محاضرة خشية الله والخوف منه
الشيخ عبدالحميدالتركستاني
-------------------------
الشيخ عبدالحميدالتركستاني
-------------------------
أما بعد , أيها الناس , إتقوا الله تعالى وخافوه واخشوه وحده , ولا تخشوا أحداً غيره ,
وكما قال الفضيل:من خاف الله لم يضره أحد ، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد , قال تعالي : " فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ "المائدة :44 ،
"فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "آل عمران: 175 .
أيها الإخوة , سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مقام الخوف من الله عز وجل , وسبب إختياري لهذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من بعد الناس عن الله , وتجرؤهم عليه بأنواع المعاصي والذنوب , التي ما إرتكبها هؤلاء الناس إلا
بسبب ضعف جانب الخوف من الله في قلوبهم , وبسبب غفلتهم عن الله , ونسيان الدار الآخرة ، فالخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة ,
وقلّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى والشهوة والغفلة , فالخوف , هو الذي يهيج في القلب نارالخشية , التي تدفع الإنسان المسلم إلى عمل الطاعة , والابتعاد عن المعصية .
ولهذا إذا زاد الإيمان في قلب المؤمن ,
لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله ، والناس في خوفهم من الله متفاوتون , ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات ,
وذلك لأن خوفهم مقرون بمعرفة الله , مما جعل خوفهم مقرون بالخشية , كما قال تعالى : " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء "فاطر:28 ,
والخشية درجة أعلى , وهي أخص من الخوف ، فالخوف لعامة المؤمنين , والخشية للعلماء العارفين , وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية ، كما قال النبي (صلي الله عليه وسلم)
" إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية "أخرجه البخاري , من حديث أنس ,
وقال" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله " الرواي : أبو ذر الغفاري , المحدث : الألباني - المصدر صحيح ابن ماجه – الصفحة أو الرقم :3397 , خلاصة حكم المحدث : حسن
, قال الإمام أحمد : هذا يدل على أن كل من كان بالله أعرف , كان منه أخوف , والخوف : هو إضطراب القلب ووجله , من تذكر عقاب الله , وناره ووعيده الشديد لمن عصاه ,
والخائف دائماً يلجأ إلى الهرب مما يخافه !! , إلا من يخاف من الله , فإنه يهرب إليه , كما قال أبو حفص : الخوف سراج في القلب , به يبصر ما فيه من الخير والشر ,
وكل أحد إذا خفته هربت منه , إلاالله عز وجل ، فإنك إذا خفته هربت إليه , فالخائف هارب من ربه إلى ربه , قال تعالى : " فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ " الذاريات:50 ،
قال أبو سليمان الداراني : ما فارق الخوف قلباً , إلاخرب , وقال إبراهيم بن سفيان :
إذا سكن الخوف القلب , أحرق مواضع الشهوات منها , وطردالدنيا عنها ,
وقال ذو النون : الناس على الطريق , ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذازال عنهم الخوف , ضلوا الطريق , وقال أبو حفص: الخوف سوط الله ، يقّوم به الشاردين عنبابه ,
والخوف المحمود الصادق ؟؟ , ما حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل , فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه :
الخوف المحمود هو ما حجزك عن محارم الله , وهذا الخوف من أجلّ منازل السير إلى الله , وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد ,
ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة , سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات,
فلا يأكل مالاً حراماً , ولا يشهد زوراً ، ولا يحلف كاذباً، ولا يخلف وعداً ولا يخون عهداً , ولا يغش في المعاملة , ولا يخون شريكه , ولا يمشي بالنميمة ،
ولا يغتاب الناس , ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ولا يزني ولا يلوط ولا يتشبه بالنساء , ولا يتشبه بالكفرة أعداء الدين , ولا يتعاطى محرماً , ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة ,
ولا يهجر مساجد الله , ولا يترك الصلاة في الجماعة , ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة , بل تجده يشمر عن ساعد الجد , يستغل وقت هكله في طاعة الله , ولهذا قال :
" من خاف أدلج، ومن أدلج بلغالمنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة "رواه الترمذي ,
والمراد بهذا الحديث , التشمير في الطاعة والإجتهاد من بداية العمر ؟؟لأنالجنة غالية , تحتاج إلى ثمن باهظ , ومن سعى لها وعمل صالحاً , وسار من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله ,
ولهذا كان السلف الصالح , يغلّبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة , حتى يزدادوا من طاعة الله , ويكثروا من ذكره ,ويتقربوا إليه بالنوافل والعمل الصالح .
أيها الإخوة ,
إن رجحان جانب الخوف من الله , في قلب المؤمن هو وحده الذي يرجح الكفة , وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا ,
وبدون الخوف لا يصلحقلب , ولا تصلح حياة , ولا تستقيم نفس , ولا يهذب سلوك , وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية ؟؟ ,
عن إرتكاب المحرمات , من زنى وبغى وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله ، وما الذي يهدئ فيها هيجان الرغائب , وسعار الشهوات وجنون المطامع ؟؟
وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل , وبين الخير والشر ؟؟
وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله , في السر والعلن سوى خوف الله ،
فلا شيء يثبت الإيمان عند العبد , رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج , إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها ,
والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم , لمن خالف أمره وعصاه ,
فتذكر !! الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف ,
يجعل عند الإنسان حساً مرهفاً يجعله دائم اليقظة , جاد العزيمة ,
دائم الفكر فيما يصلحه في معاشِه ومعادِه , كثير الوجل والخوف , مما سيؤول إليه في الآخرة ، ففي كتاب الزهد , للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد قال :
قلت ليزيد , ما لي أرى عينيك لا تجفّ ؟؟ قال : يا أخي إن الله توعدني , إن أنا عصيته أن يسجنني في النار ، والله لوتوعدني أن يسجنني في الحمام لكان حرياً ,
أن لا يجف لي دمع ,وروى ضمرة عن حفص بن عمر قال : بكى الحسن البصري فقيل له : ما يبكيك ؟؟ قال : أخاف أن يطرحني في النار غداًولا يبالي ,
ولهذا من خاف وإشتد وجله من ربه في هذه الدنيا , يأمن يوم الفزع الأكبر,
فعن أبي هريرة عن النبي (صلي الله عليه وسلم ) فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال
" وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين , إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة " أخرجه : ابن حبان في صحيحه ، والبزارفي مسنده ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن المبارك في كتاب الزهد ، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وصححه الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار ، والشيخ الألباني في السلسلة .
أيها الأخوة
, لقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة , عاشوامشاهد الآخرة فعلاً وواقعاً , كأنهم يرونها حقيقة ,
ولم يكن في نفوسهم إستبعاد لذلك اليوم , بل كان يقينهم بذلك اليوم واقعاً , تشهده قلوبهم وتحسّه وتراه وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه ,
ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول , وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بطاعة الله , وكأن النار إنما خلقت لهم قال يزيد بن حوشب :
ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز ،كأن النار لم تخلق إلا لهما!! . وحق لهما أيها الإخوة , ولكل مؤمن أن يخاف من النار , وأن يستعيذ بالله منها , لأن الخبر ليس كالمعاينة , يقول " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبةما طمع بجنته أحد "
رواه مسلم , وقال في وصف النار محذراً منها " نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ , وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، كِلاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ هَمَّامٍ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيِّ ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الأَعْرَجِ ,
ولهذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم , إذا رأى أحدهم ناراً إضطرب وتغير حاله , فهذا عبد الله بنمسعود _رضي الله عنه_ مر على الذين ينفخون على الكير , فسقط مغشياً عليه , وهذا الربيعبن خثيم _رحمه الله_ مر بالحداد فنظر إلى الكير , فخر مغشيا عليه، وكان عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_ ربما توقد له نار ثم يدني يديه منها ويقول:
يا ابن الخطاب هللك صبر على هذا ,
وكان الأحنف _رضي الله عنه_ يجئ إلى المصباح بالليل , فيضع إصبعه فيه , ثم يقول : حس ، حس ثم يقول يا حنيف ، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا ؟؟ ,
يحاسب نفسه , وفي الحديث : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا , وزنوا أعمالكم قبلأن توزن عليكم "
أيها الاخوة ,
إن أمر القيامة أمر عظيم رهيب ، يرجّ القلب ويرعب الحس رعباً , مشاهده يرجف لها القلوب , والله سبحانه أقسم على وقوع هذاالحادث لا محالة , فقال في سورة الطور" إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ "7" مَا لَهُ مِن دَافِعٍ"8 "الطور ,
فهو واقعحتماً ، لا يملك دفعه أحد أبداً , والأمر داهم قاصم ليس منه دافع ولا عاصم , كما أن دون غد الليلة ، فما أعددنا لذلك اليوم ؟؟
، وماقدمنا له ؟؟
وهل جلس كل منا يحاسب نفسه ؟؟
ما عمل بكذا ؟؟
وما أراد بكذا ؟؟
بل الكل ساهٍ لاه !! ، والكل في سكرته يعمهون ويلعبون ويضحكون ويفسقون ويفجرون , وكأن أحدهم بمنأى من العذاب, وكأنهم ليس وراءهم موتاً ولا نشوراً ولا جنة ولا ناراً ,
" أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ "4"لِيَوْمٍ عَظِيمٍ "5" يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ "6"المطففين , يقول الحسن البصري رحمه الله
: إن المؤمن والله ماتراه , إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي , ما أردت بأكلتي , ما أردت بحديثي ، وإن الفاجريمضي قدماً ما يعاقب نفسه ,
فحقيق بالمرء , أن يكون له مجالس يخلو فيها , يحاسب نفسه ويتذكر ذنوبه ويستغفر منها, أيها الأحبة , لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلاً وواقعاً , عاشوا مع الآخرة واقعاً محسوساً ، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل إليهم صوت النار ,
وهي تسري وتحرق , وإنه لصوت تقشعر منه القلوب والأبدان ,
كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته , حتى أنه وعظ أصحابه يوماً فقال " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت السماء وحق لها أن تئط , ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل ،
"والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش , ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله , والله لوددت أني شجرة تعضد "
, وفي رواية قال " عرضت علي الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر "الرواي : أبو ذر الغفاري , المحدث : الألباني - المصدر صحيح ابن ماجه – الصفحة أو الرقم :3397 , خلاصة حكم المحدث : حسن دون قوله والله لوددت... ,ثم ذكر الحديث فما أتى على أصحاب رسول الله _صلي الله عليه وسلم_
يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين و الخنين هو البكاء مع غنّه ، ولطول المطلع وشدة الحساب , وتمكن العلم والمعرفة لدى
رسول الله_صلي الله عليه وسلم_ تمنى أن يكون شجرة تقطع وينتهي أمرها , فكيف بنا نحن ؟؟ عجباً لنا نتمنى على الله الأماني !! مع إستهتارنا بالدين وبالصلاة , وبكل شيء فماذا نرجو فيالآخرة ؟؟
وكما قيل:
يـا آمنـا مـع قبـح الفعـل منـه
هل أتاك توقيـع أمـن أنت تملكـه
جمـعت شيئيـن أمنا و إتبـاع هـوى
هـــذا وإحداهما في المرء تهلكــه
والمحسنون على درب الخوف قد ساروا
و ذلــك درب لســت تسلـكه
فرطت في الـزرع وقت البذر من سفه
فكيف عنـد حصـاد النـاس تدركه
هذا وأعجب شيء فيـك زهـدك في
دار البقــاء بعيش سوف تتــركه
نعم والله هذا حال الكثير من الناس اليوم !! لا يريدون أن يعملوا ولا يريدون أن يتذكروا , فإذا ذكرت لهم النار قالوا , لا تقنط الناس ، وهذا والله هو العجب العجاب !!
, يريدون أن يبشروا بالجنة , ولا يذكروا بالقيامة وأهوالها , ولابالنار وسمومها وعذابها , وهم على ما هم فيه من سيئ الأعمال وقبيح الصفات ،
قال الحسن البصري : لقد مضى بين أيديكم أقوام , لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى , لخشي أن لا ينجومن عظم ذلك اليوم , وقد ورد في الترمذي عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلي الله عليه وسلم_ أنه قال
" ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها "الرواي : أبو هريرة , المحدث : الألباني - المصدر :صحيح الترمذي – الصفحة أو الرقم :2601 , خلاصة حكم المحدث :حسن ,والسبب في ذلك ضعف جانب الخوف عند هؤلاء
، لقدكان بعض السلف من شدة خوفه ووجله , وكثرة تفكيره في أحواله الآخرة , لا يستطيع النومولا الضحك ولا اللهو حتى يعلم أهو من الناجين أم لا ،
فهذا شداد بن أوس _رضي الله عنه_ كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه , لا يأتيه النوم ويقول : الله إن النار أذهبت مني النوم , فيقوم يصلي حتى يصبح ،
وهذا منصور بن المعتمر , كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله , قال عنه زائدة بن قدامة : إذا رأيته قلت : هذا رجل أصيب بمصيبة ولقد قالت له أمه : ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل ؟؟ ، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بنيّ أصبت نفساً ؟؟ أو قتلت قتيلاً ؟؟ فقال : يا أمه أناأعلم بما صنعت نفسي ،
وهذا معاذ بن جبل _رضي الله عنه_ لما حضرته الوفاة جعل يبكي ، فقيل له : أتبكي وأنت صاحب رسولالله_صلي الله عليه وسلم_ وأنت وأنت ؟؟
فقال : ما أبكي جزعاً من الموت , أن حل بي , ولا دنياًتركتها بعدي ، ولكن هما القبضتان ، قبضة في النار , وقبضة في الجنة فلا أدري في أيالقبضتين أنا ,
يقول الحسن بن عرفه : رأيت يزيد بين هارون بواسط , وهو من أحسن الناسعينين ، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة , ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه , فقلت له:
ياأبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان ؟؟،
فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار , والبكاء من خشية الله سمة العارفين , قال عبد الله بن عمرو بن العاص_رضي الله عنه_
لأن أدمع دمعة من خشية الله , أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألفدرهم , ولما جاء عقبة بن عامر إلى النبي _صلي الله عليه وسلم_ يسأله: ما النجاة ؟؟
نعم والله ما النجاة , كيف ننجو من عذاب الله ؟؟
فقال له " أمسك عليك لسانك , وليسعك بيتك , وابك على خطيئتك " الرواي : عقبة بن عامر , المحدث : يحيي بن معين – المصدر : تاريخ بغداد – الصفحة أو الرقم :8/265 – خلاصة حكم المحدث : صحيح ,
وفي رواية قال " طوبى لمن ملك نفسه , ووسعه بيته , وبكى على خطيئته " الراوي : ثوبان مولي رسول الله , المحدث : المنذري - المصدر : الترغيب والترهيب – الصفحة أو الرقم : 4/193 , خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن أو ما فاربهما ,
وقد بين _صلي الله عليه وسلم_ أن من بكى من خشية الله , فأن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله , فقال " ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه "الراوي : أبو هريرة , المحدث : ابن عبد البر – المصدر : التمهيد – الصفحة أو الرقم : 2/282 , خلاصة حكم المحدث : من أحسن حديث يروي في فضائل الأعمال وأصحها ,
بل حرم الله النار على من بكى من خشيته قال _صلي الله عليه وسلم_ " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله , حتى يعود اللبن في الضرع " ،
وفي رواية قال " حرمت النار على عين دمعت , أو بكت من خشية الله " الراوي : أبو هريرة , المحدث : الألباني – المصدر : صحيح الجامع – الصفحة أو الرقم : 7778 , خلاصة حكم المحدث : صحيح ,
وفي الأثر الإلهي " ولم يتعبد إلي المتعبدون , بمثل البكاء من خشيتي " الراوي : عبدالله بن عباس , المحدث : الألباني _ المصدر : ضعيف الترغيب – الصفحة أو الرقم : 1938 , خلاصة حكم المحدث : ضعيف جداً ,
أيها المسلمون ,
إن سلفنا الصالح , كانوا يتوجهون إلى الله في خشية وبكاء ووجل ,وطمع الخوف من عذاب الله , والرجاء في رحمته والخوف من غضبه , والطمع في رضاه والخوف من معصيته , والطمع في توفيقه , " يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا " السجدة:16,
والتعبير القرآني يصور هذه المشاعر المرتجفة , في الضمير بلمسة واحدة , حتى لكأنها مجسّمة ملموسة ," إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " الأنبياء:90, إنها الصورة المشرقة المضيئة , لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم ,
كانوا يخافون ويرجون , وكانوا يبكون حتى يؤثر فيهم البكاء ,
فبكاؤهم ثمرة خشيتهم لله قال تعالى عنهم : " وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " الإسراء:109, وقال أيضا ً, " وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ "الرعد:21 ,
فبالخوف والخشية تحترق الشهوات , وتتأدب الجوارح , ويحصلفي القلب الذبول والخشوع , والذلة والاستكانـة والتواضع والخضوع ، ويفارق الكبروالحسد ،
بل يصير مستوعب الهم يخوفه والنظر في خطر عاقبته ، فلا يتفرغ لغيره ولا يكون له شغل , إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمحافظة على الأوقات واللحظات ,
ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات ،
ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدريأنه يغفل عنه فيفلت , أو يهجم عليه فيهلك ، فيكون ظاهره وباطنه مشغولاً , بما هو خائف منهلا متسع فيه لغيره , هذا حال من غلبه الخوف وإستولى عليه , وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين ,
يقول بلال بن سعد: عباد الرحمن ،
هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا منأعمالكم تقبلت منكم ؟؟
أو شيء من خطاياكم غفرت لكم ؟؟
والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا, لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم من العبادة ، وتنافسون في جنة ,
"أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ "الرعد:35 ،
ويقول أيضاً : رب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر ، فويللمن بان له الدليل , ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك ، وقد حق عليه في قضاء الله عز وجل أنهمن أهل النار ,
فيا ويل لك روحا والويل لك جسدا , فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد ,
فبمثل هذه العبارات , كان الرسول _صلي الله عليه وسلم_
وكان السلف يجاهدون أنفسهم ويعظون غيرهم ,
حتى ينتبه الناس من غفلتهم , ويصحوا من رقدتهم ويفيقوا من سكرتهم , رجاء أن يدركوا من سبقهم إلى الطريق المستقيم , ويكون الخوف دافعاً لهم على الاستقامة , ما كانوا على وجه الأرض أحياء مكلّفين ,
وفي الختام أحب أن أذكر نماذج من خوف بعض الصحابة والتابعين ,
فهذا أبو بكر _رضي الله عنه_ أفضل رجل في هذه الأمة بعد رسول الله _صلي الله عليه وسلم_ نظر إلى طير وقع على شجرة فقال :
ما أنعمك يا طير ، تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير , ليتني كنت مثلك ، وكان _رضي الله عنه_ كثير البكاء وكان يمسك لسانه ويقول:
هذا الذي أوردنيالموارد , وكان إذا قام إلى الصلاة , كأنه عود من خشية الله، وهذا عمر الرجل الثاني بعد أبي بكر قال لإبنه عبد الله وهو في الموت :
ويحك ضع خدي على الأرض , عساه أنيرحمني , ثم قال : بل ويل أمي , إن لم يغفر لي , ويل أمي إن لم يغفر لي ، وأخذ مرة تبنة من الأرض فقال :
ليتني هذه التبنة ليتني لم أكن شيئا ، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنتمنسيا ، وكان_رضي الله عنه_ يمر بالآية من ورده بالليل فتخيفه ، فيبقى في البيت أياماً معاديحسبونه مريضاً ،
وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء ، وهذا عثمان _رضي الله عنه_ كان إذا وقف على القبر يبكي , حتى يبل لحيته وقال : لو أنني بين الجنة والنار , لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ، لأخترت أن أكون رماداً , قبل أن أعلم إلىأيتهما أصيرُ ،
وهذا علي _رضي الله عنه_ كما وصفه ضرار بن ضمرة الكناني , لمعاوية يقول :
كان والله بعيد المدى شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً، ويتفجر العلم من جوانبه , وتنطق الحكمة مننواحيه , يستوحش من الدنيا وزهرتها ,
ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة, طويل الفكرة , يقلب كفيه ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر , ومن الطعام ما خشن , كانوالله كأحدنا يدنينا , إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه ، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا, لا نكلمه هيبة له
, فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه , وقد أرخى الليل سدوله , وغارتنجومه يميل في محرابه قابضاً على لحيته , يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع , ويبكي بكاءالحزين
، فكأني أسمعه , وهو يقول: يا ربنا , يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا إليتعرضت ، إلي تشوفت ، هيهات هيهات , غري غيري , قد طلقتك ثلاثاً فعمرك قصير , ومجلسك حقيروخطرك يسير ، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ,
فوكفت دموع معاوية _رضي الله عنه_ على لحيته , ما يملكها وجعل ينشفها بكمه , وقد اختنق القوم بالبكاء , وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن ,
وهذا ابن عباس _رضي الله عنه_ كان أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء , وهذا أبو عبيدة _رضي الله عنه_ يقول عن نفسه :
وددت أني كنت كبشاً , فيذبحني أهلي , فيأكلون لحميويشربون مرقي ، وهكذا كان حال صحابة رسول الله _صلي الله عليه وسلم_ مع أنهم كانوا مبشرين بالجنة ,
فهذا علي_ رضي الله عنه_ يصفهم ويقول
: لقد رأيت أصحاب محمد_صلي الله عليه وسلم_
فلم أرَ أحداً يشبههم منكم , لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا ,
وقدباتوا سجدا أو قياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقعون على مثل الجمر من ذكرمعادهم ,
كأن بين أعينهم ركب العزي , من طول سجودهم ,
إذا ذكر الله هملت أعينهم , حتى تبتلجيوبهم , ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء للثواب ,
وهذا سفيان الثوري رحمه الله يقول :
والله لقد خفت من الله خوفاً , أخاف أن يطير عقلي منه ,وإني لا أسأل الله في صلاتي أن يخفف من خوفي منه ,
أيها الإخوة , هل من مشمر ؟؟
هلمن خائف ؟؟
هل من سائر إلى الله ؟؟
بعد هذا الذي سمعناه , أرجو أن نكون مثل سلفنا علماوعملاً , خوفاً ورجاء ومحبة ,فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله .
وكما قال الفضيل:من خاف الله لم يضره أحد ، ومن خاف غير الله لم ينفعه أحد , قال تعالي : " فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ "المائدة :44 ،
"فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ "آل عمران: 175 .
أيها الإخوة , سوف يكون حديثي في هذه الخطبة عن مقام الخوف من الله عز وجل , وسبب إختياري لهذا الموضوع هو ما أراه وأشاهده من بعد الناس عن الله , وتجرؤهم عليه بأنواع المعاصي والذنوب , التي ما إرتكبها هؤلاء الناس إلا
بسبب ضعف جانب الخوف من الله في قلوبهم , وبسبب غفلتهم عن الله , ونسيان الدار الآخرة ، فالخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة ,
وقلّ أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى والشهوة والغفلة , فالخوف , هو الذي يهيج في القلب نارالخشية , التي تدفع الإنسان المسلم إلى عمل الطاعة , والابتعاد عن المعصية .
ولهذا إذا زاد الإيمان في قلب المؤمن ,
لم يعد يستحضر في قلبه إلا الخوف من الله ، والناس في خوفهم من الله متفاوتون , ولهذا كان خوف العلماء في أعلى الدرجات ,
وذلك لأن خوفهم مقرون بمعرفة الله , مما جعل خوفهم مقرون بالخشية , كما قال تعالى : " إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء "فاطر:28 ,
والخشية درجة أعلى , وهي أخص من الخوف ، فالخوف لعامة المؤمنين , والخشية للعلماء العارفين , وعلى قدر العلم والمعرفة تكون الخشية ، كما قال النبي (صلي الله عليه وسلم)
" إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية "أخرجه البخاري , من حديث أنس ,
وقال" لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولما تلذذتم بالنساء على الفرش ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله " الرواي : أبو ذر الغفاري , المحدث : الألباني - المصدر صحيح ابن ماجه – الصفحة أو الرقم :3397 , خلاصة حكم المحدث : حسن
, قال الإمام أحمد : هذا يدل على أن كل من كان بالله أعرف , كان منه أخوف , والخوف : هو إضطراب القلب ووجله , من تذكر عقاب الله , وناره ووعيده الشديد لمن عصاه ,
والخائف دائماً يلجأ إلى الهرب مما يخافه !! , إلا من يخاف من الله , فإنه يهرب إليه , كما قال أبو حفص : الخوف سراج في القلب , به يبصر ما فيه من الخير والشر ,
وكل أحد إذا خفته هربت منه , إلاالله عز وجل ، فإنك إذا خفته هربت إليه , فالخائف هارب من ربه إلى ربه , قال تعالى : " فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ " الذاريات:50 ،
قال أبو سليمان الداراني : ما فارق الخوف قلباً , إلاخرب , وقال إبراهيم بن سفيان :
إذا سكن الخوف القلب , أحرق مواضع الشهوات منها , وطردالدنيا عنها ,
وقال ذو النون : الناس على الطريق , ما لم يزل عنهم الخوف ، فإذازال عنهم الخوف , ضلوا الطريق , وقال أبو حفص: الخوف سوط الله ، يقّوم به الشاردين عنبابه ,
والخوف المحمود الصادق ؟؟ , ما حال بين صاحبه ويبن محارم الله عز وجل , فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيميه :
الخوف المحمود هو ما حجزك عن محارم الله , وهذا الخوف من أجلّ منازل السير إلى الله , وأنفعها للقلب وهو فرض على كل أحد ,
ومن كان الخوف منه بهذه المنزلة , سوف يحجزه خوفه عن المعاصي والمحرمات,
فلا يأكل مالاً حراماً , ولا يشهد زوراً ، ولا يحلف كاذباً، ولا يخلف وعداً ولا يخون عهداً , ولا يغش في المعاملة , ولا يخون شريكه , ولا يمشي بالنميمة ،
ولا يغتاب الناس , ولا يترك النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ولا يزني ولا يلوط ولا يتشبه بالنساء , ولا يتشبه بالكفرة أعداء الدين , ولا يتعاطى محرماً , ولا يشرب المسكرات ولا المخدرات ولا الدخان ولا الشيشة ,
ولا يهجر مساجد الله , ولا يترك الصلاة في الجماعة , ولا يضيع أوقاته في اللهو والغفلة , بل تجده يشمر عن ساعد الجد , يستغل وقت هكله في طاعة الله , ولهذا قال :
" من خاف أدلج، ومن أدلج بلغالمنزل ألا وإن سلعة الله غالية ألا وإن سلعة الله هي الجنة "رواه الترمذي ,
والمراد بهذا الحديث , التشمير في الطاعة والإجتهاد من بداية العمر ؟؟لأنالجنة غالية , تحتاج إلى ثمن باهظ , ومن سعى لها وعمل صالحاً , وسار من أول الطريق نال بغيته إن شاء الله ,
ولهذا كان السلف الصالح , يغلّبون جانب الخوف في حال الصحة والقوة , حتى يزدادوا من طاعة الله , ويكثروا من ذكره ,ويتقربوا إليه بالنوافل والعمل الصالح .
أيها الإخوة ,
إن رجحان جانب الخوف من الله , في قلب المؤمن هو وحده الذي يرجح الكفة , وهو وحده الذي يعصم من فتنة هذه الدنيا ,
وبدون الخوف لا يصلحقلب , ولا تصلح حياة , ولا تستقيم نفس , ولا يهذب سلوك , وإلا فما الذي يحجز النفس البشرية ؟؟ ,
عن إرتكاب المحرمات , من زنى وبغى وظلم وركون إلى الدنيا غير الخوف من الله ، وما الذي يهدئ فيها هيجان الرغائب , وسعار الشهوات وجنون المطامع ؟؟
وما الذي يثبت النفس في المعركة بين الحق والباطل , وبين الخير والشر ؟؟
وما الذي يدفع الإنسان إلى تقوى الله , في السر والعلن سوى خوف الله ،
فلا شيء يثبت الإيمان عند العبد , رغم الأحداث وتقلبات الأحوال في هذا الخضم الهائج , إلا اليقين في الآخرة والإيمان بها ,
والخشية والخوف مما أعده الله من العذاب المقيم , لمن خالف أمره وعصاه ,
فتذكر !! الآخرة في جميع الأحوال والمناسبات والظروف ,
يجعل عند الإنسان حساً مرهفاً يجعله دائم اليقظة , جاد العزيمة ,
دائم الفكر فيما يصلحه في معاشِه ومعادِه , كثير الوجل والخوف , مما سيؤول إليه في الآخرة ، ففي كتاب الزهد , للإمام أحمد عن عبد الرحمن بن يزيد قال :
قلت ليزيد , ما لي أرى عينيك لا تجفّ ؟؟ قال : يا أخي إن الله توعدني , إن أنا عصيته أن يسجنني في النار ، والله لوتوعدني أن يسجنني في الحمام لكان حرياً ,
أن لا يجف لي دمع ,وروى ضمرة عن حفص بن عمر قال : بكى الحسن البصري فقيل له : ما يبكيك ؟؟ قال : أخاف أن يطرحني في النار غداًولا يبالي ,
ولهذا من خاف وإشتد وجله من ربه في هذه الدنيا , يأمن يوم الفزع الأكبر,
فعن أبي هريرة عن النبي (صلي الله عليه وسلم ) فيما يرويه عن ربه جل وعلا أنه قال
" وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين وأمنين , إذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة " أخرجه : ابن حبان في صحيحه ، والبزارفي مسنده ، والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن المبارك في كتاب الزهد ، وأبو نعيم في حلية الأولياء، وصححه الحافظ ابن حجر في مختصر زوائد البزار ، والشيخ الألباني في السلسلة .
أيها الأخوة
, لقد عاش المسلمون الذين تلقوا هذا القرآن أول مرة , عاشوامشاهد الآخرة فعلاً وواقعاً , كأنهم يرونها حقيقة ,
ولم يكن في نفوسهم إستبعاد لذلك اليوم , بل كان يقينهم بذلك اليوم واقعاً , تشهده قلوبهم وتحسّه وتراه وتتأثر وترتعش وتستجيب لمرآه ,
ومن ثم تحولت نفوسهم ذلك التحول , وتكيفت حياتهم على هذه الأرض بطاعة الله , وكأن النار إنما خلقت لهم قال يزيد بن حوشب :
ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز ،كأن النار لم تخلق إلا لهما!! . وحق لهما أيها الإخوة , ولكل مؤمن أن يخاف من النار , وأن يستعيذ بالله منها , لأن الخبر ليس كالمعاينة , يقول " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبةما طمع بجنته أحد "
رواه مسلم , وقال في وصف النار محذراً منها " نار الدنيا جزء من سبعين جزءا من نار جهنم " أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ , وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ ، كِلاهُمَا عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ هَمَّامٍ ، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ وَمُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِزَامِيِّ ، كِلاهُمَا عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الأَعْرَجِ ,
ولهذا كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم , إذا رأى أحدهم ناراً إضطرب وتغير حاله , فهذا عبد الله بنمسعود _رضي الله عنه_ مر على الذين ينفخون على الكير , فسقط مغشياً عليه , وهذا الربيعبن خثيم _رحمه الله_ مر بالحداد فنظر إلى الكير , فخر مغشيا عليه، وكان عمر بن الخطاب_رضي الله عنه_ ربما توقد له نار ثم يدني يديه منها ويقول:
يا ابن الخطاب هللك صبر على هذا ,
وكان الأحنف _رضي الله عنه_ يجئ إلى المصباح بالليل , فيضع إصبعه فيه , ثم يقول : حس ، حس ثم يقول يا حنيف ، ما حملك على ما صنعت يوم كذا وكذا ؟؟ ,
يحاسب نفسه , وفي الحديث : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا , وزنوا أعمالكم قبلأن توزن عليكم "
أيها الاخوة ,
إن أمر القيامة أمر عظيم رهيب ، يرجّ القلب ويرعب الحس رعباً , مشاهده يرجف لها القلوب , والله سبحانه أقسم على وقوع هذاالحادث لا محالة , فقال في سورة الطور" إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ "7" مَا لَهُ مِن دَافِعٍ"8 "الطور ,
فهو واقعحتماً ، لا يملك دفعه أحد أبداً , والأمر داهم قاصم ليس منه دافع ولا عاصم , كما أن دون غد الليلة ، فما أعددنا لذلك اليوم ؟؟
، وماقدمنا له ؟؟
وهل جلس كل منا يحاسب نفسه ؟؟
ما عمل بكذا ؟؟
وما أراد بكذا ؟؟
بل الكل ساهٍ لاه !! ، والكل في سكرته يعمهون ويلعبون ويضحكون ويفسقون ويفجرون , وكأن أحدهم بمنأى من العذاب, وكأنهم ليس وراءهم موتاً ولا نشوراً ولا جنة ولا ناراً ,
" أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ "4"لِيَوْمٍ عَظِيمٍ "5" يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ "6"المطففين , يقول الحسن البصري رحمه الله
: إن المؤمن والله ماتراه , إلا يلوم نفسه ما أردت بكلمتي , ما أردت بأكلتي , ما أردت بحديثي ، وإن الفاجريمضي قدماً ما يعاقب نفسه ,
فحقيق بالمرء , أن يكون له مجالس يخلو فيها , يحاسب نفسه ويتذكر ذنوبه ويستغفر منها, أيها الأحبة , لقد كان المسلمون يعيشون مع القرآن فعلاً وواقعاً , عاشوا مع الآخرة واقعاً محسوساً ، لقد كانوا يشعرون بالقرآن ينقل إليهم صوت النار ,
وهي تسري وتحرق , وإنه لصوت تقشعر منه القلوب والأبدان ,
كما أحس عليه الصلاة والسلام برهبة هذا الأمر وقوته , حتى أنه وعظ أصحابه يوماً فقال " إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت السماء وحق لها أن تئط , ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله عز وجل ،
"والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ، وما تلذذتم بالنساء على الفرش , ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله , والله لوددت أني شجرة تعضد "
, وفي رواية قال " عرضت علي الجنة والنار فلم أرى كاليوم في الخير والشر "الرواي : أبو ذر الغفاري , المحدث : الألباني - المصدر صحيح ابن ماجه – الصفحة أو الرقم :3397 , خلاصة حكم المحدث : حسن دون قوله والله لوددت... ,ثم ذكر الحديث فما أتى على أصحاب رسول الله _صلي الله عليه وسلم_
يوم أشد منه غطوا رؤوسهم ولهم خنين و الخنين هو البكاء مع غنّه ، ولطول المطلع وشدة الحساب , وتمكن العلم والمعرفة لدى
رسول الله_صلي الله عليه وسلم_ تمنى أن يكون شجرة تقطع وينتهي أمرها , فكيف بنا نحن ؟؟ عجباً لنا نتمنى على الله الأماني !! مع إستهتارنا بالدين وبالصلاة , وبكل شيء فماذا نرجو فيالآخرة ؟؟
وكما قيل:
يـا آمنـا مـع قبـح الفعـل منـه
هل أتاك توقيـع أمـن أنت تملكـه
جمـعت شيئيـن أمنا و إتبـاع هـوى
هـــذا وإحداهما في المرء تهلكــه
والمحسنون على درب الخوف قد ساروا
و ذلــك درب لســت تسلـكه
فرطت في الـزرع وقت البذر من سفه
فكيف عنـد حصـاد النـاس تدركه
هذا وأعجب شيء فيـك زهـدك في
دار البقــاء بعيش سوف تتــركه
نعم والله هذا حال الكثير من الناس اليوم !! لا يريدون أن يعملوا ولا يريدون أن يتذكروا , فإذا ذكرت لهم النار قالوا , لا تقنط الناس ، وهذا والله هو العجب العجاب !!
, يريدون أن يبشروا بالجنة , ولا يذكروا بالقيامة وأهوالها , ولابالنار وسمومها وعذابها , وهم على ما هم فيه من سيئ الأعمال وقبيح الصفات ،
قال الحسن البصري : لقد مضى بين أيديكم أقوام , لو أن أحدهم أنفق عدد هذا الحصى , لخشي أن لا ينجومن عظم ذلك اليوم , وقد ورد في الترمذي عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي _صلي الله عليه وسلم_ أنه قال
" ما رأيت مثل النار نام هاربها، ولا مثل الجنة نام طالبها "الرواي : أبو هريرة , المحدث : الألباني - المصدر :صحيح الترمذي – الصفحة أو الرقم :2601 , خلاصة حكم المحدث :حسن ,والسبب في ذلك ضعف جانب الخوف عند هؤلاء
، لقدكان بعض السلف من شدة خوفه ووجله , وكثرة تفكيره في أحواله الآخرة , لا يستطيع النومولا الضحك ولا اللهو حتى يعلم أهو من الناجين أم لا ،
فهذا شداد بن أوس _رضي الله عنه_ كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه , لا يأتيه النوم ويقول : الله إن النار أذهبت مني النوم , فيقوم يصلي حتى يصبح ،
وهذا منصور بن المعتمر , كان كثير الخوف والوجل كثير البكاء من خشية الله , قال عنه زائدة بن قدامة : إذا رأيته قلت : هذا رجل أصيب بمصيبة ولقد قالت له أمه : ما هذا الذي تصنع بنفسك تبكى عامة الليل ؟؟ ، لا تكاد أن تسكت لعلك يا بنيّ أصبت نفساً ؟؟ أو قتلت قتيلاً ؟؟ فقال : يا أمه أناأعلم بما صنعت نفسي ،
وهذا معاذ بن جبل _رضي الله عنه_ لما حضرته الوفاة جعل يبكي ، فقيل له : أتبكي وأنت صاحب رسولالله_صلي الله عليه وسلم_ وأنت وأنت ؟؟
فقال : ما أبكي جزعاً من الموت , أن حل بي , ولا دنياًتركتها بعدي ، ولكن هما القبضتان ، قبضة في النار , وقبضة في الجنة فلا أدري في أيالقبضتين أنا ,
يقول الحسن بن عرفه : رأيت يزيد بين هارون بواسط , وهو من أحسن الناسعينين ، ثم رأيته بعد ذلك بعين واحدة , ثم رأيته بعد ذلك وقد ذهبت عيناه , فقلت له:
ياأبا خالد ما فعلت العينان الجميلتان ؟؟،
فقال: ذهب بهما بكاء الأسحار , والبكاء من خشية الله سمة العارفين , قال عبد الله بن عمرو بن العاص_رضي الله عنه_
لأن أدمع دمعة من خشية الله , أحب إلي من أن أتصدق بمئة ألفدرهم , ولما جاء عقبة بن عامر إلى النبي _صلي الله عليه وسلم_ يسأله: ما النجاة ؟؟
نعم والله ما النجاة , كيف ننجو من عذاب الله ؟؟
فقال له " أمسك عليك لسانك , وليسعك بيتك , وابك على خطيئتك " الرواي : عقبة بن عامر , المحدث : يحيي بن معين – المصدر : تاريخ بغداد – الصفحة أو الرقم :8/265 – خلاصة حكم المحدث : صحيح ,
وفي رواية قال " طوبى لمن ملك نفسه , ووسعه بيته , وبكى على خطيئته " الراوي : ثوبان مولي رسول الله , المحدث : المنذري - المصدر : الترغيب والترهيب – الصفحة أو الرقم : 4/193 , خلاصة حكم المحدث : إسناده صحيح أو حسن أو ما فاربهما ,
وقد بين _صلي الله عليه وسلم_ أن من بكى من خشية الله , فأن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله , فقال " ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه "الراوي : أبو هريرة , المحدث : ابن عبد البر – المصدر : التمهيد – الصفحة أو الرقم : 2/282 , خلاصة حكم المحدث : من أحسن حديث يروي في فضائل الأعمال وأصحها ,
بل حرم الله النار على من بكى من خشيته قال _صلي الله عليه وسلم_ " لا يلج النار رجل بكى من خشية الله , حتى يعود اللبن في الضرع " ،
وفي رواية قال " حرمت النار على عين دمعت , أو بكت من خشية الله " الراوي : أبو هريرة , المحدث : الألباني – المصدر : صحيح الجامع – الصفحة أو الرقم : 7778 , خلاصة حكم المحدث : صحيح ,
وفي الأثر الإلهي " ولم يتعبد إلي المتعبدون , بمثل البكاء من خشيتي " الراوي : عبدالله بن عباس , المحدث : الألباني _ المصدر : ضعيف الترغيب – الصفحة أو الرقم : 1938 , خلاصة حكم المحدث : ضعيف جداً ,
أيها المسلمون ,
إن سلفنا الصالح , كانوا يتوجهون إلى الله في خشية وبكاء ووجل ,وطمع الخوف من عذاب الله , والرجاء في رحمته والخوف من غضبه , والطمع في رضاه والخوف من معصيته , والطمع في توفيقه , " يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا " السجدة:16,
والتعبير القرآني يصور هذه المشاعر المرتجفة , في الضمير بلمسة واحدة , حتى لكأنها مجسّمة ملموسة ," إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ " الأنبياء:90, إنها الصورة المشرقة المضيئة , لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم ,
كانوا يخافون ويرجون , وكانوا يبكون حتى يؤثر فيهم البكاء ,
فبكاؤهم ثمرة خشيتهم لله قال تعالى عنهم : " وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا " الإسراء:109, وقال أيضا ً, " وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ "الرعد:21 ,
فبالخوف والخشية تحترق الشهوات , وتتأدب الجوارح , ويحصلفي القلب الذبول والخشوع , والذلة والاستكانـة والتواضع والخضوع ، ويفارق الكبروالحسد ،
بل يصير مستوعب الهم يخوفه والنظر في خطر عاقبته ، فلا يتفرغ لغيره ولا يكون له شغل , إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والمحافظة على الأوقات واللحظات ,
ومؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات ،
ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدريأنه يغفل عنه فيفلت , أو يهجم عليه فيهلك ، فيكون ظاهره وباطنه مشغولاً , بما هو خائف منهلا متسع فيه لغيره , هذا حال من غلبه الخوف وإستولى عليه , وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين ,
يقول بلال بن سعد: عباد الرحمن ،
هل جاءكم مخبر يخبركم أن شيئا منأعمالكم تقبلت منكم ؟؟
أو شيء من خطاياكم غفرت لكم ؟؟
والله لو عجل لكم الثواب في الدنيا, لاستقللتم كلكم ما افترض عليكم من العبادة ، وتنافسون في جنة ,
"أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ "الرعد:35 ،
ويقول أيضاً : رب مسرور مغبون ، ورب مغبون لا يشعر ، فويللمن بان له الدليل , ولا يشعر يأكل ويشرب ويضحك ، وقد حق عليه في قضاء الله عز وجل أنهمن أهل النار ,
فيا ويل لك روحا والويل لك جسدا , فلتبك ولتبك عليك البواكي لطول الأبد ,
فبمثل هذه العبارات , كان الرسول _صلي الله عليه وسلم_
وكان السلف يجاهدون أنفسهم ويعظون غيرهم ,
حتى ينتبه الناس من غفلتهم , ويصحوا من رقدتهم ويفيقوا من سكرتهم , رجاء أن يدركوا من سبقهم إلى الطريق المستقيم , ويكون الخوف دافعاً لهم على الاستقامة , ما كانوا على وجه الأرض أحياء مكلّفين ,
وفي الختام أحب أن أذكر نماذج من خوف بعض الصحابة والتابعين ,
فهذا أبو بكر _رضي الله عنه_ أفضل رجل في هذه الأمة بعد رسول الله _صلي الله عليه وسلم_ نظر إلى طير وقع على شجرة فقال :
ما أنعمك يا طير ، تأكل وتشرب وليس عليك حساب وتطير , ليتني كنت مثلك ، وكان _رضي الله عنه_ كثير البكاء وكان يمسك لسانه ويقول:
هذا الذي أوردنيالموارد , وكان إذا قام إلى الصلاة , كأنه عود من خشية الله، وهذا عمر الرجل الثاني بعد أبي بكر قال لإبنه عبد الله وهو في الموت :
ويحك ضع خدي على الأرض , عساه أنيرحمني , ثم قال : بل ويل أمي , إن لم يغفر لي , ويل أمي إن لم يغفر لي ، وأخذ مرة تبنة من الأرض فقال :
ليتني هذه التبنة ليتني لم أكن شيئا ، ليت أمي لم تلدني، ليتني كنتمنسيا ، وكان_رضي الله عنه_ يمر بالآية من ورده بالليل فتخيفه ، فيبقى في البيت أياماً معاديحسبونه مريضاً ،
وكان في وجهه خطان أسودان من البكاء ، وهذا عثمان _رضي الله عنه_ كان إذا وقف على القبر يبكي , حتى يبل لحيته وقال : لو أنني بين الجنة والنار , لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي ، لأخترت أن أكون رماداً , قبل أن أعلم إلىأيتهما أصيرُ ،
وهذا علي _رضي الله عنه_ كما وصفه ضرار بن ضمرة الكناني , لمعاوية يقول :
كان والله بعيد المدى شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً، ويتفجر العلم من جوانبه , وتنطق الحكمة مننواحيه , يستوحش من الدنيا وزهرتها ,
ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة, طويل الفكرة , يقلب كفيه ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما قصر , ومن الطعام ما خشن , كانوالله كأحدنا يدنينا , إذا أتيناه ويجيبنا إذا سألناه ، وكان مع تقربه إلينا وقربه منا, لا نكلمه هيبة له
, فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه , وقد أرخى الليل سدوله , وغارتنجومه يميل في محرابه قابضاً على لحيته , يضطرب ويتقلب تقلب الملسوع , ويبكي بكاءالحزين
، فكأني أسمعه , وهو يقول: يا ربنا , يا ربنا، يتضرع إليه يقول للدنيا إليتعرضت ، إلي تشوفت ، هيهات هيهات , غري غيري , قد طلقتك ثلاثاً فعمرك قصير , ومجلسك حقيروخطرك يسير ، آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق ,
فوكفت دموع معاوية _رضي الله عنه_ على لحيته , ما يملكها وجعل ينشفها بكمه , وقد اختنق القوم بالبكاء , وهو يقول: هكذا والله كان أبو الحسن ,
وهذا ابن عباس _رضي الله عنه_ كان أسفل عينيه مثل الشّراك البالي من البكاء , وهذا أبو عبيدة _رضي الله عنه_ يقول عن نفسه :
وددت أني كنت كبشاً , فيذبحني أهلي , فيأكلون لحميويشربون مرقي ، وهكذا كان حال صحابة رسول الله _صلي الله عليه وسلم_ مع أنهم كانوا مبشرين بالجنة ,
فهذا علي_ رضي الله عنه_ يصفهم ويقول
: لقد رأيت أصحاب محمد_صلي الله عليه وسلم_
فلم أرَ أحداً يشبههم منكم , لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا ,
وقدباتوا سجدا أو قياما ، يراوحون بين جباههم وخدودهم ، ويقعون على مثل الجمر من ذكرمعادهم ,
كأن بين أعينهم ركب العزي , من طول سجودهم ,
إذا ذكر الله هملت أعينهم , حتى تبتلجيوبهم , ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفاً من العقاب ورجاء للثواب ,
وهذا سفيان الثوري رحمه الله يقول :
والله لقد خفت من الله خوفاً , أخاف أن يطير عقلي منه ,وإني لا أسأل الله في صلاتي أن يخفف من خوفي منه ,
أيها الإخوة , هل من مشمر ؟؟
هلمن خائف ؟؟
هل من سائر إلى الله ؟؟
بعد هذا الذي سمعناه , أرجو أن نكون مثل سلفنا علماوعملاً , خوفاً ورجاء ومحبة ,فإن فعلنا ذلك كنا صادقين وكنا نحن المشمرين إن شاء الله .
تعليق