آداب يتحلى بها الداعية والباحث ومبادئ يلتزم بها..
الشيخ/عبد المجيد الشاذلي
أول ما يتحلى به الداعية إلى الله هو التعبير المهذب وألا يتناول مخالفه في الرأي بالتجهيل والتسفيه والتنقص أو التهكم والاستخفاف... وإنما المعالجة العلمية الموضوعية.. وإذا أصابه شيء من ذلك فلا يقابله بالمثل؛ وإنما يدفع بالتي هي أحسن، ولا يسمح للطرف الآخر أن يستدرجه إلى المهاترات ويخرجه عن سمته وهديه، يقول ربنا عز وجل:(( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [النحل : 125] ((، ( ولَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت : 34]) ، هذا مع ثباته على الحق وألا يخشى فيه لومة لائم، وألا يجامل فيه أحدا:(( وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9) )، وأن يعرف للناس أقدارهم وينزلهم منازلهم.. يقول الإمام الشاطبي في ”الموافقات“ وكذلك في ”الاعتصام“ نقلًا عن الإمام الغزالي: «أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال. ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها».
ترك المراء والتزام البيان لمن يقدر عليه:
يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم: «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحًا، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه»
الراوي: أبو أمامة الباهلي - المحدث: النووي - المصدر: تحقيق رياض الصالحين - الصفحة أو الرقم: 264
خلاصة حكم المحدث: صحيح
والأحاديث في ذلك كثيرة.
يقول الإمام الشاطبي في ”الاعتصام“ في صفة أهل البدع والأهواء:
«أما الخاصية الثانية فراجعة إلى العلماء الراسخين في العلم؛ لأن معرفة المحكم والمتشابه راجع إليهم فهم يعرفونها ويعرفون أهلها. ولكن له علاقة ظاهرة أيضًا نبه عليها الحديث الذي فسرت به الآية قال فيه: «فإذا رأيتم الذين يجادولون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم»، فجعل من شأن المتبع للمتشابه أن يجادل فيه ويقيم النزاع على الإيمان، وسبب ذلك أن الزائغ المتبع لما تشابه من الدليل لا يزال في ريب وشك؛ إذ المتشابه لا يعطي بيانًا شافيًا، ولا يقف منه متبعه على حقيقة. فاتباع الهوى يلجئه إلى التمسك به، والنظر فيه لا يتخلص له، فهو على شك أبدًا. وبذلك يفارق الراسخ في العلم، لأن جداله إن افتقر إليه فهو في مواقع الإشكال العارض طلبًا لإزالتها، فسرعان ما يزول إذا بين له موضع النظر، وأما ذو الزيغ فإن هواه لا يخليه إلى طرح المتشابه، فلا يزال في جدال عليه وطلب لتأويله، ويدل على ذلك أن الآية نزلت في شأن نصارى نجران وقصدهم أن يناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيسى ابن مريم عليه السلام مستدلين بأمور متشابهات من قوله "فعلنا " و"خلقنا " وهذا كلام الجماعة، ومن أنه يبريء الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. ولم ينظروا إلى أصله ونشأته بعد أن لم يكن، وكونه كسائر بني آدم يأكل ويشرب وتلحقه الآفات والأمراض والحاصل أنهم إنما أتوا المناظرة لا يقصدون اتباع الحق، والجدال على هذا الوجه لا ينقطع، ولذلك لما بين لهم الحق ولم يرجعوا إليه دعوا إلى أمر آخر خافوا منه الهلكة فكفوا عنه وهو المباهلة وهو قوله تعالى((فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)) (آل عمران:61) )، وشأن هذا الجدال أنه شاغل عن ذكر الله ـ من غير فائدة ـ كالنرد وغيره».
ما ذكره الشاطبي واقع ومشاهد؛ فإن المحاجة وإقامة الأدلة لها طرق ومسارات تصل بصاحبها إلى الحق، وتكشف وجه المسألة من أقرب طريق. فإذا تجاوز الحوار هذا الحد خرج إلى حكايات وأمثلة وأرأيتيات وتفريعات لا تنضبط بقواعد محكمة، ولا يحدها تسلسل منطقي في الاستدلال يصل بها إلى قرار. فتدور المحاورات في حلقات مفرغة، وتتفرع إلى مضايق ومنزلقات ومتاهات يتمزق معها الموضوع. والسبب هو ترك الأمور المحكمة إلى متشابهات الأدلة وما ليس من الأدلة أيضًا، وهذا أمر لا يمكن أن يفضي إلى يقين.
وعلى النقيض من ذلك ما حكاه الشاطبي عن طائفة أخرى من أهل البدع، وهم أهل البدع العملية، من هربهم من المناظرة في حجية ما هم عليه يقول: «على أن أرباب البدع العملية أكثرهم لا يحبون أن يناظروا أحدًا.... فيما يفعلون خوفًا من الفضيحة ألا يجدوا مستندًا شرعيًا»، إلى آخر كلامه.
وهذا المسلك أيضًا واقع ومشاهد؛ فكثير من الناس عندما تسأله عن حجته في أمر يقوله أو يفعله يقول لك نهينا عن الجدل.. وهذه أمور وجدانية ترجع إلى الذوق.. واستفت قلبك.. وما إلى ذلك. وهذان الطرفان ينبغي ألا يسلكهما الداعي إلى الله بل عليه أن يبين للناس حجة ما يقول ويفعل وما هو عليه من أمور دعوته بالدليل والبرهان وبالطرق السليمة للاستدلال بعيدًا عن الخصومات الجدلية التي غالبًا ما تقوم على المغالبات والمغالطات، وإذا حققتها بالأسلوب العلمي بهدوء وتحقيق وجدتها مليئة بالثغرات. فإذا لم يكن من أهل الاستدلال أحالهم على ما يستبينون به الحق من كتب أو رسائل أو إلى من يقدر على البيان. فإذا ما انتهت الاستدلالات وتبينت أوجه النظر في الموضوع، انتهى الحوار، لأن الاستمرار فيه بعد ذلك جدل ومراء نهينا عنه شرعًا.
هامش:
جاء في مسند الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها: تلا رسول الله هذه الآية: ((هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) (آل عمران:7) الآية، « فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله عز وجل، فاحذروهم»، قال الأرنؤوط: حديث صحيح.
تعليق