السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
موعظة في الافتقار إلى الله
شيخ الإسلام ابن تيمية
نقلا من كتاب الهدية في مواعظ الإمام ابن تيمية ص 64 – 71
العبد مفتقر دائماً إلى التوكل على الله والاستعانة به ، كما هو مفتقر إلى عبادته فلابد أن يشهد دائماً فقره إلى الله ، وحاجته في أن يكون معبوداً له ، وأن يكون معيناً له، فلا حول ولاقوة إلاّ بالله ،ولا ملجأ من الله إلاّ إليه0
والمؤمن يجد نفسه محتاجاً إلى الله في تحصيل مطالبه ،ويجد في قلبه محبةً لله غير هذا،فهو محتاج إلى الله من جهة أنّه ربّه، ومن جهة أنّه ألهه قال تعالى{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} فلابد أن يكون العبد عابداً لله، ولابد أن يكون مستعيناً به ؛ ولهذا كان فرضاً على كل مسلم أنْ يقوله في صلاته0
وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب،
وقد روى عن الحسن البصري- رحمه الله- أنّ الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع سرّها في الأربعة، وجمع سرّ الأربعة في القرآن، وجمع سرّ القرآن في الفاتحة، وجمع سرّ الفاتحة في هاتين الكلمتين{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}ولهذا ثنّاها الله في كتابه في غير موضع من القرآن كقوله{اعبدهُ وتوكّل عليه} وقوله :{عليه توكلت وإليه أُنيب}وقوله: { ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه}
العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له؛ كان أقرب إليه وأعزّ له، وأعظم لقدره، فأعظم الخلق أعظمهم عبودية لله0
وأما المخلوق فكما قيل:احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره000
فاعظم ما يكون العبد قدراً،وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه،فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم ؛ كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم-ولو في شربة ماء- نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كلّه لله، ولا يشرك به0
ولهذا قال حاتم الأصم- لما سئل: فيم السلامة من الناس؟ قال-: أن يكون شيئك لهم مبذولاً، وتكون من شيئهم آيساً0
إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع ، ولا عزّ ولا ذلّ ، بل ربّه هو الذي خلقه ورزقه وبصّره وهداه ، وأسبغ عليه نعمه ، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره ، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه ، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلاّ بإذن الله000
ونظيره في الدنيا منْ نزل به بلاء عظيم ، أو فاقه شديدة ، أو خوف مقلق ،فجعل يدعو الله ويتضرّع إليه حتى فتح له من لذّة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً ، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه ويشتاق إليه0
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه ، ومن ذكر نعمائه عليهم ، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات ، وليس عند المخلوق شيء من هذا0
واعلم أن فقر العبد إلى الله ليس له نظير فيقاس به ، لكن يشبه بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة0
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ، وهي لا صلاح لها إلاّ بإلاهها الله الذي لا إله إلاّ هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلاّ بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ،ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلاّ بلقائه0
ولو حصل للعبد لّذات أو سرور بغير الله ، فلا يدوم ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال ، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ{كذا في الفتاوى ، ولعلّ الصواب:"ويلتذ"} غير منعم له ولا ملتذ له ، بل قد يؤذيه اتصاله به ، ووجوده عنده ، وضره ذلك0
وأما إلهه فلابد منه في كل حال ، وكل وقت ، وأينما كان فهو معه ، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل –صلى الله عليه وسلم –{لا أحب الآفلين} وكان أعظم آية في القرآن الكريم{الله لا إله إلاّ هو الحي القيّوم}0
وكل من علّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم ، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك ؛ وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم ، متصرفاّ بهم ، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر ، فالرجل إذا تعلّق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرّف بما تريد ، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها ، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لاسيما إذا دَرَتْ بفقره إليها ؛ وعشقه لها ، وأنّه لا يعتاض عنها بغيرها ، فإنّها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور ، الذي لا يستطيع الخلاص منه ، بل أعظم ، فإن أسْرَ القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ، فإنّ من استُعْبِدَ بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص 0 وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً مُتيّماً لغير الله فهذا هو الذلّ والأسر المحض ، والعبودية لما استعبد القلب0
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلم لو أسره كافر؛ أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات ، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران ، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك ، واما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ذلك ،ولو كان في الظاهر ملك الناس0
فالحريّة حريّة القلب ،والعبودية عبودية القلب ، كما أنّ الغنى غنى النفس قال النبي – صلى الله عليه وسلم –{ليس الغنى عن كثرة العرض ، وإنما الغنى غنى النفس} وهذا لعمرى إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي ، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه0 وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلّهم ثواباً ، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلّقاً بها ، مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلاّ ربُّ العباد ، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى ، فداوم تعلّق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشدّ ضرراً عليه ، ممن يفعل ذنباً ثمّ يتوب منه ويزول أثره من قلبه ، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين0 كما قيل:
سُكْران سُكْر هوى ، وسُكْر مُدامَةٍ ... ومتى إفاقة منْ به سُكْرانٍ
ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله ، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قطّ أحلى من ذلك ، ولا ألذّ ولا أطيب ، والإنسان لا يترك محبوباً إلاّ بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفاً من مكروه ، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح ، أو بالخوف من الضرر 0 قال تعالى في حق يوسف:{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين} فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلّق بها ، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله0 ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى في قلبه انقهر له هواه بلا علاج ، قال تعالى:{إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر ، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله ، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه ، فإن ذكر الله عبادة لله ، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها0 وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع0
والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه ، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك ، فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل ، ولهذا قال تعالى:{ قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها} وقال تعالى:{قد أفلح من تزكّى ، وذكر اسم ربّه فصلّى} وقال:{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم}0 وقال تعالى:{ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً} فجعل سبحانه وتعالى غض البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس ، وبيّن أن ترك الفواحش من زكاة النفوس ، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك0
وكما أنّ الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب ، فهو مأمور بذلك عندما ينعم الله عليه من فعل الطاعات ، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له ، وتحقق قوله:{ إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}0
ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له على فعل الطاعات ، كقوله:{أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وقوله:{يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ويا مصرّف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك}وطاعة رسولك وقوله:{ ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب} وقوله:{ ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} ومثل قوله:{ اللهم ألهمني رشدي ، واكفني شر نفسي}
ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله:{اهدنا الصراط المستقيم، صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين } فهذا الدعاء أفضل الدعية وأوجبها على الخلق ، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة0
وكذلك الدعاء بالتوبة فإنّه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة ، وكذلك دعاء الاستخارة فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له ، وكذلك الدعاء الذي كان النبي- صلى الله عليه وسلم – يدعو به إذا قام من الليل ، وهو في الصحيح:{اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم}0
وكذلك الدعاء الذي فيه:{اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا} وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر ، وكذلك قوله:{ اللهم أصلح لي قلبي ونيتي0 ومثل قول الخليل وإسماعيل{واجعلنا مسلمَيْن لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}0 وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح ، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب ، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء شهد إنعام الله فيه وكان في مقام الشكر والعبودية لله ، وأنّ هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته0
ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ، ولا يوالى إلا من والاه الله ، ولا يعادى إلا من عاداه الله ، ولا يحب إلا الله ، ولا يبغض شيئاً إلا لله ، ولا يعطى إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، فكلما قوى إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات ، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك
انتهى
وفقكم الله
موعظة في الافتقار إلى الله
شيخ الإسلام ابن تيمية
نقلا من كتاب الهدية في مواعظ الإمام ابن تيمية ص 64 – 71
العبد مفتقر دائماً إلى التوكل على الله والاستعانة به ، كما هو مفتقر إلى عبادته فلابد أن يشهد دائماً فقره إلى الله ، وحاجته في أن يكون معبوداً له ، وأن يكون معيناً له، فلا حول ولاقوة إلاّ بالله ،ولا ملجأ من الله إلاّ إليه0
والمؤمن يجد نفسه محتاجاً إلى الله في تحصيل مطالبه ،ويجد في قلبه محبةً لله غير هذا،فهو محتاج إلى الله من جهة أنّه ربّه، ومن جهة أنّه ألهه قال تعالى{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين} فلابد أن يكون العبد عابداً لله، ولابد أن يكون مستعيناً به ؛ ولهذا كان فرضاً على كل مسلم أنْ يقوله في صلاته0
وهذه الكلمة بين العبد وبين الرب،
وقد روى عن الحسن البصري- رحمه الله- أنّ الله أنزل مائة كتاب وأربعة كتب، جمع سرّها في الأربعة، وجمع سرّ الأربعة في القرآن، وجمع سرّ القرآن في الفاتحة، وجمع سرّ الفاتحة في هاتين الكلمتين{إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}ولهذا ثنّاها الله في كتابه في غير موضع من القرآن كقوله{اعبدهُ وتوكّل عليه} وقوله :{عليه توكلت وإليه أُنيب}وقوله: { ومن يتّق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكّل على الله فهو حسبه}
العبد كلما كان أذل لله وأعظم افتقاراً إليه وخضوعاً له؛ كان أقرب إليه وأعزّ له، وأعظم لقدره، فأعظم الخلق أعظمهم عبودية لله0
وأما المخلوق فكما قيل:احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره000
فاعظم ما يكون العبد قدراً،وحرمة عند الخلق إذا لم يحتج إليهم بوجه من الوجوه،فإن أحسنت إليهم مع الاستغناء عنهم ؛ كنت أعظم ما يكون عندهم، ومتى احتجت إليهم-ولو في شربة ماء- نقص قدرك عندهم بقدر حاجتك إليهم، وهذا من حكمة الله ورحمته، ليكون الدين كلّه لله، ولا يشرك به0
ولهذا قال حاتم الأصم- لما سئل: فيم السلامة من الناس؟ قال-: أن يكون شيئك لهم مبذولاً، وتكون من شيئهم آيساً0
إن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا ضلال، ولا نصر ولا خذلان، ولا خفض ولا رفع ، ولا عزّ ولا ذلّ ، بل ربّه هو الذي خلقه ورزقه وبصّره وهداه ، وأسبغ عليه نعمه ، فإذا مسّه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره ، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه ، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلاّ بإذن الله000
ونظيره في الدنيا منْ نزل به بلاء عظيم ، أو فاقه شديدة ، أو خوف مقلق ،فجعل يدعو الله ويتضرّع إليه حتى فتح له من لذّة مناجاته ما كان أحب إليه من تلك الحاجة التي قصدها أولاً ، ولكنه لم يكن يعرف ذلك أولاً حتى يطلبه ويشتاق إليه0
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه ، ومن ذكر نعمائه عليهم ، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم واللذات ، وليس عند المخلوق شيء من هذا0
واعلم أن فقر العبد إلى الله ليس له نظير فيقاس به ، لكن يشبه بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة0
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ، وهي لا صلاح لها إلاّ بإلاهها الله الذي لا إله إلاّ هو ، فلا تطمئن في الدنيا إلاّ بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته ،ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلاّ بلقائه0
ولو حصل للعبد لّذات أو سرور بغير الله ، فلا يدوم ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع، ومن شخص إلى شخص ، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال ، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذ{كذا في الفتاوى ، ولعلّ الصواب:"ويلتذ"} غير منعم له ولا ملتذ له ، بل قد يؤذيه اتصاله به ، ووجوده عنده ، وضره ذلك0
وأما إلهه فلابد منه في كل حال ، وكل وقت ، وأينما كان فهو معه ، ولهذا قال إمامنا إبراهيم الخليل –صلى الله عليه وسلم –{لا أحب الآفلين} وكان أعظم آية في القرآن الكريم{الله لا إله إلاّ هو الحي القيّوم}0
وكل من علّق قلبه بالمخلوقات أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم ، وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك ؛ وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً لهم ، متصرفاّ بهم ، فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر ، فالرجل إذا تعلّق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبه أسيراً لها تحكم فيه وتتصرّف بما تريد ، وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها ، وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لاسيما إذا دَرَتْ بفقره إليها ؛ وعشقه لها ، وأنّه لا يعتاض عنها بغيرها ، فإنّها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور ، الذي لا يستطيع الخلاص منه ، بل أعظم ، فإن أسْرَ القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ، فإنّ من استُعْبِدَ بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص 0 وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقاً مستعبداً مُتيّماً لغير الله فهذا هو الذلّ والأسر المحض ، والعبودية لما استعبد القلب0
وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب؛ فإن المسلم لو أسره كافر؛ أو استرقه فاجر بغير حق لم يضره ذلك إذا كان قائماً بما يقدر عليه من الواجبات ، ومن استعبد بحق إذا أدى حق الله وحق مواليه له أجران ، ولو أكره على التكلم بالكفر فتكلم به وقلبه مطمئن بالإيمان لم يضره ذلك ، واما من استعبد قلبه فصار عبداً لغير الله فهذا يضره ذلك ،ولو كان في الظاهر ملك الناس0
فالحريّة حريّة القلب ،والعبودية عبودية القلب ، كما أنّ الغنى غنى النفس قال النبي – صلى الله عليه وسلم –{ليس الغنى عن كثرة العرض ، وإنما الغنى غنى النفس} وهذا لعمرى إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة ، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبي ، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه0 وهؤلاء من أعظم الناس عذاباً وأقلّهم ثواباً ، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلّقاً بها ، مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلاّ ربُّ العباد ، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى ، فداوم تعلّق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشدّ ضرراً عليه ، ممن يفعل ذنباً ثمّ يتوب منه ويزول أثره من قلبه ، وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين0 كما قيل:
سُكْران سُكْر هوى ، وسُكْر مُدامَةٍ ... ومتى إفاقة منْ به سُكْرانٍ
ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله ، فإن القلب إذا ذاق طعم عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قطّ أحلى من ذلك ، ولا ألذّ ولا أطيب ، والإنسان لا يترك محبوباً إلاّ بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو خوفاً من مكروه ، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح ، أو بالخوف من الضرر 0 قال تعالى في حق يوسف:{كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنّه من عبادنا المخلصين} فالله يصرف عن عبده ما يسوءه من الميل إلى الصور والتعلّق بها ، ويصرف عنه الفحشاء بإخلاصه لله0 ولهذا يكون قبل أن يذوق حلاوة العبودية لله والإخلاص له تغلبه نفسه على اتباع هواها، فإذا ذاق طعم الإخلاص وقوى في قلبه انقهر له هواه بلا علاج ، قال تعالى:{إنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر} فإن الصلاة فيها دفع للمكروه وهو الفحشاء والمنكر ، وفيها تحصيل المحبوب وهو ذكر الله ، وحصول هذا المحبوب أكبر من دفع المكروه ، فإن ذكر الله عبادة لله ، وعبادة القلب لله مقصودة لذاتها0 وأما اندفاع الشر عنه فهو مقصود لغيره على سبيل التبع0
والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه ، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك ، فإنه يفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل ، ولهذا قال تعالى:{ قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها} وقال تعالى:{قد أفلح من تزكّى ، وذكر اسم ربّه فصلّى} وقال:{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم}0 وقال تعالى:{ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحدٍ أبداً} فجعل سبحانه وتعالى غض البصر وحفظ الفرج هو أزكى للنفس ، وبيّن أن ترك الفواحش من زكاة النفوس ، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك0
وكما أنّ الإنسان مأمور بشهود القدر وتوحيد الربوبية عند المصائب ، فهو مأمور بذلك عندما ينعم الله عليه من فعل الطاعات ، فيشهد قبل فعلها حاجته وفقره إلى إعانة الله له ، وتحقق قوله:{ إيّاك نعبد وإيّاك نستعين}0
ويدعو بالأدعية التي فيها طلب إعانة الله له على فعل الطاعات ، كقوله:{أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وقوله:{يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك ويا مصرّف القلوب، اصرف قلبي إلى طاعتك}وطاعة رسولك وقوله:{ ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب} وقوله:{ ربّنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً} ومثل قوله:{ اللهم ألهمني رشدي ، واكفني شر نفسي}
ورأس هذه الأدعية وأفضلها قوله:{اهدنا الصراط المستقيم، صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالين } فهذا الدعاء أفضل الدعية وأوجبها على الخلق ، فإنه يجمع صلاح العبد في الدين والدنيا والآخرة0
وكذلك الدعاء بالتوبة فإنّه يتضمن الدعاء بأن يلهم العبد التوبة ، وكذلك دعاء الاستخارة فإنه طلب تعليم العبد ما لم يعلمه وتيسيره له ، وكذلك الدعاء الذي كان النبي- صلى الله عليه وسلم – يدعو به إذا قام من الليل ، وهو في الصحيح:{اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم}0
وكذلك الدعاء الذي فيه:{اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا} وكذلك الدعاء باليقين والعافية كما في حديث أبي بكر ، وكذلك قوله:{ اللهم أصلح لي قلبي ونيتي0 ومثل قول الخليل وإسماعيل{واجعلنا مسلمَيْن لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك}0 وهذه أدعية كثيرة تتضمن افتقار العبد إلى الله في أن يعطيه الإيمان والعمل الصالح ، فهذا افتقار واستعانة بالله قبل حصول المطلوب ، فإذا حصل بدعاء أو بغير دعاء شهد إنعام الله فيه وكان في مقام الشكر والعبودية لله ، وأنّ هذا حصل بفضله وإحسانه لا بحول العبد وقوته0
ولن يستغني القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه ، ولا يكره إلا ما يبغضه الرب ويكرهه ، ولا يوالى إلا من والاه الله ، ولا يعادى إلا من عاداه الله ، ولا يحب إلا الله ، ولا يبغض شيئاً إلا لله ، ولا يعطى إلا لله ، ولا يمنع إلا لله ، فكلما قوى إخلاص دينه لله كملت عبوديته واستغناؤه عن المخلوقات ، وبكمال عبوديته لله يبرئه من الكبر والشرك
انتهى
وفقكم الله
تعليق