محاضرة( استدراك ما فات )للشيخ محمد المنجد
عناصر الموضوع :
1. فضل حلق الذكر
2. فوات الدِّين أعظم من فوات الدنيا
3. أحوال السلف في استدراك ما فات
4. كيفية استدراك السلف لبعض الطاعات التي فاتتهم
5. أمثلة من الشريعة في مجالات استدراك ما فات
6. أسباب تفويت الطاعات
7. من الوسائل في الاستدراك
8. الشعور بأن هناك شيئاً فات والاندفاع إلى التعويض
استدراك ما فات:
خلق الله الإنسان ضعيفاً، وسلط عليه الشيطان فتنة، فلا إنسان إلا ويفوته من فعل الخيرات أمور كثيرة، بل قد يقع في المنكرات قلَّت أو كثرت، لكن السلف كانوا يستدركون ذلك، ويبحثون عن خير القربات للتعويض، ولا ييئسون لكبر عمر أو ضعف جسم أو قلة ذات اليد، وفي هذه المادة كلام غزير نافع حول هذا الأمر، يبحثه من حيث أسبابه وعلاجه، ويضرب أمثلة ويبين سبلاً ... فعليك به لعلك ترشد!
فضل حلق الذكر:
الحمد لله الذي لم يزل عليماً خبيراً، قد أحصى كل شيء ولا يفوته شيء، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وكان بعباده خبيراً بصيراً، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. إخواني الأحبة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد: فإنني أسأل الله كما جمعنا في بيته هذا، أن يجمعنا في دار كرامته ومستقر رحمته وفسيح جنته، النفس أيها الأخوة تزكو بالذكر، والبلد يزكو بحلق الذكر ودروس العلم، فتصبح الملائكة في شوارعها وأحيائها تذهب وتجيء، وتصعد وتنزل ملتزمة حلق الذكر؛ فتتنزل السكينة وتعم الرحمة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة يلتمسون أهل الذكر، فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم، فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا، فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم ... الحديث إلى أن قال في آخره: أن الله يقول للملائكة: فأشهدكم أني قد غفرت لهم) رواه البخاري . وفي رواية أحمد (إن لله عزَّ وجلَّ ملائكة فضلاً يتبعون مجالس الذكر يجتمعون عند الذكر، فإذا مروا بمجلس علا بعضهم على بعض حتى يبلغوا العرش ... الحديث) اللهم اجعلنا في هذه الساعة من أهل هذا الحديث يا رب العالمين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً وارزقهم من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر. وقبل البداية أيها الأخوة، لابد من شكر المسئولين والقائمين على هذه السلسلة الطيبة التي استمعتم إلى عدد من دروسها في هذا المكان الطيب، فجزى الله بالخير كل من تسبب في قيامها وتنفيذها والإعانة عليها ابتغاء وجهه الكريم. أيها الأخوة: درسنا لهذه الليلة أحكام وعظات، ونظرات تربوية في استدراك ما فات، وسبب الحديث عن هذا الموضوع أن هناك ملحظاً فيما يخص مسألة التفويت والتضييع، والاستسلام لليأس، وعدم السعي إلى الإصلاح والاستدراك. أناس كانوا في جاهلية فهداهم الله، وبعضهم كانوا في بدعة فأنقذهم الله، فكيف يعوضون ما مضى من عمرهم؟ وآخرون تردت أحوالهم، وضعف إيمانهم، وانتكست مسيرتهم، وبردت هممهم، واعتراهم من الشيطان ما اعتراهم، ومسهم من كيده ما آذاهم، فوقفوا يتلمسون الطريق. ولهم أصحاب يدعونهم إلى الهدى ائتونا، قل إن هدى الله هو الهدى، وبعض هؤلاء يحاولون الرجوع، وبعضهم لا يزالون في أمرهم يترددون.. فلنلق نظرة على هذا الموضوع، وأجد أنه بحق موضوع مهم لنا جميعاً (استدراك ما فات) ننظر ماذا قال العلماء في هذا الموضوع، وكيف يمكن أن نستفيد منه في مسيرتنا وحياتنا..
فوات الدِّين أعظم من فوات الدنيا:
العنوان مكون من جزئين: استدراك ما فات. والاستدراك لغة: استفعال من درك، والدرْك والدرَك اللحاق والبلوغ، وفي اللغة استدرك الرأي والأمر إذا تلافى ما فرط فيه من خطأ ونقص، والاستدراك عند العلماء، وهو الذي يرد كثيراً في كلام الفقهاء: إصلاح ما حصل في القول أو العمل من خلل أو قصور أو فوات، ويقولون: استدراك نقص الصلاة بسجود السهو، واستدراك الصلاة إذا بطلت بإعادتها، واستدراك الصلاة المنسية بقضائها، والاستدراك بإبطال خطأ القول وإثبات صوابه، إذا كنت تتحدث وأخطأت تستدرك كلامك وتأتي بالصواب. ويقول العلماء أحياناً: التدارك، وهي لفظة أخرى يستخدمها الفقهاء، والتدارك في الأفعال: فعل العبادة المتروكة، أو فعل جزئها في محله المقرر شرعاً ما لم يفت، كما في قول صاحب كشاف القناع رحمه الله من علماء الحنابلة: لو دفن الميت قبل الغسل، وقد أمكن غسله لزم نبشه، وأن يخرج ويغسل تداركاً لواجب غسله، وكقول الرملي رحمه الله: إذا سلم الإمام من صلاة الجنازة تدارك المسبوق باقي التكبيرات بأذكارها، وقوله: لو نسي تكبيرات صلاة العيد فتذكرها وقد شرع في القراءة وفاتت فلا يتداركها. وقد يقطع الغلط في القول فيحتاج الإنسان إلى تداركه، بأن يبطله ويثبت الصواب، ولذلك طرق ومنها: قولهم ( بل .. ) فيقول كلاماً فيتذكر أو يعرف أنه خطأ، فيغير ويقول ( بل .. ) ويأتي بالصواب، هذا هو الاستدراك. أما الفوات فمن الفوت، والفوات يقال في اللغة: فاته الشيء إذا ذهب عنه كما في اللسان ، والفوات منه ما يكون في أمور الدين، ومنه ما يكون في أمور الدنيا، أما فوات الدنيا فهو شيء قليل سهل ويسير يمكن تعويضه، ومن نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ونظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله الله به عليه كتبه الله شاكراً صابراً. ومن نظر في دينه إلى من هو دونه ونظر في دنياه إلى من هو فوقه فأسف على ما فاته منه، لم يكتبه الله شاكراً ولا صابراً، وقد تولى الله علاج الألم النفسي الذي يترتب على الفوات، تولى الله علاج ما حصل من ذلك في نفوس الصحابة في غزوة أحد، فقال الله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [آل عمران:153]. فقوله تعالى: فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ [آل عمران:153] أي: فجزاكم غماً على غم، وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: الغم الأول بسبب الهزيمة، والغم الثاني حين قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة، فإذاً: كان ألماً عظيماً بالهزيمة والقتل والجراح. لما قيل: قتل محمد صلى الله عليه وسلم، كان غم غطى على الغم الأول فنسوا الغم الأول، ثم تبين أن محمداً صلى الله عليه وسلم حي، فسروا وكان الغم الأول قد نسي في غمرات الغم ا لثاني، وهذه حكمة إلهية بديعة قدرها الله تعالى في أحداث هذه الغزوة. لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [آل عمران:153] أي: على ما فاتكم من الغنيمة، والظفر بعدوكم، ولا ما أصابكم من الجراح والقتل. إذاً.. فوات الدين في نفوس المؤمنين هو الأعظم، ويحصل الهم لفوات الدنيا لأنهم بشر، فأي إنسان إذا فاته شيء من الدنيا ربما يتألم؛ لكن ينبغي أن يعلم أن فوات الدين أعظم بكثير من فوات الدنيا. ومما يساعد على التغلب على ألم فوات شيء من مال أو نجاح أو أي شيء فاتك من الدنيا: الإيمان بالقضاء والقدر، ولذلك قال الله تعالى في سورة الحديد: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] فأخبر أنه كتب كل المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض، وكل مصيبة قبل أن تحدث فهي مكتوبة عند الله، أي: فعلنا ذلك وكتبناه وقدرناه من قبل أن نخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] أي: فأعلمناكم -كما يقول ابن كثير في تفسيره رحمه الله- بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم، لأنه لو قدر شيء لكان. إذا فاتتك عبادة وعلم فهو الذي يحزن عليه حقاً، وهو المصيبة كما جاء عن نوفل بن معاوية أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله) أي: فكأنما فقد أهله وماله. أما الدنيا فتعوض؛ حدثني أحد التجار في الحج قال: أنا نزلت إلى تحت الصفر وطلعت إلى مئات الملايين، ثم نزلت إلى تحت الصفر ثم طلعت إلى مئات الملايين أربع مرات في حياتي، فالدنيا تذهب وتجيء، لكن الدين إذا ذهب:
لكل شيء إذا ضيعته عوض وما من الله إن ضيعته عوض
أحوال السلف في استدراك ما فات:
هناك آية في سورة الفرقان تذكر المؤمنين باستدراك ما فات، قال الله عزَّ وجلَّ: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62] قال المفسرون في قوله خلفة، أي: من فاته في الليل عمل أدركه بالنهار، أو فاته بالنهار أدركه بالليل، فمن رحمة الله بهذه الأمة أنه لما علم قصر أعمارها، وضعف أجسادها بالنسبة لمن سبقها، عوضهم تعالى بالمناسبات تضاعف فيها الأجور، يدركون بها من سبقهم ويسبقونه، ليلة القدر خير من ألف شهر، صيام عرفة يكفر سنتين، وعاشوراء يكفر سنة، وصيام شوال بشهرين، الحسنة بعشر أمثالها.
كيفية استدراك السلف لبعض الطاعات التي فاتتهم:
كيف كان حال السلف رحمهم الله إذا فاتهم شيء من الطاعات؟ نحن الآن نتكلم أيها الأخوة في غمرة أحوال تفوت فيها علينا أشياء كثيرة من الطاعات، وربما يكون عندنا ضعف في الإيمان فلا نحزن على ما فات من الطاعات.
استدراك الصحابة ما فاتهم من الجهاد:
مثال فوت ملاقاة العدو: كان بعض الصحابة يفوتهم أشياء لعذر ويتأسفون عليها يريدون التعويض، ونحن تفوتنا أشياء لغير عذر وربما لا نحزن ولا نتألم، ولا نسعى للتعويض؛ عن أنس قال: غاب أنس بن النضر عن قتال بدر ، فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون، قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، أي: المسلمين، وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء، أي: المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ ، فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة! ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد ، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس : فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل، وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه. فهذا الذي وجد فيه بضع وثمانون ضربة وجرحاً، كم قاتل حتى ضرب هذه الضربات؟ وكم تحامل على نفسه وواصل في القتال حتى يضرب هذا العدد؟ ومن حنقهم عليه مثلوا به هذا التمثيل. قال أنس : كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ... الآية )) [الأحزاب:23]) وهذا الحديث رواه البخاري رحمه الله. وروى النسائي عن عاصم بن سفيان الثقفي أنهم غزوا غزوة ذات السلاسل ففاتهم الغزو، فرابطوا ثم رجعوا إلى معاوية وعنده أبو أيوب و عقبة بن عامر ، فقال عاصم : يا أبا أيوب ! فاتنا الغزو العام، وقد أخبرنا أنه من صلى في المساجد الأربعة غفر له ذنبه، فقال: يا بن أخي! أدلك على أيسر من ذلك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من توضأ كما أمر، وصلى كما أمر، غفر له ما قدم من عمل) أكذلك يا عقبة ؟ قال: نعم. وشهد معه على الحديث. إذاً: فهناك تحسر على ما فات ورغبة في التعويض، وسؤال واستفتاء: فاتنا فكيف نعوض؟
استدراك بعض السلف ما فاتهم من اللقاء بالنبي صلى الله علهي وسلم أو بالشيوخ:
من الأشياء التي نلاحظها أيضاً في سير السلف ألمهم لفوات لقاء الشيوخ والعلماء، وعلى رأس هؤلاء محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان بعض التابعين يريدون اللحاق به ليصبحوا صحابة فلم يقدر لهم؛ كما حدث لـأبي مسلم الخولاني رحمه الله تعالى، رحل إلى المدينة ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل المدينة إذا الصحابة قد فرغوا من دفنه عليه الصلاة والسلام. و أبو ذؤيب الهذلي الشاعر المشهور، ذكر ابن حجر رحمه الله في الإصابة عنه، قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا جميعاً بالإحرام فقلت: ما الأمر؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الرجل كان الطاعون قد أصاب خمسة من أولاده فماتوا في عام واحد، وكانوا رجالاً ولهم بأس ونجدة، فقال في قصيدته التي أولها:
أمن المنون وريبها تتوجـع والدهر ليس بمعتب من يجزع
وتجلدي للشامتيـن أريهـم أني لريب الدهر لا أتضعـضع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيـت كـل تميـمة لا تنـفع
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا تـرد إلـى قليـل تـقنع
المحدثون ذهبوا في المدن يجوبون الطرق راحلين لطلب العلم وسماع الحديث، فكيف حصل لبعضهم عندما يفوته الشيخ؟ روى السمعاني رحمه الله عن رجل من المحدثين أنه رحل إلى ابن خلف -وهو من مشاهير المحدثين- فقال: دخلت نيسابور وأنا أعدو إلى بيت أحمد بن خلف ، فلقيت أحد طلابه، فعاتبني وقال: تعال أطعمك أولاً، فقدم طعاماً وأكلنا، وأخرج لي مسموعاته من ابن خلف ، وقال: مات ودفنته، قال: فكادت مرارتي تنشق لفوت الشيخ. وذيَّل الخطيب البغدادي رحمه الله، كتابه الرحلة بذكر من رحل إلى شيخ يبتغي علو إسناده، فمات قبل ظفر الطالب منه ببلوغ مراده، وذكر أن عبد الله بن داود الخريبي قال: كان سبب دخولي البصرة لأن ألقى ابن عون ، فلما صرت إلى قناطر بني دارى تلقاني نعي ابن عون فدخلني ما الله به عليم، فهكذا كان شعورهم في فوات الشيوخ.
فوات مجالس العلم:
وأيضاً: فوات مجالس العلم، كان المحدثون يحدثون في الحلقة ثم ينتهي الدرس، فبعض الناس يأتي بعد الدرس ولم يسمع الشيخ، وربما لا يسمع والشيخ وفاته الحديث، الشيخ سيحدث بأحاديث أخرى، فكان لفوات المجلس عليهم أثر عظيم، خصوصاً أن المشايخ في ذلك الوقت كانوا يشعرون الطلبة بأهمية الدرس، ولا يعيدونه حتى يقول أحد: يا أخي! إذا ما لحقت الجماعة الأولى ألحق الجماعة الثانية، المسجد -الحمد لله- فيه جماعات متوالية، المسألة عندهم يسيرة، ولكن أين أجر الجماعة الثانية من أجر الجماعة الأولى؟ كان المشايخ يعلمون الطلبة قيمة الدرس، وكان الناس في الخير الذي هم فيه يتأملون ويحسون، جاء رجل إلى الأعمش فقال: يا أبا محمد ! اكتريت حماراً بنصف درهم وأتيتك لأسألك عن حديث كذا وكذا -بعد ما انتهى من المجلس- فقال: اكترِ بالنصف الآخر وارجع. وقال يحيى بن معين : كنا عند ابن عيينة، فجاء رجل وقد فاته إسناد الحديث، فذكر الشيخ المتن، فقال هذا الآتي: أمل علي إسناده فقد فاتني الإسناد فقال: قد بلغتك حكمته ولزمتك حجته، ولم يحدثه؛ ليتعلم ويأتي مبكراً مرة أخرى. وكان يزيد بن هارون رحمه الله إذا جاءه من فاته المجلس، قال: يا غلام! ناوله المنديل، أي: أكلنا وغسلنا والآن في التنشيف، أعطه المنديل. وكان يزيد بن هارون يقول لرجل من ولد عمر بن الخطاب من نسله، جاء وقد فاته المجلس وسأله أن يحدثه، فقال له: يا أبا فلان أما علمت أنه من غاب خاب، وأكل نصيبه الأصحاب. وقال الخطيب رحمه الله: وقد كان خلق من طلبة العلم بـالبصرة في زمن علي بن المديني يأخذون مواضعهم في مجلسه في ليلة الإملاء، ويبيتون هناك حرصاً على السماع وتخوفاً من الفوات، قال جعفر بن طلسطويه : كنا نأخذ المجلس في مجلس علي بن المديني وقت العصر اليوم لمجلس غد، فنقعد طول الليل مخافة ألا نلحق من الغد موضعاً يسمع فيه. والآن بعض المشايخ لا يجدون طلاباً للدروس، وتفتح الدروس ثم تغلق، وتبدأ ولتنتهي ولا يوجد طلاب، أو ثلاثة أربعة، خمسة، من ضعف الهمم، وعدم الحرص على العلم.
استدراك الصحابة ما فات من أعمارهم في الجاهلية وسؤالهم عن أفضل الأعمال:
ثم لننتقل إلى جانب آخر، ومسألة تحصيل ما فات، كثير من الصحابة رضوان الله عليهم أسلموا بعدما تقدم بهم العمر، فكانت سنون طويلة من حياتهم قد ذهبت في الجاهلية، وما عاش بعضهم في الإسلام إلا فترة يسيرة، أو عاش سنين، لكن هذه السنين اغتنموها فعلاً إلى الحد الأقصى، ولذلك نحن نعيش الآن عشرات السنين في الإسلام ولا ندرك شيئاً مما فعلوه. من الأسباب التي رفعتهم: أنهم نظروا في أعمارهم فعرف الواحد منهم أنه لم يبق إلا القليل، فأحب اغتنام هذا القليل في أفضل ما يمكن، ولذلك إذا استعربت كلمة أفضل في بعض المعاجم الحديثية، وجمعت الأحاديث التي فيها كلمة أفضل، ستلاحظ أمراً واضحاً في حرص الصحابة رضوان الله عليهم ليس فقط على الخير، وإنما على الأفضل؛ لأنهم قالوا: هذا العمر قصير، فينبغي أن نستغله في الأفضل. فمثلاً: قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة على ميقاتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، فسكت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو استزدته لزادني). رواه البخاري . وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى عليه وسلم سئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور). رواه البخاري .
بحث الصحابة عن الأجور المضاعفة:
أمة تبحث عن الأجر المضاعف، عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أي الإسلام أفضل؟ قال: (من سلم المسلمون من لسانه ويده). رواه البخاري. ثم لم يقتصر الأمر على الأفضليات في الأمور عامة، وإنما سألوه عن الأفضل في الأبواب المخصوصة المعينة، ففي الصلاة مثلاً: روى جابر رضي الله عنه قال: (سئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت) رواه مسلم . وفي العتق سأله أبو ذر رضي الله عنه فقال: (يا رسول الله! فأي الرقاب أفضل؟ قال: أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها) رواه البخاري . وفي الصدقة جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا رسول الله! أي الصدقة أفضل؟ قال: أن تتصدق وأنت صحيح شحيح ترجو الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان) راوه البخاري . فإذا بلغت الحلقوم لم تعد تنفع الوصية، تقول: وزعوا كذا، وأعطوا فلاناً كذا، وضعوا في الأيتام كذا، وفي المساجد كذا، وفي أبواب الخير الفلانية كذا، لا. انتهى، إذا وصلت روحه الحلقوم صار في حكم الميت، وقوله عليه الصلاة والسلام: وقد كان لفلان، -أي: المال قد أصبح للورثة- انتهى الآن وأقفل باب التوزيع. وفي الذكر روى أبو ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال (ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده: سبحان الله وبحمده) رواه مسلم . وفي أبواب من الخير مجموعة: روى عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة، قيل: فأي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل) الآن لو أن واحداً عنده ألف ريال فتصدق بخمسمائة، فقد تصدق بنصف ماله، وآخر عنده مائة مليون تصدق بمائة ألف ريال، فقد تصدق بعشر ماله، والأول أفضل، وهو جهد المقل. (وقيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: من هجر ما حرم الله عزَّ وجلَّ، قيل: فأي الجهاد أفضل؟ قال: من جاهد المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: من أهريق دمه وعقر جواده) رواه النسائي . ومما يدلك على أن القوم كانت هممهم متصاعدة لعمل أفضل وليس لعمل فاضل فحسب؛ هو أن المناقشات كانت تدور بينهم على هذه الأشياء، وستنظر في المناقشات التي تدور بين الإخوان والأصحاب، وتعرف ما الذي يشغل بالهم. جاء عن النعمان بن بشير قال: (كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: لا أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم -وكان يوم الجمعة- ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (( أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ )) [التوبة:19]) رواه مسلم رحمه الله في صحيحه.
أمثلة من الشريعة في مجالات استدراك ما فات:
ومباحث المفاضلة في كتب العلماء كثيرة مما يدل على أن المسألة لها وزن واهتمام، ولنأتِ -أيها الأخوة- الآن إلى صعيد آخر لننظر ما هي الوسائل التي جاءت بها الشرعية للاستدراك: إن الله عزَّ وجلَّ يعلم أن البشر ضعفاء، تعتريهم عوامل النقص والضعف، والنسيان، والمعصية، فإذا قصر الواحد في عبادة، وجد السبل متاحة أمامه كي يعوض، وفي كتب الفقه أبواباً لذلك؛ فمن ذلك: القضاء والإعادة والفدية والكفارة.
القضاء والإعادة والفدية والكفارات:
والعلماء يعرفون القضاء بأنه: فعل الواجب بعد وقته، والإعادة: فعل الواجب في وقته مرة أخرى لخلل حصل في المرة الأولى، كمن صلى الظهر بدون وضوء، ثم بعد الصلاة تذكر ذلك فعليه أن يعيد صلاته، وأما الأداء فهو: فعل الواجب في وقته. والقضاء والإعادة لاستدراك ما فات في العبادة، أحياناً لا يوجد سبيل للاستدراك من جهة الإعادة أو القضاء كمن ترك الرمي حتى انتهت أيام التشريق، فإذا غربت شمس يوم الثالث عشر انتهى وقت الرمي، ولا يمكن أن يقضي الرمي في اليوم الرابع عشر. وهل هذا له حل في الشريعة؟ وهناك أشياء يرتكبها الإنسان، كمن يفعل محظوراً من محظورات الإحرام، وله أيضاً حل في الشريعة رحمةً من رب العالمين، فقد جاءت الشريعة بما يقضي الفوائت، ويعوض الناس عما فاتهم، فمثلاً: الفدية، وهي البدل الذي يتخلص به المكلف من مكروه توجه إليه، أو وقع فيه، والكفارة تغطي الإثم وهي أخص من الفدية، مثل كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة القتل. هناك أشياء جاءت بها الشريعة لتعويض النقص الذي هو من طبيعة البشر، لو جئنا إلى موضوع الصلاة، لوجدنا بعض الناس تركوا الصلوات متعمدين، فماذا يفعل الواحد منهم، خصوصاً إذا عرفنا مثلاً أن القول الراجح: أن من تعمد ترك صلاة حتى خرج وقتها فلا سبيل إلى قضائها، والله لا يقبلها في غير وقتها، وإن لله عملاً في الليل لا يقبله بالنهار، وعملاً في النهار لا يقبله بالليل. هل هناك يا ترى فرصة؟ يأتيك الآن تائب يقول لك: أنا ضاعت علي صلوات لمدة سنين، فما هو الحل وأنت -مثلاً- تعرف هذا القول الراجح في عدم القبول؟
تكميل الفرائض بالنوافل:
الحل: عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة ، فقلت: اللهم يسر لي جليساً صالحاً قال: فجلست إلى أبي هريرة ، فقلت: إني سألت الله أن يرزقني جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن خابت فقد خاب وخسر، فإن انتقص من فريضته شيء قال الرب عزَّ وجلَّ: انظروا هل لعبدي من تطوع؟ فيكمل بها ما انتقص من الفريضة، ثم يكون سائر عمله على ذلك) رواه الترمذي وصححه في صحيح الجامع . ورواية النسائي عن حريث بن قبيصة قال: قدمت المدينة ، قلت: اللهم يسر لي جليساً صالحا، فجلست إلى أبي هريرة رضي الله عنه فقلت: إني دعوت الله عزَّ وجلَّ أن ييسر لي جليساً صالحاً، فحدثني بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله أن ينفعني به، فذكر الحديث وفيه: (فإن انتقص من فريضته شيء قال: انظروا هل لعبدي من تطوع فيكمل به ما نقص من الفريضة، ثم يكون سائر علمه على نحو ذلك). وروى أبو داود رحمه الله أيضاً، وقال فيه: (انظروا هل لعبدي من تطوع فإن كان له تطوع قال: أتموا لعبدي فريضته من تطوعه، ثم تؤخذ الأعمال على ذاكم) وفي رواية قال: (ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك) رواه أبو داود وصححه في صحيح الجامع . شخص نقص من الزكاة وما عوض، ينظر يوم القيامة في صدقاته فيعوض منها، وشخص نقص في الصيام، كأن جرح صيامه بعمل المعاصي، فينظر في صيام نوافله، وتعوِّض ما فاته من رمضان.
الإتيان بما نسي وقت تذكره أو جبره بنحو سجود السهو:
إذاً من المسائل المهمة جداً في استدراك ما فات الإكثار من النوافل، وحتى النوافل نفسها لو فاتت فتحت الشريعة فيها أبواباً للتعويض، مثلاً: البسملة في الوضوء واجبة، فإذا نسيها في أوله وذكر أثناء الوضوء، ماذا قال العلماء؟ قالوا: فإن نسي في أوله وذكر أثناءه سمى بقوله: باسم الله، يأتي بها في أثنائه تداركاً لما فاته، كما في كتاب نهاية المحتاج . وبعضهم قاس على الطعام فيقول: باسم الله أوله وآخره، لكن إذا فاتته ولم يتذكر إلا بعد نهاية الوضوء فات محلها، فيكثر من ذكر الله أي: الأذكار العامة. غسل الميت تقدم معنا، لو دفن ميت دون غسل وقد أمكن غسله لزم نبشه لغسله تداركاً لواجب غسله، ما لم يُخشَ تغيره وهذا قول الجمهور. تدارك المتروك في الصلاة، كمن نسي سجدة مثلاً، أو التشهد الأول فإن كان ركناً عاد إليه وجوباً، فأتى به وما بعده على الترتيب، وواجبات الصلاة عند الحنابلة كالتشهد الأول وتكبيرات الانتقال، وتسبيح الركوع والسجود، إن تركه سهواً فيجب عليه تداركه ما لم يفت محله -قبل أن يرفع من الركوع تذكر أنه ما قال سبحان ربي العظيم، إذاً يأتي بها- ويفوت محله بالانتقال لما بعده، فإذا اعتدل من الركوع وقد نسي سبحان ربي العظيم فلا يعود؛ لأنه دخل في الركن فلا يعود للواجب، ويستدرك بسجود السهو -سبحان الذي شرعه- فإذا لم يعتدل رجع إلى الركوع فأتى بالتسبيح، وكذلك التشهد الأول يرجع إليه ما لم يعتدل قائماً، فإذا اعتدل فلا يرجع وعليه سجود السهو. وأما السنن فقد جاء في كشاف القناع أنه لا تتدارك للسنن إذا فات محلها، كما إذا ترك الاستفتاح حتى تعوذ، أو ترك التعوذ حتى بسمل، أو ترك البسملة حتى شرع في القراءة، أو ترك التأمين حتى شرع في السورة. وسألت والدنا وشيخنا العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز عن بعض هذه المسائل فقال: إذا تجاوز الاستفتاح يرجع إليه ولو شرع في الاستعاذة، ويرجع إلى الاستعاذة ولو شرع في البسملة، ويتدارك السنن، قال: وما المانع؟ إلا إذا كان مأموماً وشرع الإمام في القراءة فإنه ينصت. لو نسي سجود السهو يرجع فيأتي به و شيخ الإسلام يقول: حتى في البيت، أي أنه لم يتذكره إلا بعد فترة، والجمهور يقولون: إذا تذكره عن قرب رجع إليه فأتى به. إذا نسي تكبيرات صلاة العيد حتى شرع في القراءة، فلا يتداركها لأنها سنة فات محلها، وهذا قول الشافعية والحنابلة، غير أن الشافعية قالوا: يتداركها في الركعة الثانية مع تكبيراتها. ومن دخل في صلاة الجنازة والإمام في التكبيرة الثالثة فماذا يفعل؟ سألت شيخنا -نفع الله بعلومه- عن هذه المسألة، فقال: إنما أدركه المأموم مع الإمام هو أول صلاته، ثم يتم الباقي إذا سلم الإمام، فإذا دخلت مع الإمام في صلاة الجنازة وهو في التكبيرة الثالثة يقرأ الدعاء للميت، وأنت تقرأ سورة الفاتحة.
ما لا يدرك كله لا يترك كله:
إذا ترك شوطاً في الطواف أو بعض شوط كمن دخل في الحجر وخرج منه أثناء الطواف، فعليه أن يأتي بما تركه إذا كان في وقت قريب عند الحنابلة؛ لأنهم يشترطون الموالاة بين الطوافات، وأما من ترك شوطاً من السعي أو بعض شوط، فعليه تداركه بالإتيان به ولو بعد مدة، لأنه لا يشترط الموالاة في الطواف كما ذكره ابن قدامة رحمه الله في المغني . إذا نسي الرمل في الأشواط الأولى من طواف القدوم -وهو سنة للرجال- فات محله، لكن لو تذكر في الشوط الثاني، تذكر أنه لا يرمل وبإمكانه أن يرمل، هل يقول: فاتنا الأول فنكمل على الأول؟ نقول: لا. انتهز الفرصة وأكمل الرمل في الثاني. ولا يشرع له تدارك الهرولة في السعي بين العلمين الأخضرين في الصفا والمروة إذا فات؛ لأنه تعدى الموقع فلا يهرول بعدما تعدى الموقع. إذا فاته الاضطباع في طواف القدوم ثم تذكر وهو في الشوط السابع أنه لم يضطبع، فعليه أن يخرج كتفه الأيمن ويكشفه، ولا يقول: فاتني ستة فأكمل، لا. بل ينتهز الفرصة ويأتي بما بقي. وهكذا من الأشياء في طواف الوداع إن خرج دون أن يأتي به فعند الشافعية والحنابلة يجب عليه الرجوع لتداركه إن كان قريباً دون مسافة القصر، ويسقط عنه الإثم والدم، فإن تجاوز مسافة القصر لم يسقط عنه الدم، ومن تجاوز الميقات دون إحرام، إذا رجع إليه فأحرم فلا يلزمه شيء. نلاحظ عموماً أيها الأخوة، أن المبادرة بالتدارك تنقذ الشخص من الإثم أو التبعات كالكفارة أحياناً. وفي مجال الآداب قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم طعاماً، فليقل: باسم الله، فإن نسي في أوله فليقل: باسم الله في أوله وآخره) يتدارك، رواه الترمذي . وفي النوافل: عن عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فاتته الصلاة من الليل -من وجع أو غيره- صلى من النهار اثنتي عشرة ركعة) رواه مسلم. من فاتته صلاة الجماعة: قال البخاري في صحيحه : باب فضل صلاة الجماعة، وكان الأسود إذا فاتته الجماعة ذهب إلى مسجد آخر. صلاة العيد: قال البخاري رحمه الله: باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا عيدنا نحن أهل الإسلام) وقال عطاء : إذا فاته العيد صلى ركعتين. وهناك صلوات إذا فاتت فلا تتدارك، كصلاة الكسوف، إذا انتهى الكسوف فلا يمكن الصلاة. وهكذا النوافل كالعيد والضحى والرواتب التابعة للفرائض والأظهر أنها تقضى، وسألت شيخنا الشيخ عبد العزيز -نفع الله به- عمن دخل المسجد فجلس؛ هل تفوت التحية؟ فقال: يقوم فيصلي ركعتين كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك. حتى قضاء الحقوق، قال العلماء: يتدارك بقضاء ما عليه كالنفقة الواجبة على الزوجة عند الجمهور، فمن تركها وأهملها فلا تسقط النفقة، وتبقى على الرجل لزوجته ديناً لا يسقط بمضي الزمن. وحتى مسألة العدل بين الزوجتين، قالوا: والزوج إذا لم يبت عند ذات الليلة لعذر أو لغير عذر قضاه لها عند الشافعية والحنابلة. وإذا استعرضنا القواعد الفقهية وجدنا أن من بينها (مالا يدرك كله لا يترك كله) و (الميسور لا يسقط بالمعسور) واستدلوا له بحديث البخاري : (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) وللقاعدة ألفاظ منها: مالا يدرك كله لا يترك جله، أي ما لا يدرك كله لا يترك باقيه، ومنها: مالا يدرك كله لا يترك كله، أي بل تأتي بما تستطيع، ومثلوا لها بأمثلة فمثلاً: إذا كان بعض العضو مقطوعاً وجب عليه غسل ما بقي، وإذا قدر على ستر بعض العورة لزمه ذلك، ومن قدر على بعض صاع في الفطرة أخرجه، ولو عجز عن سداد كل الدين أدى ما قدر عليه. وهذه مسألة يخطئ فيها كثير من الناس، فبعض الناس قد يستلف عشرة آلاف، فإذا جاء وقت السداد، وطولب بالدين وما عنده إلا خمسمائة، يقول: ماذا تغني الخمسمائة في العشرة آلاف؟! فينفقها هنا وهنا ويقول لصاحب الدين: ما عندي شيء، نقول: تستطيع أن تؤدي خمسمائة من العشرة آلاف أدها، ومسألة تضييع الحقوق في الديون لا تحصى ولا تعد. ثم أيها الأخوة: في مسألة تدارك ما فات، قد يكون ما فات بتقصير وقد يكون بغير تقصير، وليست الدعوة الآن لأن نعوض ما فاتنا إذا قصرنا فقط، بل حتى إذا لم تقصر وفاتك شيء من الخير فابحث عن أبواب أخرى، وتمثل حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ذهب أهل الدثور بالدرجات العلا والنعيم المقيم، فقال: وما ذاك؟ قالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلا أعلمكم شيئاً تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم، ولا يكون أحدٌ أفضل منكم إلا من صنع مثلما صنعتم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين مرة). هؤلاء هم المهاجرون رضي الله عنهم فقراء، فاتتهم الصدقة ليس بتقصير منهم، ومع ذلك جاءوا يسألون كيف نعوض؟ الرسول عليه الصلاة والسلام فاته قضاء سنة الظهر، ليس من تقصير ولكن شغل بطاعة عن طاعة، شغله وفد عبد القيس، فاستدركها وقال لمَّا سئل عن ذلك: (وإنه أتاني أناس من بني عبد القيس فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر فهما هاتان) كما في البخاري عندما رأته أم سلمة يصلي بعد العصر وكان عندها نساء، فقالت للجارية: (قومي بجنبه، فقولي له: تقول لك أم سلمة : يا رسول الله! سمعتك تنهى عن هاتين، وأراك تصليهما، فإن أشار بيده فاستأخري عنه، ففعلت الجارية، فأشار بيده، فاستأخرت عنه، ثم ذكر الحديث). ومن فوائد الحديث: أن الإنسان إذا احتاج أن يكلم المصلي ولا بد، يكون بجانبه ليس أمامه ولا خلفه، يكون بجانبه ويكلمه، وأرادت أم سلمة أن تذكره عليه الصلاة والسلام لأنه ربما نسي.
أسباب تفويت الطاعات:
التسويف من أسباب التفويت:
فإن جئنا -أيها الإخوة- إلى أسباب التفويت وجدنا أن من أعظم أسباب التفويت التسويف، وعندنا شاهد لهذا المعنى في قصة كعب بن مالك لما قال: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها إلا في غزوة تبوك، كان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ثم قال: وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، فطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئاً. فأقول في نفسي: أنا قادر عليه -لاحظ هنا التسويف- فلم يزل يتمادى بي حتى اشتد بالناس الجد، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئاً، فقلت: أتجهز بعده بيومٍ أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئاً، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقض شيئاً، فلم يزل بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأدركهم؛ وليتني فعلت، فلم يقدر لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفت فيهم أحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء . رواه البخاري.
الرفقة من أسباب التفويت:
من أسباب التفويت عند كثير من الشباب رفقاء السوء، أو الرفقاء الذين لا فائدة منهم، نحن الآن إذا جئنا ننصح الشباب نقول لهم: رفقاء السوء .. ورفقاء السوء، بعضهم يقول: ليس عندنا رفقاء سوء، الحمد لله كلهم أصحاب لحى، وكلهم على خير، لاحظ -يا أخي- قد لا يكونون أهل سوء، لكن لا يكونون أهل فائدة، فإنك لا تستفيد منهم يضيعون وقتك.
من أسباب التفويت الزوجة والأولاد:
قد تكون الزوجة هي سبب فوات الطاعات، وقد يكون الأولاد إذا شغلوك بغير الطاعة: إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14] ونأخذ مثلاً من السيرة يوضح كيف كان الأولاد والزوجات سبباً في تفويت طاعة عظيمة وهي الهجرة، ثم ننظر في موقف الإنسان المسلم في عدم الانتقام ممن كان سبباً في التفويت إذا كان الانتقام بغير فائدة؛ عن عكرمة عن ابن عباس ، وسأله رجل عن هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. قال ابن عباس : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة ، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، إذاً: الزوجة والأولاد قد يقعدوا بالإنسان عن الطاعة، أو يثبطوه عن فريضة، عن حج، يقعدوا به عن طلب علم، قال: فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، وتحت وطأة الزوجة والأولاد ينهار الإنسان، وفي كثير من الأحيان تغلب العاطفة، يتابع الزوجة والأولاد فيما يسيرونه إليه. فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجرين بعد سنوات، فرأوا الناس قد فقهوا، فالذي تعلم قد تعلم، والذي جاهد جاهد، فلما رأوا ذلك هموا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم؛ فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن:14]. ثم أمر تعالى بالعفو، ما فائدة الانتقام من الزوجة والأولاد الآن وقد فاتهم ما فات؟ الآن راقب الله فيهم واحملهم على الطاعة.
من الوسائل في الاستدراك:
البيئة تؤثر على المرء في الاستدراك:
وسط الإنسان المحيط به له دور في دفع الشخص للاستدراك أو للتفويت، والدعاة إلى الله عليهم دور عظيم في حث المسلم الجديد لاستدراك ما فاته بعمل الصالحات، مقابلة السيئات التي كان يفعلها في الجاهلية. بعض الصحابة لما أسلموا كان عندهم هذا الشعور. عن ابن عباس قال: (كان المسلمون لا ينظرون إلى أبي سفيان ولا يقاعدونه، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا نبي الله! ثلاثاً أعطنيهن قال: نعم. قال: عندي أحسن العرب وأجمله أم حبيبة بنت أبي سفيان أزوجك، قال: نعم -وبعض المحدثين قد اعترض على هذه اللفظة، والخطأ في هذا الموضع- قال: و معاوية تجعله كاتباً بين يديك، قال: نعم. قال: وتؤمرني -هذا الشاهد- حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، قال: نعم) رواه مسلم . إذاً: أبو سفيان لما رأى نظرة الناس له عرف وأحس بالتقصير، وأراد أن يعوض. ,خالد بن الوليد و عمرو بن العاص ، لما أسلموا اندفعوا للتعويض، وينبغي على المسلم إذا هداه الله أن يندفع للتعويض، فقد كان في جاهلية؛ كان في سنوات الضياع والتيه والبعد عن الشريعة، فإذا اهتدى اندفع للتعويض. لاحظ معي هذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد رحمه الله، وقال الهيثمي عن إسناده: رجاله ثقات، ولعل في بعضهم شيئاً من الكلام، لكن هذه المسألة في القصص والسيرة، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه: لما انصرفنا من الأحزاب عن الخندق -وكان مع المشركين- جمعت رجالاً من قريش، وكانوا يرون مكاني ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون -والله- إني لأرى أمر محمد يعلو الأمور علواً كبيراً منكراً، وإني قد رأيت رأياً فما ترون فيه؟ قالوا: وما رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بـالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد، وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرف، نرجع إلى قومنا فلن يأتينا منهم إلا خير، فقالوا: إن هذا لرأي. واضح أنه بعد معركة الأحزاب بدأ ميزان القوى يتحول، قال: فقلت لهم: فاجمعوا له، أي: للنجاشي ما نهدي له، وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم، أي: الجلود، فجمعنا له أدماً كثيراً، فخرجنا حتى قدمنا عليه، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه -أي: إلى النجاشي- في شأن جعفر وأصحابه، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية الضمري لو قد دخلت على النجاشي، فسألته إياه فأعطانيه، فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك رأت قريش أني قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد صلى الله عليه وسلم. فدخلت عليه فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي -وهذا يدل على قوة العلاقة بين النجاشي و عمرو بن العاص- أهديتني من بلادك شيئاً؟ قال: نعم أيها الملك قد أهديت لك أدماً كثيراً، ثم قدمته إليه فأعجبه واشتهاه، ثم قلت له: أيها الملك! إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، قال: فغضب، ثم مد يده فضرب بها أنفه ضربة فظننت أنه قد كسره، فلو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت: أيها الملك والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتكه، قال النجاشي : أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله؟! قال: قلت: أيها الملك أكذاك هو؟ فقال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعله الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قال: قلت: فبايعني له على الإسلام، قال: نعم. فبسط يده وبايعته على الإسلام ثم خرجت إلى أصحابي، وقد حال رأيي عما كان عليه، وكتمت أصحابي إسلامي، ثم خرجت عامداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأسلم، فلقيت خالد بن الوليد وذلك قبيل الفتح، وهو مقبل من مكة إلى المدينة ، فقلت: أين يا أبا سليمان ؟ قال: والله لقد استقام المنسم -وفي بعض المراجع الميسم: هو أثر الحسن والجمال في الشيء، ويعني: خالد رضي الله عنه الحق، أي أن: الحق استبان- وإن الرجل لنبي، أذهب والله أسلم، فحتى متى؟ هذه كلمة مهمة جداً، يقول خالد بن الوليد : الحق استبان فحتى متى لا نتدارك أمرنا الآن ونسلم، فقلت: والله ما جئت إلا لأسلم، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمنا. وهكذا قد يسمع بعض الشباب التائبين الحق في أمريكا ، هو هنا ضال، يذهب إلى أمريكا يسمع كلمة الحق هناك ويهديه الله، ويرجع مهتدياً من هناك بعد أن كان ضالاً هنا، وهذا عمرو بن العاص ذهب فسمع من النجاشي ، ورجع متأثراً.
التوبة وسيلة لاستدراك ما فات:
إن هناك عدداً من المذنبين سمعوا مواعظ، وسمعوا أشياء حركت فيهم المشاعر الجياشة للتوبة، بعض الناس عندهم رغبة في التوبة، ومن المهم جداً للدعاة إلى الله أن يفتحوا لهم الأبواب، بتوضيح كيف يستدركوا ما فاتهم، وكيف يصلحوا أخطاءهم، يريدون التوبة لكن لا يعرفون كيف الطريق! عن ابن عباس رضي الله عنه قال: (إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن الذي تدعو إليه لحسن -نحن مقتنعين بما تقول- ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل قول الله تعالى وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً [الفرقان:68] ثم قال: إِلَّا مَنْ تَابَ [الفرقان:70] ونزل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً ... الآية [الزمر:53]) رواه مسلم . نلاحظ أن الشريعة فتحت باب الاستدراك، أنت يا أيها التائب عندك معاصٍ كثيرة والقضية مهمة، وبعض الناس يسألون عن أحكام التوبة، ما هي؟ والتوبة: هي عملية استدراك لما فات، فكما قال السفاريني رحمه الله تعالى في غذاء الألباب : اعلم -رحمك الله تعالى ووفقك- أن الحق الذي تاب منه التائب إما أن يكون لله أو لآدمي، ثم ذكر أشياء عن حق الله، وأشياء عن الحقوق المشتركة، ثم حق الآدمي المحض، وكل معصية وكل اعتداء على حق آدمي فهو اعتداء على حق الله تعالى ومعصية لله، لا بد أن يتوب منها الشخص ثم يعيد حق الآدمي. إذا كان حق الآدمي قصاصاً مكنه من نفسه، أو كان مالاً أعاده إليه، فإن كان قد أتلف شيئاً عوضه عنه، وإذا لم يستطع استسمح منه، وإذا اغتابه أو قذفه، ثم لو جاء وقال: يا فلان! أنا اغتبتك وقلت فيك كذا وكذا، وخصوصاً أن بعض الناس لا تدري ما ردة فعله، فإنه قد يطلب منك ما قلته فيقول: لا. ماذا قلت بالضبط؟ أنا أريد أن أعرف ماذا قلت بالضبط، وإلا لا أسامحك إلى يوم الدين. يأتي الأخ هذا فيقول: أنا أريد أن أتوب قذفت فلاناً واغتبت فلاناً، فكيف أفعل؟ لو أخبرته لربما تفاقم الشر، فذهب شيخ الإسلام رحمه الله وتلميذه ابن القيم وغيرهم من العلماء، إلى أنه إذا قدر أن الشر سيزيد ويعظم ويقع في نفس صاحبه عليه أشياء، ويجد عليه أموراً ما كان يجدها عليه من قبل، فإنه يكتفي بالاستغفار والدعاء له، ويدافع عنه في المجالس الذي اغتابه فيها، ويكذب نفسه في المجالس الذي قذفه فيها، ثم لعله إذا جاء يوم القيامة ووجد في صحيفته حسنات فيقال له: هذا استغفار أخيك الذي اغتابك فإنه استغفر لك، لربما سامحه إذا وجد استغفار أخيه له. وهكذا عللوا قضية الاستغفار، رجاء أن يرضى عنه خصمه يوم القيامة ببركة استغفاره، وقال ابن المبارك : لا تؤذه مرتين، اغتبته ثم تقول له: قلت فيك كذا وكذا. وكل أنواع الذنوب لها حل، وهذا ما يجب أن نؤكد عليه أمام التائبين، ونخبرهم به لنفتح لهم الأبواب فيقبلوا، ولا بد أن نعيد الحقوق لأصحابها قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم، ولكن بالحسنات والسيئات، كما جاء في الحديث الصحيح.
التغلب على مشاعر الإحباط لاستدراك ما فات:
من الأمور المهمة في علاج ما فات -ونتكلم عن بعض الأمور التربوية- أنه لابد من التغلب على مشاعر الإحباط التي تعتري الشخص المقصر، خصوصاً عندما يأتيه شيطان فيقول: لا فائدة! فما فعلته في الماضي لا سبيل إلا إنقاذ نفسك من تبعته ومسئوليته، ولا تستطيع أن تعوض. فلا يجوز أن يشعر الإنسان بمشاعر الإحباط حتى تسيطر عليه وتقعد به عن محاولة التقدم وتعويض ما فات. بعض الناس إذا استعرض في ذهنه الأشياء الذي فاتته وجدها كثيرة جداً فيستعظم ذلك، وقد نهينا عن (لو) التي تفتح عمل الشيطان؛ لأنها تسبب القنوط واليأس الذي لا فائدة منه، بل يضر. إن تحقيق الأماني لا يكون بالندم على ما فات، ولا باجترار الأحزان على الماضي، وهو الندم السلبي؛ -لأن هناك ندم إيجابي كما سيأتي- وإنما يكون بالجد والعمل واغتنام كل فرصة.
بادر الفرصة واحذر فوتها فبلوغ العز في نيل الفرص
فابتدر مسعاك واعلم أن من بادر الصيد مع الفجر قنص
أما إضاعة الحاضر بالاستسلام للأوهام والأشياء التي حصلت في الماضي، والانسياق وراء وساوس الشيطان فإنها ضارة للغاية.
أفنيت يا مسكين عمـ ـرك في التأوه والحزن
وقعدت مكتوف اليديـ ـن تقول حاربني الزمن
ما لم تقم بالعبء أنـ ـت فمن يقـوم به إذن؟
من المهم -أيها الأخوة- أن ننظر في أحوالنا، ونصحح المسيرة، ونستدرك ما فاتنا، ونحاسب أنفسنا بحسب الإمكانات، ولا يمكن أن تكون محاسبة طالب في تخصص شرعي في مسألة طلب العلم كمحاسبة الموظف الذي له دوامان أو دوام طويل، لأن الإمكانات تختلف، فما يفوت هذا أعظم مما يفوت ذاك، وما ينبغي أن تكون عليه الدرجة في المحاسبة أشد في حق طالب العلم المتفرغ. ثم لابد من إزالة الحواجز النفسية التي تمنع الاستدراك، كأن يقول: أنا كبرت، وذاكرتي قد ضعفت فلا فائدة الآن من حفظ المتون وطلب العلم في حالتي. نقول: يا أخي! بعض الصحابة أنتجوا في أعمار متأخرة، وبعضهم ما عاشوا إلا أشهراً قلائل وعلموا أشياء كثيرة جداً، ثم استحضار قصص الذين طلبوا العلم متأخرين، بعضهم ما طلب العلم إلا بعد الأربعين وأصبحوا علماء، فـابن أبي ذئب طلب العلم متأخراً، وكان يقارن بـمالك ، وقالوا: لو طلب العلم مبكراً لما قورن به مالك ولا كان قريباً منه، رضي الله عنهم جميعاً ورحمهم. وإذا نظرنا في حال بعض العلماء كيف استدركوا الأمور وكيف تقدموا، لوجدنا أمراً عظيماً! ابن حزم رحمه الله طلب العلم بعدما بلغ السادسة والعشرين و ابن حجر رحمه الله مرت عليه سنوات لم يكن يطلب فيها الحديث، حتى كان ينشد شعراً فسمعه شخص فقال: ليس هذا من شأنك، هذا لا يليق بك، فانصرف إلى الحديث. الذهبي رحمه الله قال: رأى خطي رجل، فقال: إن خطك يشبه خط المحدثين، فوقع في نفسي طلب الحديث. ابن القيم رحمه الله مضى فترة من عمره مع الصوفية ، ثم رجع وصار العلم العظيم، يقول:
يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكـم معـوان
جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طـيران
حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولسـاني
حبر أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران
فالله يجزيه الذي هو أهله للجنة المأوى مـع الرضـوان
أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطـلع الإيمان
ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعسـاكر الـقرآن
ورأيت آثاراً عظيماً شأنها محجوبة عن زمـرة العـميان
لا تقل: فاتتنا المرحلة الذهبية في طلب العلم، فاتتنا مرحلة الذاكرة القوية، ولا فائدة، فهناك من طلب العلم متأخراً وأفلح، وهذا عبد الصمد شرف الدين ذكر في مقدمة تحقيقه لـتحفة الأشراف أنه ما طلب العلم إلا بعد الأربعين. الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جاء إلى شيخه السندي في المدينة فرأى الناس يطوفون بقبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في مقتبل عمره، فقال لشيخه السندي : ما تقول في هؤلاء؟ قال: إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون، ولكن من يقوم لهم؟ قال الشيخ: فوقعت في نفسي. أحياناً كلمة من عالم موجه، من مربٍ فاضل، أو قدوة، تغير مجرى حياة الإنسان، وحتى لو ذهبنا بعيداً بين الشعراء هذا النابغة الذبياني ما قال بيتاً من الشعر إلا بعد أن بلغ الأربعين. أيها الأخوة: بعض الناس فاتهم حفظ القرآن، فلما تقدم بأحدهم العمر قال: لا سبيل إلى حفظه وقد ضعفت الذاكرة، نقول له: راجع ما حفظته يا أخي، واسع للحفظ من جديد، بعض الناس حفظوه بعد الأربعين، وهناك امرأة كبيرة في السن حفظت القرآن في سنة ونصف، من كثرة سماعه ومواظبتها وحرصها وسعيها، فتحت الشريط وهي تغسل الصحون في المطبخ، ذهبت مركز تحفيظ القرآن فتأثرت، وأحضرت أشرطة القرآن، وهي في المطبخ تستمع الأشرطة، تستمع وتستمع حتى حفظته في سنة ونصف، ولو كانت أمية فإنها تحفظ من الأشرطة. فالإنسان إذا كان صاحب همة يستدرك ما فاته مهما كان، ويمكنه أن يعمل أشياء كثيرة جداً، مثلاً: عدد من الطلاب ندموا أنهم لم يكونوا يكتبون الفوائد والنفائس، ويقيدون الأفكار والخواطر، وذهب الموضوع من ذهنهم وضاع التحضير، لأن النقاط كانت في ورقة صغيرة وضاعت، فيقول: لا فائدة قد ذهب الكثير، نقول: قيد الآن، ابدأ من جديد، قيد ورتب وفهرس.
الشعور بأن هناك شيئاً فات والاندفاع إلى التعويض:
وختاماً أيها الأخوة! في مسألة استدراك ما فات ينبغي أن ينتابنا شعوران: الشعور الأول: أن نشعر فعلاً أن هناك أشياء فاتت؛ لأن الذي لا يحس أن هناك أشياء فاتت سيندفع إلى ما هو أعظم؛ لأنه لا يشعر أنه قد فاته شيء، فلابد أن نحاسب أنفسنا ونعرف ماذا فاتنا في كل جانب من الجوانب؛ في طلب العلم، في الأخلاق، في الدعوة إلى الله، في بر الوالدين، في صلة الرحم، وهكذا ثم نستدرك ونبدأ بإصلاح الأوضاع. الشعور الثاني: العزم والاندفاع للتعويض، إذاً الشعور الأول أن نحس أن هناك أشياء فاتت، الشعور الثاني العزم والاندفاع للتعويض، ونمثل للأول بأبيات، وللثاني بأبيات نختم بها هذا الدرس. الأول الذي هو المحاسبة والشعور بأن هناك أشياء فاتت، قال الشاعر رحمه الله:
تفيض عيوني بالدموع السواكـب ومالي لا أبكي علـى خيـر ذاهب
على العمر إذ ولى وحان انقضاؤه بآمـال مغـرور وأعـمار ناكـب
على غرر الأيام لمـا تصرمـت وأصبحت منها رهن شؤم المكاسب
على زهرات العيش لما تساقطت بريح الأماني والظنـون الكـواذب
علـى أشـرف الأوقــات لمـا غبنتها بأسواق غبن بين لاهٍ ولاعب
علـى أنفـس السـاعـات لـما أضعتها وقضيتها في غفلة ومعاطب
على صرفـي الأيـام فـي غيـر طائل ولا نافع من فعل فضل وواجب
على ما تولى من زمـان قضيـته ورجيته فـي غيـر حـق وصـائب
على فرص كانت لو اني انتهزتها لقد نلت فيها مـن شريـف المطـالب
وأحيان آناء من الدهر قد مضت ضياعـاً وكـانت موسـماً للرغـائب
هذا شعور بالتفريط والمحاسبة وأن هناك أشياء كثيرة فاتت، ثم هذه الأبيات لـجمال الدين الصرصري رحمه الله، وبعد هذا الشعور، يقول في قصيدة له:
فيا من مد في كسب الخطا يا خطاه أما يأن لـك أن تتـوبا
ألا فاقلع وتب واجهد فـإنا رأيــنا كـل مجـتهد مصيـبا
وأقبل صادقاً فـي العـزم واقصد جناباً للمنيب لـه رحيـبا
وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيـا غــريبـا
وغض عن المحارم منك طرفاً طموحاً يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسد غاب إذا ما أهملت وثبــت وثوبــا
ولا تطلق لسانك في كلام يجــر عليـك أحقـاداً وحـوبا
ولا يبرح لسانك كل وقت بـذكــر الله ريانــاً رطيبــا
وصلِّ إذا الدجى أرخـى سدولاً ولا تضجر بـه وتكن هيوبا
تجد أنساً إذا أودعت قبراً وفارقـت المعاشــر والنسيــبا
وصم ما تستطيع تجده ريا إذا مــا قمـت ظمئـانا سغــيبا
وكن متصدقاً سراً وجهراً ولا تبــخل وكن سمحـاً وهوبـا
تجد ما قدمته يداك ظـلاً إذا مـا اشتـد بالنــاس الكـروبا
وكن حسناً السجايا ذا حياء طليق الوجه لا شكساً غضــوبا
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من التائبين المنيبين، وأن يغفر لنا ذنوبنا أجمعين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات والحسنات وحب المساكين، اللهم إنا نسألك ترك المنكرات، اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من عبادك الأخيار، الأتقياء الأخفياء الحنفاء، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله على نبينا محمد.
تعليق