السلام عليكم
عناصر الموضوع :
1. صلاح القلب بإخفاء العمل
2. أمور تعين على صلاح القلب
إصلاح القلوب:
في القلب مضغة تتبعها الجوارح صلاحاً وفساداً، ولذا اعتنى بصلاحها الفضلاء، والسلف الصلحاء، وفي هذه الخطبة ترشف من عبير السلف الصالح في ذلك، وتستقي نصائح تعينك على صلاح قلبك.. فاقرأ والزم.
صلاح القلب بإخفاء العمل:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" سورة آل عمران: 102.
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " سورة النساء: 1
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " سورة الأحزاب: 70 ، 71
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لما كان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب، كان القلب موضع نظر الرب، قال عليه الصلاة والسلام:
"إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"
الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 15
ومن هنا كان لابد على العبد أن يشتغل بإصلاح قلبه، فإن ربه إنما ينظر إلى قلبه.
وإذا تساءلت -يا أخي- عن السبب الذي تفشت به الخيانة بين الناس في الأموال والنكاح وغير ذلك من الأمور، وإذا تساءلت عن السبب في حصول السرقات والاختلاسات، وإذا تساءلت عن السبب في حصول الهجران والقطيعة بين الناس، وإذا تساءلت عن سائر أسباب أمراض المجتمع؛ فاعلم أن ذلك نتيجة لفساد القلب.
الله أعلم بما في أنفسهم؛ فالقلوب قد تكون سليمة، وقد تكون مريضة مصابة بالوهن، وهذا سبب آخر لتسلط الأعداء علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل أنتم يومئذ كثير -كما في حديث القصعة- ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) فمن فساد القلوب أن يقذف فيها الوهن.
الأعمال الظاهرة ثمرة الإيمان:
لما فسدت القلوب تسلط الأعداء، وقد عرفنا سابقاً أن الدين القائم بالقلب هو الأصل، وأن الأعمال الظاهرة هي الفروع، وأنه إذا لم تكن أعمال فإن ذلك دليل على خلو القلب من الإيمان، وأن الذين يقولون لك: إن المهم هو ما في القلب يطالبون بالإثباتات والدلائل على أن ما في قلوبهم سليم، وذلك بالأعمال ولا بد من الأعمال.
والأعمال مهمة مع تصحيح ما في القلب؛ فكيف نصحح ما في القلب؟ كيف يجعل الإنسان المسلم قلبه سليماً؟ كيف يكون القلب عامراً بمحبة الله تعالى؟
ألم تر أن المصليين تلتصق مناكبهما ببعض وأقدامهما ببعض وبينهما كما بين السماء والأرض في درجة الصلاة؟ وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على ربه في الصلاة، والآخر قلبه يسرح في أودية الدنيا، فهذا له نصف وذاك أكثر وهذا أقل وآخر قد ردت صلاته.
عباد الله: إن الاهتمام بإصلاح قلوبنا أمر في غاية الأهمية، فإصلاح القلوب يترتب عليه صحة الأعمال، وصحة السيرة، وصحة التصرفات والسلوكيات، وكثير من التناقضات إنما تحدث من مخالفة الباطن للظاهر والظاهر للباطن،
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور والظلم.
عباد الله: قال بعض السلف: من صفا -أي: صفا قلبه من الشوائب- صُفِّي له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك الشهوة ذهب الله بها من قلبه، ولله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له. وصاحب القلب السليم، والبصيرة الصحيحة يكون طيباً بحيث يشم أهل الخير منه رائحة روحه على بدنه وثيابه وإن لم يضع طيباً، والفاجر يشم صاحبُ البصيرة السليمة رائحة فجوره على بدنه وثيابه وإن وضع أطيب أطياب الأرض، والمزكوم لا يشم لا هذا ولا هذا، بل إن زكامه يحمله على الإنكار، فقد يقشعر وينفر من بعض أهل الخير، فلا يحسن التمييز بين صاحب القلب الطيب وصاحب القلب الخبيث.
ولما كان سلفنا رحمهم الله أحرص ما يكونون على الخير كان اعتناؤهم بقلوبهم أشد ما يكون، ومن اعتنائهم بقلوبهم إخفاؤهم لأعمالهم، لما وصف عمر رضي الله عنه أبا بكر الصديق قال: [اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله] سريرته خير من علانيته، وهذه المنزلة العالية.
مواقف تبين إخفاء ابن المبارك لعمله:
ولما وصف أحمد بن حنبل رحمه الله عبد الله بن المبارك قال: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له. كان يخفي أعماله الصالحة؛ فرفع الله قدره، وكانوا في جميع الميادين من الحريصين على إخفاء الأعمال.
قال عبدة بن سليمان المروزي : كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك لبلاد الروم فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من المسلمين قد تلثم فلا يعرف، فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثم خرج من الكفار رجل آخر ودعا إلى المبارزة فخرج له نفس الرجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم عليه المسلمون يريدون معرفة شخصيته، وكنت فيمن ازدحم عليه، فإذا هو ملثم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك ، فقال ابن المبارك لهذا الذي كشف وجهه: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا؟! قالها تواضعاً لله تعالى.
وقال عبد الله بن سنان : كنت مع ابن المبارك و معتمر بن سليمان بـطرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله -قتل المسلم- حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت فافعل كذا وكذا، وذكر له وصيته، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج، ستة بستة، وطلب البراز فكأنهم كاعوا عنه -جبنوا وخافوا- فضرب دابته وطرد بين الصفين وغاب عن الأنظار فلم نشعر بشيء، وإذا أنا به في الموضع الذي كان بجانبي فقال لي: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي... فذكر كلمة، أنه توعده بشيء عظيم لو نشر هذه القصة و عبد الله بن المبارك حي، فرفع الله ذكره، وهذه سيرته منشورة وقصصه سائرة رحمه الله تعالى بسبب صدقه وإخلاصه وإخفائه للعمل.
من أخفى عمله أظهره الله ورفع قدره:
المرائي يرائي، والمسمع يسمع الناس، ويحدث بعمله ليظهر ويعلو شأنه، والله يجعل نوره منطفئاً وأمره زائلاً، وإذا أخفى العبد العمل نشر الله ذكره، ورفع شأنه، وأظهر أمره، وحبب الناس فيه،
عن أبي حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في الليل تطفئ غضب الرب.
كان ناس في المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، يأتون إلى بيوتهم فيجدون عندها الطعام، يخرج أحدهم من الباب يجد عنده صدقة لا يدرون من وضعها، فلما مات علي بن الحسين رحمه الله فقدوا ذلك، ولم يعودوا يجدون الطعام الذي كانوا يجدونه عند أبواب بيوتهم؛ فعلموا من الذي كان يأتيهم بالليل.
وعن عمر بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، فمن ثقلها على ظهره أثرت فيه، فصارت أثراً مستمراً، وجدوه في بدنه عند تغسيله رحمه الله تعالى. وأما الصلاة والدعاء فحدث عنهم ولا حرج في أخبارهم رحمهم الله تعالى،
قال سلام بن أبي مطيع : كان أيوب يقوم الليل يخفي ذلك، فإذا كان قبيل الصبح رفع صوته كأنه قام في تلك الساعة. لم يكن يشعرهم أنه كان قد قام قبلها بوقت طويل. وكان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة -أي: الصبح- أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه؛ ليخفي عنهم العمل. وكان مسروق رحمه الله يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم. وكان حسان بن أبي سنان يفتح باب الحانوت فيضع الدواة ويفرش الحساب ويرخي ستره داخل الدكان ثم يصلي، فإذا أحس بإنسان قد جاء -زبون قادم- جاء يقبل على الحساب يريه أنه كان يحسب ميزانية المحل وما دخل وما خرج.. رحمه الله تعالى.
وعن الأعمش قال: رأيت إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطى المصحف وقال: لا يرى هذا أنني أقرأ فيه كل ساعة. كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف ليقرأه فيغطيه بثوبه، وكان بعض السلف إذا حضرته الرقة في المجلس وأثر فيه الوعظ وأوشك على البكاء لف المنديل على أنفه وامتخط وقال: ما أشد الزكام!
قال محمد بن واسع رحمه الله: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بلَّ ما تحت خده من الدموع وزوجته لا تشعر به..! ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي بجانبه..! وكان محمد بن سيرين رحمه الله يسمع بكاؤه بالليل وضحكه بالنهار، وكانت البيوت متجاورة متلاصقة،
قال الإمام البصري رحمه الله: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم الآن يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره.. وهذا الفرق، بعض الناس يقولون: تصدقنا وأنفقنا واعتمرنا وحججنا، وفعلنا وفعلنا لمرة واحدة، والصالحون يفعلونه سنين ولا يحدثون به، بل لا يدرى عنهم، ولكن الله يكشفه ويرفع قدر صاحبه؛ ولذلك بلغ السلف والصالحون ما بلغوا، وإن كانت أعمالهم مستورة لكن الله يحببهم إلى العباد، ويغرس في قلوب العباد محبتهم.. هذه من نتيجة طاعة الله تعالى.
أقام عمر بن قيس -رحمه الله- عشرين سنة يصوم ويكثر الصيام لا يعلم به أهله، يأخذ إفطاره في الصباح وهو ذاهب إلى دكانه، يغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه على المساكين، ويصوم وأهله لا يدرون، ويرجع إليهم قبيل المغرب حيث كان ينتهي وقت العمل في ذلك المجتمع، ثم يأكل بعد ذلك كأنه يتغدى غداءه العادي..! أفعال الخير كانت عندهم -رحمهم الله تعالى- حتى مع العجائز،
هذا طلحة رضي الله عنه رأى عمر في سواد الليل يدخل بيتاً ويخرج منه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت لينظر إلى أين دخل عمر بالليل وماذا كان يفعل، فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك بالليل؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى. قال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ! أعثرات عمر تتبع؟!
هكذا كانوا رحمهم الله تعالى، هكذا كانوا في إخفائهم لأعمالهم، فإذا أردت يا عبد الله أن يصلح قلبك فاعمل وأخف العمل، فإن في ذلك إصلاحاً عظيماً للقلب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يصلح أعمالنا، وأن يصلح سرائرنا وأن يصلح ظواهرنا، وأن يتوب علينا ويغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أمور تعين على صلاح القلب:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وناصر المستضعفين، والمنتقم من الظالمين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، صلى الله عليه، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، الشافع المشفع، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، صلى الله عليه صلاة دائمة ما تتابع الليل والنهار، وعمل الأبرار والفجار، صلى الله عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين.
الخلوة:
عباد الله: إن من الأمور التي تعين على إصلاح القلب وإخفاء العمل الخلوة المشروعة، فلا بد للعبد أن يكون له مجالس يخلو فيها بذكر ربه، وتعداد ذنوبه، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وطلب المغفرة من ربه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبته، قال طاوس رحمه الله: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه. إذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة؛ فهذا حق كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، ومن أجل ذلك شرع الاعتكاف؛ لقطع النفس عن العلائق والانشغالات الدنيوية حتى يصفو القلب ويتهذب، لكن ليست خلوة صوفية في كهف من الكهوف أو برية من البراري ينقطع الإنسان بها عن المجتمع وعن المسجد، وعن الجمعة والجماعة، وعن تعليم الناس وإنكار المنكر..
كلا، بل هي خلوة وقتية يخلو في بيته، أو يخلو في بيت الله معتكفاً يحاسب نفسه، لا بد من خلوة (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فهو من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وجرب -يا عبد الله- مسألة الخلوة هذه، في مكتب أغلق عليك، أو في حجرة في بيتك، اعبد ربك واذكر ذنبك، وحاسب نفسك، واستغفر الله تعالى؛ تجد لها أثراً ولابد. الخلوة مسألة مهمة في إصلاح القلب، ومن فقد أنسه فقد الخشوع والأنس بالله، فقد مظاهر الإيمان، من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول مريض، الذي لا يجد الخشوع إلا بين الناس، فإذا خلا بنفسه لا يجد خشوعاً؛ فهذا مريض، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجد في الخلوة وبين الناس حلاوة الإيمان والخشوع والخوف من الله فهو المحب الصادق القوي، وليتنا هكذا! ومن كان هذا حاله في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان لا يستشعر الإيمان إلا إذا جلس مع الناس لم يكن مزيده إلا معهم، ومن كان يجد تلك الحلاوة في أي مكان كان فهذا عبد الله حقاً حقاً.
مراقبة الله:
ومما يعين على إصلاح القلب مراقبة الله: " يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ" النحل:19..
"وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " الحديد:6
سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ وما أحوجنا إليه في هذا الزمان، ما أكثر النساء المتبرجات! ما أكثر العيون المكحلة! ما أكثر هذا النقاب الفاضح، والشفاف من اللباس والقصير والضيق والصور المتحركة الحقيقية في الشوارع والمطبوعة على الأغلفة! ما أكثرها!! سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور. فإذا علمت أن نظر الله إليك أسرع وأسبق من نظرك إلى المرأة ربما استحييت وأطرقت وغضضت من بصرك.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلـى الطغـيان
فاستحي من نظر الله وقـل لها إن الذي خلق الظلام يراني
الحياء من الله:
عباد الله: إن الاستحياء من الله عز وجل دافع لترك المعصية، إنه يصلح القلب.
ومن أسباب صلاح القلب: أن يتذكر العبد المساءلة بين يدي الله عز وجل.
هذه الوظائف وهذه الشهادات وهذه الجامعات، وهذه القصور والبيوت، وهذا النعيم إنما هو زائل وسوف نغادر، والنبي عليه الصلاة والسلام شبهه برجل استظل في ظل شجرة ثم راح وتركها، فهو ظل زائل، وفي الجنة ظل ممدود لا يزول ولا ينحسر.
عباد الله: إن قضية الاشتغال بإصلاح القلب هو من نهج السلف رحمهم الله تعالى، ولكن فات ذلك على كثير منا؛ فينبغي أن نبادر ونسرع بإصلاح ذلك.
اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، نسألك اللهم أن تمن علينا بسترك الجميل، وفضلك الجزيل، اللهم اجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانيتنا حسنة، اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض ولا تفضحنا بين الخلق. اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما سلف وكان، يا رحيم يا رحمن! اللهم انصر المسلمين، واخذل أعداء الدين، وانشر السنة في العالمين، وارفع لواء الجهاد في الأرض إنك أنت الذي تنصر المستضعفين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا وبيوتنا، اللهم أصلحنا وأصلح شأننا وتب علينا، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور!
محاضرة( إصلاح القلوب )للشيخ محمد المنجد
عناصر الموضوع :
1. صلاح القلب بإخفاء العمل
2. أمور تعين على صلاح القلب
إصلاح القلوب:
في القلب مضغة تتبعها الجوارح صلاحاً وفساداً، ولذا اعتنى بصلاحها الفضلاء، والسلف الصلحاء، وفي هذه الخطبة ترشف من عبير السلف الصالح في ذلك، وتستقي نصائح تعينك على صلاح قلبك.. فاقرأ والزم.
صلاح القلب بإخفاء العمل:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ" سورة آل عمران: 102.
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا " سورة النساء: 1
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا " سورة الأحزاب: 70 ، 71
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: لما كان في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب، كان القلب موضع نظر الرب، قال عليه الصلاة والسلام:
"إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم"
الراوي: أبو هريرة المحدث: الألباني - المصدر: صحيح الترغيب - الصفحة أو الرقم: 15
ومن هنا كان لابد على العبد أن يشتغل بإصلاح قلبه، فإن ربه إنما ينظر إلى قلبه.
وإذا تساءلت -يا أخي- عن السبب الذي تفشت به الخيانة بين الناس في الأموال والنكاح وغير ذلك من الأمور، وإذا تساءلت عن السبب في حصول السرقات والاختلاسات، وإذا تساءلت عن السبب في حصول الهجران والقطيعة بين الناس، وإذا تساءلت عن سائر أسباب أمراض المجتمع؛ فاعلم أن ذلك نتيجة لفساد القلب.
الله أعلم بما في أنفسهم؛ فالقلوب قد تكون سليمة، وقد تكون مريضة مصابة بالوهن، وهذا سبب آخر لتسلط الأعداء علينا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بل أنتم يومئذ كثير -كما في حديث القصعة- ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت) فمن فساد القلوب أن يقذف فيها الوهن.
الأعمال الظاهرة ثمرة الإيمان:
لما فسدت القلوب تسلط الأعداء، وقد عرفنا سابقاً أن الدين القائم بالقلب هو الأصل، وأن الأعمال الظاهرة هي الفروع، وأنه إذا لم تكن أعمال فإن ذلك دليل على خلو القلب من الإيمان، وأن الذين يقولون لك: إن المهم هو ما في القلب يطالبون بالإثباتات والدلائل على أن ما في قلوبهم سليم، وذلك بالأعمال ولا بد من الأعمال.
والأعمال مهمة مع تصحيح ما في القلب؛ فكيف نصحح ما في القلب؟ كيف يجعل الإنسان المسلم قلبه سليماً؟ كيف يكون القلب عامراً بمحبة الله تعالى؟
ألم تر أن المصليين تلتصق مناكبهما ببعض وأقدامهما ببعض وبينهما كما بين السماء والأرض في درجة الصلاة؟ وذلك أن أحدهما مقبل بقلبه على ربه في الصلاة، والآخر قلبه يسرح في أودية الدنيا، فهذا له نصف وذاك أكثر وهذا أقل وآخر قد ردت صلاته.
عباد الله: إن الاهتمام بإصلاح قلوبنا أمر في غاية الأهمية، فإصلاح القلوب يترتب عليه صحة الأعمال، وصحة السيرة، وصحة التصرفات والسلوكيات، وكثير من التناقضات إنما تحدث من مخالفة الباطن للظاهر والظاهر للباطن،
قال سفيان بن عيينة رحمه الله: إذا وافقت السريرة العلانية فذلك العدل، وإذا كانت السريرة أفضل من العلانية فذلك الفضل، وإذا كانت العلانية أفضل من السريرة فذلك الجور والظلم.
عباد الله: قال بعض السلف: من صفا -أي: صفا قلبه من الشوائب- صُفِّي له، ومن كَدَّر كُدِّر عليه، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن صدق في ترك الشهوة ذهب الله بها من قلبه، ولله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له. وصاحب القلب السليم، والبصيرة الصحيحة يكون طيباً بحيث يشم أهل الخير منه رائحة روحه على بدنه وثيابه وإن لم يضع طيباً، والفاجر يشم صاحبُ البصيرة السليمة رائحة فجوره على بدنه وثيابه وإن وضع أطيب أطياب الأرض، والمزكوم لا يشم لا هذا ولا هذا، بل إن زكامه يحمله على الإنكار، فقد يقشعر وينفر من بعض أهل الخير، فلا يحسن التمييز بين صاحب القلب الطيب وصاحب القلب الخبيث.
ولما كان سلفنا رحمهم الله أحرص ما يكونون على الخير كان اعتناؤهم بقلوبهم أشد ما يكون، ومن اعتنائهم بقلوبهم إخفاؤهم لأعمالهم، لما وصف عمر رضي الله عنه أبا بكر الصديق قال: [اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله] سريرته خير من علانيته، وهذه المنزلة العالية.
مواقف تبين إخفاء ابن المبارك لعمله:
ولما وصف أحمد بن حنبل رحمه الله عبد الله بن المبارك قال: ما رفعه الله إلا بخبيئة كانت له. كان يخفي أعماله الصالحة؛ فرفع الله قدره، وكانوا في جميع الميادين من الحريصين على إخفاء الأعمال.
قال عبدة بن سليمان المروزي : كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك لبلاد الروم فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل من المسلمين قد تلثم فلا يعرف، فطارده ساعة فطعنه فقتله، ثم خرج من الكفار رجل آخر ودعا إلى المبارزة فخرج له نفس الرجل من المسلمين فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم عليه المسلمون يريدون معرفة شخصيته، وكنت فيمن ازدحم عليه، فإذا هو ملثم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته؛ فإذا هو عبد الله بن المبارك ، فقال ابن المبارك لهذا الذي كشف وجهه: وأنت يا أبا عمر ممن يشنع علينا؟! قالها تواضعاً لله تعالى.
وقال عبد الله بن سنان : كنت مع ابن المبارك و معتمر بن سليمان بـطرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان خرج رومي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل فشد العلج عليه فقتله -قتل المسلم- حتى قتل ستة من المسلمين، وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة، ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان! إن قتلت فافعل كذا وكذا، وذكر له وصيته، ثم حرك دابته وبرز للعلج فعالج معه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله حتى قتل ستة علوج، ستة بستة، وطلب البراز فكأنهم كاعوا عنه -جبنوا وخافوا- فضرب دابته وطرد بين الصفين وغاب عن الأنظار فلم نشعر بشيء، وإذا أنا به في الموضع الذي كان بجانبي فقال لي: يا عبد الله! لئن حدثت بهذا أحداً وأنا حي... فذكر كلمة، أنه توعده بشيء عظيم لو نشر هذه القصة و عبد الله بن المبارك حي، فرفع الله ذكره، وهذه سيرته منشورة وقصصه سائرة رحمه الله تعالى بسبب صدقه وإخلاصه وإخفائه للعمل.
من أخفى عمله أظهره الله ورفع قدره:
المرائي يرائي، والمسمع يسمع الناس، ويحدث بعمله ليظهر ويعلو شأنه، والله يجعل نوره منطفئاً وأمره زائلاً، وإذا أخفى العبد العمل نشر الله ذكره، ورفع شأنه، وأظهر أمره، وحبب الناس فيه،
عن أبي حمزة الثمالي أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره يتبع به المساكين في الظلمة، ويقول: إن الصدقة في الليل تطفئ غضب الرب.
كان ناس في المدينة يعيشون لا يدرون من أين كان معاشهم، يأتون إلى بيوتهم فيجدون عندها الطعام، يخرج أحدهم من الباب يجد عنده صدقة لا يدرون من وضعها، فلما مات علي بن الحسين رحمه الله فقدوا ذلك، ولم يعودوا يجدون الطعام الذي كانوا يجدونه عند أبواب بيوتهم؛ فعلموا من الذي كان يأتيهم بالليل.
وعن عمر بن ثابت قال: لما مات علي بن الحسين وجدوا بظهره أثراً مما كان ينقل الجرب بالليل إلى منازل الأرامل، فمن ثقلها على ظهره أثرت فيه، فصارت أثراً مستمراً، وجدوه في بدنه عند تغسيله رحمه الله تعالى. وأما الصلاة والدعاء فحدث عنهم ولا حرج في أخبارهم رحمهم الله تعالى،
قال سلام بن أبي مطيع : كان أيوب يقوم الليل يخفي ذلك، فإذا كان قبيل الصبح رفع صوته كأنه قام في تلك الساعة. لم يكن يشعرهم أنه كان قد قام قبلها بوقت طويل. وكان منصور بن المعتمر إذا صلى الغداة -أي: الصبح- أظهر النشاط لأصحابه فيحدثهم ويكثر إليهم، ولعله إنما بات قائماً على أطرافه؛ ليخفي عنهم العمل. وكان مسروق رحمه الله يرخي الستر بينه وبين أهله ثم يقبل على صلاته ويخليهم ودنياهم. وكان حسان بن أبي سنان يفتح باب الحانوت فيضع الدواة ويفرش الحساب ويرخي ستره داخل الدكان ثم يصلي، فإذا أحس بإنسان قد جاء -زبون قادم- جاء يقبل على الحساب يريه أنه كان يحسب ميزانية المحل وما دخل وما خرج.. رحمه الله تعالى.
وعن الأعمش قال: رأيت إبراهيم النخعي وهو يقرأ في المصحف، فاستأذن عليه رجل فغطى المصحف وقال: لا يرى هذا أنني أقرأ فيه كل ساعة. كان عمل الربيع كله سراً، إن كان ليجيء الرجل وقد نشر المصحف ليقرأه فيغطيه بثوبه، وكان بعض السلف إذا حضرته الرقة في المجلس وأثر فيه الوعظ وأوشك على البكاء لف المنديل على أنفه وامتخط وقال: ما أشد الزكام!
قال محمد بن واسع رحمه الله: لقد أدركت رجالاً كان الرجل يكون رأسه مع رأس امرأته على وسادة واحدة قد بلَّ ما تحت خده من الدموع وزوجته لا تشعر به..! ولقد أدركت رجالاً يقوم أحدهم في الصف فتسيل دموعه على خده ولا يشعر به الذي بجانبه..! وكان محمد بن سيرين رحمه الله يسمع بكاؤه بالليل وضحكه بالنهار، وكانت البيوت متجاورة متلاصقة،
قال الإمام البصري رحمه الله: كان الرجل يتعبد عشرين سنة لا يشعر به جاره، وأحدهم الآن يصلي ليلة أو بعض ليلة فيصبح وقد استطال على جاره.. وهذا الفرق، بعض الناس يقولون: تصدقنا وأنفقنا واعتمرنا وحججنا، وفعلنا وفعلنا لمرة واحدة، والصالحون يفعلونه سنين ولا يحدثون به، بل لا يدرى عنهم، ولكن الله يكشفه ويرفع قدر صاحبه؛ ولذلك بلغ السلف والصالحون ما بلغوا، وإن كانت أعمالهم مستورة لكن الله يحببهم إلى العباد، ويغرس في قلوب العباد محبتهم.. هذه من نتيجة طاعة الله تعالى.
أقام عمر بن قيس -رحمه الله- عشرين سنة يصوم ويكثر الصيام لا يعلم به أهله، يأخذ إفطاره في الصباح وهو ذاهب إلى دكانه، يغدو إلى الحانوت فيتصدق بغدائه على المساكين، ويصوم وأهله لا يدرون، ويرجع إليهم قبيل المغرب حيث كان ينتهي وقت العمل في ذلك المجتمع، ثم يأكل بعد ذلك كأنه يتغدى غداءه العادي..! أفعال الخير كانت عندهم -رحمهم الله تعالى- حتى مع العجائز،
هذا طلحة رضي الله عنه رأى عمر في سواد الليل يدخل بيتاً ويخرج منه، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت لينظر إلى أين دخل عمر بالليل وماذا كان يفعل، فإذا بعجوز عمياء مقعدة فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك بالليل؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عني الأذى. قال طلحة : ثكلتك أمك يا طلحة ! أعثرات عمر تتبع؟!
هكذا كانوا رحمهم الله تعالى، هكذا كانوا في إخفائهم لأعمالهم، فإذا أردت يا عبد الله أن يصلح قلبك فاعمل وأخف العمل، فإن في ذلك إصلاحاً عظيماً للقلب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يصلح قلوبنا، وأن يصلح أعمالنا، وأن يصلح سرائرنا وأن يصلح ظواهرنا، وأن يتوب علينا ويغفر لنا تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
أمور تعين على صلاح القلب:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أشهد أن لا إله إلا هو ولي الصالحين، وناصر المستضعفين، والمنتقم من الظالمين، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى آله وذريته الطيبين الطاهرين، صلى الله عليه، إمام المتقين وقائد الغر المحجلين، الشافع المشفع، وصاحب لواء الحمد والمقام المحمود، صلى الله عليه صلاة دائمة ما تتابع الليل والنهار، وعمل الأبرار والفجار، صلى الله عليه صلاة دائمة إلى يوم الدين.
الخلوة:
عباد الله: إن من الأمور التي تعين على إصلاح القلب وإخفاء العمل الخلوة المشروعة، فلا بد للعبد أن يكون له مجالس يخلو فيها بذكر ربه، وتعداد ذنوبه، ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وطلب المغفرة من ربه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه وذكره وصلاته وتفكره ومحاسبته، قال طاوس رحمه الله: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره ولسانه. إذا أراد الإنسان تحقيق علم أو عمل فتخلى في بعض الأماكن مع محافظته على الجمعة والجماعة؛ فهذا حق كما ذكر شيخ الإسلام رحمه الله، ومن أجل ذلك شرع الاعتكاف؛ لقطع النفس عن العلائق والانشغالات الدنيوية حتى يصفو القلب ويتهذب، لكن ليست خلوة صوفية في كهف من الكهوف أو برية من البراري ينقطع الإنسان بها عن المجتمع وعن المسجد، وعن الجمعة والجماعة، وعن تعليم الناس وإنكار المنكر..
كلا، بل هي خلوة وقتية يخلو في بيته، أو يخلو في بيت الله معتكفاً يحاسب نفسه، لا بد من خلوة (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) فهو من السبعة الذين يظلهم الله تعالى في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وجرب -يا عبد الله- مسألة الخلوة هذه، في مكتب أغلق عليك، أو في حجرة في بيتك، اعبد ربك واذكر ذنبك، وحاسب نفسك، واستغفر الله تعالى؛ تجد لها أثراً ولابد. الخلوة مسألة مهمة في إصلاح القلب، ومن فقد أنسه فقد الخشوع والأنس بالله، فقد مظاهر الإيمان، من فقد أنسه بين الناس ووجده في الوحدة فهو صادق ضعيف، ومن وجده بين الناس وفقده في الخلوة فهو معلول مريض، الذي لا يجد الخشوع إلا بين الناس، فإذا خلا بنفسه لا يجد خشوعاً؛ فهذا مريض، ومن فقده بين الناس وفي الخلوة فهو ميت مطرود، ومن وجد في الخلوة وبين الناس حلاوة الإيمان والخشوع والخوف من الله فهو المحب الصادق القوي، وليتنا هكذا! ومن كان هذا حاله في الخلوة لم يكن مزيده إلا منها، ومن كان لا يستشعر الإيمان إلا إذا جلس مع الناس لم يكن مزيده إلا معهم، ومن كان يجد تلك الحلاوة في أي مكان كان فهذا عبد الله حقاً حقاً.
مراقبة الله:
ومما يعين على إصلاح القلب مراقبة الله: " يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ" النحل:19..
"وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ " الحديد:6
سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ وما أحوجنا إليه في هذا الزمان، ما أكثر النساء المتبرجات! ما أكثر العيون المكحلة! ما أكثر هذا النقاب الفاضح، والشفاف من اللباس والقصير والضيق والصور المتحركة الحقيقية في الشوارع والمطبوعة على الأغلفة! ما أكثرها!! سئل بعض السلف: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق من نظرك إلى المنظور. فإذا علمت أن نظر الله إليك أسرع وأسبق من نظرك إلى المرأة ربما استحييت وأطرقت وغضضت من بصرك.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلـى الطغـيان
فاستحي من نظر الله وقـل لها إن الذي خلق الظلام يراني
الحياء من الله:
عباد الله: إن الاستحياء من الله عز وجل دافع لترك المعصية، إنه يصلح القلب.
ومن أسباب صلاح القلب: أن يتذكر العبد المساءلة بين يدي الله عز وجل.
هذه الوظائف وهذه الشهادات وهذه الجامعات، وهذه القصور والبيوت، وهذا النعيم إنما هو زائل وسوف نغادر، والنبي عليه الصلاة والسلام شبهه برجل استظل في ظل شجرة ثم راح وتركها، فهو ظل زائل، وفي الجنة ظل ممدود لا يزول ولا ينحسر.
عباد الله: إن قضية الاشتغال بإصلاح القلب هو من نهج السلف رحمهم الله تعالى، ولكن فات ذلك على كثير منا؛ فينبغي أن نبادر ونسرع بإصلاح ذلك.
اللهم يا من أظهر الجميل وستر القبيح، يا من لا يؤاخذ بالجريرة ولا يهتك الستر، نسألك اللهم أن تمن علينا بسترك الجميل، وفضلك الجزيل، اللهم اجعل سريرتنا خيراً من علانيتنا، واجعل علانيتنا حسنة، اللهم استرنا فوق الأرض واسترنا تحت الأرض واسترنا يوم العرض ولا تفضحنا بين الخلق. اللهم إنا نسألك الإيمان والعفو عما سلف وكان، يا رحيم يا رحمن! اللهم انصر المسلمين، واخذل أعداء الدين، وانشر السنة في العالمين، وارفع لواء الجهاد في الأرض إنك أنت الذي تنصر المستضعفين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا وبيوتنا، اللهم أصلحنا وأصلح شأننا وتب علينا، اللهم آمنا في الأوطان والدور وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور!
تعليق