من مقومات الداعية الناجح.. المراعاة والتدرج
د. علي عمر بادحدح
المصدر: كتاب مقومات الداعية الناجح للدكتور بادحدح.
إن تغيير النفوس ونقلها من ميولها ومألوفاتها أمر ليس سهلاً، وإن الأعراف التي استقرت في العقول وتواطأ الناس عليها لا تتغير بأمر يصدر أو دعوة توجَّه، والعادات في السلوكيات التي تجذرت وترسخت لا يتصور اقتلاعها في يوم وليلة ولذا فلا بد من إدراك حقيقة مهمة للدعاة وهي أن المراعاة والتدرج لازمان للتغيير وحصول الاستجابة، وكما قيل: ((إذا أردت أن تطالع فأمر بما يستطاع))، وهناك أمور كثيرة يلزم مراعاتها والأخذ بالتدرج فيها وهذه خلاصة نافعة في هذا الباب:-
أولا: مراعاة الطبائع:
إن الناس يختلف بعضهم عن بعض، في علمهم وفهمهم وطبائعهم الشخصية وعوائدهم الاجتماعية، وكل ذلك يحتاج الداعية إلى مراعاته، وبالنسبة لطبائع الأشخاص فإن المدعوين على ثلاثة أنواع:
1- فمنهم الراغب في الخير ولكنه غافل قليل البصيرة فيحتاج على دعوته بالحكمة.
2- ومنهم المعرض عن الحق المشتغل بغيره فمثل هذا يحتاج إلى الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب التنبيه على ما في التمسك بالحق من المصالح العاجلة والآجلة، وعلى ما في خلافه من الشقاء والفساد.
3- الطبقة الثالثة من الناس من له شبهة قد حالت بينه وبين فهم الحق والانقياد له فهذا يحتاج إلى مناقشة وجدال بالتي هي أحسن حتى يفهم الحق وتنزاح عنه الشبهة (مجموع فتاوى ابن باز(2/241-243)
ومن الناس من طبعه الحدة وسرعة الانفعال، ومنهم من يميل إلى السكينة وطول البال وكل له مدخل وأسلوب يناسبه ومراعاة ذلك مهمة في نجاح الداعية.
ثانياً: مراعاة الأفهام:
تفاوت الأفهام أمر معروف، وله أسبابه من قلة العلم أو اختلاف البيئة، أو استحكام العوائد ونحو ذلك.
قال ابن كثير في تفسيره عند قوله تعالى: "فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَىٰ"الأعلى:9: أي ((ذكر حيث تنفع التذكرة، ومن هنا الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله)) تفسير ابن كثير (4/500)، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم ((يا عائشة لو لا أن قومك حديث عهدهم – قال ابن الزبير: بكفر- لنقضت الكعبة فجعلت لها بابين، باب يدخل الناس وباب يخرجون)) أخرجه البخاري، في كتاب العلم، باب ترك بعض الأخبار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس (الفتح)(1/223)، قال ابن حجر في الفتح: ((ويستفاد منه ترك المصلحة لأمن الوقوع في المفسدة، ومنه ترك إنكار المنكر خشية الوقوع في أنكر منه، وأنّ الإمام يسوس رعيته بما فيه إصلاحهم ولو كان مفضولاً ما لم يكن محرّماً)) الفتح لابن حجر(1/225).
وروى الإمام البخاري في صحيحه، في كتاب العلم، باب من خصَّ بالعلم قوماً دون قوم كراهية ألاَّ يفهموا، عن علي بن أبي طالب قال: "حدِّثوا الناس بما يعرفون، ودعوا ما ينكرون، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟" صحيح البخاري، كتاب العلم. وروى مسلم ابن مسعود: ((ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) أخرجه مسلم في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع (1/11).
قال ابن حجر: ((ممن كره التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي في ظاهرها الخروج على السُّلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب.
وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب والله أعلم)) فتح الباري (1/225).
ولذا ينبغي للداعية مراعاة ذلك وعدم مخالفته سيما بالنسبة للعوام، ومن تقصر بهم الأفهام، وقد عدَّ الشاطبي في الاعتصام هذا التجاوز ضرباً من الابتداع فقال: ((ومن ذلك التحدث مع العوام بما لا تفهمه ولا تعقل معناه، فإنه من باب وضع الحكمة في غير موضعها، وسامعها إما أن يفهمها على غير وجهها- وهو الغالب- وهي فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق، والعمل بالباطل، وإما لا يفهم منها شيئاً وهو أسلم)) الاعتصام (2/13).
وأوضح ذلك أيضاً في موافقاته ومثل له بأمثلة من إنكار الصحابة لذلك فقال: ((ومن ذلك سؤال العوام عن علل مسائل الفقه وحكم التشريعات، وإن كان لها علل صحيحة وحكم مستقيمة، ولذلك أنكرت عائشة على من قالت: لم تقضي الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة ؟ وقالت لها: أحرورية أنت ؟، وقد ضرب عمر بن الخطاب صبيغاً لما كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل وربما أوقع خيالاً وفتنة وإن كان صحيحاً)) الموفقات (4/191).
وهذه كلمات للشاطبي أضعها أمام عين كل داعية وأهتف بها في سمعه ليعلم أنه ((ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره إن كان من علم الشريعة ومما يفيد علما بالأحكام، بل ذلك ينقسم: فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أولا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص)) الموفقات (4/189).
وأزيد الأمر وضوحاً بذكر القاعدة الضابطة الرائعة التي ذكرها الشاطبي وأرشد إليها مخاطباً كل عالم وداعية حيث أوصاه أن يعرض مسألته على الشريعة فقال: ((فإن صحت في ميزانها فانظر في ماَلها بالنسبة إلى حال الزمن وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة، فاعرضها في ذهنك على العقول فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تتقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على المصلحة الشرعية والعقلية))الموفقات (4/191).
ثالثاً: مراعاة المقاصد والنيات:
قد يتفق اثنان في عمل ما ومع ذلك يختلف الحكم عليهما باختلاف النوايا، فهناك من يفعل الفعل ناسياً، أو جاهلاً بحرمته، أو متأولاً فيه، أو مكرها عليه ولكلٍ حكمه ومنهم من يفعل الإثم قاصداً عالماً بالحرمة لكنه مغلوب بضعف عزمه، ووسوسة شيطانه فلا يلبث أن يندم ويتوب ويستغفر، ومنهم قاصد مصرّ، وآخر محادٌّ لله ورسوله وهكذا، ونحن نعلم أن النوايا مخفية في طوايا القلوب، ولكن بعض القرائن والأحوال تدل عليها، وقد تصرح بها الألسنة فتعرف بوضوح.
وفي المسائل الفقهية ما يوضح هذا المعنى سيما في أحكام الطلاق والأيمان والنذور إذ يسأل أصحابها عن مقاصدهم وما نووا بكلامهم، ويعول في الحكم على نواياهم ويوكل أصحابها في صدقهم إلى تدينهم لله، وما يعرف عنهم من قرائن وأحوال ولنا الظواهر. ومراعاة مثل هذا من الأمور التي لا ينبغي إهمالها كما قال ابن القيم: ((إياك أن تهمل قصد المتكلم ونيته وعرفه فتجني عليه وعلى الشريعة، وتنسب إليها ما هي بريئة منه)). ومن أبز الأمثلة على اعتبار النيات حديث التائب الذي قال ((اللهم أنت عبدي وأنا ربك)) أخطأ من شدة الفرح (أخرجه مسلم، في كتاب التوبة، باب في الحض على التوبة والفرح بها (عبد الباقي)(4/2103) فلم يؤاخذ بذلك، ومثله حديث مسلم في قصة الرجل الذي أوصى أن يحرق ويذرّ رماده في البر والبحر خشية من عذاب الله، فغفر الله له لهذا المقصد الذي استولى على قلبه (أخرجه مسلم، في كتاب التوبة، باب سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه (عبد الباقي)(4/2109).
رابعاً: مراعاة الأحوال الخاصة:
سئل النبي صلى الله عليه وسلم الوصية والنصيحة من بعض أصحابه فقال لأحدهم: ((لا تغضب)) أخرجه البخاري، في كتاب الأدب، باب الحذر من الغضب (الفتح)(10/535)، وقال لآخر: ((قل آمنت بالله ثم استقم)) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب جامع أوصاف الإسلام (عبد الباقي)(1/65)،وقال للثالث: ((لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)) أخرجه الترمذي في كتاب الدعوات، باب ما جاء في فضل الذكر (شاكر) (5/427) وما ذلك الاختلاف في الجواب إلا مراعاة منه صلى الله عليه وسلم للأحوال الخاصة بالسائلين إذ كان يعلم حاجة كل واحد منهم والجانب القاصر عنده، والأمر اللائق به، فأوصى كل واحد بما يناسبه.
وجاء شاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله ((أقبل وأنا صائم ؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: أقبّل وأنا صائم ؟ فقال: نعم، فنظر الصحابة بعضهم إلى بعض (أي متعجبين من اختلاف الفتوى) فقال صلى الله عليه وسلم: قد علمت نظر بعضكم إلى بعض إن الشيخ يملك نفسه)) مسند الإمام أحمد (2/185)، وهذا واضح الدلالة في التفريق بين حال الشيخ وحال الشاب ومراعاة ذلك في الفتوى والمعاملة والتوجيه.
خامساً: مراعاة الأعراف والعوائد العامة:
إن كل بلد لها أعرافها وكل بيئة لها عوائدها، ومراعاة ذلك بالضوابط الشرعية، من ضروب الحكمة وموافقة جوهر الشريعة، وقد امتن الله على البشر بإرسال الرسل وخص بالمنة كون الرسل من البشر وامتن على الأقوام بأن جعل الرسل منهم وينطقون بألسنتهم، فقال تعالى:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ " [إبراهيم [4] فهذا ((من لطفه تعالى بخلقه أن يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به)) تفسير ابن كثير(2/522)،
ولذا ينبغي لداعية التنبه بذلك، الحرص على معرفة الأعراف والعوائد في البيئة التي يدعو إليها لتكون دعوته مؤثرة في النفوس، مقنعة للعقول، محببة للقلوب، مناسبة للظروف، قابلة للتطبيق فإذا جاء في بيئة يغلب عليها الفقر ويشيع فيها الكسل فإن المطالبة بالزهد في الدنيا والترفع عن شهواتها غير مناسب للبيئة وأحوال الناس، وإذا دعا قوماً فاضت الأموال في أيديهم وشغلت الدنيا أوقاتهم فالحديث عن ضرورة التمتع بالمباح من الدنيا والحث على ذلك غير ملائم كذلك، كما لا ينبغي أن يطول الحديث في الإنكار على أمور لا وجود لها في بيئة الدعوة إذ لا نفع في ذلك، بل ربما ترتب عليه ضرر من حصول تشويش واضطراب أو حصول تطلع وافتتان بتلك الأمور.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين منبهاً على هذا الموضوع: ((ولا تَجمد على المنقول في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك فلا تجره على عرف بلدك، وسله عن عرف بلده فأجره عليه وأفته به دون عرف بلدك والمذكور في كتبك)) إعلام الموقعين (3/78)، ثم بين أثر ذلك وضرره فقال ك ((ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم بل هذا الطبيب وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم)) إعلام الموقعين (3/78).
وضرب ابن تيمية لذلك مثالاً علمياً فقال: ((ولو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم (أي الكفار) في الهدي الظاهر لما عليه في ذلك من الضرر بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم أو دفع ضررهم عن المسلمين ونحو ذلك من المقاصد الصالحة)) اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية (ص: 173).
يتبع بإذن الله
تعليق