سلسلة شرط البخاري ومسلم
لفضيلة الشيخ: أبي إسحق الحويني
المحاضرة الثانية
لفضيلة الشيخ: أبي إسحق الحويني
المحاضرة الثانية
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
سنواصل الكلام عن الصحيحين، وسوف نتطرق إلى ذكر بعض الأحاديث التي انتقدها بعض أهل العلم على الصحيحين، ونتبع ذلك ببيان التعدي أيضاً على الصحيحين من قبل الجهلة الأغمار الذين كتبوا في هذا الزمان، وأرجو من إخواننا طلاب العلم أن ينتبهوا جيداً إلى هذه الدروس وإلى هذه القواعد التي سنذكرها في ثنايا الكلام على الصحيحين، حتى يتسنى لهم أن يهضموا طريقة الشيخين في تصنيف كتابيهما، ومن ثم نذبّ عن هذين الكتابين الجليلين هذه الغارات الظالمة، الجائرة، الجاهلة أيضاً؛ ونحن نعلم مما تقدم من الدروس أن الحكم على الحديث تصحيحاً وتضعيفاً، إنما هو فرع على الكلام عن الراوي تجريحاً وتوثيقاً، فالأصل هو الحكم على الراوي، والفرع هو الحكم على حديث الراوي، فمن كان ثقة صادقاً أميناً، فحديثه صحيح، ومن كان ضعيفاً مجروحاً فحديثه ضعيف أو دون ذلك، فالأصل هو الكلام عن الراوي، والفرع هو الكلام عن الخبر أو الحديث الذي نقله هذا الراوي.
فاعلم أيها المسترشد، أن الرواة الذين روى لهم الشيخان البخاري ومسلم ليسوا جميعا على طبقة واحدة في الثقة والضبط والإتقان، إنما هم طبقات متفاوتة. الذي يعنينا هم الرواة الذين تكلم فيهم أهل العلم، لماذا أخرج البخاري ومسلم لرواة تكلم أهل العلم فيهم؟
هناك حكاية رواها الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد عن سعيد بن عمرو البرزعي وهو أحد الذين نقلوا كلام أبي داود في العلل وكلام ابن زرعة الرازي، فيقول سعيد ابن عمرو: "شهدت أبا زرعة الرازي عبيد الله بن عبد الكريم وذكر الكتاب الصحيح الذي ألفه مسلم" وأبو زرعة الرازي من صغار شيوخ مسلم، أي أن مسلم اشترك مع أبي زرعة الرازي في الرواية عن شيوخ كثيرين فهو من تلاميذه وأقرانه في نفس الوقت، (أي مسلم من تلاميذ أبي زرعة الرازي ومن أقرانه في آن واحد) مثل البخاري والإمام أحمد بن حنبل، فالبخاري تلميذ أحمد وقرينه في آن واحد، تلميذه- لأنه روى عنه، وقرينه- لأنه اشترك مع الإمام أحمد في الرواية عن جماعة من الشيوخ معاً، فإذن هو تلميذ وقرين، كذلك مسلم هو تلميذ أبي زرعة الرازي وقرينه في ذات الوقت.
فيقول سعيد بن عمرو البرزعي: "شهدت أبا زرعة الرازي ذكر كتاب الصحيح الذي ألفه مسلم بن الحجاج ثم أبو الصائر على مثاله" أبو الصائر ألف كتاباً ككتاب مسلم، "فقال لي أبو زرعة: هؤلاء قوم أرادوا التقدم قبل أوانه، فعملوا شيئاً يتسوقون به، ألفوا كتاباً لم يسبقوا إليه ليقيموا لأنفسهم رئاسة قبل وقتها، وأتاه ذات يومٍ وأنا شاهد، رجل بكتاب الصحيح من رواية مسلم، فجعل ينظر فيه، فإذا حديث عن أسباط بن نصر، فقال: ما أبعد هذا من الصحيح، يدخل في كتابه أسباط بن نصر؟ ثم رأى في كتابه قطن بن نسير، فقال: وهذا أطمً من الأول، قطن بن نسير وصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس، ثم نظر فقال: يروي عن أحمد بن عيسى المصري في كتابه الصحيح، قال أبو زرعة: ما رأيتُ أهل مصر يشكون في أن أحمد بن عيسى، وأشار أبو زرعة إلى لسانه كأنه يعني الكذب، كأنه يقول ما كان أهل مصر يشكون أن أحمد بن عيسى يكذب، ثم قال لي يحدث عن أمثال هؤلاء ويترك محمد بن عجلان ونظراءه ويطرّق لأهل البدع علينا فيجدون السبيل بأن يقولوا للحديث إذا احتجّ به عليهم ليس هذا في كتاب الصحيح، ورأيته يذمّ من وضع هذا الكتاب ويؤنبه"
هذا كلام أبي زرعة الرازي، اعترض على ثلاثة رواة روى عنهم مسلم في صحيحه أولهم أسباط بن نصر، وهذا ليس من شيوخ مسلم بل من شيوخ شيوخه، ثم ذكر قطن بن نسير وأحمد بن عيسى بن حسان المصري، وكلاهما من شيوخ مسلم، وجرح أبو زرعة الرازي هؤلاء الثلاثة، وقال كيف يدخل هؤلاء الثلاثة في كتاب يزعم صاحبه أنه جمع الحديث الصحيح؟ هذه [هي]التهمة، فكيف أجاب مسلم عنها؟ أرجو من الإخوة أن يركزوا في السماع. هذا جملة ملا قاله أبو زرعة الرازي، فاسمع ما قاله مسلم بن الحجاج، لنعرف كيف صنف الإمام كتابه، وكيف كان يحتاط غاية الاحتياط في الرواية عن هؤلاء.
قال سعيد بن عمرو البرزعي: "فلما رجعت إلى نيسابور في المرة الثانية، ذكرت لمسلم بن الحجاج إنكار أبي زرعة عليه روايته في كتاب الصحيح عن أسباط بن نصر وقطن بن نسير وأحمد بن عيسى، فقال لي: (إن ما قلتَ صحيح) إذن هو أقرّ بأن هؤلاء الثلاثة من المجروحين أو ممن تكلم أهل العلم فيهم، إذن ما كان مسلم يجهل الكلام عن هؤلاء الثلاثة، بل كان يعلم أيضاً أنه تُكلّم فيهم، فقال: إن ما قلته صحيح. أي أن هؤلاء مجروحون ولا يدخل حديثهم في الصحيح. إذن ما الحامل لك وقد اعترفت أن تدخل رواية هؤلاء في كتابتك الصحيح الذي اشترطت فيه الصحة؟ قال: (وإنما أدخل من حديث أسباط، وقطن وأحمد ما قد رواه الثقات عن شيوخهم، إلا أنه ربما وقع إلي عنهم بارتفاع ويكون عندي من رواية من هم أوثق منهم بنزول، فأقتصر على أولئك وأصل الحديث معروف من رواية الثقات).
يريد أن يقول: أنا ما خرّجتُ حديث هؤلاء إلا لأن هذا الحديث الذي رووه وقد رواه غيرهم من الثقات وقع لي عن هؤلاء الثلاثة بارتفاع، أي بعلو، أما الطريق الصحيح الذي رواه الثقات، فوقع إلي في نزول، ففضلتُ العلو، وأصل الحديث معروف من رواية الثقات، فما معنى هذا الكلام؟ أشرف درجات العلو هو قلة الوسائط الصحيحة بينك وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلما كان عدد الرواة أقل كان اسمه علو، وهذا أشرف أنواع العلو، العلو أقسام، هذا أشرفها وأرفعها، مالك عن نافع عن ابن عمر، بين مالك والنبي صلى الله عليه وسلم كم واحد؟ اثنان. الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، بين الشافعي وبين النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، مَن أعلى مِن مَن؟ مالك أعلى من الشافعي، لأن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم اثنان فقط، بينما الشافعي بينه وبيت النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة. فمسلم يقول: ربّ حديث رواه قطن بن نسير عن جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت عن أنس، إّذن بين مسلم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم كم راوٍ؟ أربعة، قطن- جعفر- سليمان- ثابت بن أسلم البناني- مالك. الراوي الذي تُكلم فيه مَن؟ قطن بن نسير.
لو أن مسلما أراد أن يروي هذا الحديث عن جعفر من رواية ثقة غير قطن بن نسير، لكان بينه وبين جعفر اثنان، فسيقول حدثنا فلان عن فلان عن جعفر، فيكون بين مسلم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم كم واحد بهذا الاعتبار؟ خمسة. فمسلم يقول: هذا الحديث صحيح، وقد عُرف عند العلماء أنه صحيح، ورواية الثقات لهذا الحديث معروفة عند أهل العلم، فأنا بدلاً من أن أنزل درجة ويكون بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة من الرواة، آخذ طريق قطن ن نسير، ويكون بيني وبين النبي صلى الله عليه وسلم أربعة، والحديث معروف من رواية الثقات، فالمتن صحيح لا ريب فيه، فهذا الذي جعلني أُخرِّجُ رواية هؤلاء.
لكن متى يُلام مسلم؟ إذا كان قطن بن نسير مثلاً تفرّد بهذا الحديث، ولم يتابعه أحد من أهل العلم. فنقول له: راوٍٍ ضعيف، تفرّد بهذه الرواية، كيف خرّجتَ حديثه؟ لكن مامن حديث رواه مسلم- وما أقل ما روى مسلم لقطن بن نسير- روى عنه حديثين فقط. وأنا سأذكر روايات هؤلاء الثلاثة في صحيح مسلم، وكيف وقعوا، وكيف احتاط مسلم غاية الاحتياط في الرواية عن هؤلاء الثلاثة، وفي الرواية عن أمثال هذا الذرّ المتكلم فيهم.
إذن مسلم أبدى عذره، وهو عذر مقبول عند أهل العلم، أعرض عن هذه الطريق لنزولها، وخرّج هذا الطريق لعلوه.
ولمّا قَدِم مسلم الري على محمد بن مسلم بن وارة، عاتبة أيضاً وقال له ما قال أبو زرعة الرازي، فأجابه مثلما أجاب سعيد بن عمر البرزعي، فعذره محمد بن مسلم بن وارة، وحدثه وقبل عذره.
تعالوا الآن ننظر في روايات هؤلاء الثلاثة على وجه الخصوص، طالما أن أبا زرعة الرازي قد سمّاهم، لننظر كيف روى مسلم لهؤلاء الثلاثة في صحيحه.
أولاً: أسباط بن نصر الهمداني أبو يوسف يقال أبو نصر، وهذا كما قلتُ ليس من شيوخ مسلم، إنما هو من طبقة شيوخ مسلم، هذا الراوي أسباط بن نصر، وثّقه ابن معين، وابن حبّان، وابن شاهين، وقال البخاري: صدوق. وتوقّف فيه أحمد، سئل عن حاله، قال: لا أدري. واختلف فيه رأي الفضل بن دُكين، فقال أبو حاتم الرازي: سمعتُ الفضل بن دُكين، [أو قال] سُئل، أو قال سألتُ الفضل بن دُكين عن أسباط بن نصر، قال: أحاديثه مقلوبة ألأسانيد. وسأله محمد بن مهران الجمّال، قال: سألتُ أبا نُعيم عن أسباط بن نصر، قال: لم يكن به بأس، لكنه أهوج.
إذن اختلف رأي الفضل بن دُكين في أسباط بن نصر. وقال النسائي: ليس بالقوي. وذكره أبو زكريا الساجي، وأبو العرب القيرواني في كتاب الضعفاء.
هذا الراوي، كم حديثاً أخرجه مسلم له؟ أخرج له حديثاً واحداً فقط في صحيحه. فإن ما يقال أن مسلماً أخرج لأسباط بن نصر وهو رجل متكلّم فيه، إنما أخرج له حديثاً واحداً، هو حديث جابر بن سمرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلقّى غلماناً فكان يمسح خدي كل غلام منهم، قال: فلمّا جاء دوري، فمسح على خدي بيديه، فما رأيتُ يداً أبرد أو أطيب من يده صلى الله عليه وسلم، كأنما أخرجها من جؤنة عطار. والجؤنة هي ...-كلمة غير مسموعة جيدا- المتاع، كأن واحداً أدخل يده في كيس عطر فصارتْ يده معطرة. وهذا الحديث لم يروه احد من الأئمة الستة، إلا مسلماً، ولم يروه أحمد في مسنده، على سعة ما في المسند من أحاديث.
هذا هو الحديث الوحيد الذي أخرجه مسلم لأسباط بن نصر، أما قطن بن نسير- وهو من شيوخ مسلم- فأخرج له مسلم حديثين، الحديث الأول في المتابعات، والحديث الثاني مقرون بغيره. إذن فمسلم احتاط في الرواية عنه أم لا؟ أما في الرواية الأخرى فأخرجها في المتابعات، والحديث الأول الذي أخرجه مسلم له في كتاب الإيمان، ساق في الإمام مسلم حديث أنس في ثابت بن قيس بن الشمّاس، لمّا نزل قوله تبارك وتعالى: {لا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيْ} فاعتزل ثابت بن قيس بن الشماس في بيته، وكان رجلا رفيع الصوت، أي أن صوته مرتفع خلقة، [حين يتكلم بطريقة عادية يُسمع على مسافة وبعد]، فلما نزلتْ الآية: {لا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيْ} اعتزل في بيته وبكى وقال: أنا من أهل النار، أنا حبط عملي. ففقده النبي صلى الله عليه وسلم أياماً فسأل عنه سعد بن معاذ، فاقل: يا أبا عمر! أين ثابت بن قيس؟ لم أره، أشتكى؟ (أهو مريض يعني؟) قال سعد: أنا جاره وما علمته اشتكى. ثم ذهب إليه سعد يتفقّد حاله، فوجده يبكي، فقال: مالك؟ قال: أنا من أهل النار، أما قد حبط عملي، إن الله عز وجلّ قال: {لا تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيْ } وقد كان صوتي يعلو صوت النبي صلى الله عليه وسلم. فذهب سعد بن معاذ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: فأخبره أنه من أهل الجنة. قال أنس: فكان يمشي بيننا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة.
روى مسلم هذا الحديث عن قطن بن نسير عن جعفر بن سليمان الضبعي عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه، ورواه مسلم عن الحسن بن موسى عن حماد بن سلمة عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك، ورواه مسلم أيضاً عن المعتمر بن سليمان عن أبي سليمان التيمي عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك رضي الله عنه. فمسلم إذن روى حديث قطن في المتابعات، أورد حديث حماد بن سلمة عن ثابت أولاً، واعتبره- هذا الحديث- العمدة في الباب، وأورد اللفظ على حديث حماد، ونحن نعلم أن حماد بن سلمة هو أثبت الناس عن ثابت بن أسلم البناني، فيكون قد روى الحديث عن حماد بن سلمة عن ثابت، وروى الحديث عن سليمان التيمي عن ثابت، هذان حديثان عمدة، ثم روى بعد ذلك أو بينهما، حديث قطن عن جعفر بن سليمان، فإذن أورد حديث قطن في المتابعات، ما أورده احتجاجاً به، فمسلم احتاط في الرواية عن قطن إذن أم لا؟ احتاط في الرواية.
الحديث الثاني الذي أخرجه مسلم لقطن، أخرجه في كتاب التوبة، قال مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى التيمي، وقطن بن نسير، واللفظ ليحيى. هذان قالا: حدثنا أو أخبرنا جعفر بن سليمان الضبعي عن سعيد بن إياس الجريري عن أبي عثمان النهدي عن حنظله الأسيدي أنه لقي أبا بكر الصديق فقال: نافق حنظلة! وأنتم تعرفون الحديث طبعاً، [حين] قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا حنظله! ساعة وساعة. هذا هو الحديث.
فمسلم روى هذا الحديث قال: حدثنا يحيى بن يحيى وقطن، فإذن جاء مقروناً أم لا؟ مقروناً بغيره، فهل احتاط أم لا؟ احتاط. لأن العمدة في هذه الرواية على مَن؟ على يحيى بن يحيى. أما قطن بن نسير فإنما أورده متابعاً، فإن لم يعجبك قطن، فأسقطته، بقي الحديث على حاله، كأنما قلت: حدثنا يحيى بن يحيى، قال حدثنا جعفر بن سليمان، فلا يضر الحديث شيء. فالحديث الثاني والأخير الذي رواه مسلم لقطن بن نسير جاء مقروناً، والحديث الأول رواه في المتابعات، فإذن احتاط مسلم.
فقائل يقول لك: سعيد بن إياس الجريري اختلط، كان اختلط في أيام الطاعون، يعني حصل [الطاعون] مثلاً سنة 132 هـ، فأنكروا سعيد بن إياس الجريري في أيام الطاعون، فهل جعفر بن سليمان الضبعي ممن روى لسعيد بن إياس قبل الاختلاط؟ لا.. روى عنه بعد الاختلاط، فإن الحديث ضعيف، دَعْكَ من قطن، فالحديث فيه ضعف، لأن جعفر بن سليمان الضبعي ممن سمع من سعيد بن إياس الجريري بعد الاختلاط، فنقول: إن مسلماً رحمه الله روى هذا الحديث أيضاً من طرق. من ضمن هذه الطرق، طريق عبد الوارث بن سعيد عن سعيد بن إياس الجريري، والطريق الثاني: سفيان الثوري عن سعيد بن إياس الجريري، وعبد الوارث وسفيان الثوري ممن سمع من الجريري قبل الاختلاط. فهل على الحديث مشاكل؟ كلا.. فكون مسلم أورد طريقاً آخر داخل في باب المتابعات، لا يقال لماذا أخرج لجعفر عن سعيد الجريري، وجعفر سمع من سعيد بعد الاختلاط، فالجريري اختلط سنة 132 هـ، أيام الطاعون، والذين رووا عن سعيد بن إياس الجريري قبل الاختلاط: حماد بن سلمة، حماد بن زيد، عبد الأعلى بن عبد الأعلى، شعبة، سفيان الثوري، يزيد بن زريع، معمر بن راشد، وهيب بن خالد، إسماعيل بن عليّة. كل هؤلاء سمعوا من سعيد بن إياس الجريري قبل الاختلاط، وهم بصريون، وقد ذكر أبو داود السجستاني قاعدة جيدة، قال: من روى عن سعيد بن إياس وقد أدرك أيوب السختياني، فسماعه جيد. أتعرف معنى هذه العبارة (من روى لسعيد وقد أدرك أيوب)؟ تذهب لترجمة أيوب السختياني، وتنظر في الرواة عن أيوب، هذه النقطة الأولى، ثم تذهب لترجمة سعيد الجريري وتنظر في الرواة عن سعيد، فالراوي المشترك بينهما يكون سماعه جيداً؛ لأن من روى عن أيوب وروى أيضاً عن الجريري فسماعه جيد. سنأخذ رواة مشتركين عن أيوب بن سعيد الجريري، فأنا إذا نظرت في ترجمة هذين، وجدت أن الرواة المشتركين الذين رووا للاثنين هم الجماعة الآتون: حماد بن زيد، عبد الوارث بن سعيد، معمر بن راشد، وهيب بن خالد، يزيد بن زريع. فهؤلاء رووا عنهما معا، فهؤلاء يضافون إلى الجماعة التي سماها الحافظ بن حجر، قال: حماد بن سلمة، عبد الوارث الثقفي، وسفيان الثوري، وشعبة، وإسماعيل بن علية وعبد الأعلى بن عبد الأعلى، وهذا الأخير أرواهم عن سعيد بن إياس الجريري، لأنه سمع منه قبل الاختلاط بثمان سنوات.
فالإمام مسلم حين روى عن قطن بن نسير، احتاط في الرواية عنه:
1/ لم يكثر في الرواية عنه، بل روى عنه حديثين فقط.
2/ احتاط في رواية هذين الحديثين، فالأول في المتابعات والثاني مقروناً بغيره.
يبقى أحمد بن عيسى، وهذا هو أكثر هؤلاء الثلاثة رواية في صحيح الإمام مسلم، وأحمد بن عيسى المصري تكلم فيه بعض أهل العلم، وأشار ابن معين إلى أنه كان يكذب، أما أنه كان يكذب الكذب الاصطلاحي، فمعاذ الله أن يكون أحمد من الكذابين، إنما ابن معين أو بعض النقاد قد يطلق الكذب على الخطأ، فإذا روى حديثاً أخطأ فيه على شيخه، فهذا الخطأ يدخل في جملة الكذب لغة، أي أنه أخبر بغير الواقع، كما قيل لعائشة رضي الله عنها، إن أبا الدرداء يقول: من أصبح ولم يوتر فلا وتر له، فقالت عائشة: كذب أبو الدرداء. فهي لا تكذبه الكذب المذموم الذي هو تعمّد قلب الحقائق، كلا.
ولمّا ذكر رجل يكنى بأبي محمد فقال: إن الوتر واجب. فبلغ ذلك عبادة بن الصامت، قال: كذب أبو محمد، ولما قال نوف البكالي: إن موسى الذي صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله. أو قال كذب نوف، كما في رواية أخرى.
فالكذب يدخل في جملة الكذب لغة، أي أنه أخبر بغير الواقع.
فيحيى بن معين لا يقصد أن أحمد بن عيسى كان يكذب الكذب الاصطلاحي الذي يترك بسببه الرواية عنه، ولكن قصد أن يخطئ على شيوخه ما يحدّث، ولذلك قال الخطيب البغدادي: ما رأيت لمن تكلّم في أحمد بن عيسى حجة توجب ترك الاحتجاج بحديثه. ثم ذكر علي النسائي حيث قال: ليس به بأس. وقال أبو جعفر النحاس: كان أحمد أحد الثقات، اتفق الإمامان على إخراج حديثه. وقال الذهبي: احتجّ به أرباب الصحاح، ولم أر له حديثاً منكراً فأورده.
روى مسلم في صحيحه لأحمد بن عيسى نحواً من نيف وثلاثين حديثاً مقرونة كلها وليس له شيخ في صحيح مسلم إلا عبد الله بن وهب فقط، وذلك لأن عبد الله بن وهب كان رجلاً مصرياً، إماما مصرياً، وأحمد بن عيسى إمام مصري [كذلك]، وله اختصاص بعبد الله بن وهب، ولذلك لم يرو له إلا عن عبد الله بن وهب. وقد نظرت في القدر الذي رواه أحمد بن عيسى في صحيح مسلم فرأيته كالتالي:
*/ قرنه مسلم بهارون بن سعيد الأيلي وحده في أحد عشر حديثاً، يقول حدثنا أحمد بن عيسى وهارون بن سعيد الأيلي، فروى له مقروناً أم لا؟ مقروناً..
*/ قرنه بهارون بن سعيد وأبي الطاهر أحمد بن أبي السرح في ستة أحاديث، يقول: حدثنا أحمد بن عيسى وهارون بن سعيد وأبو الطاهر أحمد بن أبي السرح، فقرنه باثنين أم لا؟
*/ قرنه بهارون بن سعيد وعمرو بن سواد في حديث واحد.
*/ وقرنه بعمرو بن سواد ومحمد بن سلمة المرادي في حديث واحد.
*/ قرنه بحرملة بن يحيى في حديث واحد.
*/ قرنه بهارون بن معروف وأبي الطاهر في حديث واحد.
*/ و قرنه بأبي الطاهر في حديث واحد.
*/ قرنه بأبي الطاهر وعلي بن خشرم وهارون بن سعد في حديث واحد.
*/ قرنه بأبي الطاهر وحرملة بن يحيى في حديث واحد.
إذن كل هذه الأحاديث إنما كان أحمد بن عيسى مقروناً بغيره عند مسلم. وروى له وحده ثلاثة أـحاديث.
الحديث الأول في المتابعات، حديث أبي بردة: ( لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط إلا في حدّ) أي لا يجلد أحد تعزيراً فوق عشرة أسواط إلا في حدّ؛ لأن الحد يكون عدد الأسواط فيه عددا محدداً- {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِيْ فَاجْلِدُوْاْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَاْ مِائَةَ جَلْدَةٍ}
إلا في حد فلا يزيد الوالي تعزيراً فوق عشرة أسواط، فأعلى التعزير الجلد عشرة أسواط، إلا أن يكون في حدّ، ومع ذلك فإن الإمام البخاري أخرج هذا الحديث عن يحيى بن سليمان متابعاً أحمد بن عيسى، وقد رأيت له أكثر من خمسة من الثقات تابعوه في هذه الأحاديث. فهذا هو الحديث، فإن كان مسلم أخرج لأحمد بن عيسى وحده، إلا أن أحمد بن عيسى متابع في كتب أخرى، ولم ينفرد أحمد بن عيسى بحديث قط أخرجه له مسلم في صحيحه.
فالإمام مسلم رحمة الله عليه حين يخرّج للرواة المتُكلّم فيهم، إنما يخرّج لهم ما توبعوا عليه، ولم يخرّج لهم حديثاً واحداً انفردوا به، إلا ما رأيته من أسباط بن نصر، فإني لم أرَ أحداً تابعه في هذا الحديث، فيُحمل ذلك على أن مسلماً انتقى من حديثه ما لم ينكروه عليه.
فلا يأتي قائل فيقول:إن هذا الراوي متُكلّم فيه، فهذا الراوي ضعيف، كيف خرّج مسلم له ؟
خرج مسلم له، أو خرج البخاري مالم ينكروه عليه، والإمام مسلم إمام مميِّز ناقد، والإمام البخاري إمام مميِّز ناقد، فحين يقول: الرواية هذه صحيحة- صحيح الراوي تُكلم فيه- لكن هذه الرواية لم يلغط فيها. [عندئذٍ] يسلم له فيما يقول، كما يسلم لأهل كل فنٍّ في فنّهم، يسلم للغويين في اللغة، وللفقهاء في الفقه، وللقراء في القراءات، وللأطباء في الطب، وللمهندسين في الهندسة، وللتجار في التجارة، كما يسلم لكل واحد في فنه، يسلم للمحدثين في فنونهم.
فلا يأتي قائل فيقول: ما الدليل على أنه لم يغلط في هذا الحديث؟ لأني أستطيع أن أقول هذا الكلام في روايات الثقات الكبار التي انفردوا بها، فحديث (إنما الأعمال بالنيات) ما رأيكم به؟ صحيح؟ هل يقدر أحد أن يثبت أنه صحيح؟ سأقول لك: إن فيه علة، هذه العلة، أن محمد بن إبراهيم التيمي أحد من انفرد بهذا الإسناد، قال فيه أحمد: يروي مناكير. فما أدراك لعل هذا الحديث من مناكيره، كيف ترد؟ هل تستطيع إثبات أن هذا الحديث صحيح؟
هذا الحديث على وجه الخصوص، أجمعت الأمة بما فيها أحمد بن حنبل على صحته، فما الدليل على صحته؟ إجماع الأمة. هكذا انتهى الجواب.
الآن نريد أن نرد على جرح أحمد بن حنبل، الذي قال في محمد بن إبراهيم التيمي "يروي مناكير" فهل هناك فرق بين أن يقول الناقد في الراوي: (يروي مناكير) أو أن يقول فيه: (منكر الحديث)؟ هل هناك فرق بين الصيغتين.؟ الفرق بين الاثنين رعاية الاسم والفعل، فالاسم يفيد الثبات والاستقرار، والفعل يفيد التجدد والحدوث، فعندما تقول: (منكر الحديث) فصارت هذه السمة صفة لازمة لهذا الراوي، كما قال تعالى: {وَكلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصيْدِ} لو كانت اللفظة (وكلبهم يبسط ذراعيه بالوصيد) ما الفرق بين الاثنين؟ في حالة (باسط) أي بسط يديه وتوقف عند هذا الحد، فلم يحركها، بقي باسطاً ذراعيه حتى بعثه الله، إنما (يبسط) ذراعيه، فيعني أن يقبضها ويبسطها ويقبضها ويبسطها. فلو قال: (منكر الحديث) فهذه صفة لازمة للرواية، أما (يروي مناكير) فقد يروي أحياناً المناكير، فقول الإمام أحمد (يروي مناكير) فيدل على أنه ليس كل أحاديث محمد بن إبراهيم التيمي منكرة، بل فيها منكر وفيها صحيح، فإذا أجمعتْ الأمة على قبول رواية من رواياته، فهذا من صحيح ما روى. ومن جملة ما اتفقت الأمة على صحته حديث: (إنما الأعمال بالنيات).
هذه العلة الأولى، هناك أيضاً علة، وهو ما وقع في حديث في رواية من روايات البخاري، وقد روى البخاري هذا الحديث في سبعة مواضع من صحيح، ورواه مسلم في موضع واحد. من ضمن المواضع السبعة تلك، إن علقمة قال: سمعت عمر ابن الخطاب يقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات). حين يطلع عمر بن الخطاب على المنبر في المسجد، هل يكون المسجد ممتلئاً أم لا؟ معنى أنه طالع على المنبر، يعني أن الناس كلها سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف لم يروه إلا علقمة؟ وكان الجامع ممتلئاً، ولا يُعرف في الدنيا كلها من شرقها وغربها وشمالها لجنوبها وعاليها وسافلها أحد روى هذا الحديث عن عمر إلا علقمة. فأين الباقون؟ لماذا أقول لك هذا الكلام؟ لكي أعلمك كيف يطرق الخصوم الطرق في إعلال الروايات. فالكلام المستقيم الجميل، يمكن أن أقلبه فأجعله قبيحاً، والكلام الكفر ممكن أمرره فأجعله حلواً وأزينه بحسن الظن وغيره، وكل شيء ممكن أن ينقلب، لهذا فدراسة قوانين الرواية مسألة في غاية الأهمية.
نأخذ مثالاً للرد على هذا. كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحدث بحديث، فهل كان يجمع الصحابة جميعاً حتى يقول لهم الحديث؟ أم أنه كان يتكلم في حضور الواحد والاثنين والثلاثة؟ وقد يحصل موقف ما فيعلق النبي صلى الله عليه وسلم عليه بكلامه، وهذا الكلام لا يسمعه إلا صاحبه، صاحب الموقف وحده. فيأتي صاحب الموقف هذا فيحكيه إذا جاءت مناسبة له، وأنت عندك معلومات وخبرات لا تتكلم بها إلا إذا جاء الوقت المناسب، كأن يسألك أحد سؤالا فتقول له مما عندك، فإذا لم يسألك السائل هذا السؤال، يظل هذا العلم مخزوناً مكتتماً عندك، أليس هذا عندنا كلنا؟ ولا يذكره أحد.
أبو مسعود البدري رضي الله عنه، رآه النبي صلى الله عليه وسلم وهو ماش وجده ماسكا له غلاما له يضربه، فقال: (اعلم أبا مسعود) قال: فالتفتُ فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (اعلم أبا مسعود أن الله عليك أقدر منك عليه). فقال أبو مسعود: هو حرٌ يا رسول الله. وأعتقه من أجل كلمة. فكلام النبي صلى الله عليه وسلم هذا لم يقله له بعد أن قال: اجمع لي عشرة ليسمعوا الكلام الذي سأقوله. كلا.. إذن لا يشترط في هذه الحال أن يجمع النبي صلى الله عليه وسلم كل الناس حتى يقول الحديث الواحد، بل قد يقول الحديث في حضور الواحد أو الاثنين أو الثلاثة.
كذلك الذين حضروا مع عمر بن الخطاب لم يُسألوا عما قال عمر، لكن سُئل علقمة، فلأنه سئل، قال سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول كذا وكذا، ونرجع في هذا إلى القاعدة المعروفة من تفرد الثقة لاسيما إذا احتفّ هذا التفرد بالإجماع. فحديث الأعمال بالنيات [كما قلنا آنفاً] أجمعت الأمة على قبوله، يعني أجمعت على قبوله من كل راوٍ روى هذا الحديث. أجمعت على قبوله من عمر، وعلى قبوله من علقمة عن عمر، وعلى قبوله من محمد بن إبراهيم التيمي عن علقمة، وعلى قبوله من يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي. أجمعت الأمة على قبول هذا الخبر بهذا الإسناد الفرد الواحد. إذن بعد إجماع الأمة ليس للمرء مذهبُ، إلا تثبيت هذا الإجماع أو القول بمقتضاه، لاسيما إجماع أحد الأدلة الثابتة التي اتفق أهل العلم على حُجيّتها.
فنحن تريد أن نقول الآن: إن النظر في الصحيحين ينبغي أن نعلم أن جمهور متون الصحيحين صحيح، إذن حين انتقد العلماء على الشيخين، انتقدوا ماذا؟ 99% انتقاد إسنادي، مثلاً، يروي أحدهم حديثاً عن الزهري عن ابي سلمة عن عائشة فيقول الدارقطني مثلاً: لا بل الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وليس من عائشة، فيجعل الحديث من مسند أبي هريرة وليس من مسند عائشة، فالبحث إسنادي فقط وليس متنياً. إذن المتأخرين الذي يتخبطون الآن يتحدثون عن الأسانيد أم عن المتون؟ عن المتون طبعاً، لأنهم لا يفهمون شيئاً في الأسانيد، ولو قرأ الإسناد [لخلط وتخبط] فلا يعرف قراءة أسماء الرجال قراءة صحيحة، يعني لو فتح كتاباً وأحب أن يقرأ ويجرب حظه، إنما كل كلامهم عن المتون التي اتفق أهل العلم على صحتها، إنما كلام [أهل العلم] في الأسانيد. فمثلا الدارقطني في كتاب (التتبع وذكر ما في الصحيحين والأحاديث مما فيه علة) كلام الدارقطني [في هذا الكتاب] كله كلام إسنادي، و[قس عليه] أبا علي الغساني، أبا مسعود الدمشقي بن عمار الشاهين كل الكلام الذي تكلموا فيه خاص بالأسانيد وليس خاصاً بالمتون، إذا كانت المسألة مسألة إسنادية، فنحن قلنا في نطلع الكلام ماذا؟ قلنا: صحة الحديث فرع على ثقة الراوي أم العكس؟ من طغى على الثاني؟ من الأصل؟ من الفرع؟ الأصل الراوي والفرع الرواية عن هذا الراوي. إذا كانت المسألة كذلك فالحكم على الرواة مسألة تختلف فيها أنظار النقاد، لنتكلم اليوم مثلا عن الشيخ الألباني رحمه الله: اتهم الشيخ الألباني بتهم عديدة، اتهم بالإرجاء واتهم بأنه مخذّل للجهاد في سبيل الله، وقال للفلسطينيين اتركوا البلاد للإسرائيليين، ومتهم بتنويم الأمة تنويماً مغناطيسياً، ببرنامجه الذي ليس له آخر (التصفية فالتربية) يقصد الشيخ بالتصفية، تصفية الإسلام مما علق به أولا، ثم نرد الجماهير على هذا الإسلام المصفى. الأحاديث الضعيفة والموضوعة والمنكرة في كل علم من العلوم في الحديث أو التفسير أو الفقه، أو العقائد، أو السلوك لأن الأحاديث الضعيفة حين دخلت هذه الفنون أخذت أحكامها، فكم من الأحاديث ضعيفة أثبت الفقهاء عليها حلالا وحراما فلو أخرجنا هذه الأحاديث الضعيفة واستبعدناها، ستخرج منها أيضاً الكثير من الأحكام المحرمة والتي هي ليست حراما أصلاً، أو مقبولة، وهي ليست مقبولة، لأنها بُنيتْ على هذا الحديث الضعيف. فقال: نصفي الإسلام أولا ثم نربي. قالوا: هيهات حتى نصفيه، حتى نصفيه نحتاج إلى دول تتكاتف وتكون لجاناً علمية، وتتفق هذه اللجان فيما بينها حتى لا تنقض بعضها بعضاً، كل لجنة مختصة بالحكم على الحديث والتفسير والفقه تلتقي مع غيرها وتقوم بعمل تنقيح للآراء ويخرج حكم واحد، فمتى يحدث ذلك؟ في المنام، إذن سنوقف التربية حتى نصفي الإسلام ولا أحد سيصفيه، إذن هكذا تضيع التربية.
من الممكن أن يأخذ أحد هذا الكلام بدون أن يحقق كل تهمة منسوبة إلى الشيخ، فيُسأل عن الألباني فيقال له:ما رأيك في الألباني؟ يقول: مرجئ. هل تحققت من هذه المسألة؟ لا لم يحققها.
شخص آخر يقول: الألباني إمام ثقة، فمن قال: (ضعيف أو مرجئ) ردّ خبره، ومن قال (ثقة) قبل خبره.
إذن نحن نريد أن نرصد الكلام على الراوي. يحيى بن معين (إمام الجرح والتعديل) يمكن أن يكون له على الراوي قول واثنان وثلاثة، في الراوي الواحد. له في محمد بن إسحق خمسة أقوال: ثقة- لا بأس به- ليس بالقوي- ليس بشيء- ضعيف.
فهل الإمام متناقض؟ متناقض طبعاً، هل هذا التناقض حقيقي؟ أم لابد أن نبحث لماذا اختلف قول ابن معين على خمسة أقوال في راوٍ واحد؟ نرجع ونبحث في كلام يحيى بن معين، نجد أنه قال (ثقة) : في أصل الكلام في محمد بن إسحق هو في نفسه ثقة. (ليس به بأس) : إذا قورن بمثل مالك، فلو سألته: ما تقول في محمد بن إسحق؟ أهو كمالك؟ يقول: محمد بن إسحق ليس به بأس. أي ليس به بأس إذا جرى أمام مالك في مضماره هذا. (ضعيف) : يمكن أن يكون يحيى بن معين حكم بالضعف على رواية بعينها خالف فيها محمدُ بن إسحق مالكاً، فيقول: لا، مالك النجم وابن إسحق ضعيف، إذا قورن بمالك. إذن كل قول من هذه الأقوال يمكن أن يخرّجه على وجه، فإذا كان الناقد الواحد يمكن أن يكون له أكثر من قول في راوٍ واحد، فلاشك أن أكثر من ناقد قد يكون له أكثر من قول في راو واحد.
فنحن نريد أن نقول: إن مسأله ضبط الحكم على الراوي مسألة عسيرة.فحين تقرا في ترجمة أي راو مختلف فيه، أحد يقول لك (ضعيف) وآخر يقول (لا بأس به) وآخر يقول (ثقة) فالراوي هذا خلاصة الحكم عليه ماذا؟
بعض الناس يقول: الحافظ ابن حجر لخص هذا الأمر وحل الإشكال في (تقريب التهذيب) فيقرأ ترجمة الراوي، ويعطي نظرة عامة يقول هذا الراوي (صدوق يهم) هكذا جمع بين الأقوال كلها، أو يقول (ليّن) أو (له أوهام) أو (يخطئ) هذا فعل الحافظ بن حجر في تقديره. سبقه الذهبي في كتاب (الكاشف) لخص الكلام على رواية الكتب الستة في كلمة واحدة. أنا رأيي أن هذه الكتب لا فائدة منها، لا فائدة من كتاب التقريب لابن حجر ولا الكاشف للذهبي، أعرف أن هذا الكلام لا يعجب أساتذة الجامعة بالذات، في كليات أصول الدين، هذا الكلام لن يعجبهم، لماذا؟ لأنهم يعتبرون أن كتاب التقريب كالقرآن، قرآن الحديث هو تقريب ابن حجر. وأنا أقول- وهذا كلام ليس بجديد- أن هذا الكتاب لا فائدة منه أبداً، لا التقريب ولا الكاشف، لأن الحكم على الراوي أو رواية الراوي ينبغي أن يكون حكما عمليا، وليس حكما نظريا، رواية الراوي لا تخرج عن ثلاثة أقسام:
1/ إما أن يتابع عليها.
2/ وإما أن يخالف فيها.
3/ وإما أن يتفرد بها.
هل يوجد قسم رابع.؟
أنا لم أنبهكم أن هذا اليوم لدرس مصطلح الحديث. بإذن الله، اليوم والاثنين القادم والذي يليه والذي يليه مصطلح، شهر ونصف تقريباً إن شاء الله إلى أن ننتهي من البحث في الكلام عن الصحيحين، وسأحضر بعض الأحاديث بدأ من لمحاضرة القادمة إن شاء الله (بعض الأحاديث التي تكلّم أهل العلم عنها) وأعرفكم كيف أن رأي البخاري ومسلم أسدّ من رأي المخالفين، كنوع من التدريب العملي على رد المطاعن الموجهة للصحيحين.
إذن فرواية الراوي ثلاثة فقط، أي لا تخرج عن هذه الثلاثة: إما أن يتابع أو يخالف أو يتفرد. فالراوي الذي قال فيه الحافظ بن حجر (صدوق يهم) أو (صدوق له أوهام) كمحمد بن إبراهيم التيمي الذي كنا نتكلم عنه، روى حديث (إنما الأعمال بالنيات) والذي قال فيه أحمد ماذا؟ (يروي مناكير) هذا الراوي الذي قال فيه الحافظ (يهم) الوهم الذي له أتعرف في كم حديث؟ إذا كان قد روى ألف حديث مثلاً ووهم في سبعين منها، أتعرف من السبعين هذه ماذا وماذا؟ لا تعرف. روى حديثاً وأنت تريد أن تحكم على هذا الحديث، هل تدري أتوبع أم خولف أم تفرد؟ متى تعرف؟ حين تلمّ طرق الحديث كلها، وتنظر هل توبع؟ هل خولف؟ هل تفرد؟
إذن كل حديث رواه راو متكلم فيه، لابد أن تجمع طرق الحديث جميعا وتعمل هذه الدراسة الجادة وترى هل تفرد أم خولف أم توبع، ثم تعطي حكمك. فهل ينفع حكم الحافظ بن حجر هذا؟ (صدوق يهم) وأنا لا أعرف هو واهم في ماذا، وهذه الرواية التي أمامي قد وهم فيها أم لا. فحكم الحافظ بن حجر إذن حكم نظري ليس له قيمة في الحقيقة، إنما القيمة الحقيقية أن تتعب وتلم طرق الحديث، بعد ذلك (أي بعد أن أجمع طرق الحديث) فأنا غير محتاج إلى حكم الحافظ بن حجر، أنا سأحكم بما يليق بالحال، أرى من تابعه، مثله؟ أم أقل منه؟ أم أعلى منه؟
هبه مثلا راو له مناكير، تابعه راو متروك، يرفعه؟ تابعه كذاب، ينفعه؟ تابعه سيد الحفظ، تابعه مغفل- كل هذه درجات- تابعه مثله (له مناكير)، تابعه أوثق منه، ينفعه؟
إذن أنا يجب أن أرى مَن الذي تابعه على وجه الحقيقة، هل هو دونه أم مثله أم فوقه، ثم أحكم بما يليق بالحال، ثم: خالفه، من الذي خالفه؟ أ دونه؟ أم مثله؟ أم فوقه؟ إذن أنا في باب المتابعات والمخالفات سأرى طبقات الذين خالفوا أو طبقات الذين وافقوا، قوتهم ماذا؟ قوي.؟ أم ضعيف؟... هذا كله مجهود أنت تبذله وأنت تحقق الحديث، وكل من هذه المتابعات ستبحث عن كلام العلماء فيها.
فهؤلاء المحققون الذين كثروا هذه الأيام، يريد مثلا أن يحقق كتاباً فيتخبط في الحاشية، [فحين يَرِدُ ذِكرُ] شعبة بن الحجاج، يعطيني [في الحاشية] ترجمة شعبة، ماذا يفيدني من ترجمة شعبة؟ أنا واحد من اثنين، إما أن أكون لا أفهم، فلا يهمني ما تقول عن شعبة هذا، أو أنني أفهم فلستُ بحاجة إلى تنبيهك لي بمن هو شعبة. فهو ناقل لترجمة شعبة وترجمة سفيان وترجمة مالك، ويعطيني مصادر الترجمة، خمسة عشر سطراً مثلا مراجع، لماذا؟ لأن الناشر الذي ينشر له الكتاب يعطيه بالشبر، لأنه جاهل هو كذلك، فيقول له مثلا (الملزمة) هذه بمائة جنيه، والملزمة ثمان ورقات- سأكشف لكم حقيقة هذا العمل- أي ستة عشر صفحة، فالكتاب الذي حققه مثلاً أصله عشر ورقات، أي ملزمة وربع، أي مئة وعشرون جنيهاً، لكن أنا معذور، أريد أن أتزوج، وأريد شقة وعندي عيال، ويجب أن يكون مرتبي على الأقل 600-700 جنيه في الشهر، كيف سأحصل على كل هذا؟ إذن أنفخ الكتاب، فبقدرة قادر تحول الكتاب إلى مجلدين، كيف؟ كل مجلد خمسون ملزمة 50×100=5000 ومجلد ثان =10000 ، فأنا أخرج بـ 10000 جنيه، والناشر لا يفهم شيئاً، فأنا أريد نشر هذا الكتاب وليس لدي علم، إذن أضع في الهامش ماذا؟ أنقل من تهذيب الكمال، فإذا قال: (حدثنا مالك) أقول (1) وأنزل في الحاشية وأنقل ترجمة مالك، وترجمة مالك 20-30 ورقة طبعاً لن ينقل الثلاثين سيجعلها ثلاث ورقات، شعبة بن الحجاج 3 ورقات، سفيان 3 ورقات، أبو سلمة ورقتان، أبو هريرة 10 ورقات، لأن هذا صحابي نمد له قليلاً. وأصبح الحديث الواحد الذي هو ثلاثة سطور، أخرجته أنا في كم صفحة؟ في ملزمتين بمائتي جنيه، هل خسرت شيئاً، لم أخسر شيئا، هذا هو التحقيق (هذه الأيام).
الكلام على الحديث تصحيحا وتضعيفا كان كالمشي على حد الموسى، مسؤولية خطيرة جسيمة، لأنك تنفي كلاما للنبي صلى الله عليه وسلم، قد يكون قاله، وتثبت عليه كلاما لم يقله مثلاً، فالتساهل في هذه المسألة خطير، وقد تكون محقاً أو مخطئاً، لهذا لا تُقدِمْ على هذا الباب إلا بعد أن يكون لك أهليه فيه.
وأنا ما عرفت خطورة الكلام إلا كلما تقدم بي العمر،ولعل الكثير من الأخوة سألني: أين أعمالك؟ لا نرى لك أعمالا في السوق. حتى أساء بعض إخواننا الظن بي، وقالوا إنني انشغلت بالخطب الحماسية وتهييج الناس على تحقيق العلم. قالوا: والدليل على ذلك، أننا منذ سنوات لم نر له كتاباً. وهذا حق، فإنني أصبحت شديد الخوف والهيبة من الكلام في الحديث، وأعيد النظر في كل كتبي التي أخرجتها في أيام شبابي، وأنا فعلا نادم على إخراج تلك الكتب، بالرغم أنها حظيتْ بالقبول عند طلبة العلم وعند بعض مشايخنا مثل الشيخ الألباني رحمه الله، وأثنى على بعضها، لكني أنا نادم فعلا على إخراج تلك الكتب في ذلك الزمان، وتمنين لو قال لي واحد: قف.. ولا تخرج كتابا من كتبك. إذن لاتبعتُ هذه النصيحة. لماذا؟ لأنني حين أعدت النظر فيها مرة أخرى، كان لي أحكام مخالفة للأحكام التي أصدرتها أيام شبابي، وأنا الآن أعيد كل كتبي تقريباً.
فتوقفي عن إخراج الكتب بسبب الاستقصاء في الكلام على الحديث، وهذا يستلزم بذل جهد آخر، فكل الكتب المطبوعة يجب أن يكون لها فهرس عندك، والكتب المخطوطة وهي بالألوف المؤلفة، يجب أن يكون لها فهرس عندك، فهرس حديث على أطراف المسند، حتى إذا احتجت حديثا تنظر في أطرافك وفهارسك حتى تحقق الحديث الواحد.
فأنت من أجل فهرسة الكتب المطبوعة والكتب المخطوطة لنفسك أين ستجد من العمر ومن الجهد ما يعينك على الكلام في الحديث صحة وضعفاً؟ فالمسألة يا أخواني في غاية الصعوبة، ليست بهذه البساطة. الحافظ بن حجر قال: صدوق يهم، إذن انتهى فحديثه حسن، فهناك جماعة تمشي بذلك يقولون الثقة حديثه صحيح، والمختلف فيه حديثه حسن، والضعيف حديثه ضعيف. والله لو كانت المسألة هكذا لما تعب أحد، ولكنا استرحنا، لكن الثقة قد يكون حديثه منكراً، هل تذكرون الحديث عن الشاذ؟ ألم تخرج أحاديث لسفيان بن عيينة ومعمر (مناكير)؟ فحين تقرأ في كتاب (تقريب التهذيب): سفيان بن عيينة (ثقة حافظ مشهور) مثلا، فهل كل حديث رواه سفيان بن عيينة أقبله؟ لن أقبله؛ لأنه قد يشذّ. إذن ما فائدة قول ابن حجر في ابن عيينة (ثقة مشهور)؟
إذن الكلام المجمل على الرواة- في الحقيقة- ليس له قيمة، ولا يعرف حقيقة ما أقول إلا رجل دارس وممارس لعلم الحديث. وأنا لا أطعن على أساتذة الجامعات، لكن أغلبهم- أغلب أساتذة الجامعات الذين يدرّسون مادة الحديث- ضعفاء في الحديث؛ لأن كل علمه نظري، هذا كل ما يحسنه، النظري فقط، لكن إذا وقف في حديث يرتبك، وأنا أعرف كثيراً منهم، وقليل جدا منهم هم الذين يحسنون علم الحديث. فالقدرات الجامعية لا تخرج طالباً نابهاً أبداً، إنما تفتح له الباب، فإذا كان الطالب مجداً ومجتهداً فهو الذي سيربح، لأنه يقرأ في الكتب- التي هي خارج المقرر- إنما الطالب الذي يتخرج بجيد جداً أو امتياز في علم الحديث على وجه الخصوص، مالم يتقن هذا بدراسة جادة نظرية وعملية سيظلّ ضعيفاً في علم الحديث.
لهذا يا أخواني أقول لكم: في المحاضرات القادمة إن شاء الله والتي سنتناول فيها بعض الأحاديث للبخاري ومسلم، والتي انتقدها بعض أهل العلم، سنمشي معها خطوةً خطوة لنبين رجحان كفة البخاري ومسلم وسداد رأيهما على رأي المخالف، فأنت ستستدل بهذه الأحاديث على ما غاب عنك، حتى تعرف كيف تتعامل مع أعداء العلم، وأعداء الإسلام من المتأخرين الذين يطعنون على الأحاديث التي لم يتكلم أحد في صحتها لمجرد أنها تخالف عقولهم. مثل الرجل الذي أشرتُ إليه في خطبة الجمعة، لمن حضر الجمعة، الذي يستعدي وزير الأوقاف على شيخ في التلفزيون احتجّ بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبع مرات إحداهن بالتراب) يريد أن يقيل الوزيرُ هذا الشيخَ ويمنعه من الكلام، لماذا؟ لأن الحديث هذا موضوع، فلا أحد في الدنيا يقول: إن التراب من جملة المنظفات، لأن المنظفات هي الكلور والصابون ونحوها، وإلا لكنا عبئنا التراب في أكياس وبعناه إلى جانب الصابون وغيره. فتصور حين يعترض أحد على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا!!!! وهذا الرجل بالذات معروف أنه مخرف، ويزعم أنه مؤرخ، وأنا أتابع مقالاته وكتبه من خمسة عشر سنة- نسأل الله عز وجلّ أن يختم لنا بخير- ما رأيت أسوأ من هذا الآدمي في جمع المعلومة، وهو يزعم أنه مؤرخ، لكن سبحان الله ، فُتحتْ له أبواب الدنيا الثمانية.
الأسئلة:
في الحقيقة، لقد لفت نظري أن الأسئلة هذه المرة أغلبها حديثية، في علم الحديث وفي بعض ما قلناه في هذه المحاضرة.
س/ قلتم إن العلماء متفقون على حجية الإجماع، فلماذا رد الشوكاني حجية ذلك؟
ج/ لا.. الشوكاني لا يرد حجية الإجماع، لكن الشوكاني يقول: إن ادعاء الإجماع صعب. انظر إلى الفرق بين الاثنين. فالشوكاني يقول: لو ثبت إجماع كان حجة. لكن يقول: مسائل كثيرة ادعى الناس فيها الإجماع.
فمثلا أنت تقول: العلماء متفقون على المسألة الفلانية، فأسألك: آتفقوا على هذه؟ إما أن تقول نعم فتثبت بالدليل أنهم اتفقوا، أو لا يكون إجماعاً إذا لم يتفقوا. إنما ردّ الإجماعَ المعتزلةُ، لكن أهل السنة والجماعة متفقون على قبول الإجماع حيث وقع. لكن قد يقولون لك في مسألة ما: ليس فيها إجماع. وليس لأنهم لا يحتجون بالإجماع..
س/ إذا كان البخاري التزم شرطه في كل مصنفاته، فكيف تفسر وجود أحاديث ضعيفة في (التاريخ الكبير) و (الأدب المفرد)؟
ج/ كلا.. البخاري اشترط الصحة في أصل الحديث، ولكن صحيح البخاري غير تاريخ البخاري، فقد قال البخاري عن صحيحه: أنا ألتزم فيه الصحة، [وهكذا] لا ألزم البخاري إلا بصحيحه فقط، ولذلك حين نقول: صحيح على شرط البخاري.. أي في صحيحه، ليس في تاريخه ولا في الأدب المفرد ولا في أي كتاب من كتبه. لكن البخاري إذا صحح حديثاً فهو يشترط شرطه المنسوب إليه في أصل الصحة. يعني مثلا كتاب (العلل الكبير) للترمذي حين يسأل فيقول: سألت محمداً عن الحديث الفلاني، فإذا قال البخاري: صحيح.. فهو صحيح. لكن لماذا لم يجعله في الصحيح؟ نقول: لأنه لم يلتزم إخراج كل الأحاديث الصحيحة في صحيحه، إنما كان ينتقي منها.
إذن هذا لا يعني أنه حين يورد حديثاً في كتاب من الكتب أن يكون صحيحاً..لا .. بل أغلب الأحاديث الموجودة في (التاريخ الكبير) أحادث معلّة، أوردها البخاري لينبه على عللها.
س/ ما هو الاختلاط؟
ج/ قلنا أصل الاختلاط هو اختلاط في الضبط، يعني كما قلت لكم، شخص حصل له اختلال في عقله، دخل عليه ابنه قال له [الأب]: أنت ابن مَن؟ فهو اختلط أم لا؟ اختلط.. فنرى من الذي قابله وسمع منه قبل أن يقول هذا الكلام، وبعد أن يقول هذا الكلام، لأن بعد ذلك، كل من أخذ عنه سيأخذ عنه وهو مختل، فنحن نقول: كل من أخذ عن هذا الراوي بعد أن اختل واختلط وتخبط لن نقبله، لكن قبل الاختلاط حين كان حفظه جيداً، نرى من روى عنه قبل ذلك، فمن روى عنه قبل أن يختل حفظه، فحديثه صحيح، ومن روى عنه بعد أن اختل حفظه، فحديثه ضعيف، إلا أن يُتابع من وجه آخر.
س/ هل صحيح أن الشيخ الألباني ضعّف أحاديث من صحيح البخاري ومسلم؟
ج/ نعم، الشيخ الألباني فعلا فعل ذلك، وأنا لي رأي في بعض الأحاديث التي تكلم فيها الشيخ بتضعيف في الصحيحين، والمسألة كما قلت لكم في النهاية هي اختلاف في الأسانيد وليس في المتون، وأنا في اعتقادي أن الأحاديث المتكلم فيها في الصحيحين، أحاديث منتقاة، أي أن البخاري انتقى من الأحاديث المتكلم فيها مالم ينكروه عليه، وكذلك مسلم انتقى من الأحاديث المتكلم فيها مالم ينكروه عليه.
لكن أرى أحياناً أن الشيخ الألباني رحمه الله قد يأتي بكلام عام على الراوي ويضعف الحديث به، دون الالتفات إلى هذه النكتة التي ذكرتها، وعدم اعتبار هذه النكتة لن يجعل عشرة أو خمسة عشر حديثا في البخاري ومسلم ضعيفة، بل تخرج عشرات الأحاديث في البخاري ومسلم، إذا كان سيأتي للراوي ويحكم عليه الحكم العام الموجود في الترجمة، دون الالتفات إلى أن البخاري ينتقي، فالبخاري بما لهُ من الإمامة والنظر والحفظ، قال: اشترطتُ إخراج الصحيح وأنا إمام كبير مميِّز، فانتقى من حديث راو مُتكلّم فيه حديثاً، ألا يمكن أن يقال: إن هذا الراوي وهم في هذا الحديث الذي انتقاه البخاري على عيوبه ووضعه في كتابه الذي اشترط فيه الصحة؟ فكأن البخاري لا يميّز، وهذه مسألة لا يمكن إهمالها.
يعني رجل له خمسون سنة متخصص، أستاذ في الجامعة يدرّس مادة معينة، ويقلب فيها كتباً، ويصنف أبحاثاً في المجلات العلمية، ويحضر مؤتمرات في جنبات الدنيا، هذا الأستاذ، أنسوي بينه وبين طالب حصل هذه السنة على بكالوريوس؟ أريد أن يجيبني أحد على هذا الكلام.. إذن البخاري بمالهُ من إمامة مذ\كان عمره 12 سنة وبدأ بالنبوغ فلم يبلغ 20 سنة حتى كان يحضر مجلسه مائة ألف محبرة، ومشايخه كانوا يحكمونه فيما بينهم. إسحق بن راهويه حكمه وهو ابن 18 سنة. فحين يقول البخاري: أنا اشترطتُ في هذا الكتاب ألا أذكر فيه إلا صحيحاً، ثم جاء إلى راوٍ متكلم فيه له ألف حديث، انتقى من الأحاديث الألف عشرة أحاديث وقال: سآخذ هذه العشرة وأضعها في كتاب الصحيح، أفيمكن أن يقول إنسان له: كيف أخرجتَ هذه العشرة والراوي متكلم فيه. يقول: أعرف أنه متكلم فيه، بل أنا من قلت لك ذلك، وأنت أخذت هذا الكلام عني أنا أيضاً، لولا أنني قلت لك، لما عرفت أنه متكلم فيه، فأنا حين أنتقي هذه الأحاديث على عيني، وبخبرتي وبعلمي الواسع، وأقول: هذا صحيح لم يهم فيه، وأضعه في صحيحي، كيف تنكر هذا الكلام وتجعله بلا قيمة؟ هذه هي المسألة التي أختلف فيها مع الشيخ الألباني رحمه الله. لأن الشيخ الألباني- رحمه الله- أحياناً في بعض ما يذكره في الكلام على أحاديث الصحيحين لا يُولي هذه المسألة اعتباراً كبيراً. بل قد يأتي على ترجمة الراوي وينقل ما فيه من الكلام من علماء الجرح والتعديل فيقول: فلان هذا مجروح. وقالوا عن فلان مناكير. نعم.. مناكير.. لكن البخاري انتقى مالم يذكروه عليه، فينبغي في هذه الحالة أن نخرج من الكلام ما اختاره الشيخان: البخاري ومسلم، لاسيما وقد أجمعتْ الأمة بعد ذلك على صحة الكثير من الأحاديث التي انتقدها المتأخرون.
مثلا الشيخ الألباني- رحمه الله- انتقد بعض الأحاديث التي لا أعلم أحداً سبقه إلى انتقادها من العلماء. إذا كان الدارقطني انتقد قبله، سأقول: نعم مسبوق. أحد العلماء كأبي مسعود الدمشقي مثلاً أي أحد انتقد نعم سأقول مسبوق. لكن هناك بعض الأحاديث، وأنا لا أقول كل حديث ضعفه الألباني في الصحيحين لم يسبق إليه، لا.. لكن هناك بعض الأحاديث لا أعلم أحداً- في حدود علمي- سبق الشيخ الألباني رحمه الله إلى تضعيفها، فهذا نسلكه، أما التي سُبق الألباني إلى تضعيفها فينبغي أن تخضع للبحث العلمي، فالدارقطني في كتابه (التتبع) له كلام على الصحيحين، يُنَاقش الدارقطني فيه، وقد أصاب في بعضه، وهذه مسألة اختلاف أنظار، لكن أصاب في بعض من جهة الإسناد، أما من جهة المتن، فصحيح كما ذهب إليه أغلب أهل العلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم..
تعليق