المغبونون
المصدر/ موقع إمام المسجد
الحمد لله على نعمائه والشكر له على توفيقه وامتنانه، والصلاة والسلام على عبده ورسوله، وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
أخي الكريم: إنه لا يخلو أحدٌ من البشر إلا وهو مغبون، فذاك مغبون في بيعه، وذاك في وقته، وآخر في ذكره وعبادته لله،وآخر...،وآخر..ولكن الموفق من استيقظ من رقاده, وانتبه لما هو واقع فيه من الغبن، وإن أعظم شيءٍ يغبن فيهما الإنسان هما الصحة والفراغ.
فقد جاء في صحيح البخاري، عن ابن عباس-رضي الله عنه-قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم- " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " صحيح البخاري كتاب الرقاق رقم(6049).
قال بن بطال "معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغًا حتى يكون مكْفّيِاً صحيح البدن, فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه, ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه, فمن فرط في ذلك فهو المغبون ".فتح الباري(11/230) في شرح الحديث السابق
عبد الله: تأمل في قوله-صلى الله عليه وسلم- حين قال (كثير من الناس) فإنه يشير إلى أن الذي يوفق للعمل الصالح, و استغلال أوقات الصحة والفراغ إنما هم قليل، أما أكثر الناس فهم في غبن أي في خسارة وفي ضياع.
قال ابن الجوزي-رحمه الله تعالى_: "قد يكون الإنسان صحيحًا ولا يكون متفرغًا لشغله بالمعاش, وقد يكون مستغنيًا ولا يكون صحيحًا, فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون, وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة, فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط, ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون, فالفراغ يعقبه الشغل, والصحة يعقبها السقم, ولو لم يكن إلا الهرم كما قيل:
يسر الفتى طول السلامة والبقا *** فكيف ترى طول السلامة يَفعَلُ
يُرَدُّ الفتى بعد اعتدال وصحة *** ينوء إذا رام القيام ويحمل
فتح الباري(11/230) في شرح الحديث السابق
أخي الكريم: أختي الفاضلة قال المفسرون: "المغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة, ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان, وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام".
وقال الحسن وقتادة: "بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف: رجل علم علمًا فعلمه وضيعه هو ولم يعمل به فشقي به, وعمل به من تعلمه منه فنجا به, ورجل اكتسب مالاً من وجوه يسأل عنها وشح عليه, وفرط في طاعة ربه بسببه, ولم يعمل فيه خيرًا وتركه لوارثه , فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه, ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد, وعمل السيد بمعصية ربه فشقي".تفسير القرطبي (18/137)
قال معاذ الرازي: "المغبون من عطل أيامه بالبطالات وسلط جوارحه على الهلكات ومات قبل إفاقته من الجنايات" كتاب الزهد الكبير (2/295). البيهقي.
أخي الكريم: أختي الفاضلة "إنه من استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة فقد غبن" فتح الباري (11/231).
عبد الله أمة الله: إنه (لا يعرف قدر هاتين النعمتين كثير من الناس, حيث لا يكسبون فيهما من الأعمال إلا كفاية ما يحتاجون إليه في معادهم, فيندمون على تضييع أعمارهم عند زوالها ولا ينفعهم الندم, قال تعالى " ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ" التغابن: ٩ )تحفة الأحوذي (6/485) .
أخي الكريم: أختي الفاضلة إنه من صاحب الصالحين, وجالسهم, واكتسب ودهم, فإنه الرابح، وإن الذي خسر ود أصحابه الصالحين وفاته حبهم له فذلك هو المغبون حق اليقين، ولله در من قال في معنى هذا الأدب: "ما ذاقت النفس على شهوة ألذ من حب صديق أمين، ومن فاته ود أخ صالح فذلك المغبون حق اليقين" فيض القدير (2/291)
عبد الله: أمة الله إنه لا ينبغي لعاقل أن يضيع ساعات ليله ونهاره في ما لا ينفع عند الله -عزوجل-وإنه من ضيع هذه الساعات التي هي عمره فهو والله المغبون.
فعن عمارة بن عمر بن العلاء قال: سمعت عمر بن ذر يقول: "اعملوا لأنفسكم- رحمكم الله- في هذا الليل وسواده, فإن المغبون من غبن خير الليل والنهار, والمحروم من حرم خيرهما, وإنما جعلا سبيلاً للمؤمنين إلى طاعة ربهم, ووبالاً على الآخرين للغفلة عن أنفسهم, فأحيوا لله أنفسكم بذكره, فإنما تحيى القلوب بذكر الله, كم من قائم في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في حفرته, وكم من نائم في هذا الليل قد ندم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله-عز وجل-للعابدين غدًا, فاغتنموا ممر الساعات والليالي والأيام رحمكم الله " حلية الأولياء (5/109)
وعن ثابت بن الضحاك قال عند قوله تعالى " وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُ*ونَ " المنافقون: ٩. يقول " ومن يلهه ماله وأولاده عن ذكر الله فأولئك هم الخاسرون يقول: "هم المغبونون حظوظهم من كرامة الله ورحمته" تفسير الطبري (18/117).
واعلم عبد الله أنه لن يضيع إنسان وقته إلا مغبون بل إنه محروم، وإن إضاعة الوقت هي أشد من الموت فقد قال ابن القيم -رحمه الله-عند كلامه على إضاعة الوقت وأنه أشد من الموت قال: "إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة, والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها".
أخي المسلم: كم من العمر يمضي في غير طاعة الله؟! وكم من الساعات تنقضي في اللهو والعبث؟! فعن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ " صحيح البخاري كتاب الرقاق رقم(6049).
عبد الله أمة الله:كم من الأيام قد مضت في اللعب واللهو؟! ونحن نفرح بأنها تمضي ولم نتذكر أنها تقربنا إلى آجالنا، ولله در القائل حين قال:
إنا لنفرح بالأيام نقطعها *** وكل يوم مضى يدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا *** فإنما الربح والخسران في العمل
وانظر إلى هذا الشاعر اللبيب الفطن الذكي حينما دعاه الملك ليصف قصره,فعلم أنه في لهو ولعب، وأن عمره قد مضى في ضياع, ولم يستغل عمره كما أراد الله-جل جلاله-.فقال:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يسعى عليك بما اشتهيت لدى الرواح مع البكور
فإذا النفوس تقعقعت في ضيق حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقنًا ما كنت إلاّ في غرورِ
أسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لطاعته والعمل في مرضاته, وأن يوفقنا لاستغلال أوقاتنا, وأعمارنا, وصحتنا, وفراغنا, إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين،،،
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله
والحمد لله رب العالمين،،،
تعليق