وجعل الحديد لمن خرج عنها وأشرك بها مع الله أحداً غيره، ولذلك ذم الله المشركين الذين يحبون أندادهم مثل محبة الله،


فإذا سألت -يا أخي المسلم- ما هي العلامات التي أعرف بها أن الله يحبني بها؟ كيف أعرف هذا؟
حمايته من الدنيا
أولاً: المحبة على الصحيح من أقوال العلماء ليس لها تعريف إلا لفظها فقط، ولها مترادفات، وكثير ممن عرَّفها إنما عرَّفوها بآثار لها، آثار المحبة عرَّفوها بالمحبة، والصحيح: أنه لا تعريف لها، ولا يمكن تعريفها؛ لأنها شيءٌ شعوريٌ يقوم في القلب، لا يمكن تحديده بألفاظ مطلقاً. فإذا نظرت لبعض الآيات والأحاديث التي فيها علامات محبة الله للعبد نجد بعضاً منها على النحو التالي:- عن قتادة بن النعمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدُكم يحمي سقيمه الماء) أخرجه الترمذي ، وحسنه الألباني . حديث: (إذا أحب الله عبداً حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء) . ( حماه الدنيا ) : يعني: يحميه من فتنة الدنيا، من فتنة أموالها وبهرجها وزخرفها وزينتها، يحميه من هذه الأشياء، ( حماه الدنيا ) : مَن الحِمْيَة، وهي: المنع.
(كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء) : أحياناً يكون الماء مضراً للمريض، فتجد أهل المريض يمنعون عنه ما يضره، فإذا قال لهم الأطباء: أن كثرة شرب الماء مضر للمريض منعوا عنه الماء، كذلك يحمي الله تعالى عبده الذي يحبه كما يحمي أهلُ المريض المريضَ من شرب الماء الذي يكون مضراً به في بعض الأحيان
العلامة الثانية من العلامات: الابتلاء
فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن عِظَم الجزاء مع عِظَم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِطَ فله السُّخْط) . وهذا الابتلاء -أيها الإخوة- يكون على قدر الإيمان، فلما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، يبتلَى الرجل على قدر دينه، فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وليس عليه خطيئة) .
يقول تعالى:


القبول في الأرض
وكذلك من علامة حب الله للعبد: القبول في الأرض: وهذا الحديث الذي رواه الإمام مسلم جاء فيه قصة: أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى أمور الناس، وحج بهم أطل على الناس، فقال أحد أبناء التابعين لأبيه: [هذا -يعني: عمر بن عبد العزيز - يحبه الله تعالى - قال: إن الله يحب عمر بن عبد العزيز - فقال له أبوه: كيف عرفت ذلك يا بني؟ قال: إن الناس يحبون عمر بن عبد العزيز ، فلا بد أن يكون الله قد أحبه قبل أن يحبه الناس، فقال: صدقت يا بني] ثم روى لابنه الحديث التالي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديث الصحيح: (إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض) وتجد كل الناس يحبونه؛ لأن الله قد أحبه، وأحبته الملائكة قبل أن يحبه أهل الأرض، فيحبه الجميع، أهل السماوات وأهل الأرض. وهذه نعمة -أيها الإخوة- لا تشترى بالمال، ومهما عمل التجار، ومهما عمل الكادحون، فلا يصلون إليها إلا بتقوى الله والأعمال الصالحة. كذلك يُسْتَدل من هذا الحديث على أن محبة قلوب الناس للشخص هي علامة على محبة الله.
الرفق
الشيء الرابع من علامات محبة الله للعبد: الرفق: لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح في صحيح الجامع : (إن الله إذا أحب أهل بيت أدخل عليهم الرفق) . تجد أمورهم تسير بغاية الرفق، تجد الزوج يرفق بزوجته، والزوجة ترفق بزوجها، وهما يرفقان بأولادهم، والأولاد يرفقون بأبيهم، وييسر الله لهم سبل الرزق، فيأتيهم رزقهم رغداً من كل مكان من حيث لا يحتسبون.
حسن تدبير الله للعبد
من ضمن العلامات كذلك: حسن تدبير الله للعبد، وحسن تربية الله لعبده منذ صغره :- فتجد التوفيق حليفه دائماً، لا يطرق باباً إلا ويجده مفتوحاً، ولا يتعسر عليه أمر إلا ويكون التيسير حليفه بعد حين،


وهذا توفيقٌ من الله.
موافقة العبد لله فيما يقوله من كلام وأحكام
كذلك -أيها الإخوة- من العلامات: موافقة العبد لله عز وجل فيما يقوله من كلام وأحكام: وأكبر شاهد على هذه القضية: ما حصل في غزوة الحديبية ! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عقد الصلح مع الكفار استشاط بعض المسلمين غضباً لشروط الصلح، وظنوا أن شروط الصلح تملي عليهم أشياء تخالف موقف القوة، وتضعهم في موقف ضعف، هكذا ظنوا؛ ولكن الله أراد أمراً آخر. وكان عمر بن الخطاب ذا نفسية لا ترضى بالدون، ولا ترضى بالضعف، لَمَّا شاهد الشروط ثار وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (يا رسول الله! ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم.
قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟! ...) كيف نوافق على شروط مثل هذه؟! كيف إذا جاءنا المسلم نرده، وإذا ذهب واحد منا من المدينة إلى قريش لا يردونه؟! كيف نوافق على هذه الشروط؟! فماذا أجاب الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: (...
إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه -هكذا أمرني ربي- فقال له عمر : ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت فنطَّوَّف - نطوف- به؟! فقال عليه الصلاة السلام: أقلت لك أنك تأتيه العام؟) -قلت لك أنك ستأتيه هذا العام الذي عقدنا فيه الصلح؟- (قال: لا، قال: فإنك آتيه ومُطَّوِّفٌ به ...) يعني: يا عمر ! ستأتي البيت في يوم من الأيام وتطوف به.
فكلام عمر ليس عن عدم اقتناع، وإنما أراد أن يزداد إيماناً، وأن يتثبت في موقفه، ثم ذهب فوجد أبا بكر الصديق فعرض عليه نفس الأسئلة، ولم يعلم أبو بكر بما دار من حوار بين الرسول صلى الله عليه وسلم، و عمر ؛ لأنه كان بعيداً، قال عمر لـأبي بكر : (...ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟! قال: نعم.
قال: فعلامَ نعطي الدنية في ديننا؟! قال أبو بكر -بالحرف الواحد-: إنه رسول الله، وهو ناصره، وليس يعصيه ...) ماذا قال الرسول؟ ( إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه ) طرح عمر السؤال الثاني، قال: (... ألم يحدثنا الرسول صلى الله عليه وسلم أنا سنأتي البيت فنَطَّوَّف به؟! فقال أبو بكر : أقال لك أنك تأتيه العام؟ -ماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم؟-قال: قلتُ لك أنك تأتيه العام؟ توافُق- قال عمر : لا.
-كما قال للرسول صلى الله عليه وسلم- قال أبو بكر له: فإنك آتيه ومطَّوِّف به ) ماذا قال عليه الصلاة السلام؟ (فإنك آتيه ومطَّوِّفٌ به) . هذا التوافق -أيها الإخوة- ليس عبثاً، لكن إذا أحب العبدُ اللهَ وفق اللهُ العبدَ فيُجْرِي الحقَّ على لسانه، فلا يَخرج منه إلا الحق. و عمر كان من أصحاب هذه المرتبة، فلذلك يقول: [وافقت ربي في ثلاث، أو في أربع: ...] . وافق عمر ربه في ثلاث: - كان يتمنى نزول تحريم الخمر؛ فنزل تحريم الخمر. - كان يتمنى نزول آية الحجاب؛ فنزلت آية الحجاب. - كان له موقف من أسارى بدر ؛ فنزل القرآن تصديقاً له. هؤلاء الأولياء -أيها الإخوة- يُجْرِي الله الحق على لسانِهم، فيوافقون الله ورسوله، حتى لو لَمْ يطَّلِعوا، فيوفقهم الله ويسددهم. ولذلك -أيها الإخوة- كلما قويت مَحبة العبد لله قوي سلطان القلب في الْمَحبة فاقتفى أثر الطاعات، وترك المعاصي والْمُخالَفات. وممن تصدر المعصية؟ تصدر المعصية ممن ضعفت محبته. وهناك فرق عظيم بين مَن تَحمله المحبة على فعل الطاعة، وبين مَن يَحمله الخوف من السوط والضرب والعقوبة على فعل الطاعة. بعض الناس عندما يعمل الطاعة تقول له: لماذا تعمل؟ يقول لك: لأني أخاف إذا ما عملت أن أدخل جهنم، هذا شعور ممدوح؛ لكن هناك شعور أكمل من هذا. ما هو الشعور الأكمل من هذا؟ أنني أعبد الله عز وجل لأنني أحبه، والذي يحب أحداً يسعى لإرضائه. أعبد الله لأني أحبه، وأطمع في جنته، وأخاف من ناره، بعض الناس يعبدون الله خوفاً من العقوبة لا حباً له، وهذه مرتبة أدنى من مرتبة الذي يعبد الله مُحِباً له، طائعاً له، طامعاً في جنته، خائفاً من ناره. ولذلك -أيها الإخوة- المحبة المجردة عن التعظيم تكون ميِّتة، لا يتبعها عمل. لذلك قال السلف : "من عَبَد الله بالحب وحده؛ فهو زنديق. ومن عبده بالرجاء وحده؛ فهو مرجئ. ومن عبده بالخوف وحده؛ فهو حروري ". الزنادقة المنافقون، إذا قلت لأحدهم تقول: أنت تحب الله؟ يقول: طبعاً نحب الله.
فإذا نظرت إلى واقعه، فهو أسوأ ما يكون! المحبة خرجت من اللسان وليس من القلب. فالذي يزعم أنه يحب الله فقط بدون عمل فهذا زنديق. أما الذي يقول: أنا أعبد الله بالرجاء، أتمنى على الله الأماني، وأتمنى أن الله يدخلني الجنة، وأتمنى الفوز بها والنجاة من النار، فهل أنت تعمل لهذا؟ لا يعمل؛ لكن يتمنى على الله الأماني، هذا من المرجئة .
أنواع المحبة
اعلموا -أيها الإخوة- أن المحبة أنواع:
- محبة طبيعية: مثل محبة الجائع للطعام، ومحبة الظمآن للماء.
- محبة رحمة وشفقة: مثل محبة الوالد لولده، والأم لولدها.
- محبة أنس وألفة: مثل محبة الإخوان بعضهم لبعض، ومثل محبة أصحاب الحرفة الواحدة بعضهم لبعض.
- محبة الله وهي تختلف عن كل هذه الأنواع وأهم شيء في محبة الله أنه يقترن بها التعظيم. الوالد عندما يحب ولده هل يعظم الولد ويخاف من الولد؟ لا. وكذلك محبة الإخوان عندما يحب أحدهم الآخر الجائع عندما يحب الطعام هل يخاف من الطعام ويعظم الطعام؟ لا يعظم الطعام. محبة الله من صفاتِها: أنَّها محبة تَجمع بالإضافة إليها الخوف والتعظيم، وهذه الأشياء لا يمكن أن تُجمَع إلا بمحبة الله عز وجل، فإذا صُرِف التعظيم إلى غير الله وقعنا في الشرك؛ لذلك ليس هناك محبة مقترنة بالتعظيم، وصحيحة إلا محبة الله عز وجل.
المحبة تزداد بالطاعة وتنقص بالمعصية
والمحبة -أيها الإخوة- كغيرها من أعمال القلوب تزداد بالطاعة وتنقص بالمعصية. فالذي يعمل المعاصي لا نقول: إنه لا يحب الله مطلقاً! هذا خطأ، وإنما يقال: هو يحب الله على قدر أعماله الصالحة. والذي تزداد طاعته لا نقول: إنه بلغ الْحَد الأعلى، وعنده بعض الْمَعاصي، نقول: إنه يبلغ من الْمَحبة بقدر أعماله الصالِحة. ما هو الدليل على هذا؟ الدليل ما رواه البخاري عن عمر بن الخطاب : (أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يُضْحِك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب -يعني: في الخمر - فأتي به يوماً فأُمر به فجلد، فقال رجل من القوم -من الصحابة-: اللهم العنه، وقال أحدهم: قاتلك الله! ما أكثر ما يؤتى بك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ إلا أنه يحب الله ورسوله) أو كما قال عليه السلام. الله عز وجل أطلع الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي على أن هذا الرجل فيه حب لله، حتى لو فعل هذه المعصية، ما زال فيه حب لله، لكن الذي تنتفي منه محبة الله نهائياً هذا كافر. والذي يرتكب بعض المعاصي، ويكون فيه حب لله بقدر الطاعات التي يؤديها، فإن محبته تنقص بقدر المعاصي، كلما عمل معاصي أكثر نقصت المحبة أكثر، حتى يصل إلى درجة والعياذ بالله إذا صارت أعماله معاصي في معاصٍ، وليس هناك طاعات، إلى درجة الكفر. بعض الناس عندهم حجج! يأتي ويقول: كيف تريدني أن أكره الخمر والله أوجدها في الدنيا؟! ولو كان الله لا يحب الخمر لما أوجدها في الدنيا، كيف تريدني أن أمتنع عن الزنا والله قدر علي هذا الشيء؟! ولو كان الله لا يحب هذا لما قدره.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " ناقشتُ بعض هؤلاء الذين عندهم هذا المنطق، فقال لي -هذا الرجل المارق الملحد- قال: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب -يعني: المحبة تحرق كل شيء إلا الذي يريده الله، فأي شيء موجود معناه أن الله يحبه، بزعم الرجل هذا- والكون كله مراده، فأي شيء أبغض منه؟! قال: فقلت له: فإذا كان المحبوب -يعني: الله عز وجل- قد أبغض بعض ما في الكون، فأبغض قوماً ومَقََتَهم ولعنهم وعاداهم -أبغض شُرَّاب الخمر، وأبغض الزانيات، والزواني، والذين يأكلون الربا، والكفار، والمشركين، أبغضهم ولعنهم ومقتهم، فجئت أنت وواليتهم وأحببتهم تكون موالياً للمحبوب؟! -يعني: لله عز وجل- موافقاً له، أم مخالفاً له ومعادياً؟! قال: فكأنما أُلْقِمَ حجراً ". إن الله عز وجل خلق بعض الأشياء فتنة للناس:




الأشياء التي يتوصل بها العبد إلى محبة الله
لذلك -أيها الإخوة- أمرنا الله عز وجل بأشياء كثيرة حتى نتوصل بها إلى محبته، فمن هذه الأشياء:
محبة أحباب المحبوب
كذلك محبة أحباب المحبوب من الأشياء التي يُستدل بها على محبة الإنسان لله: لذلك كانت مجالسة العلماء والصلحاء والأخيار وأولياء الله عز وجل من الأمور المطلوبة شرعاً، بدلاً من مجالسة أهل السفاهة والضلال والإفساد في الأرض، وقد بلغ الأمر الآن ببعض الناس الذين يحبون -مثلاً- أن يحب أحدهم امرأة ويهواها هوىً شديداً، حتى تجد أن قلبه يتعلق بكل ما يتعلق بها، فتجده يحب حتى حذاءها ونعلها وثوبها، ويحب هذه التوافه، وتجد بعضهم في أشعارهم -بعض هؤلاء الماجنين- يقول: وأحببت فيها حتى كذا وحتى كذا من الأشياء التافهة. انظر إلى أنس بن مالك في الحديث عندما كان يقول: (فأنا أحب الدُّبَّاء كثيراً) الدُّبَّاء هذا: نوع من القرع، لماذا كان يحب أنس الدُّبَّاء؟! لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحب الدُّبَّاء، وكان يتتبعها في الصحفة، يعني: رأى أنس الرسول صلى الله عليه وسلم يتتبع الدُّبَّاء في جوانب الصحفة -صحفة الطعام- لاحظوا -يا جماعة- أن هذه القضية ليست بسيطة -يعني: هذه قضية أكل- فانتقلت المحبة هكذا، فصار أنس يحب الدُّبَّاء؛ لأن الرسول يحب الدُّبَّاء، وهذه المسألة ليست مطلوبة شرعاً، وليست من السنن؛ لأن السنن تنقسم إلى قسمين: - سنة عادة.
- وسنة عبادة. وهذه من سنن العادة، لكن وصل الأمر بالصحابي إلى هذه الدرجة.
بذل النفس في رضاء المحبوب
كذلك كان من واجبات الحب في الله أو المحب لحبيبه أن يبذل نفسه في رضاء المحبوب :- حتى بذل الصحابة أنفسهم رضوان الله عليهم في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم في المعارك؛ لأنهم يحبونه، فكان أحدهم يأتي أمام الرسول والسهام تتطاير ويقول: (يا رسول الله! نحري دون نحرك) يصيبني ولا يصيبك، فإذا كانت هذه هي حالهم في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، فكيف حالهم في محبة رب الرسول صلى الله عليه وسلم؟! لذلك يقول أحد الصحابة رضي الله عنهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى حبيباً مواتيا
ظل يدعو الكفرة في قريش بضع عشرة حجة! وليس هناك فائدة!
ويعرض في أهل المواسم نفسه فلم يرَ مَن يؤوي ولم ير داعيا
فلما أتانا واستقرت بها النوى وأصبح مسروراً بطَيْبَة راضيا
بذلنا له الأموال من حل مالنا وأنفسنا عند الورى والتآسيا
نعادي الذي عادى من الناس كلهم جميعاً وإن كان الحبيبَ المصافيا
ونعلم أن الله لا رب غيره وأن رسول الله أصبح هاديا
يعادون من يعادي الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدافعون عنه، ويبذلون أموالهم. هذه هي الأشياء التي تدل على المحبة.
محبة دار المحبوب
ومن هذه الأشياء أيضاً: محبة دار المحبوب: ألا ترى أن الإنسان في الدنيا إذا أحب شخصاً ازداد تكرار زيارته له ومجيئه إليه في بيته، وتراه دائماً يحضر إليه، يجلس معه، ويذهب إليه، حتى لو كان بعيداً يسافر إليه؛ لذلك جعل الله تعالى الحج إلى بيته العتيق من علامات المحبة، وكانت نفوس المحبين تتعلق ببيت الله عز وجل، لا لأنه أحجار ولأنه بناء بهذا الشكل؛ وإنما لأن الله أضافه إلى نفسه فقال:


خفض البصر أمام المحبوب مهابة له
كذلك -أيها الإخوة- من علامات محبة العبد لله: أن المحب -الحب الذي فيه تعظيم - عندما يقف أمام محبوبه ينظر إلى الأرض، ولا ينظر إلى وجه محبوبه، مهابةً له وحياءً منه. لذلك -مثلاً- تجد الواحد إذا وقف أمام الرئيس أو أمام الوزير أو أمام الكبير لا يحدق فيه ببصره طوال الوقت، هذا يعتبر من قلة الأدب، وهذه من الأشياء التي تبغض الرئيس، وإنما تجد عيونه في الأرض، مطرقاً، وعليه المهابة، والتعظيم، هذا من التعظيم. إذا وقف الإنسان في الصلاة أين يضع بصره؟ في موضع سجوده، ولا ينظر إلى الأعلى، لماذا نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن النظر إلى السماء؟! وقال: (أما يخشى الذي يرفع بصره في الصلاة أن يحول الله رأسه رأس حمار؟!) لماذا هذا الوعيد الشديد؟! لأن من محبة الله عز وجل التي يقترن بها التعظيم أن تضع بصرك كالمطأطئ له، المعظم مهابةً وخشوعاً.
وهذا الحديث أحد الأدلة على أن الله في السماء، لذلك نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرفع المصلي بصره إلى الله عز وجل، وإنما ينظر إلى الأرض مهابةًَ له، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤدباً جداً في غاية التأدب لما صعد إلى الله عز وجل في المعراج، ماذا قال الله تعالى:




ذكر الله تعالى
مثلاً: ذكر الله تعالى: (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله) وصية الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يأتيك الموت إلا ولسانك رطب من ذكر الله، هذه الأشياء مهمة، فالإنسان إذا أحب شخصاً ماذا يفعل؟ تجد ذكر الشخص هذا وسيرته دائماً على لسان الرجل الذي يحبه، فإذا كنا نحب الله فعلاً لا بد أن يكون ذكر الله على لساننا دائماً. ما هو ذكر الله؟ أشياء كثيرة من ذكر الله منها: - قراءة القرآن. - التحميد، والتهليل، والتسبيح. - الدعاء. - الدعوة إلى الله. - طلب العلم الشرعي. - العبادات بأنواعها. فيجب أن يكون لسان الإنسان وجوارحه دائماً مشتغلة بذكر الله، إذا أراد فعلاً أن يثبت أنه يحب الله. ولذلك بعض الشعراء في الجاهلية كانوا إذا أرادوا أن يظهروا إخلاصهم فماذا يفعلون إذا عشق أحدهم امرأة وأراد أن يظهر شدة محبته لها؟ يذكرها في الحرب أثناء شدة القتال، يقول عنترة بن شداد :
ولقد ذكرتُك والرماحُ كأنـها أشطان بئر في لِبان الأدهم
فهو يتفاخر بذكر محبوبته أثناء الحرب، والله عز وجل أمرنا بأكثر من هذا، فقال:




السعي في تحصيل محبوب المحبوب
كذلك -أيها الإخوة- من علامات المحبة أن يسعى الإنسان في تحصيل محبوب محبوبه: إذا كان محبوبك يحب شيئاً، ماذا تفعل أنت؟ تحاول أن تصل بشتى الوسائل إلى ذلك المحبوب -الشيء الذي يحبه محبوبك- وتحققه، إذا كنت تحب محبوبك فعلاً. وأي شيء يبغضه محبوبك أنت تبغضه وتبتعد عنه، إذا كنت صادقاً في المحبة.
الرضا بقضاء الله
وكذلك الرضا بقضاء الله: إذا رضي الإنسان بقضاء الله صارت نفسه مطمئنة، وصار هذا دليلاً على محبته لله. أما إذا تسخَّط وتشكَّى وتبرَّم فيكون هذا دليلاً على كذبه في المحبة، وواقعه يشهد بضد ما يقول.
الأنس بالله عز وجل
كذلك من الأمور التي تدل على محبة العبد لله عز وجل: أن يكون أنسه الخلوة بالله: أي: يرتاح تماماً عندما يخلو بالله؛ في الصلاة، في الثلث الأخير من الليل، ومعنى يخلو: ينقطع عن الناس أحياناً وليس دائماً، حسب المصلحة الشرعية إلى الله عز وجل، يخلو به ويذكره ويدعوه بينه وبين نفسه، ليس هناك واسطة بينهما، فيتلو كتاب الله، ويجتهد ويواظب ويغتنم هدوء الليل وصفاء الوقت وانقطاع العوائق والعلائق الدنيوية، ويُقْبِل على الله عز وجل:






ما هو هذا الهم؟ كيف ستَنْتَهي الصلاة؟! ماذا نعمل بعد أن تنتهي الصلاة؟! يقولون: نحن نريد أن نبقى في صلاة، وهذه مرتبة كبيرة، فالواحد لو فكر في نفسه يجد مراحل بين حال هؤلاء وحالنا، إذا دخل في الصلاة صار مهموماً لأن الصلاة ستنقضي، يحمل هَمّاً وهو داخل الصلاة، مصيبة! ستصير المصيبة أنه سينتهي من الصلاة، كما يحمل الفارغ البطال هَمَّ الصلاة؛ متى تنتهي الصلاة؟! انظر الفرق بين الطائفتين! يدخل بعض الناس في الصلاة فيقول في نفسه: طوَّل الإمام! فتراه يتثاقل، ويقدم رِجْلاً ويؤخر أخرى، ويتأفف في الصلاة، هذا في الصلاة، أولاً: متى تنتهي؟! وبعد الصلاة يتبرم ويشتكي ويرفع صوته في المسجد فيقول للإمام: طولت علينا، وبعد ذلك يخرج من الصلاة فيقول: الله لا يبارك في فلان.
ما هو الفرق؟! فكلهم بنو آدم! وكلهم بشر! الفرق: محبة الله عز وجل! يحس الواحد عندما يكبر في الصلاة أنه يُقْبِل على الله، وأن الله قد انتصب أمامه؛ لأن الله عز وجل ينتصب لعبده في الصلاة، لذلك الإنسان يستأنس عندما يصلي ويكبر ويُقْبِل على الله عز وجل. " فلهم فيها شأن -للمحبين في الصلاة شأن- وللنقَّارين شأن -النقارون الذين ينقرون الصلاة مثل نقر الغراب أو نقر الديك، لا تلحقه، يسرع، لا تدري هل قال الرجل: (سبحان ربي الأعلى) نصف مرة أو ربع مرة - فله فيها شأن، وللنقَّارين شأن آخر، يشكون إلى الله سوء صنيعهم بها -هؤلاء المحبون يشكون إلى الله سوء صنيع البطالين بالصلاة، كيف ينقرونها نقراً؟!- إذا أتموا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه -شخص يشتكي من الإمام، أحياناً يأتم بواحد مخل بالصلاة يشتكي من فعله بالصلاة ومن تخريبه، وآخر يشتكي من تطويل الإمام في الصلاة- فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم. وبالجملة: فمن كانت قرة عينه في الصلاة فلا شيء أحب إليه، ولا أنعم عنده من الصلاة، ويود أنه لو قطع عمره بها غير مستغنٍ بغيرها وإنما يسلي نفسه إذا فارقها بأنه سيعود إليها عن قرب ((ورجل قلبه معلق المساجد) كلما خرج من صلاة بماذا يفكر؟! متى يأتي وقت الصلاة الجديدة؟!- فهو دائماً يتوق إليها، فلا يزن العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة -ليس هناك أعظم من ميزان الصلاة- فإنه الميزان العادل ". لذلك -أيها الإخوة- من الحكم كما يقول ابن القيم رحمه الله في النهي عن المرور بين المصلي وبين السترة: أن الإنسان عندما يكبر في الصلاة يقف أمام الله عز وجل، لذلك يكره الإنسان أي شيء يمر أمامه ويقطعه عن الله عز وجل، فلذلك أمر صلى الله عليه وسلم بدفع المار، ونهى عن المرور بين الرجل وبين سترته. فحالُ المحبين الصادقين -أيها الإخوة- هي في الدوام على طاعة الله عز وجل، ولذلك ورد في عدة أحاديث أشياء يحبها الله تعالى، فمن ذلك: (أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلَّ) فالأشياء التي يداوم عليها صاحبها هي أحب الأعمال إلى الله؛ لذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته، يعني: دائماً يعمل به، ما ينقطع مرة ويترك مرة ويفعل مرة، فكان إذا نام من الليل أو مرض صلى من النهار -بعد طلوع الشمس- اثنتي عشرة ركعة، وهي السنة لمن فاتته صلاة الوتر في الليل. هذه الصلاة -أيها الإخوة- تحتاج إلى مكابدة، ما تأتي اللذة بها هكذا، تحتاج إلى مجاهدة.
لذلك يقول أحد السلف : " كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة أخرى " يعني: جلست فترة طويلة حتى أعود نفسي على أن ألتَذَّ بالصلاة، وبعد فترة من الجهاد وصلت إلى المرحلة التي أحس بها في اللذة، لأنه لا يعقل -أيها الإخوة- أن الإنسان إذا قام إلى الصلاة وكبر مباشرة يشعر باللذة، لا.
إن اللذة تحتاج إلى مقاومة ومدافعة للوساوس وللشيطان وللدنيا، والمجاهدة على التطويل في الصلاة، وعلى الخشوع، وعلى استحضار معاني الآيات وعلى التفكير، هذا معروف، لا بد من التدرج حتى يصل الإنسان إلى مثل هذه المراحل. تظهر محبة العبد لله على فراش الموت: عند الموت يخرج قلب الإنسان ما فيه كأنك ضغطت على زر مسجل والشريط ظل يتكلم بدون إرادة من المسجل. إن الإنسان في الحياة -يا إخواني- يستطيع أن يسيطر على نفسه، فقد يخفي في قلبه شيئاً ولا يظهره للناس، عنده قوة تحكم وإرادة بهذا، أما عند الموت -الموت إذا نزل نسأل الله السلامة وأن يسلمنا وإياكم في ذلك الموقف الذي لا بد أن يأتي- عند الموت يفقد الإنسان قدرته على التحكم في إظهار ما في قلبه، فتبدأ الأشياء التي في قلبه تظهر على لسانه، فأما من كان محباً لله عز وجل فتظهر الشهادة على لسانه عند الموت وذكر الله بكل يسر وسهولة، لماذا؟ لأن هذا ما يخفيه في قلبه؛ لكن كثيراً من الناس والعياذ بالله يحصل لهم من سوء الخاتمة الأمور العجيبة فتظهر في حال الاحتضار على فراش الموت المكنونات التي كانت مخبأة في القلوب، بعضهم على فراش الموت كان يغني أغنية؛ لأن قلبه متعلق بالأغاني ويحب الأغاني ودائماً يردد الأغاني، ولو أن إنساناً من هؤلاء الإخوة الذين يسمعون الأغاني يحاسب نفسه: هل يردد الأغاني أكثر أو ذكر الله؟ يجد أنه يردد الأغاني أكثر: لأن في السيارة أغاني، وفي البيت أغاني، وينام على الأغاني، ويصحو على الأغاني..
وهكذا ديدنه، لذلك لا يستبعد حال الموت أن لسانه ينخرس عن ذكر الله ويظهر ما في القلب مباشرة، وهذا حصل في الواقع، وهناك قصص كثيرة لأناس جاءهم الموت وهم يرددون مقطعاً من أغنية لفلان وفلان. وأحدهم قابل أصحاب حادث سيارة على الطريق، فوجد أحدهم النزع الأخير وهو يشتد، فأراد أن يذكره بـ(لا إله إلا الله) قال: قل: (لا إله إلا الله)، فكان يقول: (إِتِّي..إِتِّي..) يشجع الاتفاق أو الاتحاد، يشجع فريقاً.
وبعضهم كان يحب المال والتجارة بشكل كبير طغى على محبته لله عز وجل، فصار وهو على فراش الموت يقول -وأخبرني رجل قريب له أنه حضره عند الموت، وكان تاجراً يبيع القماش فجعل يقول: هذه قطعة جيدة، هذه على قدرك، هذه مشتراها رخيص، يساوي كذا وكذا، حتى مات.
وبعضهم يقول: بعتُ واشتريت بفلس بفلس. وبعضهم يقول: شاه ملك، يعني: مات؛ لأنه كان يلعب الشطرنج وهو مغرم به، فكان يقول: مات، يعني: في اللعبة هذه.
وهكذا تظهر الأشياء الحقيقية في تلك اللحظة. أما المحبون لله فماذا يظهر على ألسنتهم؟ تظهر الشهادتان؛ لذلك كان لا بد من الإخلاص في الأعمال، ومجاهدة النفس للتخلص من الرياء؛ لذلك كان اهتمام السلف بتصحيح العمل أعظم منه بالعمل، يعني: أن يكون العمل خالصاً لله عز وجل.
الأسباب التي تجلب محبة الله
كذلك -أيها الإخوة- هناك أسباب جالبة للمحبة منها:
الانكسار والخضوع بين يدي الله عز وجل
وأيضاً -أيها الإخوة- من الأشياء التي تجلب المحبة: الانكسار بين يدي الله عز وجل والتذلل له والخضوع والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له: فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور، عندما ينكسر الإنسان أمام الله، ويُظْهِر الضعف والاستكانة، فإن الله عز وجل يجبر هذا الكسر، ويقوي هذا الضعف، ويغني هذا الفقر، وما أدنى النصر والرحمة والرزق من حال الإنسان المتذلل الكسير أمام ربه الذي يُظْهِر ضعفه وحاجته ولجوءه إلى الله عز وجل. يضرب ابن القيم رحمه الله مثلاً جميلاً لانطراح الإنسان أمام الله عز وجل، ثم إقبال الله على هذا الإنسان، يقول: " تأمل هذا الحال - وهذا الحال يُشْبِه ليس هو مثله بالضبط- فإن انطراح الإنسان وإقبال الله عليه كرجل كان في رعاية أبيه، يغذيه أبوه بأفضل الطعام والشراب واللباس، ويربيه أحسن التربية، ويرقيه على درجات الكمال أتم ترقية، فيبعثه أبوه في حاجة له، فيخرج عليه في الطريق عدو يأسر هذا الولد ويكتفه ويشد وثاقه، ثم يذهب به إلى بلاد الأعداء ويسومه سوء العذاب، ويعامله بضد ما كان أبوه يعامله أبوه، فهو يتذكر تربية أبيه، وإحسان أبيه، وبر أبيه به، وعطفه عليه، الفينة بعد الفينة -كلما يعذَّب يتذكر تلك الأيام- فبينما هو في أسر عدوه يسومه سوء العذاب ويريد نحره في آخر الأمر -يعني: ذبحه- إذ حانت منه التفاتة إلى ديار أبيه، فرأى أباه قريباً منه، فسعى إليه، وألقى نفسه عليه، وانطرح بين يدي أبيه، يستغيثه: يا أبتاه..
يا أبتاه .. يا أبتاه..
انظر إلى ولده وما هو فيه، ودموعه تستبق على خديه، قد اعتنقه أباه والتزمه وعدوه يسعى في طلبه حتى وقف على رأسه والابن منطرح متمسك بأبيه، فهل تقول أنت أيها الإنسان: إن والده يُسْلِمُه مع هذه الحال إلى عدوه ويخلي بينه وبين العدو؟! ". إنسان اجتاله الشيطان عن طريق الله، كان يمشي في طريق الله، والله عز وجل منعم عليه، يطيع الله عز وجل, ويرغب إلى الله عز وجل بالطاعات ويفعلها، ثم اجتاله الشيطان -انتكس هذا الرجل- وذهب الشيطان به ينـزله منـزلة بعد المنـزلة في العصيان حتى أوشك أن يهلكه ويقذفه في مهاوي الكفر والضلال، ثم إن هذا الرجل الذي أغواه الشيطان التفت وأحس بالله عز وجل قريباً منه ينتظر متى يتوب، فانقلع عن هذه الأشياء وفر من الشيطان وطرق الضلال إلى الله عز وجل معترفاً بذنبه مقراً، يطلب التوبة واللجوء إلى الله، هل يطرده الله عز وجل ويرده خائباً؟!
مجالسة المحبين الصادقين
كذلك -أيها الإخوة-: مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب الثمرات من كلامهم كما يُنْتَقى أطايب الثمر، وهذه النقطة من الطرق العظيمة التي توصل إلى محبة الله: لذلك كان لا بد من الرفقة الصالحة، والجماعة الصالحة، ولا بد لكل إنسان بل يجب عليه فرضاً، خصوصاً في هذا العصر أن يبحث عن رفقة صالحة يـجتمع معهم ويجالسهم ويتعلم منهم وينتفع بهم:


اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والزهد في الدنيا
اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم من الأسباب العظيمة لمحبة الله:


الصدق في الحديث وأداء الأمانة وحسن الجوار
كذلك -أيها الإخوة-: الصدق في الحديث، وأداء الأمانة، وحسن الجوار: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب اللهَ ورسولَه أو يحبه اللهُ ورسولُه فليصدق حديثه إذا حدث، وليؤدِّ أمانته إذا اؤتُمِن، وليُحسن جوار من جاوره). إن البحث مازال فيه أشياء كثيرة، فما هي الخصال التي يحبها الله عز وجل؟! ترجع إلى أحاديث كثيرة مثل: أحب الأعمال إلى الله كذا وكذا، إن الله يحب كذا وكذا.
أشياء كثيرة في القرآن والسنة، يقول تعالى:


التفكر في أسماء الله
كذلك -أيها الإخوة-: مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته ومشاهدتها ومعرفتها وتقلب النفس في رياض هذه الأسماء من أعظم الأسباب الجالبة للمحبة: أسماء الله وصفاته عظيمة، ما يكفي أن نطبع هذه الأسماء في أوراق صغيرة ويأتي الواحد يقرأها قراءة عادية ويضعها في مكان، لا.
وإنما عليه أن يفكر في هذه الأسماء! ماذا تعني كلمة الرحمن؟! ماذا تعني كلمة الرحيم ؟! ماذا تعني السميع، البصير، الودود؟! الودود: المتودد إلى خلقه، إنها أسماء عظيمة إذا تأملنا في معانيها، وكل اسم له معنى يدل عليه تختلف عن الأسماء الأخرى مع ترابطها مع بعضها ودلالتها على ذات واحدة هي ذات الله عز وجل، هذه أشياء تجلب المحبة للنفس. لذلك كان المؤولة المعطلة بقايا الفرعونية والجهمية قُطَّاع الطرق ولصوص القلوب الذين يسرقون حب الله من قلوب عباده، وليس هذا الآن مجال الرد عليهم وتبيان شبههم، ولكن تأمل أسماء الله ومعرفة معانيها مهم جداً لمحبته عز وجل. ولذلك تفاوت الخلق بمنازلهم ومراتبهم في محبة الله على حسب تفاوت مراتبهم في معرفة الله والعلم به، فأعرفهم بالله أحبهم له، ولهذا (كان رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أعظم الناس حباً له، والخليلان من بينهم أعظمهم حباً، وأعرف الأمة، وأشدهم حباً لله؛ خليل الله محمد صلى الله عليه وسلم، وخليل الله إبراهيم) أفضل الأنبياء قاطبة محمد صلى الله عليه وسلم، ويليه في الأفضلية كما قال علماء السلف أهل السنة والجماعة : إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.
قراءة القرآن
قراءة القرآن الكريم، وتدبره، والتفهم لمعانيه، وما أُرِيْدَ به: قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: " لا شيء عند المحبين أحلى من كلام محبوبهم، فهو لذة قلوبهم، وغاية مطلوبهم ".
التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض
كذلك من ضمن الأشياء التي تؤدي إلى المحبة: التقرب إلى الله عز وجل بالنوافل بعد الفرائض: فإنها توصل إلى درجة عالية من المحبة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث القدسي عن ربه عز وجل: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ...) . فإذاً: التقرب إلى الله بالنوافل من أسباب محبة الله عز وجل، حتى يصل الأمر إلى درجة عظيمة جداً كما في الحديث: (...
فإذا أحببته -ماذا يحصل؟- فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه) .
إيثار محبة الله على محاب النفس
كذلك -أيها الإخوة- إيثار محبة الله على محاب النفس وما يحبه الله على هوى النفس: الإيثار يقتضي شيئين: - الأول: فعل ما يحبه الله إذا كانت النفس تكرهه: أحياناً النفس تكره شيئاً من العبادة، كأن يكون فيها بخل أو شح أو كسل، فالإيثار الحقيقي أن تقدم محبة الله على كره نفسك. - النوع الثاني من الإيثار: ترك ما يكرهه الله عز وجل حتى لو كانت نفسك تحبه وتهواه.
التفكر في بر الله وإحسانه وآلائه
كذلك من ضمن الأمور: مشاهدة بر الله وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى المحبة: الناس في الدنيا يحبون من أحسن إليهم؛ لأن النفوس جبلت على حب من أحسن إليها؟! إذا أعطاك إنسان أشياءً وأنعم عليك بأشياءٍ طيبة وأهداك ألا تحب هذا الرجل؟! نعم. فإذاً: من الأشياء الجالبة للمحبة: أن تتفكر في نعم الله عز وجل، التي لا تعد ولا تحصى. مثال: هذا التنفس أليس هو نعمة من الله عز وجل؟! لولا التنفس لانقطع عنك النَّفَس -لا سمح الله- ولو انقطع ماذا يحصل بك؟! تموت، ما هي إلا بضع دقائق فتختنق وتموت، كل نفس لوحده نعمة من الله عز وجل، كم نتنفس نحن الآن، كم نتنفس في الدقيقة؟! لا أدري كم يقول الأطباء؟! كم نَفَساً في الدقيقة؟ ثلاثون؟ عشرون! لم تحسب المسألة، فكم نَفَساً في اليوم! تجد أنها قريبة من أربعين ألف نَفَس، كل نفس بحد ذاته نعمة من الله عز وجل.
كل يوم أربعون ألف نعمة هذا فقط في نعمة التنفس وأما النعم الأخرى فلم نحسبها، فعندما نستشعر هذه الأشياء نحب الله عز وجل، عظمت كثرة النعمة وأحسسنا بها أحببنا الله عز وجل أكثر وأكثر. فلذلك كان التفكر بنعم الله على عباده، وبره بهم، وإحسانه إليهم، وحفظه لهم، يؤدي للمحبة:




فيقول: يا أيها العباد اسألوني، اسألوني أعطِكم..
هل تريد أعظم من هذه النعمة؟! تأمل معي هذه الآية في سورة البروج! قال الله تعالى:










منقووووول من اسلام ويب
لا تنسونا بدعوة فى ظهر الغيب لعل الله ينفع بها
تعليق