إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تنبيه الدعاة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تنبيه الدعاة

    تنبيه الدعاة المعاصرين
    إلى الأسس والمبادئ التي تعين على
    وحدة المسلمين




    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿آل عمران: ١٠٢﴾.
    {
    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَ‌بَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِ‌جَالًا كَثِيرً‌ا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّـهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْ‌حَامَ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَ‌قِيبًا ﴿النساء: ١﴾}.
    {
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ﴿٧٠يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ‌ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّـهَ وَرَ‌سُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴿٧١﴾} الأحزاب.
    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد
    ، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وكلّ ضلالة في النّار.
    اللهمَّ ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكمُ بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختُلِف فيه من الحقِّ بإذنك، إنك تهدي من تشاءُ إلى صراطٍ مستقيم.
    فقد بات واضحاً أن فُرقة المسلمين في جماعات وأحزابٍ مُتنافرةٍ مُتناحرةٍ داءٌ ينبغي له العلاج، وأن اعتصامهم ـ بحبل الله ـ جميعاً، وفي جماعةٍ واحدةٍ أمرٌ لابد منه، وهو مطلبٌ شرعيٌّ وواقعيٌّ لا خلاف عليه، وضرورة ملحة تفرضها حالة التشرذم والضعف والهوان الذي تعيشه الأمة، الأمة التي هانت على أمم الكفر والنفاق، فتكالبوا عليها من كلّ حدبٍ وصوبٍ ينتهكون حرماتها..!
    قال تعالى: {
    وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّ‌قُوا}﴿آل عمران: ١٠٣﴾(1) .
    وقال تعالى: {
    وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِ‌يحُكُمْ ﴿الأنفال: ٤٦﴾}(2) .
    وفي الحديث، فقد صحَّ عن النبي
    صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللهَ يرضَى لكم ثلاثًا أن تعبدوه ولا تُشرِكوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبلِ اللهِ جميعًا ولا تفرَّقوا ، ..... )
    الراوي: [أبو هريرة] المحدث: ابن باز - المصدر: مجموع فتاوى ابن باز - الصفحة أو الرقم: 197/2
    خلاصة حكم المحدث: صحيح(3) .

    وقال
    صلى الله عليه وسلم : ( عليكُم بالجماعَةِ و إيَّاكُم و الفُرقةِ فإنَّ الشَّيطانَ مع الواحدِ و هو مِن الاثنينِ أبعدُ و مَن أراد بَحْبَحَةَ الجنَّةِ فعلَيهِ بالجمَاعةِ الراوي: عمر بن الخطاب المحدث: الألباني - المصدر: تخريج كتاب السنة - الصفحة أو الرقم: 88
    خلاصة حكم المحدث: صحيح
    )(4) .
    ومن دواعي تحقيق هذا المطلب الشرعي الضروري، ارتباطه الوثيق ـ كسببٍ وشرطٍ لازمٍ ـ بالمطلب الأهم والأعظم؛ وهو وجوب العمل من أجل استئناف حياة إسلامية على جميع الأصعدة والمستويات، وقيام خلافة راشدة على منهاج النبوة.
    فهو واجب لذاته لأن الله تعالى يحب لنا الوحدة والاعتصام والاجتماع، وواجب لغيره؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
    وأهم هذه الأسس والمبادئ التي ـ يجب الاجتماع عليها ـ تعين على وحدة المسلمين واجتماعهم في جماعة واحدة مُتماسكة، مُتراصة، مُتكافلة، نُجملها في النقاط التالية:ـ

    أولاً:
    الاتفاق على الحكَم والمرجعية التي ترد إليها النزاعات والخلافات

    إذ يستحيل الاجتماع والاتفاق وفض النزاعات فيما بين الأطراف المختلفة المتنازعة، ثم لكلِّ طرفٍ حكَمه وموازينه ومرجعيته الخاصة به، المغايرة لمرجعيات وموازين الأطراف الأخرى، لذا كان لابد للمسلمين ـ العاملين المخلصين ـ أن يتفقوا ـ أولاً ـ على الحكَم والمرجعية التي تُرد إليها جميع النزاعات والخلافات التي كانت سبباً في اختلافهم وتفرقهم.
    ويُسلّموا لما تُمليه عليهم من قرارات وأحكام من دون أدنى اعتراض أو تعقيب.
    والحكَم في الإسلام الذي يجب الاتفاق عليه في كلّ أمرٍ هو "الكتاب والسنّة على ضوء فَهْم سلف الأمة"، وبخاصة منها القرون الثلاثة الأولى المشهود لها بالخيرية والفضل.
    والأدلة على هذا "الحكَم" كثيرة منها:ـ
    قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأُولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيءٍ فردوه إلى الله والرسول إنْ كنتم تُؤمنون بالله واليوم الآخر}(1) .
    والرد إلى الله والرسول يكون بالرد إلى الكتاب والسنة..
    ومن دلالات الآية كذلك أن في الكتاب والسنّة جواباً وحلاً لكلّ ما يمكن أن يتنازع فيه المسلمون من أمور الدنيا والدين، فحاشى لله عز وجل أن يردنا إلى "حكَم" ومرجع نحتكم إليه ثم لا نجد فيه حلاً شافياً ووافياً لما قد تنازعنا فيه..
    ومنها أنّ رد المنازعات إلى الله والرسول من لوازم الإيمان وشرط لصحته، ينتفي الإيمان بانتفائه..
    قال ابن القيم رحمه الله: "جعل هذا الرد من مُوجبات الإيمان ولوازمه، فإذا انتفى هذا الرد انتفى الإيمان ضرورة انتفاء الملزوم لانتفاء الآخر"اهـ(2) .
    وفي قوله تعالى: {فلا وربك لا يُؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويُسلِّموا تسليماً}(3) .
    قال رحمه الله : "أقسم سبحانه بنفسه المقدسة قسماً مؤكداً بالنفي قبله عدم إيمان الخلق حتى يُحكموا رسوله في كلّ ما شجر بينهم من الأصول والفروع وأحكام الشرع والمعاد وسائر الصفات وغيرها، ولم يُثبت لهم الإيمان بمجرد هذا التحكيم حتى ينتفي عنهم الحرج؛ وهو ضيق الصدر، وتنشرح صدورهم لحكمه كلّ الانشراح، وتنفسح له كلّ الانفساح، وتقبله كلّ القبول، ولم يُثبت لهم الإيمان بذلك أيضاً حتى ينضاف إليه مقابلة حكمه بالرضى والتسليم وعدم المنازعة وانتفاء المعارضة والاعتراض"اهـ(4) .
    وكذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}(5) .
    ورفع الصوت فوق صوت النبي بعد وفاته
    e يكون برفع الصوت على سنته e، وبتقديم الأقوال والأفهام على أقواله e.
    قال ابن القيم: "فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سبباً لحبوط أعمالهم فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياستهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه، أليس هذا أولى أن يكون مُحبطاً لأعمالهم"اهـ(6) .
    قلت: ولا يُحبط العمل إلا الكفر..
    وكون الالتزام ينبغي أن يكون بفهم السلف الصالح لنصوص الكتاب والسنّة، فهو لأوجه:ـ
    منها أن نصوص الكتاب والسنّة ألزمتنا بفهم السلف الصالح لنصوص الوحي وبخاصة منهم الصحابة رضوان الله تعالى عليهم.
    قال تعالى: {ومن يُشاققِ الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوله ما تولى ونُصله جهنم وساءت مصيراً}(1) .
    وأولى النّاس بصفة المؤمنين الواردة في هذه الآية همُ الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، ومن كان على سيرتهم وسنتهم ممن جاؤوا بعدهم.
    وفي الآية دلالة، وهي أن مُشاققة الصحابة واتباع غير سبيلهم ومنهاجهم هي مُشاققة للرسول
    e تُوجب على صاحبها اللعنة والعذاب.
    قال ابن تيمية: "فإنهما مُتلازمان فكلّ من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وكلّ من اتبع غير سبيل المؤمنين فقد شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى"اهـ(2) .
    وكذلك قوله تعالى: {قُل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين}(3)
    وفي قوله: {أنا ومن اتبعني}، قال ابن عباس: يعني أصحاب محمد
    e، كانوا على أحسن طريقة وأقصد هداية، معدن العلم وكنز الإيمان، وجُند الرحمن.
    وقال ابن مسعود: من كان مُستناً فليستن بمن قد مات، فإنَّ الحيَّ لا تُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد
    e كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم على آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسِيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.اهـ(4) .
    وفي السنّة فقد صح عن النبيّ
    e أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لتفترقنَّ أمتي على ثلاثٍ وسبعين فِرقة، واحدة في الجنّة واثنتان وسبعون في النّار" قيل: يا رسول الله مَن هم؟ قال: "الجماعة)(5) .
    وفي رواية عند الترمذي، من حديث عبد الله بن عمرو: (وتفترق أمتي على ثلاثٍ وسبعين ملّة كلّهم في النّار إلا ملّة واحدة"، قال: من هي يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليه وأصحابي)(6) .
    وقال
    e: (أُوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلُونهم، ثم الذين يلُونهم، ثم يفشو الكذب)(7) .
    وقال
    e: (سترون من بعدي اختلافاً شديداً فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين، عَ‍ضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم والأمور المحدثات فإنّ كلّ بدعة ضلالة)(8) .
    وقال
    e: (خير النّاس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)(1) .
    وقال
    e لأصحابه: (من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنّة، ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النّار، الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض) (1).
    قال ابن مسعود: إنّ الله تعالى نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد
    e، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يُقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآوه سيئاً فهو عند الله سيئ.(2) .
    وقال ابن عباس: لا تسبوا أصحاب محمد، فلمقام أحدهم ساعة ـ يعني مع النبي
    e ـ خير من عمل أحدكم أربعين سنّة.(3) .
    وغيرها كثير من النصوص والآثار الصحيحة التي تُلزم الأمة بالاقتداء بفهم الصحابة، وتتباع هديهم، ونهجهم، وسُنتهم.
    ومنها أن عدم الالتزام بفهم الصحابة لنصوص الوحي، يستلزم منه تعدد الأفهام لنصوص الوحي، حيث لكلّ فرد من البشر ممكن أن يكون له فهمه الخاص به، وهذا أمر من لوازم التسليم به التفرق، والتنازع، والاختلاف، وحلول البدع وذهاب السنّة..
    وما هذا التفرق، والتشرذم، والاختلاف الذي تعيشه الجماعات الإسلامية المعاصرة إلا بسبب تجاوزهم لهذا القيد الهام، واستقلال كلّ جماعة أو حزب أو زعيم بفهمه الخاص لنصوص الكتاب والسنة..!
    فكانت النتيجة الطبيعية لذلك هذه المئات من الفِرق، والأحزاب، والجماعات المتنافرة المتناحرة المتباغضة.. وما أكلفه من ثمن!!.
    ومنها أن الصحابة عاصروا نزول الوحي، وعرفوا أسباب نزوله، كما كانوا الأقرب والألصق بالنبي
    e، يتلقون منه العلم مباشرة غضّاً ندياً.. ومن كان كذلك لاشك أنهم يكونون الأفقه والأعلم بمراد الشارع ممن فاتتهم هذه الخاصية.
    ومنها أن الصحابة والتابعين لهم باحسان قد رضي الله عنهم، وأثنى عليهم خيراً في كتابه العزيز، كما في قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعدَّ لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}(4) .
    والله تعالى إذ يرضى عن أحدٍ فهو يرضى عنه لسلامة دينه وفهمه واعتقاده لا لشيءٍ آخر، وهذا إنْ دلَّ على شيءٍ فإنه يدل على أن الصحابة والتابعين لهم باحسان كانوا على درجةٍ عاليةٍ ـ لا يرقى إليها أحد بعدهم ـ من الالتزام والفهم الصحيحين لدين الله تعالى، مما أهلهم لهذا المقام العلي، وهو رضى الله تعالى عليهم..
    وهذه خاصية لا يمكن الجزم بها لأحدٍ بعدهم؛ لأنها قضية غيبية لا يمكن البت بها إلابدليل صريح صحيح.
    خلاصة ما تقدم نقول: إن أي محاولة لتوحيد جهود الجماعات الإسلامية المعاصرة تتغافل هذا القيد الهام، وهو "الاحتكام إلى الكتاب والسنّة على ضوء فهم السلف الصالح"، فهي محاولة فاشلة لا جدوى منها، وهي أقرب ما تكون إلى العبث، وجهود أصحابها لا ثمار لها، وإن بدت في الظاهر بعض الثمار فهي كبيت العنكبوت سُرعان ما يتهاوى وينهار لأدنى هزة أو هبة ريح، ليعود إلى حالة أرثى مما كان عليه قبل البناء، لأنها محاولة لجمع الأضداد والمتغايرات على أنها شيء واحد متكاتفٍ متماسك، وأنَّى..؟!
    ثم إنّ الإسلام فرَّق وجمع؛ فرق بين الحق وأهله من جهة وبين الباطل وأهله من جهة، وبين الإيمان وأهله والكفر وأشياعه، وبين السنّة وأهلها والبدعة وأصحابها..
    ومن جهة فقد جمع أهل الحق على الحق، وأهل التوحيد على التوحيد، وأهل السنّة والاتباع على السنّة لا الابتداع.. فمن ينشد تجميع ما فرَّقه الإسلام، وتفريق ما جمعه الإسلام ـ تحت أي ذريعة كانت ـ فهو وعمله إلى البوار والنار.


    ثانياً:
    التجرد من أي انطلاق غير شرعي

    بحيث يكون النص الشرعي ـ قال الله، قال الرسول ـ أحب إلينا من أهوائنا، وآرائنا، وأحزابنا، وأشياخنا، وعشائرنا، ومن أنفسنا ومصالحنا الذاتية، فلا يمنعنا شيء من ذلك عن مُتابعة الحق ونُصرته أين كان، مهما ترتب على ذلك من تبعات..
    وذلك لا يتحقق إلا بتجريد المتابعة لله ولرسوله من أي رابطة أو وشيجة تحيل بين المرء ومُتابعة الحق والنزول عنده.
    ومتى كان الأمر على خلاف ذلك، فإن الاختلاف والتفرق متحققان وسيبقى شعار توحيد المسلمين في جماعةٍ واحدةٍ شعاراً عزيز المنال، ولا واقع له.
    وهذه نقطة هامة جداً ـ قد غفل عنها كثير من النّاس ـ لا يمكن تجاوزها في أي حال من الأحوال إلا إذا رضينا لأنفسنا صفة غير صفة الإسلام والإيمان.
    قال تعالى: {فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذابٌ أليم}(1) .قال الإمام أحمد رحمه الله: الفتنة هي الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه، وجعل يتلو هذه الاية: {فلا وربّك لا يُؤمنون حتى يُحكموك فيما شجر بينهم}.وقيل له: إنَّ قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان، فقال: أعجب لقومٍ سمعوا الحديث وعرفوا الاسناد وصحته ويدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله: {فليحذرِ الذين يُخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذابٌ أليم}، وتدري ما الفتنة؟ الكفر، قال الله تعالى: {والفتنة أكبر من القتل}، فيدعون الحديث عن رسول الله
    e وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي؟! اهـ(2) .
    قلت: فما يكون القول إذاً فيمن يدَعون النص الشرعي الثابت عندهم استرضاءً لأحزابهم، أو لأشياخهم، أو لعشيرتهم، أو لحُكامهم، أو لأوطانهم وغير ذلك من الروابط والوشائج الأرضية التي لا اعتبار لها في ميزان الحق؟! لاشك أنهم أولى بالفتنة والوعيد الوارد في الآية الكريمة.
    وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي
    e أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان" منها "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما)(3) .
    وقال


    e: (لايُؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والنّاس أجمعين)(3).
    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي
    e: لأنت يا رسول أحب إليَّ من كلّ شيء إلا من نفسي، فقال: (لا والذي نفسي بيده، حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إليَّ من نفسي، فقال: (الآن يا عمر)(4) .
    ومن علامات صدق هذا الحب ودلائله تجريد المتابعة للنبي
    e والتخلي عن مُتابعة كلّ ما سواه، أما أن يُتبع النبي e في جانب، ويُتبع غيره في جوانب أخرى، فدعوة الحب عند من يفعل ذلك غير صادقة وهو أقرب ما يكون إلى النّفاق، والعياذ بالله.
    مصداق ذلك قوله تعالى: {قل إن كنتم تُحبون الله فاتبعوني يُحببكم الله}(1) ، فعلى قدر الاتباع يكون الحب صادقاً، فإذا ازداد الاتباع والانقياد ازداد الاتباع، وإذا قلَّ وضعف الاتباع والانقياد نقص وضعف الحب، وانعدام الاتباع مُطلقاً يستلزم منه انعدام الحب والإيمان مطلقاً.. ولا اعتبار مع ذلك لمزاعم اللسان، فإنه لسان نفاق وزندقة فاحذره.
    قال ابن كثير في التفسير: هذه الآية حاكمة على كلّ من ادعى محبة الله وليس هو على الطريقة المحمدية، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله"اهـ.
    وفي صحيح سنن ابن ماجة، قال عُبادة بن الصامت لمعاوية: أُحدثك عن رسول الله
    e وتحدثني عن رأيك!! لئن أخرجني الله لا أُساكنك بأرض لك عليّ فيها إمرة.
    وعن أبي سلمة أن أبا هريرة قال لرجل: يا ابن أخي إذا حدثتك عن رسول الله
    e حديثاً فلا تضرب له الأمثال(2) .
    وكان ابن عباس يقول: يُوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله، وتقولون: قال أبو بكر!.
    قلت: فما بال أقوامٍ نقول لهم: قال الله، قال رسول الله.. فيقولون لنا: ولكن قال الحزب.. قال الأشياخ.. ارتأت الجماعة.. مصلحة الجماعة تقتضي خلاف ذلك.. وغير ذلك من الأقوال التي تنم عن الاعتراض والتعقيب على شرع الله!!.
    إلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
    ثالثاً
    : وضوح الرؤية لواقع الأمة، وتحديد الأولويات في العمل الإسلامي

    مما يُساعد على تحقيق وحدة المسلمين في جماعة واحدة، وضوح الرؤية لواقع الأمة، والاجتماع على رأي واحد حول حقيقة مجتمعاتنا المعاصرة، والصفة الشرعية التي تستحقها، وكذلك تحديد الموقف من الأنظمة التي تحكمها، إذِ التباين والتناقض في المواقف والآراء تجاه هذه المسائل الهامة الحساسة من شأنه أن يفضي إلى التنازع والتفرق والاختلاف، حيث يستحيل الاجتماع على عمل إسلامي ينشد التغيير واستئناف حياة إسلامية على جميع أصعدة الحياة، ثم فريق من المجتمعين ينظر لهذه المجتمعات على أنها مجتمعات جاهلية مرتدة، وحُكم ديارها حكم دار الحرب والكفر، يجب الخروج على حُكامها لكفرهم وارتدادهم عن الدين، بينما الفريق الآخر له نظرته المغايرة تماماً؛ حيث ينظر لهذه المجتمعات على أنها مجتمعات إسلامية تجري عليها أحكام ديار الإسلام، والأنظمة التي تعلوها هي أنظمة إسلامية، وحُكامها مسلمون يجب لهم السمع والطاعة من قِبل النّاس..
    فهذه قضايا شائكة ـ كثر الجدال حولها ـ لابد من رؤية موحدة صحيحة تجاهها، وحسمها مع الأطراف قبل دعوتهم للاجتماع، وعلى ضوء ما تقدم في النقطة الأولى من بحثنا هذا.
    ومرة ثانية أؤكد أن هذه القضايا هامة ومستعجلة لا تحتمل الإرجاء أو التأخير، كما لا تحتمل أن يعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه، فهذا ممكن في الفروع، وهذه من الأصول التي يجب الاجتماع عليها.
    وكم من مجتمع ودارٍ توجّه فيه سهام المسلمين على بعضهم البعض بسبب اختلافهم حول هذه المسائل، بينما كان الأصل أن تجتمع سهامهم وتُوّجه إلى صدر الطاغوت.
    أما عن أولويات العمل الإسلامي التي يجب الاجتماع عليها، فأُجملها في نقطتين:ـالأولى، العمل على إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد وحده، والكفر بكلّ مألوه مُطاع سوى الله سبحانه وتعالى.
    وهذه مهمة لأجلها خلق الله الخلق، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، وكانت الهمَّ الأكبر والغاية العظمى للأنبياء والرسل، وللعلماء العاملين من بعدهم عبر التاريخ الإنساني وإلى يوم القيامة، لا يصرفهم عنها صارف، ولا يشغلهم عنها شاغل مهما كانت الأسباب الداعية لذلك.
    وهي قضية ـ لعظمها ـ لم تكن تقبل عندهم المساومة، ولم يرضوا بديلاً عنها شيئاً آخر، ولم يكن يتجاوزوها إلى أي شيءٍ مهما عظم شأنه قبل أن يُعطوا عليها إجابة صريحة من العباد وكلّ الطواغيت.
    وكانت لأجلها تُسلُّ السيوف، وعليها يُعقد الولاء والبراء، ويعلن الحرب والسلم، وفي سبيلها تبذل المهج والأرواح، ويرخص كلّ غالٍ ونفيس.
    إنها قضية لابد من أن تُحسم ـ أولاً ـ وبوضوح مع الطواغيت، كلّ الطواغيت: من المعبود بحق في الوجود هم أمٍ الله الواحد الأحد، الفرد الصمد؟.
    قال تعالى: {وما خلقتُ الجنَّ والإنس إلا ليعبدون}(1) .
    وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}(2) .
    وقال تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى}(3) .
    وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كلّ أمةٍ رسولا أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}(4) .
    وفي الحديث، فقد صحّ عن النبي
    e أنه قال: (من وحّد الله تعالى، وكفر بما يُعبدُ من دونه، حُرِّم ماله ودمه، وحسابه على الله عز وجل)(5) .
    مفهوم الحديث الذي دلّ عليه منطوق أدلة الشريعة، أنّ من وحّد الله تعالى لكنه لم يكفر بما يُعبد من دونه لا يُحرم ماله ودمه، ولا يكون من المسلمين المؤمنين.
    والشاهد أن المسألة على أهميتها وخطورتها إلا أننا نجد كثيراً من الدعاة والوعاظ والحركات ـ رهبةً أو رغبةً ـ قد تجاوزوها، وانشغلوا عنها بالفروع، والرقائق، والفقهيات، والاقتصاديات وبما يأذن به الطواغيت فقط..!.
    وصوروا للنّاس أن هذا الفُتات القليل الذي يُلقى إليهم من قِبل الطواغيت ويُسمح لهم بممارسته على أنه شيء عظيم، وفتحٌ ليس بعده فتح، وهو الإسلام الذي جاءت به الرسل، ولم نعد بحاجة إلى شيء غيره نُطالب به الآخرين!!.
    وهؤلاء ـ على ما لهم يوم القيامة جزاء كِتمانهم للعلم ـ أنَّى لجهودهم ودعواتهم أن تُثمر في نفوس النّاس والمجتمعات وقد تجاهلوا أصل الأصول؛ ألا وهو التوحيد؟!، وهم مثلهم مثل من يُريد غرس شجرة ممتدة الجذور، فيبدأ بغرس الغصون والفروع مُتجاهلاً الجذور والأصول التي من دونها لا ينبت شجر ولا ثمر.
    ولعلّ ذلك يكون السبب الأكبر في نفور كثير من النّاس عن الدين، أو قُل: تمييع معاني الدين وتشويهها في نفوس كثير ممن يُقبلون عليه، وهؤلاء بإقبالهم المشوه هذا يكونون وبالاً على الدين بدلاً من أن يكونوا جُنداً من جنوده، يظهر ذلك في أقل صراع وتدافع بين الحق وأهله من جهة، والباطل وأهله من جهة أخرى، حيث سرعان ما يقفون إلى جانب الطاغوت في أي صراع يدور مع الإسلام وجنده، حتى أنك لتتساءل ما هذا الإسلام الذي يعتنقون؟!.
    ثم طبقة أخرى غير أولئك، ممن ينتسبون إلى العلم والفقه، نجدهم ـ رغبةً أو رهبةً ـ يُصوِّرون الحديث ـ مجرد الحديث ـ عن التوحيد الذي من أوكد لوازمه وشروطه الكفر بالطواغيت كلّ الطواغيت، هو فتنة يجب اجتنابه، واجتناب الدعاة إليه، بل ومحاربتهم على أنهم خوارج وأصحاب فتنة..!!.
    ولهؤلاء نقول: قد وقعتم بالفتنة، وأنتم أولى بالفتنة من غيركم، وهل فاتكم ـ يا محاربي الفتنة ـ أنّ لا فتنة أعظم وأخطر وأشد على الأمة، والبلاد والعباد من فتنة الشرك، والرضى بالطواغيت التي تُعبد من دون الله ولو في جانب من جوانب العبادة..
    صدق الله العظيم حيث قال: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله}.
    والدين هو الطاعة، فإذا كان بعض الدين لله وبعضه لغير الله وجب القتال حتى يكون الدين كلّه لله(1) .
    وحتى نُحيط بالمشكلة من جميع أوجهها لابد من إدراك معنى الطاغوت ومعرفة أنواعه، ومعنى العبادة وما يتفرع عنها، لنرى أين نحن من كلّ ذلك؟.
    قال ابن تيمية: الطاغوت فعلوت من الطغيان، والطغيان مُجاوزة الحد؛ وهو الظلم والبغي، فالمعبود من دون الله إذا لم يكن كارهاً لذلك: طاغوت، والمطاع في معصية الله، والمطاع في اتباع غير الهدى ودين الحق ـ سواء كان مقبولاً خبره المخالف لكتاب الله أو مُطاعاً أمره المخالف لأمر الله ـ هو طاغوت؛ ولهذا سمى الله من تُحوكم إليه، من حاكم بغير كتاب الله طاغوت، وسمى الله فرعون وعاداً طغاة. اهـ(2) .
    وقال ابن القيم: الطاغوت كلّ ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كلّ قومٍ من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يُطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال النّاس معها رأيت أكثرهم عدلوا من عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن التحاكم إلى الله وإلى الرسول إلى التحاكم إلى الطاغوت، وعن طاعته ومُتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومُتابعته. اهـ(3) .
    ولابن تيمية كلامٌ جامعٌ شاملٌ في معنى العبادة، حيث قال: العبادة هي اسم جامع لكلّ ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة. اهـ.(4) .
    وهذا يعني أنّ الركوع والسجود، والصوم والحج، والنذر والنسك، والحب والكره، والجهاد والتضحية، والخشية والتوكل، والدعاء والإنابة والرجاء، والطاعة والانقياد والاتباع والحكم والتحاكم.. وغيرها كلّ ذلك داخل في مسمى العبادة التي لو أُعطيت ـ أو شيء مما يندرج تحت مسماها ـ لغير الله عز وجل حصل الشرك الأكبر وانتفى التوحيد والإيمان.
    قال تعالى: {قل إن صلاتي ونُسكي ومحياي ومماتي لله ربّ العالمين لا شريك له}(5) .
    وبعد فإننا نتساءل:ـ
    مَنِ المعبود في زماننا وفي كثير من مجتمعاتنا، الله أمِ الطاغوت؟!.
    مَنِ المطاع لذاته، الله أمِ الطاغوت؟!.
    مَنِ الذي يُشرع للعباد، الله أمِ الطاغوت؟!.
    مَنِ الذي يُعقد عليه الولاء والبراء، الله أمِ الطاغوت؟!.
    مَنِ الذي يُحب ويُخشى لذاته، الله أمِ الطاغوت؟!.
    مِمَن يتلقى النّاس قيمهم وقوانينهم ودساتيرهم، مِنَ الله أم مِنَ الطاغوت؟!.
    إلى مَن يتحاكم النّاس، وإلى من يردوا مُنازعاتهم وخُصوماتهم، إلى الله أمِ إلى الطاغوت؟!.
    فإذا كان واقع الحال يقول: الطاغوت ـ وإن لم يعترف بذلك كثيرٌ من النّاس ـ أدركنا حجم الهوة بين النّاس وحقيقة هذا الدين، وأدركنا بالتالي ثقل الأمانة الملقاة على عاتق العلماء والدعاة العاملين، وما يجب عليهم نحو أمتهم ودينهم.
    وعليه فإن "مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله وتغتصب سلطانه، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد..
    وهي هي المشكلة التي كان يُواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المقررات والبيانات، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر، وميزان الجاهلية أو الإسلام"(1) .
    وبالتالي لا نكون قد حايدنا الصواب لو بدأنا مع أقوامنا كما بدأ الأنبياء والرسل مع أقوامهم يدعونهم: أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت، لا نتجاوز هذه الدعوة إلى سواها حتى نلقى الله أو نرى إجابة صحيحة صريحة، صادقة من النّاس.
    ثم حقيقة أخرى لابد من أن يدرسها العاملون لهذا الدين، وبخاصة منهم الذين يتلمسون طُرقاً قصيرة ملتوية يتوخون من خلالها النصر والتمكين: وهي أنّ النصر، والتمكين، والاستخلاف في الأرض، والأمان والاطمئنان، وغير ذلك من الخير لن يتحقق إلا بسلامة التوحيد، وإخلاص العبادة لله تعالى وحده، والكفر بكلّ مألوه معبود سواه أيّاً كان شكله ونوعه وصفته.
    قال تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليسخلفنَّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكننَّ لهم دينَهم الذي ارتضى لهم وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يُشركون بي شيئاً}(2) .
    خلاصة ما تقدم نقول: إن قضية "مَنِ المعبود بحق في الوجود" هي قضية الدين كلّه، وهمُّ الدعاة المخلصين العاملين، يجب اجتماع الجهود على أساسها، ولا يمكن التفريط بها، أو تجاوزها إلى ما هو دونها ـ قبل حسمها مع الطواغيت كلّ الطواغيت وجميع من يُشايعهم وينصرهم ويعبدهم ـ مهما كانت الأسباب الداعية لذلك.
    أما النقطة الثانية ـ في سلم الأولويات ـ التي يجب الاجتماع عليها، والقلق لأجلها تكمن في العمل من أجل قيام خلافة راشدة، واستئناف حياة إسلامية على منهاج النبوة.
    وهذا أمر لا خلاف على وجوبه بين علماء الأمة قاطبة، لا يشذ عنهم إلا مرجف مغفل أو مغرض لا يريد أن تقوم للإسلام قائمة أو تعلو له كلمة.
    قال النووي: أجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة.(3) .
    وقال الماوردي: عقد الإمامة لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع.(4) .
    وقال الهيثمي: اعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب، بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله
    e.(5) .
    وقال القرطبي: ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة.(6) .
    ومن جهة فإن أهمية هذا الهدف تكمن في ارتباطه الوثيق ـ كسبب ـ بالهدف السابق وهو تعبيد العباد لربهم سبحانه وتعالى وحده، حيث أن الله تعالى ليزع بالسلطان المسلم ما لا يزعه بالقرآن، بل وإن كثيراً من الأحكام والواجبات الشرعية لا يمكن القيام بها إلا في ظل خلافة راشدة يعلوها خليفة راشد يذود عن الدين، ويسوس الدنيا بالدين.
    قال ابن تيمية: يجب أن يُعرف أن ولاية أمر النّاس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها. اهـ.
    وقال الإمام أحمد: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر المسلمين. اهـ.
    لذا عملت قوى الكفر والنفاق ـ ولا تزال ـ للحيلولة بين المسلمين وخلافتهم، وشغلتهم عنها بافتعال شعارات وخلافات بين صفوف المسلمين ما أنزل الله بها من سلطان.
    وقد وُجد ـ وللأسف من أبناء جلدتنا وممن يتقمصون ثوب العلم والعلماء ـ من استجاب لهم، وأنصت إلى شبهاتهم ومكائدهم، فجندوهم لمحاربة الخلافة والدعاة إليها وهم يدرون أو لا يدرون..
    حتى وصلنا إلى مآلٍ أصبح العمل من أجل قيام خلافة راشدة تُهمة خطيرة تُوجب على صاحبها ـ عند أنظمة الكفر والطغيان ـ السجن لسنين طويلة، إذا لم يكن القتل وقطع العنق!.
    ونحن نقول لجميع الكفار ومن تبعهم من المنافقين: لن يطول فألكم، ولن تبقى عروشكم التي بنيتموها على جماجم وأشلاء شعوبكم بالقهر والحديد، ومهما كِدتم وتآمرتم ومكرتم فإن مكركم إلى بوار، وإن الخلافة الإسلامية ـ على منهاج النبوة ـ قادمة وكائنة بإذن الله.
    فها هو نبينا محمد
    e يُبشرنا، ونحن به مؤمنون مصدقون: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضاً فيكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)(1) . ونحن على أبوابها إن شاء الله.
    وقال
    e: (إنَّ الله زوى ـ أي جمع وضم ـ لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها وإنَّ أمتي سيبلغ ملكها ما زُوي لي منها)(2). وهذا لم يكن من قبل، لكنه سيكون بإذن الله..
    وقال
    e: (ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيزٍ أو بذُلِ ذليل، عزاً يُعزُّ اللهُ به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر)(3) . وهو كائن بإذن الله.


    رابعاً:
    ترشيد النصح فيما بين المسلمين، ومراعاة ضوابط الاختلاف

    إذ يستحيل اجتماع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم في وجوه الأعداء، ثم هم لأدنى خلاف فقهي ـ وما أكثر المسائل الفقهية المختلف فيها ـ يُعلنون الحرب والمفاصلة، والولاء والبراء، وتحصل فيما بينهم البغضاء والمجافاة والمعاداة!.
    ومما يشتد له العجب أننا نجد من المسلمين ممن يعملون في حقل الدعوة أو الوعظ والإرشاد، قد يُثيرون مشاكل ـ لها نتائج خطيرة على وحدة الصف وصفاء القلوب ـ لأدنى خلاف أو خطأ، يصدر عن مسلم، بحجة أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، بينما نراهم ـ رغبةً أو رهبةً ـ يلتزمون الصمت المطبق تجاه الكفر البواح، والمنكر الأكبر الظاهر، وبخاصة إن كان مصدره أئمة وطواغيت الكفر، حيث لا منكر يُنكرونه، ولا معروف يأمرون به..!.
    يُقاتلون المسلمين على سنّة من السنن، بينما تراهم يُسالمون الطواغيت رغم تنحيتهم لشرع الله عن الحكم..‍‍.
    يُسيئون الظن بالمسلم العاصي ويحملون عليه جميع النصوص التي تأمر بالأخذ على الظاهر، وفي المقابل تراهم يُدافعون ويُوسعون دائرة التأويل والأعذار على طواغيت اجتمعت فيهم جميع نواقض الإيمان، ويحملون عليهم النصوص التي تستلزم مراعاة الباطن والقصد..!!.
    تراهم على الطواغيت مرجئة رحماء، وعلى المسلمين والدعاة العاملين منهم خوارج أشداء، لا تفوتهم البدعة المؤثمة فهم لها بالمرصاد، بينما إذا مرت عليهم البدعة المكفرة فهم نِيام يشخرون لا حسيس لهم ولا صوت..!!.
    ومن هذا القبيل تحالف بعض الفصائل أو الجماعات الإسلامية مع أحزاب علمانية كافرة، تُعادي الله ورسوله، وفي المقابل تراهم يستثقلون ويستصعبون الجلوس أو التفاهم مع مسلم مخالف لهم في مسألة أو وجهة نظر..!!.
    وهؤلاء ـ جميعاً ـ نعيذهم أن يقعوا فيما وقع فيه الخوارج الأوائل، حيث وصفهم النبي
    e أنهم: (يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان).
    وكذلك ملاحظة بعض النّاس ـ ممن ينتسبون إلى الدعوة والعمل الإسلامي ـ حيث يعقدون الولاء والبراء على أساس الإنتماء الحزبي أو المشيخي؛ فيُوالون من يُوالي الحزب أو الشيخ بغض النظر عن سلامة دينه وحُسن سلوكه، ويُعادون من يُعادي الحزب ولو كان من أتقى أهل الأرض..!!.
    وهذا مما لا شك فيه أن مؤداه إلى مزيد من التفرق والتناحر والاختلاف، كما أنه مُغاير لقوله تعالى: {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين}(1). وقوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف}،{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}(2) .
    قال ابن تيمية: من حالف شخصاً على أن يُوالي من والاه، ويُعادي من عاداه كان من جنس التتر المجاهدين في سبيل الشيطان، ومثل هذا ليس من المجاهدين في سبيل الله تعالى ولا من جند المسلمين، ولا يجوز أن يكون مثل هؤلاء من عسكر المسلمين، بل هؤلاء من عسكر الشيطان. اهـ(3) .
    وثمة أمر يجدر تنبيه الإخوان عليه: وهو أنّ العدو الكافر يحرص دائماً على اشغال المسلمين بشبه ومسائل هامشية ـ عن أهدافهم العظمى ـ عديمة الفائدة، بل هي غالباً ما تفضي إلى البغضاء والتفرق والتنازع والاختلاف، وضعف الشوكة، وعلى مبدأ فرِق تسد.. حتى لا تكاد شبهة تموت وينتهي أثرها، إلا وتجدهم يتبعونها بشبهات أشد أثراً على اجتماع الصف ووحدة كلمة المسلمين..
    فلا نكونن نحن طعماً سهلاً لهذه الشبهات، نُروج لها ونحييها بمعارك جدلية هامشية لا طائل منها، بعد أن تكون ميتة لا أحد يعلم بها.
    ثم ليس من الشجاعة ولا من الحكمة والفقه أن نتناول فِتناً قديمة قد اندثرت ولا واقع لها في حياتنا، وقد كان لها رجالها الذين تصدوا لها، بينما نغض الطرف ونعمي العين ـ رغبةً أو رهبةً ـ عن فِتن معاصرة أهلكت البلاد والعباد، نحياها ونعيش آثارها، والأمة تصلى نارها صباح مساء..!.
    والاختلاف أنواع، منه ما يمس الأصول والعقائد والتوحيد، وهذا نوع عليه يُعقد الولاء والبراء، وعلى أساسه تُحدد المواقف، ويرفع لواء الحرب، حيث لا يُرجى من السكوت عليه دفع ضررٍ أكبر، لأنه هو ذاته يعتبر الضرر الأكبر والظلم الأعظم الذي لا يعلوه ضرر وظلم، كما قال تعالى: {إنَّ الشرك لظلمٌ عظيم} [لقمان : 13]. وقال: {والفتنة أشد من القتل} [البقرة : 191].
    ومنه ما يمس الفروع دون الأصول، وأصحاب هذا النوع من الاختلاف على الغالب يكون عندهم ما يستوجب موالاتهم من وجه، ومجافاتهم من وجه آخر، فيُعاملون على أساس ما عندهم من خير أو شر، واختلافهم مع الحق يُعالج بالنصح وبالحكمة والموعظة الحسنة، وبشيءٍ من الرفق وبخاصة إن كان المخالف عنده مظنة دليل مرجوح أو أنه يقلد عالماً مُعتبراً، وشاهدنا أن هذا النوع من الاختلاف لا يجوز أن يُشهر على أساسه السيف أو يؤدي إلى المجافاة المطلقة وقطع جميع حبال الود، وإنما الأمور بقدر..
    ومنه ما يكون عن علمٍ واجتهاد معتبر، لمظنة دليل أو قياس يحتمل أوجهاً من الأفهام والاستنباطات المتباينة المتغايرة، كاختلافات سلفنا الصالح مع بعضهم البعض، وهذا النوع من الاختلاف ينبغي أن يعذر بعضنا بعضاً فيه، مع المحافظة على النصح الجميل الواعي ما أمكن الذي لا يُؤدي إلى الشحناء والتباغض، ولو بقي كلّ طرف على رأيه المخالف للطرف الآخر..
    فوحدة الأمة واجتماع كلمتها أصل من أصول الدين، لا يُفرط به إلا لأصل أعظم منه وأوكد، هذا ما يقتضيه قوله
    e: (وأن لا نُنازع الأمرَ أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)(1) . وقوله: (لا ما أقاموا فيكم الصلاة)(2) .
    فلابد من أن نُنزل الأمور منازلها، ونُراعي قاعدة اعتبار الأولويات والأهم فالأهم وِفق ضابط وميزان الشريعة، ونُعطي كلّ شيء حقه من غير جنوح إلى إفراط أو تفريط.
    خامساً:
    الشمولية

    أعني بذلك أخذ الإسلام أخذاً شمولياً من دون تفريط في جانب من جوانبه، أو اهتمام بجانب دون آخر، مع الأخذ بالاعتبار مراعاة فقه الأولويات والموازنات، وما ينبغي أن يُقدم أو يؤخر بحسب ما تقتضيه المصالح الشرعية، وتقديم الأهم على المهم عند التزاحم في وقت واحد، من دون إستهانة بالمهم أو تفريط به.
    وهذا ما يقتضيه قوله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}(3) . أي جميع ما آتاكم به الرسول فخذوه، وجميع ما نهاكم عنه فانتهوا عنه، وليس بعضه دون بعض.
    فنأخذ الإسلام أخذاً شمولياً؛ إسلام العلم والفقه، إسلام الجهاد والاستشهاد، إسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إسلام الدعوة والتبليغ، إسلام الزهد وتربية الأنفس، إسلام التميز والصبر والثبات، إسلام الاستسلام والانقياد والاتباع..
    وهذه خِصال جميعها تصب في منهاج عملي واحد مُتماسك مُتكامل، من دون تفريق أو فصل فيما بينها، أو تقليل لشيءٍ من أهميتها، وذلك كلّه يكون وِفق هدي وسنّة المصطفى
    e.
    والذي دعاني للتنبيه على هذه النقطة الهامة، انشغال كثير من المسلمين ببعض الدين دون البعض الآخر، وإهتمامهم بجانب من جوانب الدين دون الجوانب الأخرى، وفي حال تذكيرهم بتلك الجوانب سرعان ما يُقللون من أهميتها قياساً لما هم عليه من عملٍ، أو يُؤولونها ويصرفونها عن مدلولها الشرعي الصحيح!.
    وسبب ذلك يعود في الغالب لأمرين:ـ أولهما، وجود المدارس الفقهية، والجماعات الإسلامية المعاصرة التي تقوم على تكريس مفهوم فصل الدين بعضه عن بعض، والعمل بعضه دون بعض عن قصدٍ أو غير قصدٍ، مما يعكس ذلك سلباً على فكر وسلوك المسلمين، وحياتهم العامة والخاصة.
    فهناك مدرسة تهتم بجانب "الدعوة والتبليغ"، وتُبالغ بأهمية هذا المنهج، مما يحدو بها إلى إهمال بقية جوانب الدين، وإذا ما ذُكِّر اتباع هذه المدرسة بهذه الجوانب سرعان ما يُقللون من أهميتها وكأنها ليست من الدين..!.
    وهناك مدرسة تهتم بجانب "تزكية النفس" وتُبالغ في أهمية هذا الجانب على حساب بقية جوانب الدين، مما يجعل أتباع هذه المدرسة يظنون أن الدين كلّه يدور حول هذا الجانب، فيقعون في التفريط ـ عن عمدٍ أو غير عمدٍ ـ ببقية جوانب الدين الأخرى..!.
    وهناك مدرسة تهتم بالدعوة إلى العلم والانشغال به ـ تحقيقاً وتخريجاً ـ وتُبالغ في ذلك، حتى تجدها تقع في الترف العلمي النظري المجرد عن معايشة واقع الأمة ومشاكلها وآلامها، مما يجعل أتباع هذه المدرسة يقعون في المحظور المشار إليه، وهو الاهتمام ببعض الدين دون بعض..!.
    وهناك مدرسة تقوم على مبدأ "الجهاد والقتال" والاهتمام به، وتُبالغ في ذلك مما يجعلها تقع في محظور التفريط في بقية جوانب الدين التي تُعتبر بحق من لوازم الجهاد وشروط نجاحه وقبوله..!.
    وهناك مدرسة تقوم على التنظير السياسي، والاشتغال بالأخبار قراءةً وتحليلاً، بينما هم في المقابل تراهم يفقدون الرصيد العلمي الشرعي، الذي به تُعرف الأمور على حقيقتها..!.
    وهناك من يُدندن حول العقيدة وأهميتها، وإذا نظرت ماذا يقصد من دندنته ودعوته لوجدته يقصد توحيداً دون توحيد، فهو إما يقصد توحيد الربوبية مُتجاهلاً توحيد الله في ألوهيته وأسمائه وصفاته، وإما يقصد توحيد الربوبية والألوهية معاً مُتجاهلاً توحيد الله في أسمائه وصفاته مُقللاً من أهمية هذا النوع من التوحيد، وإما أنه منشغل ـ بحكم التربية وكثافة المناهج التي يعكف على دراستها ـ بتوحيد الأسماء والصفات والرد على المعارضين والمخالفين من القدامى والمعاصرين، عن توحيد العبودية والألوهية مع ما يقتضي هذا النوع من التوحيد من اهتمام وتركيز..!.
    وهو لو أراد أن يتكلم عن توحيد الألوهية والعبودية ـ بحكم الخلل في التلقي والدراسة الغير متوازنة ـ تراه يقصد جانباً دون جوانب، يقصد توحيد الله في العبادات الشعائرية، والاستغاثة والتوكل، مُتجاهلاً توحيده سبحانه وتعالى في الحُكم والتشريع، والطاعة والاتباع، والولاء والبراء، وهو كذلك لو أراد أن يُعري الشرك تراه يطنب في تعرية شرك القبور والبدع والشعوذة، بينما يتغاضى ـ رهبةً أو رغبةً أو جهلاً ـ عن شرك "القصور"، ونعني به شرك الحكم والتشريع، وشرك الطاعة والاتباع والانقياد، وشرك الولاء والبراء، هذا إذا لم يكن هو نفسه واقعاً في هذا الجانب من الشرك عن علمٍ أو غير علمٍ!.
    وهناك من تراه قد جند نفسه لمحاربة البدع، وفي المقابل تراه يتعامى عن الشرك والكبائر..!.
    وهناك من تراه يعمل على إحياء بعض السنن، وفي المقابل تراه يتساهل بل ويُميت بعض الفرائض والواجبات..!.
    وكم يحزنني انشغال بعض الإخوان ـ الزمن الطويل ـ مع أُناس حول مسائل تتعلق بالثوب والبنطال واللحية وما شابهها، بينما يكون هؤلاء النّاس ممن يُؤمنون بالطاغوت ويكفرون بالله عزّ وجل، ثم لا يسمعون كلمة واحدة في ذلك؟!.
    وهذا كلّه يعود ـ في الغالب ـ إلى الخلل في التربية والتثقيف، وفي كيفية تلقي هذا الدين، والعمل له.
    ورحم الله سيد قطب إذ يقول: بينما الطيبون السذج من المسلمين يروحون يشتغلون في سذاجة بلهاء ـ من تأخذه الحمية للدين منهم وللأخلاق ـ بالتنبيه إلى مخالفات صغيرة، وإلى منكرات صغيرة، ويحسبون أنهم أدوا واجبهم كاملاً بهذه الصيحات الخافتة، بينما الدين كلّه يُسحقُ سحقاً ويُدمَّر من أساسه، وبينما سلطان الله يغتصبه المغتصبون، وبينما الطاغوت ـ الذي أُمروا أن يكفروا به ـ هو الذي يحكم حياة النّاس جُملةً وتفصيلاً!(1) .
    وقال: إن الأمر أكبر وأوسع وأعمق مما يُنفق فيه هؤلاء الطيبون جهدهم وطاقتهم واهتمامهم.. إنه في هذه المرحلة ليس أمر تتبع الفرعيات مهما تكن ضخمة حتى ولو كانت هي حدود الله، فحدود الله تقوم ابتداءً على الاعتراف بحاكمية الله دون سواه، فإذا لم يُصبح هذا الاعتراف حقيقة واقعة تتمثل في اعتبار شريعة الله هي المصدر الوحيد للتشريع واعتبار ربوبية الله وقوامته هي المصدر الوحيد للسلطة، فكلّ جهد في الفروع ضائع، وكلّ محاولة في الفروع عبث، والمنكر الأكبر أحق بالجهد والمحاولة من سائر المنكرات(1) .
    أما السبب الثاني، فهو يكمن في تلبيس إبليس على كثير من خواص المسلمين فضلاً عن عامتهم، حيث يصرفهم عن الأهم بالمهم، وعن الواجب إلى المندوب، وعن المندوب إلى المباح، ولو أفلح في صرفهم عن المباح إلى المحظور فلا يُقصر، وإن لم يُفلح فهو غالباً ما يُشغلهم في جزئية من جزئيات الدين إلى حد الإشباع والأطناب، وربما إلى حد الإفراط على حساب الأجزاء أو الشرائع الأخرى. مما يجعلهم يقعون في المحظور المشار إليه ـ عن قصدٍ أو غير قصدٍ ـ وهو العمل ببعض الدين دون بعض، والاهتمام بجوانب منه دون جوانب.
    فمثلاً ترى أحدهم يُزيِّن الشيطان له الاهتمام بالشعر ـ وهو أمر مباح وأحياناً يُستحسن ويُندب له ـ إلى حد المبالغة، فيغوص في دراسته ـ قراءة وتحليلاً وحفظاً ـ الزمن الطويل، ولربما يقضي عمره كلّه وهو منشغلٌ بذلك عن التوحيد ومُتطلباته، وعن القرآن الكريم وتدبر آياته، وعن السنّة النبوية المشرفة وغيرها من العلوم الضرورية النافعة التي تعلو الشعر أهميةً ونفعاً، ولربما تراه مملوءاًجوفه شعراً بينما لا يحفظ بضع آيات من القرآن الكريم..!.
    ومثل هذا لو أراد أن يعطي الآخرين شيئاً فهو يقئ ما في بطنه من قيح، فالإناء ينضح بما فيه، فيُؤذي نفسه وغيره.
    وأذكر مرة أنني دخلت مكتبة، فوجدت رجلاً يتفاصح ويعلو صوته بين النّاس، فبادرني ـ على وجه المفاجأة والتنطع ـ بسؤال: هل تعرف القائل؟ وذكر شعراً..!.
    فقلت له: هل تعرف معنى "لا إله إلا الله" التي بها تدخل الجنّة أو النار..؟ فبُهت وسكت ولم يُجب!!.
    ومن ذلك كذلك أن يشتغل المرء في مسألة من المسائل الدينية مُضيعاً وقته وعمره فيها، وعلى حساب بقية مسائل الدين الأخرى، حتى أنه يُعرف بها وتُعرف به، وكم من داعية تراه يُدندن حول مسألة معينة أو شعار معين لا يتجاوزه إلى غيره حتى يُحمل إلى قبره، فيُفاجأ حينئذٍ بما قدم لنفسه.
    قال ابن القيم رحمه الله: فمن النّاس من يتقيّد بلباسٍ لا يلبس غيره، أو بالجلوس في مكان لا يجلس في غيره، أو مشيةٍ لا يمشي غيرها، أو بزيٍ وهيئةٍ لا يخرج عنهما، أو عبادة معينة لا يتعبد بغيرها، وإن كانت أعلى منها، أو شيخ معين لا يلتفت إلى غيره، وإن كان أقرب إلى الله ورسوله منه، فهؤلاء كلّهم محجوبون عن الظفر بالمطلوب الأعلى، مصدودون عنه، قد قيدتهم العوائد والرسوم، والأوضاع والاصطلاحات عن تجريد المتابعة، فأضحوا عنها بمعزل، ومنزلتهم منها أبعد منزل، فترى أحدهم يتعبد بالرياضة والخلوة وتفريغ القلب ويعد العلم قاطعاً له عن الطريق، فإذا ذكر له الموالاة في الله والمعاداة فيه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عدَّ ذلك فضولاً وشراً، وإذا رأوا بينهم من يقوم بذلك أخرجوه من بينهم وعدوه غَيْراً عليهم، فهؤلاء أبعد النّاس عن الله..اهـ(2) .
    ومن نتائج العمل ببعض الدين وترك بعضه الآخر حصول الحالقة؛ العداوة والبغضاء، والتفرق والتنازع والاختلاف فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض.
    كما قال تعالى: {ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذُكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة}(3) .
    وهذا مثل ضرب للمسلمين، أي إنكم إذا فعلتم فِعل النصارى، فنسيتم حظاً من الدين، وعملتم ببعضه وتركتم البعض الاخر، فإنه سيُصيبكم ما أصابهم من التفرق والتنازع والعداوة والبغضاء، وما أصاب المسلمين ويُصيبهم في هذه الأيام من تفرقٍ وتنازعٍ وضُعفٍ وعداوةٍ فيما بينهم ما هو إلا بسبب أنهم نسوا حظاً من الدين والتوحيد ـ بل حظوظاً ـ فعَملوا ببعضه ونسوا بعضه الآخر!.
    وإذا كان هذا جزاء من يُبعض الدين؛ فيعمل ببعضه وينسى بعضه الآخر، فإن مفهوم المخالفة وهو العمل بمجموع الدين ـ من دون تفريط بأي جزئية من جُزئياته ـ يقتضي الوحدة والائتلاف والرحمة والتكافل.
    وإنَّ أيَّ مُحاولة تسعى للنهوض بالأمة وتوحيد كلمتها تتجاهل هذه النقطة الهامة يُعتبر سعيها كالركض وراء السراب..
    وبعد، فهلاَّ أخذنا الإسلام أخذاً شمولياً من غير إنتقاصٍ ولا افراطٍ أو تفريطٍ، ثم بعد ذلك سألنا الله الوحدة والجماعة والنصر والتوفيق؟؟.

    سادساً:
    اعتماد الجهاد في سبيل الله للتمكين والتغيير، وإعلاء كلمة الله في الأرض

    حيث لابد للعاملين للإسلام من سبيل يُجمعون عليه ابتداءً، ينهجونه لنصرة هذا الدين وإعلاء كلمته في الأرض، فاختلاف وجهات النظر حول السبل والوسائل كان ولا يزال ذريعة للتنازع والتفرق والاختلاف، وتعدد الجماعات المتنافرة..
    والإسلام إذ حدد لنا الغايات وألزمنا بالعمل لها كذلك فقد حدد لنا السبل والوسائل التي تُوصلنا ـ بإذن الله ـ إلى تحقيق تلك الغايات، وألزمنا الأخذ بها، فالمسألة لم تترك فراغاً من غير بيان من الشارع الحكيم ليجتهد فيها المجتهدون، ويخوض فيها الخائضون كلٌّ بحسب ما يرتئي ويهوى..
    ونحن إذ نقرر أن الجهاد في سبيل الله هو طريق الإسلام للنصر والتمكين وإعلاء كلمة الله في الأرض، فهو لأوجه نُجملها في النقاط التالية:ـ
    1- أنّ طريق الجهاد وحي قد أمرنا الله به، وهو قدر الأمة فلا مناص للتفلت منه أو إستبداله بطرقٍ أخرى ما أنزل الله بها من سلطان.
    قال تعالى: {كُتِبَ عليكمُ القتال وهو كُرهٌ لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم}(1) . وهو كقوله تعالى: {كُتِبَ عليكم الصيام}(2)، فكما أنَّ الأمة كُتب عليها الصيام فقد كُتب عليها القتال، فلا فرق بين الآيتين من حيث دلالة المشروعية والوجوب..
    وإن كنتَ تعجب فمِن أولئك الذين يستشهدون بآية الصيام على شرعية ووجوب الصوم، ثم إذا ذُكِّروا بآية القتال تراهم يلوون أعناقهم ويتكلفون التأويل والتعطيل!!.
    وكذلك قوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كلّه لله}(3).
    وقال تعالى: {فقاتل في سبيل الله لا تُكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين عسى أن يكف بأس الذين كفروا والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً}(4) .
    وقال تعالى: {انفروا خِفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم}(5) .
    وقال تعالى: {وما لكم لا تُقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والوالدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً}(6) .
    وغيرها كثير من الآيات التي تُدلِّل على أن الجهاد في سبيل الله هو طريق الإسلام إلى النصر والتمكين وإعلاء كلمة الله في الأرض.
    وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي
    e أنه قال: (أُمرت أن أُقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله، ويُقيموا الصلاة، ويُؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله)(1) .
    وقال
    e: (بُعثت بين يدي الساعة بالسيف، حتى يُعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجُعل رزقي تحت ظل رُمحي، وجُعل الذلُّ والصغار على من خالف أمري)(2) .
    وقال: (واعلموا أنّ الجنّة تحت ظِلال السيوف)(1).
    وقال: (من مات ولم يغزُ ولم يُحدث به نفسه مات على شعبة من نِفاق)(3) .
    وقال: (مَن لم يغزُ أو يُجهز غازياً، أو يخلُف غازياً في أهله بخير، أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة)(4) .
    فالمؤمن ليس له إلا أن يكون واحداً من ثلاث، إما غازياً، أو يجهز غازياً، أو يخلف غازياً في أهله بخير، وإلا فلينتظر ـ عاجلاً أو آجلاً ـ قارعة تنزل بساحته لا يعلم ماهيتها وشدتها إلا الله تعالى. ومن يتأمل القوارع الشداد التي تنزل بالأمة في هذا الزمان يُدرك أن سبب ذلك كله يعود إلى تخليها عن الجهاد، وعن نُصرة المجاهدين.
    2- أن الجهاد في سبيل الله دواء لكثير من الأدواء، فلا شيء أنفع للبلاد والعباد من الجهاد في سبيل الله تعالى.
    فبه تتحقق الهداية وتُيسر لأصحابه، كما قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}(5) . وعليه فكان السلف إذا أشكل عليهم أمرٌ من أمور الدين يسألون أهل الثغور والجهاد.
    وهو باب من أبواب الجنّة يُذهب الله به الهمَّ والغمَّ، كما في الحديث: (عليكم بالجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهمَّ والغم)(6) .
    وبه تُحفظ مقاصد الدين، وتُصان الحُرمات، كما في قوله تعالى: {وما لكم لا تُقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنّساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك ولياً واجعل لنا من لدنك نصيراً}(7) .
    وقال تعالى: {ومَن جاهد فإنما يُجاهد لنفسه إنَّ الله لغنيٌّ عن العالمين}(8) . أي أن الخير العائد من الجهاد مردود على أنفسنا إن جاهدنا في سبيل الله، فالله تعالى غنيٌّ عنا وعن جهادنا.
    وهو كذلك باب عظيم من أبواب التمحيص يُعرف به المؤمن الموحِّد من المنافق المتسلق الذي يحب أن يُحمد بما لم يفعل، فالجهاد تُرجمان التوحيد..
    قال تعالى: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنّة ولما يعلمِ الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين}(9) .
    وقال تعالى: {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً}(1) .
    وقال تعالى: {الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله}(2) .
    وقال تعالى: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون}(3) . فاعتبر جهادهم دليلاً على صدق إيمانهم.
    وقال تعالى: {إنما يستأذنك الذين لا يُؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره انبعاثهم وقيل اقعدوا مع القاعدين}(4) . فاعتبر سبحانه وتعالى تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله
    e دليلاً على نِفاقهم وعدم إيمانهم، كما اعتبر عدم الإعداد والأخذ بالأسباب دليلاً على عدم رغبتهم في الخروج للجهاد في سبيل الله، فلكلّ دعوةٍ وزعمٍ برهانٌ ودليلٌ، وزعم اللسان وحده لا يكفي.
    قال ابن تيمية رحمه الله في تفسير الآية: فهذا إخبار من الله بأن المؤمن لا يستأذن الرسول في ترك الجهاد وإنما يستأذنه الذين لا يُؤمنون، فكيف بالتارك من غير استئذان؟!(5) .
    قلت: فكيف بمن يثبط الأمة عن الجهاد، ويؤثم المجاهدين لجهادهم..؟!.
    والجهاد إلى جانب ما تقدم لا يعدله شيء من العبادات، كما في الصحيحين، عن أبي هريرة قيل يا رسول الله ما يعدل الجهاد؟ قال: (لا تستطيعونه) فأعادوا عليه مرتين وثلاثاً كلّ ذلك يقول: (لا تستطيعونه) ثم قال: (مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد).
    وقال
    e: (رباط يوم في سبيل الله خيرٌ من ألف يوم فيما سواه من المنازل)(6) .
    وقال
    e: (الغدوة والروحة في سبيل الله، أفضل من الدنيا وما فيها)(7) .
    وقال
    e: (من اغبرت قدماه في سبيل الله، فهو حرامٌ على النّار)(8) .
    قلت: فما بالك فيمن يغبر وجهه في سبيل الله، ويلامس غبار الجهاد شغاف قلبه..؟.
    وإذا كان هذا الخبر كلّه يتحقق من جراء الجهاد في سبيل الله تعالى، فإن تركه والركون إلى الدنيا وإغراءاتها مآله إلى العذاب والذل والهوان، وضياع حرمات البلاد والعباد..
    قال تعالى: {إلا تنفروا يُعذّبكم عذاباً أليماً ويستبدل قوماً غيركم ولا تضروه شيئاً والله على كلّ شيء قدير}(9) .
    وقال تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين}(10) .
    وفي هذه الآية دلالات عظيمة منها: أن الله تعالى لم يقل إن كان آباؤكم أو أبناؤكم أو إخوانكم.. وإنما عطف بين الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال والتجارة والمساكن بحذف الألف الذي يُفيد التفرد في الإختيار والمفاضلة في هذا الموقع، لندرك أنه لو حصلت المفاضلة والاختيار بين مجموع هذه الأشياء ـ وليس واحدة منها فقط ـ وبين الله ورسوله وجهاد في سبيله، لوجب على المؤمن أن يختار الله ورسوله والجهاد في سبيله.
    ومنها أن الولاية لا تتحقق إلا بالمتابعة والجهاد في سبيل الله، قال ابن تيمية: قد جعل الله لأهل محبته علامتين: اتباع الرسول والجهاد في سبيل الله؛ وذلك لأن الجهاد حقيقته الاجتهاد في حصول ما يحبه الله من الإيمان والعمل الصالح، وفي دفع ما يُبغضه من الكفر والفسوق والعصيان.(1).
    ومنها أن إيثار الأصناف الواردة في الآية ـ وما أعزها على النفس ـ على الجهاد في سبيل الله، مآله إلى العذاب والفسق والضلال، وضياع جميع المصالح.
    وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي
    e أنه قال: (إذا تبايعتم بالعينة(2) ، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاًّ لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)(3) .
    وقال
    e: (يُوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غُثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن، فقال: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: حبُّ الدنيا وكراهية الموت).
    ومهما كان للجهاد من تبعات وتكاليف، فإن تبعات وتكاليف ترك الجهاد في سبيل الله والركون إلى الدنيا ومشاغلها وملذاتها لهي أشد بكثير من تبعات الجهاد في سبيل الله، وهذا أمر ـ شهدت عليه الأدلة النقلية والعقلية ـ لا يُدركه إلا المؤمن العاقل المتبصر(4) .
    3- إن عدم الاتفاق على مبدأ الجهاد كسبيل للتمكين وإعلاء كلمة الله في الأرض، يستلزم بالضرورة تسليم الأعناق وجميع الحرمات إلى رحمة وسيوف الكفار الذين لا يرقبون في المؤمنين إلاًّ ولا ذمة.
    قال تعالى: {كيف إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة}(5) . أي لا يُراعون فيكم قرابة ورحم، ولا عهداً قطعوه لكم.
    وهم لا يزالون يُقاتلون المسلمين حتى يفتنونهم عن دينهم إن استطاعوا، كما قال تعالى: {ولا يزالون يُقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا}(6) . وقال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملّتهم}(7) .
    فلو سالمتهم يا مسلم فهم لا يُسالمونك إلا بشرط التخلي عن دينك، وكم هي الأحداث ـ في الماضي والحاضر ـ التي تؤكد على صحة ذلك، وما يجري اليوم لمسلمي البوسنة والهرسك وغيرها من البلدان لأكبر شاهد على ما نقول.
    ولن أنسى تلك المرأة من مسلمات البوسنة ـ وقد رُوعت بقتل زوجها وأطفالها ـ وهي تقول: ظللنا نتكلم أن الإسلام دين سلام.. دين سلام.. حتى ذبحونا من الوريد إلى الوريد!!.
    فهل نعتبر أم ننتظر مزيداً من الانتهاكات لحرمات وأعراض المسلمين..؟!.
    4- الجهاد في سبيل الله طريق الطائفة الناجية المرضية المنصورة، حيث يُعتبر من أخص خصائصهم ومن أبرز ما يتميزون به عن غيرهم..
    قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يُحبهم ويُحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يُجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يُؤتيه من يشاء والله واسع عليم}(1). فالجهاد في سبيل الله مِنة وفضل وتوفيق يتفضل الله به على من يشاء من عباده.
    وفي الحديث فقد صحَّ عن النبي
    e أنه قال: (لن يبرح هذا الدين قائماً يُقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة)(2) .
    وقال
    e: (لا تزال طائفةٌ من أمتي يُقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)(2).
    وقال
    e: (لا تزال طائفة من أمتي يُقاتلون على الحق، ظاهرين على من ناوأهم حتى يُقاتل آخرُهم المسيح الدجال)(3) .
    وعن سلمة بن نفيل الكندي، قال: كنت جالساً عند رسول الله
    e، فقال رجل: يا رسول الله، أذال النّاس الخيل(4) ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها! فأقبل رسول الله e بوجهه وقال: (كذبوا، الآن، الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يُقاتلون على الحق ويُزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم، حتى تقوم الساعة، وحتى يأتيَ وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)(5) .
    وقال
    e: (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة)(6) .
    وبعد، فهذا هو طريق الطائفة المنصورة الناجية المرضية، فهل يحسن بنا ـ ونحن ننشد الحق ـ أن نتنكب طريقهم ونلتمس طرقاً أخرى ما أنزل الله بها من سلطان..؟!.
    لأجل هذه الأوجه مجتمعة ـ وواحد منها يكفي ـ نُقرر أن الجهاد هو الطريق الوحيد للنصر والتمكين وإعلاء كلمة الله في الأرض، وهو السبيل الذي يجب على الأمة أن تجتمع وتتفق عليه.
    وبالتالي فإن السبل الأخرى ـ المطروحة على الساحة ـ أكثرها غير شرعية فضلاً عن أن تحقق غايةً ونصراً للإسلام والمسلمين، وبخاصة السبل التي يكون من منهاجها السير في اللعبة الديمقراطية والمشاركة في المجالس النيابية والشعبية، التي تفضي بأصحابها إلى مُسالمة ومُعايشة طواغيت الكفر والظلم على كفرهم وظلمهم..
    فهذه سبل باطلة غير شرعية ـ يترتب عليها مزالق شرعية وعقدية لا تُحمد عُقباها ـ لا يجوز للمسلمين أن يسلكوها وينشدوا النصر والتمكين من خلالها، والمسألة قد أفردنا لها كتاباً مستقلاً لمن يُريد التفصيل أو الدليل(7) .
    أما الطرق الثانية التي تتبناها بعض المدارس الإسلامية المعاصرة، كطريق التربية أو التصفية والتربية، وطريق طلب العلم، وطريق الاهتمام بالسياسة وفقه الواقع والفِرَق وغيرها من الطرق، نقول فيها: هذه الطرق جميعها تصب في خانة الإعداد الشرعي الذي يُعتبر من لوازم الجهاد في سبيل الله، فالتصفية والتربية هي من الإعداد اللازم ولكن لا يجوز أن نعتبرها سبيلاً للتغيير والنصر والتمكين في الأرض.
    وكذلك طلب العلم والطرق الأخرى فهي من الإعداد اللازم، ولكن لا يجوز اعتبارها سبيلاً للتغيير والتمكين، وقِيام خلافة راشدة.
    ولا أدل على ذلك من جيل الصحابة الأول، الجيل الأول في تربيته وزهده، وعلمه وفقهه، الأول في دِرايته للواقع وما يدور حولهم.. ومع ذلك لم يكن يُغنيهم عن الجهاد في سبيل الله، أو يُبرر لهم التخلف عن الغزو في سبيل الله وخوض غماره.
    بل من هو أسمى وأفضل من الصحابة أجمعين، محمد
    e، وعلى ما أُوتيه من خير وفضل، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.. كلّ ذلك لم يكن مُبرراً له e للقعود عن الجهاد في سبيل الله، بل كان أول الأوائل في الجهاد، يحتمي به الأبطال الصناديد إذا ما حميَ الوطيس، وقد صحَّ عنه e أنه قال: (والذي نفس محمد بيده لولا أن يُشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبداً، ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني، والذي نفس محمد بيده لوددت أني أغزو في سبيل الله فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل، ثم أغزو فأُقتل)(1) .
    وقال
    e: ( لأَنْ اُقتل في سبيل الله، أحبُّ إليَّ من أن يكون لي أهلُ الوبَرِ والمدَرِ)(2) .
    فأين مسلمي اليوم من هذه المعنويات العالية والحب العظيم للجهاد والاستشهاد في سبيل الله، بل من يُلحظ عنده أدنى حماس للجهاد في سبيل الله سُرعان ما يُنظر إليه نظرة ازدراء واستهجان وتهكم، وعلى أنه من المتهورين وممن يلقون بأنفسهم في التهلكة..!!.
    ثم أين طُلاب السنّة وحُراسها من ذلك، حيث نرى كثيراً منهم يتحرون دقائق السنّة في صغائر الأمور ـ وهذا حق ـ ثم هم في المقابل يتغافلون ـ رهبةً أو رغبةً ـ عن سنّة بل فريضة الجهاد في سبيل الله التي تكاد أن تكون غائبة وكأنها ليست من الدين، إلى درجة أنهم لا يُحدثون أنفسهم ولا الآخرين بها..!!.

    تنبيهات ضرورية:

    حتى لا يُفهم كلامنا خطأ ويُحمل على غير الوجه الذي نُريد نُسجل التنبيهات التالية:ـ
    التنبيه الأول: مما يدخل في مسمى الجهاد في سبيل الله الجهاد بالمال والبيان، فربَّ كلمة حق ينطق بها المؤمن ـ في أجواء الجور والنفاق ـ عند سلطان جائر كافر تعدل ضرب السيوف وتزيد، كما في الحديث: (سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجلٌ قام إلى إمامٍ جائرٍ فأمره ونهاه فقتله)(3). وقال e: (إنَّ المؤمن يُجاهد بسيفه ولسانه)(4) .
    ولكن أفضل الجهاد والمجاهدين كما قال سيد المجاهدين
    e: (أفضل الجهاد مَن عُقِرَ جواده وأُهريق دمه)(5) .
    وقيل يا رسول الله أي النّاس أفضل، فقال: (مؤمنٌ يُجاهد في سبيل الله بنفسه وماله)(6) .
    التنبيه الثاني: قولنا بأن الجهاد في سبيل الله هو السبيل للنصر والتمكين والاستخلاف، لا يستلزم منه ولا يُفهم إهمال بقية الوسائل الشرعية الأخرى كالدعوة والتبليغ، والتربية والتزكية، وطلب العلم تعلماً وتعليماً، وبناء شريحة عريضة من النّاس تُطالب بوعي وعلم بالإسلام.. فهذه من الأمور الضرورية التي تدخل في مسمى الإعداد بمفهومه العام الذي يعتبر من المقدمات الضرورية للجهاد في سبيل الله.
    لكن أخص ما يدخل في مسمى الإعداد الإعداد المادي الذي يرهب العدو الكافر، كما قال تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل تُرهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال : 60].
    وفي صحيح مسلم، عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله
    e وهو على المنبر يقول: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} ألا إن القوة الرمي، ألا أنَّ القوة الرمي، ألا أنَّ القوة الرمي).
    وقال
    e: (من علم الرمي ثم تركه فليس منا أو قد عصى)(1) .
    التنبيه الثالث: قولنا بالجهاد في سبيل الله.. لا ينبغي أن يُفهم منه الفوضى والتصرف الفردي غير المسؤول، أو استعجال القتال قبل مقدماته الضرورية، فمن تعجل شيئاً قبل أوانه عُوقب بحرمانه.
    التنبيه الرابع: الجهاد في سبيل الله كبقية العبادات يشترط له الاستطاعة، فإذا انتفت الاستطاعة وتحقق العجز رُفع التكليف؛ لأن الله تعالى لا يُكلف نفساً إلا وسعها.
    لكن هذا العجز لا ينبغي أن يُقعد المؤمن عن الإعداد للجهاد قدر استطاعته، فالمؤمن إما أنه يُجاهد في سبيل الله، أو يعد عدته، فالميسور لا يسقط بالمعسور.
    قال ابن تيمية: يجب الاستعداد للجهاد بإعداد القوة ورباط الخيل في وقت سقوطه للعجز، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(2) .
    التنبيه الخامس: شُرع الجهاد في سبيل الله لدفع المفاسد وجلب المصالح ـ وأعظم المفاسد الشرك، وأنفع المصالح وأفضلها التوحيد ـ ومتى يكون الأمر على خلاف ذلك لا يشرع الجهاد، وهو كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث يجب تقدير المصالح والمفاسد ـ وِفق ميزان الشرع ـ عند الإقدام أوالإحجام.
    التنبيه السادس: فشل المجاهدين في موقعة من المواقع أو مرحلة من المراحل لأسباب قد تكون من عند أنفسهم، لا يستلزم اعتبار طريق الجهاد في سبيل الله فاشلاً كما لا يستلزم استعداء الجهاد والمجاهدين كما وقع في ذلك بعض الدعاة المعاصرين، وتذرعوا بواقع بعض الحركات الجهادية في زماننا المعاصر!!.
    أقول: هذا تجنٍّ وظلم ومُجاوزة للحق والإنصاف، فخطأ خالد بن الوليد رضي الله عنه عندما قتل أولئك الذين قالوا له صبأنا، وكانوا يُريدون أن يقولوا أسلمنا فأخطأوا التعبير، لم يستدعِ النبي
    e إلى أن يتبرأ من الجهاد في سبيل الله، ومن خالد ومَن معه، وإنما تبرأ من صنيع خالد الذي أخطأ فيه تحديداً ولم يتجاوزه، وقال: اللهم إني أبرؤ إليك مما صنع خالد ثلاثاً. والشواهد من السيرة النبوية كثيرة التي تُدلل على مثل هذا الفقه والإنصاف، ونحن لنا في رسول الله أسوة حسنة.
    وفي الختام: أعود وأُذكِّر أن هذه النقاط الست الآنفة الذكر لابد من مُراعاتها والأخذ بها عند القيام بأي عمل جادٍ يستهدف جمع الطاقات وتوحيد كلمة المسلمين، وإلا فإنَّ دعوة توحيد الكلمة والجهود ستبقى زعماً تلوكها الألسن لا واقع ولا أثر لها في حياة الأمة والمسلمين.
    أسأل الله تعالى أن يُلهمنا رشدنا، والإخلاص في القول والعمل، وأن يُوحِّد كلمة المسلمين على ما يُحبه ويرضاه، فالأمر له من قبل ومن بعد، إنه تعالى سميع قريب مجيب. وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.
    ?عبد المنعم مصطفى حليمة


    التعديل الأخير تم بواسطة أم عبد الرحمن .; الساعة 17-11-2013, 12:58 AM.

  • #2
    رد: تنبيه الدعاة

    جزاكم الله خيرا كثيرا
    نسال الله ان ينفع بكم ويجعله في ميزان حسناتكم
    " حَسبُنا الله سَيُؤتِينا الله مِن فضْلِه إنّا إلَى الله رَآغِبُونَ"
    يقول عن هذه الآية الشيخ / صآلح المغآمسي ..إنها دُعــآء المُعجِزات، ويقول: والله متى ما دعوت الله بصدق وكنت في مأزق إلا وجاء الفرج من حيث لا أعلم،، وقال ابن باز رحمه الله: مادعوت بهذا الدعاء بعد التشهد الأخير. في أمر عسير إلا تيسّر

    تعليق


    • #3
      رد: تنبيه الدعاة

      باارك الله فيكم ونفع بكم

      جعله الله في ميزان حسناتكم .
      القمم .. لأهل الهمم ، ومن هجر الرقاد سبق العباد

      ----
      من نذر نفسه لخدمة دين الله سيعيش متعبًا ولكن سيحيا كبيرًا؛
      فالحياة في سبيل الله أصعب من الموت في سبيل الله .
      ________

      خاب وخسر من أبتعد عن خدمة دين الله .






      تعليق


      • #4
        رد: تنبيه الدعاة

        جزاكم الله خيرًا ... ونفع الله بكم ،،،

        تعليق

        يعمل...
        X