محاضرة قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ :للشيخ محمد المنجد
في الجانب المقابل هناك أشخاص هامشيون، بعض الناس وجوده مثل عدمه، بل إن وجوده ضار، أليس ذلك صحيحاً؟ وهناك أناس لو ماتوا لكان أفضل، وهناك أناس لو ماتوا لما حصل أي نوع من التغيير أو النقصان، لا في بيته، ولا في مدرسته، ولا في عمله، ولا في مجتمعه، لكن هناك أناس لو مات أحدهم تأثر البيت من موته؛ لأنه كان يملأ فراغاً عظيماً في ذلك البيت، وكذلك لو مات مدير لتأثرت الدائرة كلها، بسبب موت ذلك المدير الصالح في دائرته التي يعمل فيها، وهناك مدرس لو مات لحزن الطلاب عليه، وأصبح هناك نقص في المدرسة بموت هذا المدرس:
قد مات قومٌ وهم في الناس أحياءُ
الإسلام يريد من المسلمين أن يكونوا طاقات فعالة، لها أثر في الواقع، أنت إذا لم يكن لك أثر في الواقع، فمعناه أن عندك خطأ كبيراً في منهجك، ويجب أن تراجع نفسك: لماذا ليس لك أثر في الواقع؟
طريقة تعامل بعض الناس مع الزمن:
يقول ابن الجوزي وهو يتحدث في مدينة بغداد : رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً، إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع، أو بقراءة كتابٍ في غزاةٍ أو سمر؛ بطولات.. معارك.. كلام.. وأشياء الحروب، أو سمر، ونحن نضيف الآن، أفلام الفيديو، والتلفزيون، والجرائد، والمجلات، والكتب الغثائية التي ترمى يومياً في الأسواق، وتملأ رفوف المكتبات، روايات وقصص مدمرة، سبحان الله! اخترع أهل الباطل كتاباً اسمه كتاب الجيب، لماذا؟ لأنه يدخل في الجيب، قصة أو غيرها، وهناك كتب اسمها مقاس فرنسي صغير بحجم الكف، لماذا؟ لأنه يمكن لأي شخص أن يأخذه معه أينما ذهب. وقد لا تجد مثل هذه الخدمة في الكتاب الإسلامي، لكن قد بدأت تظهر كتيبات صغيرة تحمل في الجيب وأشياء من الأذكار وغيرها، لكن تأمل أن بعض الناس يقتلون وقتهم قتلاً بهذه الأشياء؛ إن طال الليل فبحديثٍ لا ينفع أو بقراءة كتاب في غزاةٍ أو سمر، وإن طال النهار فبالنوم! وهم في أطراف النهار على دجلة أو في الأسواق، نحن الآن نقول: على الكورنيش أو في الأسواق- فشبهتهم بالمتحدثين في سفينة وهي تجري بهم وما عندهم خبر- سفينة العمر تجري وسترسو على شاطئ الموت وما عندهم خبر، شرائع الإسلام متكاملة يعضد بعضها بعضاً، ولذلك إذا أمر الشرع بشيءٍ، أمر بتهيئة أسبابه ونهى عما يخالفه ويضاده، فمثلاً: لماذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وكثرة السؤال؟ لأن أقل ما فيها مضيعة الوقت. ولذلك نهى السلف عن السؤال عن الأشياء التي لم يقع، وهؤلاء الناس دائماً يقولون: أرأيت لو كان كذا، أرأيت لو حصل كذا!! وهذا شيء بسيط، هذا من كثرة السؤال والقيل والقال، بجانب انشغال الناس الآن بالزينات والكماليات ومتاع الدنيا وانشغال النساء بالبهارج، المشكلة أن الناس -أقصد الأغنياء- يظنون أن حالتهم ستستمر كما هي! بعض الناس يقول: المهم النظر في الحالة الراهنة فحسب، فهذه حالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى وينسى المرض فيستبعده، هل يخطر ببالك الآن وأنت صحيح أنك قد تصاب بمرض شديد جداً؟ الواحد الآن وهو غني وراتبه كبير، وعقاراته تدر، هل يتصور الآن في حال الغنى أنه قد يفتقر؟ لا يتصور؛ لأنه لم ير شيئاً بعينيه مثل الإفلاس أو المرض، ولذلك هو يظن أن حاله سيدوم، كلما أصبح وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل!
استغلال نعمة الشباب:
اغتنم فراغك قبل شغلك! الشخص عندما يكون في مقتبل عمره، يكون ذهنه صافياً، لذلك كان عمر بن الخطاب يجعل في مشورته الشباب بالإضافة إلى الشيوخ، نوعية معينة من الشباب، لماذا؟ لصفاء أذهانهم، كان يبتغي حدة عقول الشباب، فكان ابن عباس في مشورة عمر ، وكان عمره ثلاث عشرة سنة، لكن ذهنه حاد، قد ينقدح في ذهنه من الأفكار ما لا يأتي في أذهان الشيوخ؛ لأنه ليس عنده مسئوليات، ما عنده أولاد إذا مرضوا اهتم بهم، ولا عنده أولاد إذا تخرجوا من الجامعة يهتم أين سيذهبون ويتوظفون، ولا عنده أولاد إذا كبروا سيبحث للولد عن زوجة، وإذا كان عنده بنت فسيحمل همَّ زواجها، هذه الهموم وهموم المستقبل والأولاد تكدر صفاء ذهن الشخص، ولذلك بعض الشباب يحفظ قرآناً فيريد من أمه أو من أبيه أن يحفظ معه بنفس المعدل، يقول: يا أمي! لماذا لم تحفظي؟ أنا حفظت كذا بفترة، تقول: لكن ذهنك غير ذهنها، والهم الذي عندك غير الهم الذي عندها، ولذلك تجد كثيراً من كبار السن يقولون: يا ولدي! ذهبت علينا أيام، يا ولدي! الآن لا نستطيع أن نحفظ، لا نستطيع أن نصلي مثلكم صلاة التراويح، لأن الإنسان مع الزمن يستهلك، حواسه تضعف، ولذلك كان من الدعاء النبوي: (اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا -ليس فقط هذا- واجعله الوارث منا) يعني اجعله زائداً بحيث كأنه يفيض بعد موتنا، أو ورثه لأولادنا. فصفاء الذهن نعمة، ينبغي أن تستغلها الآن في طلب العلم وفي الحفظ والتفكير السليم. الإنسان -أيها الإخوة- لا يدري ماذا تخبئ له الأيام! الآن هو قد يكون صحيحاً، لكن في المستقبل قد يمرض مرضاً مزمناً -نسأل الله العافية- اسأل كثيراً من المرضى، قل للمرضى الذين عندهم أمراض مزمنة، قل لهم: قبل أن تصابوا بهذا المرض كيف كنتم؟ كانوا شباباً وكانوا في صحة، لكن بعد ذلك تجد الواحد منهم مرض مرضاً شديداً؛ الآن إما أنه في المستشفى، أو في الفراش في البيت لا يخرج إلا نادراً، وقد يريد من يحمله لقضاء حوائجه، بعض الناس لا يحسب هذا الحساب، قال الشاعر:
يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفـعلُ
يُرد الفتـى بعــد اعتــدالٍ وصحةٍ ينوء إذا رامَ القيام ويحملُ
انظر إلى كبيرٍ في السن كيف يقوم! يقوم على مراحل! يمكن على اليد الأولى ثم على الرجل الأولى ثم على اليد الثانية ثم على الرجل الثانية، وربما يحمل حملاً، لكن انظر في شاب تجده يستوفز إذا أراد أن يقوم قام مرةً واحدة. اغتنم فراغك قبل انشغالك بأمراض، وقبل انشغالك بتعب الشيخوخة وأمراضها، وهؤلاء الشباب الذين لم يقدّروا لهذا السن قدره عليهم أن يتمعنوا جيداً:
أترجو أن تكون وأنت شيخٌ كما قد كنـتَ أيام الشبابِ
لقد كذبتك نفسك ليس ثوبٌ دريسٌ كالجديد من الثيابِ
ثوب دريس: بال من الاستعمال.. ليس مثلك؛ الناس مختلفون، بعض الناس عندهم عقارات تدر عليهم أرباحاً -وصاحب العقار جالس في البيت- ليس عنده شيء إلا أنه يحصل في آخر السنة الأجرة، وهناك رجل أبوه غني قد يصرف عليه وعلى بيته، ورجل أبوه فقير يصرف هو على نفسه وعلى أبيه، وهناك أناس عائلتهم غنية، فإخوانه أغنياء، وأعمامه أغنياء، وأخواله أغنياء، لو أراد أن يستلف لوجد من يسلفه، ولو غاب وجد من يصرف على بيته، لكن بعض الناس قد يضطر أن يصرف على عدة عوائل، وبعض الناس أولادهم في صحة وقد لا يذهب إلى الطبيب أو العيادة إلا في السنة مرة، أو ما يذهب إلا نادراً، وهناك أناس عندهم أولاد مرضى قد يضطر للسفر من أجل علاجهم، ويقضي فترات طويلة يتنقل في مستشفيات! وتخيل أن رجلاً عنده ولد مصاب بمرض من الأمراض، كيف يكون وضعه مع الولد؟ تراه دائماً منشغلاً بالولد، فإذا ارتفعت الحرارة ذهب إلى الدكتور في المستشفى، فإذا لم يجد العلاج ذهب للثاني وذهب للثالث، فإذا لم يجد في الظهران ذهب إلى الرياض أو إلى جدة ، وقد يضطر للسفر إلى مصر أو إلى أمريكا بحثاً عن العلاج، والسفر يحتاج إلى تذاكر وإلى أموال تنفق فيها، وإلى جهود وأوقات، وهذا كله من أجل العلاج وليس بالسهل.
تعليق