إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله



    خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله
    من كتاب خصيصة التدرج في الدعوة إلى الله (فقه التدرج ) لد/ أمين الدميري
    موقع الألوكة



    عناصر السلسلة
    (1) التدرج سنة إلهية في جميع الرسالات السماوية #2
    (2) فقه التدرج في دعوة نوح -عليه السلام- #3
    (3) فقه التدرج في عوة إبراهيم -عليه السلام- #4
    (4) فقه التدرج في دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- #5
    (5) الأثر الدعوي لخصيصة التدرج #6


    التعديل الأخير تم بواسطة بذور الزهور; الساعة 28-03-2018, 10:04 PM.

    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
    وتولني فيمن توليت"

    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36


  • #2

    (1) التدرج سنة إلهية في جميع الرسالات السماوية

    تمهيد:

    إن التدرج سنةٌ ربَّانية إلهية في جميع الرسالات منذ نوح عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين، ولا عجبَ في ذلك؛ فإن جميع الرسالات جاءت من عند اللهِ الواحد الأحد، وجميعُ الرسل أرسَلهم الله تعالى ليُبلِّغوا للخلقِ رسالة واحدة، هي الإسلام، وليأمروا الناس بعبادةِ الله وحده لا شريك له، ونَبْذ عبادة الأصنام والأنداد، سواء كانت بشرية أو خشبية أو حجرية، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36].


    ويبدأ الرسولُ صلى الله عليه وسلم دعوتَه إلى توحيد الله تعالى باللِّين وبالرفق،
    ويُقِيم الأدلة والبراهين، ويدعو بالترغيب قبل الترهيب، ثم ما يلبَثُ الملأُ أصحابُ المصالح الدنيوية بالتكذيب وإلقاء الاتهامات، وقيادة حملات التشكيك والطعن في بشرية الرسول، أو في صدقه، أو في نبل الغاية التي جاء لأجلها، فهذا رسولٌ يُتَّهَم بأنه في ضلال مبين، وهو نوح عليه السلام ﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60].

    وآخر يُتَّهم بالسفاهة والكذب، وهو هود عليه السلام ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ﴾ [الأعراف: 66]، وهؤلاء الملأ كما هم في كل عصر ومصر، يتَّهِمون موسى عليه السلام بأنه ساحر
    ﴿ قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 109]، كما اتَّهموا خاتم الأنبياء والمرسلين محمدًا صلى الله عليه وسلم بالجنون ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ﴾ [القلم: 51].

    ومع هذا يواجِهُ الرسلُ صلوات الله عليهم أجمعين هذه الاتهاماتِ بالصبر وباللين وسَعة الصدر، والأمل في الهداية، وكلُّ هذا بتوجيهٍ من الله عز وجل.
    يقول - عز وجل - لموسى عليه السلام حينما بعَثه إلى فرعون: ﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [طه: 43، 44].

    ويأمر ربنا - عز وجل - نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالصبر في قوله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ﴾ [ق: 39].


    ومع استمرار الدعوة وإقامة الحجة لا بد أن تأتي سُنَّة الله سبحانه، وهي الانتقام من المجرمين،
    ونجاة المؤمنين، ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ﴾ [الأنفال: 42].
    فهذا نوح عليه السلام الذي بدأ دعوته بالرفق واللين والترغيب، وظلَّ يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، ولَمَّا يئِس من إيمان قومه دعا عليهم ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴾ [القمر: 10 - 13]، وأُهلِكوا بالغرق.


    وهذا موسى عليه السلام الذي سلك مع فرعون وقومِه أسلوبَ اللين وسَعة الصدر، ومواجهة الإساءة بالإحسان في بادئ الأمر، إذا به عليه السلام في نهاية المطاف يقول لفرعون: ﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ﴾ [الإسراء: 102]؛
    أي هالكًا خاسرًا[1]، ودعا موسى عليه السلام على فرعون وملئِه: ﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ [يونس: 88]، وأُهلِكوا كذلك بالغرق.


    وهذا التدرُّج في سير الدعوة عامٌّ في جميع الرسالات، ما عدا الرسالة الخاتمة؛
    إذ إن نبيَّها عليه الصلاة والسلام رحمة للعالَمين، فلم يَدْعُ على قومِه بالهلاك، بل دعا الله تعالى بالهداية لقومِه، كما دعا الله تعالى أن يُخرِجَ من أصلاب المكذِّبين به مَن يعبدُ الله ولا يشرك به شيئًا، واختار أن يصبرَ على قومِه ويدعوهم يومًا بيوم، كما سأبين ذلك بعون الله.

    كانت مشيئة الله تعالى وقضاؤه لأمة خاتم الأنبياء والمرسلين ألا يكون عذابُها استئصالاً، بل هو عذاب من نوعٍ آخر مستمر إلى يوم القيامة طالما أن المسلمين ليسوا على منهج الدين القويم، جاء ذلك في قوله تعالى:
    ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 65].


    ذكر الرازي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما: لَمَّا نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية، شق ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: ((ما بقاء أمتي إن عوملوا بذلك؟))، فقال جبريل: ((إنما أنا عبدٌ مثلك، فادعُ ربَّك لأمتك))، فسأل ربه ألا يفعل بهم ذلك، فقال جبريل: ((إن الله قد أمَّنهم من خصلتين: ألا يبعث عليهم عذابًا من فوقِهم كما بعثه على قوم نوح ولوط، ولا من تحت أرجلهم كما خسف بقارون، ولم يُجِرْهم من أن يَلْبِسَهم شيعًا بالأهواء المختلفة، ويُذِيق بعضهم بأس بعض بالسيف))[2].


    قلت: وهذا الحال لا يخفى على أحد، ولعلنا - معاشرَ المسلمين - ننتبه كي يرفع عنا الله تعالى هذا العذاب، ونجتمع على الإسلام، ونعتصم بحبل الله تعالى، ونترك الأهواء، ونتجرَّد لله عز وجل.
    إن الذنوب والمعاصي هي سبب البلاء، فما من مصيبةٍ إلا بذنب، ولا تُرفَع إلا بتوبة، قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30]، وقال - عز وجل -: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 79].


    يقول ابن كثير - رحمه الله -:
    ﴿ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾؛ أي: فمِن قِبَلِك، ومن عملك، والخطاب للرسول، والمراد جنس الإنسان[3].
    كذلك ومما تجدر الإشارة إليه أن الكفر وحدَه ليس سببًا للهلاك أو العذاب، إلا أن يضاف إليه الظلم والفساد، نجد ذلك في قوله تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116].


    يقول الرازي - رحمه الله -:
    "اعلم أنه تعالى لَمَّا بيَّن أن الأمم المتقدِّمين حل بهم عذاب الاستئصال، بيَّن أن السبب فيه أمران:

    السبب الأول: أنه ما كان فيهم قوم ينهَون عن الفساد في الأرض، فقال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ ﴾، والمعنى: فهلاَّ كان.
    السبب الثاني: قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ ﴾، والترفه: النعمة، والمُترَف الذي أبطرته النعمة وسَعة المعيشة، وأراد بالذين ظلموا تاركي النهي عن المنكرات؛ أي: لم يهتمُّوا بما هو ركنٌ عظيم من أركان الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، واتَّبعوا طلب الشهوات واللذَّات، واشتغلوا بتحصيل الرياسات، ثم قال تعالى: ﴿ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾"[4]، وهذا علم نفيس، وفهم عميق!

    وجدير بالذكر أيضًا أن ترك النهي عن فعلِ المنكر والتواطؤ على ذلك مما يجلب لعنةَ الله وغضبه، قال تعالى: ﴿ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المائدة: 79].

    هذا، ويَخرُج من العقوبة - ولا ينالهم العذاب - المُصلِحون والناهون عن المنكر، فهم أهل النجاة، وهذه سنة الله تعالى؛ قال - عز وجل -: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]، ولم يقل: صالحون!

    وقال - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 164، 165].
    وحينما يأتي الهلاك، فإنه لا يأتي فجأة، بل تسبقه مراحل وبتدرج حسب سنة الله تعالى في الإهلاك.


    التدرج في الهلاك:
    وسنة الله تعالى تقوم على العدل ورفض الظلم، ومن عدلِه تعالى المطلَقِ أنه لا يُهلِك قومًا إلا بعد تحقُّق المراحل الآتية: الإنذار، ثم الإمهال، ثم الاستدراج، ثم الاستحقاق، ثم الكشف، ثم الميعاد، ثم سنة الإهلاك الفعلي[5].

    نجد ذلك في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأنعام: 42 - 45].


    فنجد الإنذار في قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا ﴾، يقول الرازي: في الآية محذوف، والتقدير: ولقد أرسلنا رسلاً[6]؛ أي: لإنذار قومهم.
    والإمهال في قوله تعالى: ﴿ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ... ﴾.
    ثم الاستدراج في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ﴾ [الأنعام: 44]، وفيها كذلك الكشف والإهلاك الفعلي في بقية الآية ﴿ أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾.
    ونجد سنة الميعاد في قوله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 59].


    ونجد سنة الاستحقاق الفعلي في قوله تعالى: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا ﴾ [الشمس: 14، 15]، فكان التكذيب مضافًا إليه الإفساد والطغيان أسبابًا كافية لاستحقاق العذاب والإهلاك، ونلاحظ تَكرار (الفاء)، والتي تفيد الترتيب والتعقيب؛ لبيان أن العذاب مترتِّب على ما سبقه من فساد وطغيان، كما نجد كذلك سنة الميعاد في قوله تعالى: ﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ﴾ [هود: 65]، ثم سنة الإهلاك الفعلي وعبَّر عنها في سورة الحاقة بقوله تعالى: ﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ﴾ [الحاقة: 5].

    فالتدرج إذًا قانون إلهي، وسنة ربانية في جميع الرسالات؛ كي يقتفي الدعاة أثر الأنبياء والمرسلين في تبليغ الدعوة وإنذار الناس، سالكين مدارج السائرين إلى منازل "العبودية"، فإن الغاية التي من أجلها خَلَقَ الله تعالى الخَلْقَ، وأرسل الرسل، وأنزل الكتب، هي تحقيق العبودية لله - عز وجل - في الأرض، ولن يتحقق ذلك إلا باتباع سبيل النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ خاتم الأنبياء والمرسلين، وقدوة الدعاة والمصلحين، وإمام المتقين والمجاهدين.

    [1] مفاتيح الغيب، جزء10 ص220
    [2] مفاتيح الغيب؛ للإمام الرازي، دار الغد العربي 1412هـ / 1992م، جزء 6 ص359.
    [3] تفسير القرآن العظيم، جزء 1 ص 528 الحلبي.
    [4] مفاتيح الغيب، جزء 8 ص 633.
    [5] قدر الدعوة؛ أ. رفاعي سرور ص 84، مكتبة الحرمين 1992م.
    [6] مفاتيح الغيب، جزء 6 ص311.



    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
    وتولني فيمن توليت"

    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

    تعليق


    • #3


      (2) فقه التدرج في دعوة نوح -عليه السلام-

      تمهيد

      حال الناس قبل دعوة نوح عليه السلام (بيئة الدعوة):
      أرسل الله - عز وجل - نوحًا عليه السلام إلى قومٍ يعبدون الأصنام المتمثِّلة في تماثيل أو أوثان صنعها القوم لأناس صالحين، ولكن الشيطان خطا بهم خطواته، وزيَّن لهم الأمر شيئًا فشيئًا، وسلك معهم سبيلَ التدرج حتى عبَدوا التماثيل التي صنعوها لهؤلاء الرجال الصالحين، وتشبثوا بعد ذلك وأصروا على هذا الصنيع، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا ﴾ [نوح: 23].


      ويشرحُ لنا ابن كثير - رحمه الله تعالى - تلك الخطوات المُوصلة إلى عبادة الأصنام، وأن هذه التماثيل كانت لقومٍ صالحين ورجال مُحبَّبِين إلى الناس، فلما ماتوا عكَفوا حول قبورهم يزورونهم ويتذكَّرون كلامهم الطيب، وبمرور الزمن جاء جيل بعد الجيل الأول زيَّن لهم الشيطان فكرة أن يصنعوا لهم صورًا، ثم تطوَّرت الفكرة إلى أن جعلوا تلك الصور تماثيل ثابتة أبقى من الصور، ثم بعد مجيء أجيال جديدةٍ سلكوا سبيل التطوُّر فعبدوا الأصنام من دون الله.


      يقول ابن كثير - رحمه الله -:
      "إن وَدًّا كان مُحبَّبًا في قومه، فلما مات عكفوا حول قبرِه في أرض بابل، وجزعوا عليه، فلمَّا رأى إبليسُ جزعَهم عليه تشبَّه في صورة إنسان، ثم قال: إني أرى جزعَكم على هذا الرجل، فهل لكم أن أُصوِّر لكم مثلَه فيكون في ناديكم فتذكرونه به؟ قالوا: نعم، فصوَّر لهم مثله، قال: ووضعوه في ناديهم يذكرونه، فلما رأى ما بهم مِن ذِكرِه، قال: هل لكم أن أجعل في منزل كلِّ واحد منكم تمثالاً مثله ليكون له في بيته فتذكرونه؟ قالوا: نعم، قال: فمثَّل لكل أهل بيت تمثالاً مثله، فأقبلوا فجعلوا يذكرونه به، قال: وأدرك أبناؤهم، فجعلوا يرون ما يصنعون به، قال: وتناسلوا ودرَس أمرُ ذكرهم إياه، حتى اتخذوه إلهًا يعبدونه من دون الله"[1].


      وبهذا تعمَّقت جذور الكفر، وتأصَّلت عبادة الأصنام في عقول وقلوب الناس بفعل الإضلال الشيطاني؛ ليتبيَّن لنا أن زرع الأفكار وبناء العقائد أو تغييرها لا يمكن أن يتم فجأة أو دفعة واحدة؛ وإنما يكون على مراحل وبتدرج.
      ولهذا؛ كانت المهمة صعبةً، والظروف قاسية بالنسبة لنوح عليه السلام، فلقد ظل يدعو قومه ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، ومكث بين قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وأستطيع بعون الله تعالى أن أُحدِّد مراحل دعوة نوح عليه السلام موضحًا خصيصة التدرج فيما يلي:

      1- البَدْء بتوحيد الله - عز وجل - ونبذ عبادة الأصنام.
      2- مواجهة الملأ الذين تصدَّوا لدعوته.
      3- طول أمد الدعوة؛ مما استدعى تنويع أساليبها وتدرجها من استعمال الرفق واللين والترغيب، ثم التأنيب والتوبيخ، ومواجهة ذلك منهم بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية، وتعرُّضه للمساومة كي يَطرُدَ المؤمنين الفقراء.
      4- اليأس من إيمانهم بعد إخبار الله تعالى له والدعاء عليهم.
      5- هلاك المكذِّبين.


      مراحل دعوة نوح عليه السلام:

      1- المرحلة الأولى: وهي الدعوة إلى التوحيد:
      سبق أن ذكرتُ أن أرض الدعوة كانت وثنيةً، فالقوم يعبدون عدَّة آلهة، وقد وجدوا على ذلك آباءهم وأجدادهم، حتى كان الآباء يُوصُون أبناءهم بالتمسُّك بعبادة تلك الأصنام وعدم التخلِّي عنها، وعلِم ذلك نوحٌ عليه السلام؛ حيث قال في دعائه: ﴿ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [نوح: 27].
      ذكر الرازي: "وكان الرجل منهم ينطلقُ بابنِه إليه، ويقول: احذر هذا؛ فإنه كذَّاب، وإن أبي أوصاني بمثل هذه الوصية، فيموت الكبير وينشأ الصغير على ذلك"[2].
      ونتجه إلى سورة الأعراف؛ لنتعرَّف على بعض مراحل الدعوة، وأولها الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، قال تعالى: ﴿ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيم ﴾ [الأعراف: 59].


      يقول الرازي: "في الآية فوائد
      1- أنه عليه السلام أمرهم بعبادة الله تعالى.
      2- أنه حكم أن لا إله إلا الله، والمقصود من الكلام الأول إثبات التكليف، والمقصود من الكلام الثاني الإقرار بالتوحيد.
      3- أنه حذَّرهم عذاب يوم عظيم، وهو إما عذاب يوم القيامة، وإما عذاب يوم الطوفان"[3].


      2- المرحلة الثانية: رد الملأ ومواجهتهم:
      لَمَّا دعاهم إلى عبادة الله وحده، وخوَّفهم عذابه، اتَّهموه بالضلال في بداية الأمر ﴿ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ [الأعراف: 60]، واتَّهموه بالجنون كما ورد في سورة المؤمنون ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ ﴾ [المؤمنون: 25]، وفي سورة القمر: ﴿ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ﴾ [القمر: 9].

      واتَّهموه بالكذب كما في قوله تعالى: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27].
      وسخِروا منه كما في قوله تعالى: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ ﴾ [هود: 38].

      هذا بعضُ ما فعله وقاله الملأ،
      ولكن لماذا الملأ هم أعداء الرسل والرسالات؟!
      والجواب قاله المفسرون: "الملأ: الكبراء والسادة الذين جعلوا أنفسهم أضداد الأنبياء... وهم الذين يملؤون صدورَ المجالس، وتمتلئ القلوب من هيبتِهم، وتمتلئ الأبصار من رؤيتهم، وتتوجَّه العيون في المحافل إليهم، وهذه الصفات لا تحصلُ إلا في الرؤساء، وذلك يدلُّ على أن المراد من الملأ الرؤساء والأكابر"[4].
      لَمَّا اتهموه بالضلال قال: ﴿ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ ﴾ [الأعراف: 61]، وما أعظم هذا الردَّ، وما أبلغه!

      يقول الرازي:
      "فكان هذا أبلغَ في عموم السلب، ثم إنه لَمَّا نفى عن نفسه العيب الذي وصفوه به، ووصف نفسَه بأشرف الصفات وأجلِّها، وهو كونُه رسولاً إلى الخلق من رب العالمين، فذكر المقصود من الرسالة، وهو التبليغ والنصيحة ﴿ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ ﴾ [الأعراف: 62]، والفرق بين تبليغ الرسالة وبين النصيحة، هو أن تبليغ الرسالة معناه أن يُعرِّفهم أنواع تكاليف الله وأقسام أوامره ونواهيه، وأما النصيحة، فهي أن يُرغِّبه في الطاعة، ويحذره من المعصية، ويسعى في تقرير ذلك بالترغيب والترهيب بأبلغ الوجوه"[5].

      وهؤلاء الملأ مِن عِليَة القوم وصَفْوة المجتمع، أصحاب المصالح، أعداء الإصلاح - اتَّهموا نوحًا عليه السلام بأنه ما اتَّبعه إلا الفقراء والعوامُّ وأصحاب الحِرَف، وطلبوا منه أن يطردَهم؛ ليكون المجلس مجلسَ الملأ، فهم الذين يملؤون القلوب هيبة، والمجالسَ أبَّهة، ولا يليق أن يجالسهم الأراذل، يقول الله - عز وجل -: ﴿ فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ﴾ [هود: 27].


      يقول الرازي:
      "طعنوا في نبوَّته بثلاثة أنواع من الشبهات:
      الأولى: أنه بشر.
      الثانية: كونه ما اتَّبعه إلا أراذل من القوم كالحياكة وأهل الصنائع، قالوا: ولو كنت صادقًا، لاتَّبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم.
      ونظيره قولُه تعالى: ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ ﴾ [الشعراء: 111].
      الشبهة الثالثة: لا نرى لكم علينا من فضل؛ لا في العقل، ولا في رعاية المصالح العاجلة، ولا في قوة الجدل... "[6].


      أما الرد على هذه الاتهامات وتلك الشبهات، فقد سجَّله القرآن الكريم في قوله تعالى:
      ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [هود: 28 -30][7].


      ففي الآيات رد على الشبهات الثلاث السابقة:
      فأما الشبهة الأولى: وهي أنه بشر، فقد رد عليها بقوله: ﴿ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ﴾، وهذه الشبهة هي المعجزة الدالة على النبوة، وأما الرحمة، فهي النبوة ﴿ وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ ﴾[8]، ولكنهم في عمًى عن الحق، فالتبس عليهم الحق ﴿ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ﴾ بسبب عمى البصيرة.
      وقوله تعالى: ﴿ أَنُلْزِمُكُمُوهَا ﴾، قال الرازي: "فيه ثلاثة مضمرات: ضمير المتكلم، وضمير الغائب، وضمير المخاطب"[9].

      وأما الشبهة الثانية، وهي قولهم لا يتَّبِعك إلا أراذل الناس، فالرد عليها بقوله: ﴿ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾، وأنه لن يطرد الفقراء إرضاءً للأغنياء ﴿ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [هود: 29].

      وأما الشبهة الثالثة: ﴿ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ... ﴾ [هود: 27]، فالردُّ عليها: "أن الله تعالى أعطاه أنواعًا كثيرة تُوجِب فضله عليهم، ولذلك لم يَسْعَ في طلب الدنيا، وإنما سعى في طلب الدِّين، والإعراض عن الدنيا من أمهات الفضائل باتفاقِ الكل، فلعل المراد تقريرُ الفضيلة من هذا الوجه"[10].


      3- أساليب الدعوة المتنوعة وتدرجها مع طول المكث وكثرة الجدال:
      لَمَّا دعا نوحٌ قومَه إلى عبادة الله وحده، وخوَّفهم عذابه وانتقامه، اتَّهموه بالضلال، فنفَى عن نفسه الضلال، وأخبرهم أنه مُبلِّغ عن الله تعالى، وأنه ناصح لهم، ثم نتأمَّل الترتيب في قوله تعالى وهو يخاطبهم: ﴿ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأعراف: 63].

      يقول الرازي - رحمه الله -:
      "بيَّن تعالى ما لأجله يبعثُ الرسول، فقال تعالى: ﴿ لِيُنْذِرَكُمْ ﴾، وما لأجلِه ينذر، فقال ﴿ وَلِتَتَّقُوا ﴾، وما لأجله يتَّقون، فقال تعالى: ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾، وهذا الترتيب في غاية الحسن؛ فإن المقصود من البعثة الإنذار، والمقصود من الإنذار التقوى عن كل ما لا ينبغي، والمقصود من التقوى الفوز بالرحمة في دار الآخرة"[11].


      4- أساليب دعوة نوح عليه السلام:

      أ - الدعوة بالليل والنهار، والسر والجهار،
      قال تعالى: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ﴾ [نوح: 5]، ﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [نوح: 8، 9].

      ولعله فهِم ما لهذا الأسلوب من أثرٍ على النفوس البشرية؛ إذ من الناس مَن يكون وعيُه وإدراكُه في النهار أكثرَ من الليل، ومنهم مَن يكون على العكس، فالصنف الأول دعاه بالنهار، والآخر دعاه بالليل، كما أنه لاحظ اختلافَ طبائع الناس، فوجد أن منهم مَن إذا وُجِّهت له الدعوة جهرًا أمام الناس، تأخذُه العزة والأَنَفة، ولا يمتثلُ للأمر المدعُوِّ إليه؛ تكبرًا أو تعاليًا، وصلفًا وغرورًا، وخوفًا من معايرة أهله وعشيرته، فهذا إذا دُعِي سرًّا، فإنه قد يمتثل إليه، وقد يخفيه سرًّا فترة من الزمن، وكان عليه السلام يُوجِّه الدعوة جهرًا لمن يلمس فيه الشجاعة والاحترام وعدم المبالاة والخوف من أحد، طالما اقتنع بصحة ما أقدم عليه[12].


      ب- إقامة الأدلة على قدرة الله تعالى في الخلق، والتنبيه على كثرة نعمه وآلائه،
      وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ﴾ [نوح: 14] وقوله: ﴿ وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا ﴾ [نوح: 17 - 20].

      جـ- الترغيب في الطاعة وبيان ثوابها العاجل والآجل في الدنيا والآخرة،
      وذلك في قوله تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].

      د- أسلوب التأنيب والتوبيخ بعد طول الحوار والجدل،
      وذلك في قوله تعالى: ﴿ مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح: 13].

      ثم الدعاء عليهم، ولكن قبل أن يدعوَ عليهم اشتكى إلى ربه تعالى في قوله: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ﴾ [نوح: 5 - 7]، وقولِه: ﴿ قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا ﴾ [نوح: 21، 22].

      ثم جاء الدعاء؛ دعاء المغلوب المظلوم، دعاء المتوكل على الله عز وجل، دعا عليه السلام بعدما أخبَره الله - عز وجل - أنه لن يُؤمِن من قومه إلا مَن قد آمن، ﴿ وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [هود: 36]، إذًا فلا فائدة، وليس إلا الدعاء عليهم:
      ﴿ وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ﴾ [نوح: 26، 27]، ﴿ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ﴾ [القمر: 10].

      فجاء النصر والانتقام؛ النصر والنجاة للمؤمنين الصابرين، والهلاك والانتقام من المجرمين المكذبين، وتلك سنة الله تعالى، ويصف لنا القرآنُ الكريم كيف كان الانتقام:
      ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ﴾ [القمر: 11، 12].
      ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [هود: 44].
      ﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ﴾ [نوح: 25].

      وتحقَّق قدر الله ووعده، فقد سلط عليهم ماء السماء والأرض فأغرقهم واستأصلهم، وأنجى الله تعالى المؤمنين، وتَبْقَى سنةُ الله تعالى فيمن بعدهم، ﴿ قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [هود: 48].


      وهكذا تظهر لنا سُنَّة التدريج في دعوة نوح عليه السلام فيما يلي:

      1- فهم بيئة الدعوة؛ لتحديد نقطة البَدْء.
      2- الدعوة إلى نَبْذ الأصنام، وتوحيد الله عز وجل.
      3- استعمال كافة الأساليب الممكنة والمتاحة لدى الداعي مع الصبر والتحمل.
      4- مراعاة أحوال المخاطَبين ودعوتهم بالحكمة، وفي هذا يقول فضيلة الدكتور عبدالوهاب عبدالعاطي عبدالله:

      "على الداعي أن يترسَّم خطى نوح عليه السلام في أساليبه المختلفة، كل أسلوب في مقامِه الذي يليق به، فلا يستعمل الداعي الحلمَ في مقام الشجاعة، ولا الشجاعة في مقام الحلم، ويتدرج في إقامة الأدلة"[13].

      5- البَدْء بأسلوب اللين والرفق مع المدعوِّين، والترغيب أولاً ثم الترهيب والتوبيخ، ثم التعنيف والتخويف، ثم يدعو الله - عز وجل - أن يفتح بينه وبين قومه.


      ولكن وبعد ألف سنة إلا خمسين عامًا من الدعوة والجهاد والصبر والتحمل، ماذا كانت حصيلة الدعوة،
      وماذا كان الحصاد؟

      قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40].

      أخبره الله - عز وجل - أن مهمته أوشكَت على الانتهاء، وأنه لن يستجيب له أحدٌ بعد ذلك، قال تعالى: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ [هود: 40].

      وطالما أن الأمر كذلك، فلا بأس من الدعاء عليهم، فدعا ربَّه، فاستجاب الله ونجَّاه ومَن معه وأغرق الآخرين، وشتَّان ما بين بداية الدعوة ونهايتِها، فلقد بدأت باللين والرفق والترغيب، وانتهت بأقسى ما يكون، وهو الدعاء عليهم والانتقام منهم وإهلاكهم بالغرق.
      [1] قصص الأنبياء؛ لابن كثير ص 45، مكتبة الصفا، طبعة أولى 2001م / 1422هـ
      [2] مفاتيح الغيب ص 752 جزء 10
      [3] مفاتيح الغيب ص 161 جزء 7
      [4] مفاتيح الغيب ص 163 جزء 7
      [5] مفاتيح الغيب ص 164 جزء 7.
      [6] مفاتيح الغيب ص 507 جزء 8.
      [7] مفاتيح الغيب ص 510 جزء 8
      [8] المرجع السابق
      [9] المرجع السابق.
      [10] مفاتيح الغيب للرازي ص 512 جزء 8
      [11] مفاتيح الغيب ص 167 جزء 7
      [12] مناهج أولي العزم من الرسل؛ أ.د. عبدالوهاب عبدالعاطي عبدالله، ص32، طبعة أولى 1412هـ دار الطباعة المحمدية.
      [13] مناهج أولي العزم من الرسل ص70

      "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
      وتولني فيمن توليت"

      "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

      تعليق


      • #4


        (3) فقه التدرج في عوة إبراهيم -عليه السلام-

        لقد أثنى الله تعالى على خليله إبراهيم عليه السلام في مواضع كثيرة؛ منها:

        قوله تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ﴾ [النجم: 37].
        وقوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 124]، وهذه شهادة من الله تعالى بأنه أتم عهد العبودية.
        وشهادة أخرى في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، وهذا ثناء على سبيل الإجمال.


        أما التفصيل، فيقول الرازي: "فهو أنه عليه السلام ناظر في إثبات التوحيد وإبطال القول بالشركاء والأنداد في مقامات كثيرة:

        المقام الأول: مناظرته مع أبيه، كما حكاها القرآن في سورة مريم: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42].
        المقام الثاني: مناظرته مع قومه في قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ... ﴾ [الأنعام: 76].
        المقام الثالث: مناظرته مع ملك زمانه، في قوله تعالى: ﴿ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].
        المقام الرابع: مناظرته مع الكفار بالفعل، في قوله تعالى: ﴿ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 58]"[1].


        ومن خلال الكلام عن المقامات الأربعة، سوف أوضِّح مظاهر التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام؛ وأذكر منها:

        1- البَدْء بدعوة أبيه؛ لأنه أقرب الأقربين إليه، ولأنه كان صانعًا للأصنام، وهذا من باب تجفيف ينابيع الكفر!
        2- دعوته لقومه، وعلى رأسهم النمرود، وكان هذا في بابل محل نشأته الأولى، وهكذا يكون البَدْء.
        3- دعوته لأهل حران بعد تركه بابل؛ حيث كانوا يعبدون الكواكب.

        وألقي الضوء كذلك على دروس دعوية من خلال المواقف الآتية:

        1- قرار العزلة الذى اتخذه بعد حواره مع أبيه.
        2- قرار الهجرة بعد محاجَّته للنمرود ونجاته من النار.
        3- قرار تكسير الأصنام من باب تغيير المنكر باليد وإزالته بالقوة، وإعطاء درس عملي لعَبَدة الأصنام؛ لبيان أن هذه الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنطق، ولا تغني عن عابديها شيئًا؛ فهي ليست أهلاً للعبادة؛ إنما الأحق بالعبادة هو الله ﴿ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ [الشعراء: 78 - 82].


        مراحل دعوة إبراهيم عليه السلام:

        1- دعوة إبراهيم عليه السلام لأبيه:
        وأبدأ بإشارة لطيفة، وهي أنه في قصة إبراهيم مع أبيه كان الابن مؤمنًا والأب كافرًا، وفي قصة نوح عليه السلام كان الأب مؤمنًا والابن كافرًا، وبذَل إبراهيم عليه السلام جهده في دعوة أبيه كما سأبيِّن، كما بذل نوح عليه السلام جهده في دعوة ولده: ﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ ﴾ [هود: 42]، ولكن لَمَّا تبيَّن لإبراهيم عليه السلام أن أباه عدوٌّ لله تبرَّأ منه[2]،
        ولما تبيَّن لنوح عليه السلام أن ولده لن يؤمن وأنه عملٌ غيرُ صالح تبرَّأ منه، ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [هود: 47]، لنعلم أن الأمر بيد الله وحده، ولكن على الداعي أن يبذل وقته وجهده في الدعوة، وأن يبدأ بأقرب الأقربين إليه، ولا يمل دعوتهم، وأن يحرص على ذلك، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، وكان يتمنى أن ينطق بكلمة التوحيد، ولكن التوفيق للإيمان لا يملكه إلا الله - عز وجل - وحده، فعلي الداعي أن يدعو، والنتائج على الله عز وجل.

        قال تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 41 - 45].

        يقول الرازي:
        "واعلم أنه تعالى حكى أن إبراهيم عليه السلام تكلم مع أبيه بأربعة أنواع من الكلام":

        الأول: قوله تعالى: ﴿ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾، وصف الأوثان بصفات ثلاثة، كل واحدة منها قادحة في الإلهية.
        الثاني: قوله تعالى: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ﴾، ومعناه ظاهر، وطمع في التمسك به أهل التعليم وأهل التقليد.
        الثالث: قوله: ﴿ يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴾؛ أي: لا تطعه؛ لأنه عاصٍ لله، فنفَّره بهذه الصفة عن القبول منه.
        الرابع: قوله تعالى: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾، والعذاب هنا هو الخِذلان، فتصير مواليًا للشيطان، والولاية سبب المعصية.


        ثم يقول الرازي - رحمه الله تعالى -:
        "واعلم أن إبراهيم عليه السلام رتَّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنه نبه أولاً على ما يدل على المنع من عبادة الأوثان، ثم أمره باتِّباعه في النظر والاستدلال، وترك التقليد بالوعيد الزاجر عن الإقدام على ما لا ينبغي".

        ومن هنا يتبين لي ما يلي:

        1- التلطف والرفق والتودد في دعوته لأبيه، كما يظهر واضحًا جليًّا الأدب والاحترام للوالد، وخفض الجناح في قوله: (يا أبت، يا أبت، يا أبت، يا أبت).
        2- خوفه على أبيه أن يناله عذاب الله؛ باتباعه للشيطان، أو عبادة ما لا يسمع ولا يبصر ولا يعقل.
        3- أن أباه كان صانعًا للأصنام، فإذا وجَّه إليه الدعوة، واعتقد بطلانها، ترك صناعة الأصنام، فيكون بذلك قد قضى على مصدر الشر في عقر داره[3].
        وهو ما قلت عنه: تجفيف ينابيع الكفر، ولا شك أن في هذا تدرجًا؛ حيث كان البَدْء بالأهم وبالاقتراب، وهو يتمثل في دعوته لأبيه.


        ثم نتابع الآيات: ﴿ قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا ﴾ [مريم: 46]، واجه الأبُ وعْظَ ولده بالشدة والغلظة؛ حيث هدَّده بالضرب والشتم، وقابل رفق ولده (يا أبت) بالعنف؛ حيث لم يقل له: يا بُني، بل قال: يا إبراهيم، وأمره بالبعد عنه؛ كي لا يرى وجهه ولا يسمع كلامه، عند ذلك قال إبراهيم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكَ ﴾.

        يقول الرازي:
        "وهذا دليل على جواز متاركة الموضوع إذا ظهر منه اللجاج، وعلى أنه تحسُن مقابلة الإساءة بالإحسان"[4].

        ومن هنا أقول: إن السلام هنا سلام متاركة، لا سلام تحية؛ بدليل قوله بعد ذلك وفعله: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 48]، ومن هنا تشرع العزلة والهجرة فرارًا من الأذى، أو فرارًا بالدين، وهكذا تتضح لنا سنة التدرج في دعوة إبراهيم عليه السلام؛ حيث بدأ بالأهم والأقرب (وهو أبوه صانع الأصنام)، ثم استعمال الرفق واللين، والصبر على ذلك ومقابلة الإساءة بالإحسان، ثم العزلة أو الهجرة عند اشتداد الأذى أو التهديد به.

        إن الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، هو ما يجب أن يلتزم به الداعي، ويُلزِم به نفسه قدرَ طاقته واستطاعته،
        ولكن ماذا بعد ذلك؟
        هل لجأ إبراهيم عليه السلام إلى أسلوب آخر؟

        لقد سجَّل القرآن الكريم هذا الحوار بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه وقومه: ﴿ إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأنبياء: 52 - 58].

        وصورة أخرى من الحوار: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الشعراء: 69 - 77].

        وفي تصوير آخر: ﴿ وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ ﴾ [الصافات: 83 - 93].

        لقد بات واضحًا أن الأمر له حدود، ولا بد له من نهاية، فأراد إبراهيم عليه السلام أن يضع حدًّا لهذا اللجاج والفساد العقائدي، ومما أُحبُّ أن أنوِّه إليه أن إبراهيم لم يؤذِ أحدًا من قومه، ولم يتعرَّض لمخالفيه لا بالشتم ولا بالضرب، ولكنه حطَّم تلك الأصنام المنحوتة المصنوعة، التي صنعها البشر بأيديهم؛ ليردَّهم إلى صوابهم، فعل ذلك موطِّنًا نفسه على تحمل الأذى في سبيل الله عز وجل.

        يقول القرطبي - رحمه الله -:
        "إنه لم يكتفِ بالمحاجَّة باللسان، بل كسَّر أصنامهم فعلَ واثقٍ بالله تعالى، موطِّنٍ نفسَه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين"[5].

        ولَمَّا كسر إبراهيم عليه السلام تلك الأصنام، ثارت ثائرتهم، وغضبوا لآلهتهم، وتحرَّكت أجهزة النمرود للقبض على إبراهيم، وعقدت محاكمةً علنية لإبراهيم؛ ليكون عبرة لغيره - هكذا أرادوا - ولكن الأمر كان عكس ما أرادوا: ﴿ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ ﴾ [الأنبياء: 61]، صدر قرار النمرود بالقبض على إبراهيم وإحالته إلى محاكمة عاجلة وعلنية.

        يقول ابن كثير - رحمه الله -:
        "أي في الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد؛ لعلهم يشهدون مقالته، ويسمعون كلامه، ويعاينون ما يحل به من الاقتصاص منه، وكان هذا أكبر مقاصدِ إبراهيم عليه السلام؛ أن يجتمع الناس كلهم، فيقيم على عبَّاد الأصنام الحجَّة على بطلان ما هم عليه، كما قال موسى عليه السلام لفرعون: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى ﴾ [طه: 59]"[6].

        وكان الحكم مُعدًّا وجاهزًا، والمحاكمة سريعة وعاجلة، وأحكامها رادعة لإبراهيم ولأمثاله؛ الإعدام حرقًا، ﴿ قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ [الأنبياء: 68].
        ويقول القرطبي: "لَمَّا انقطعوا بالحجة، أخذتهم عزةٌ بإثم، وانصرفوا إلى طريقة الغشم والغلبة، وقالوا: حرِّقوه"[7].
        ولتقف الدنيا كلها للداعية بالكيد والمكر؛ مكر الليل والنهار، لكن الله معه ولن يخذُلَه، ولن يضيعه، صدر الأمر الإلهي للنار، إن النار تحرق ولكنها في هذه اللحظة لن تحرق، وإن النار تحرق كل شيء، ولكنها لن تحرق إبراهيم الأُمَّة، ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ [الأنبياء: 69].

        يقول القرطبي - رحمه الله تعالى -:
        "وهذه عادة الجبابرة، فإنهم إذا عُورضوا بشيء، وعجزوا عن الحجة، اشتغلوا بالعقوبة"[8].
        وحدَث ما لم يكونوا يحتسبون، ورأَوا آية عظيمة، ومعجزة محيرة، ولكنهم لم يؤمنوا، ولم تهتز قلوبهم، وبعدها قرَّر إبراهيم عليه السلام الهجرة، لقد أصر القوم على الكفر والعداء، فما فائدة البقاء؟!


        2- مناظرة إبراهيم عليه السلام مع النمرود:
        والنمرود هذا رجل آتاه الله المُلْك، والمُلك غالبًا ما يُطغِي الإنسان ويُفسِد فطرته، ويُنسيه أصله ومادته التي جاء منها، فتكبَّر هذا النمرود وتجبَّر، وادعى لنفسه الربوبية، وأُصِيبَ بلُوثة عقلية، كالتي أصيب بها فرعون الملعون، وتصوَّر أنه ندٌّ للإله الأعظم، وأنه يفعل أفعال الإله الواحد، والحقيقة أنه يتصرَّف كتصرف الصبيان وأفاعيل الأطفال.

        يقول - عز وجل -: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].

        لقد كان الخذلان والخسران حليفَ النمرود الطاغي، فبُهت بهتانًا عظيمًا، ولم يجد له حجة تسعفه، ولا برهانًا يسانده، وشتان بين مَن كان وليُّه الله ومَن كان وليه الشيطان أو هواه.

        يقول القرطبي - رحمه الله تعالى -:
        "وذكر الأصوليون في هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام لَمَّا وصف ربه تعالى بما هو صفةٌ له من الإحياء والإماتة، لكنه أمرٌ له حقيقةٌ ومجازٌ، قصد إبراهيم إلى الحقيقة، وفزع النمرود إلى المجاز وموَّه على قومه، فسلَّم له إبراهيم تسليم الجدل، وانتقل معه من المثال، وجاءه بأمر لا مجاز فيه ﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي انقطعت حجته، ولم يمكن أن يقول: أنا الآتي بها من المشرق؛ لأن ذوي الألباب يُكذِّبونه"[9].

        قد يتصوَّر إنسانٌ ما أنه قادرٌ على الإحياء والإماتة، ولكن لا يكون ذلك إلا بواسطة سائر الأسباب، فإن الجماعَ قد يُفضِي إلى الولد الحي، وتناول السم قد يفضي إلى الموت، ولا شك أنه بدون الأسباب لا يمكن ذلك بأي حال من الأحوال، ولا يملك ذلك أحد من البشر، فالله - عز وجل - هو خالقُ سائر الأسباب ومُوجِدها، وهو الذي أعطاها خصائصها، وبدون إذنٍ من الله تعالى لا تعمل هذه الأسباب ولا تفعل فعلها.

        وقد يقدر إنسانٌ ما على أن يُنهِي حياة إنسان بأن يقتله مثلاً بشيء ما، لكن لا يقدر إنسان مهما كان أن يخلق إنسانًا من عدم، أو يعيد إليه الحياة بعد ما فارقها مرة أخرى.

        لقد كان قصد إبراهيم عليه السلام أن يثبت أن الله تعالى هو الذي يحيي ويميت بغير أسباب، وأنه القادر على ذلك ابتداءً، وذهب النمرود حسب تصوُّره أن الإحياء والإماتة إنما هي بالأسباب فقط؛ ولهذا فإن الأمر في مقدوره؛ ولأن الأمر ليس كذلك، فإن إبراهيم عليه السلام لم يسترسل معه في هذا الاتجاه، ولم يقل له: رُدَّ إليه الحياة مرة أخرى؛ لأن هذه حقيقة مُسلَّمة، ومعلومة لدى النمرود وغيره، أنه لن يقدر على إحياء الرجل الذي قتله وترك الآخر حسب ما جاء في كتب التفسير، وبعض المفسرين كالرازي يقول: إن إبراهيم عليه السلام لم ينتقل إلى دليل آخر، بل الدليل الذي ذكره إبراهيم بعد ذلك إنما هو إتمام للدليل الأول، ومعناه كما قال الرازي: "أنه وإن كان الإحياء والإماتة من الله بواسطة حركات الأفلاك - وسائر الأسباب - إلا أن حركات الأفلاك والأسباب من الله، فكان الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأسباب، إلا أن الأسباب ليست واقعةً بقدرته، فثبت أن الإحياء والإماتة الصادرَيْنِ عن البشر ليست على ذلك الوجه، وأنه لا يصلح نقضًا عليه، فهذا الذي اعتقده في كيفية جريان هذه المناظرة"[10].

        وأما القول الآخر للمحققين وذكره الرازي كذلك، فهو: "أن إبراهيم عليه السلام لَمَّا رأى من نمرود أنه ألقى تلك الشبهة، عدَل عن ذلك إلى دليل آخر أوضح منه، فقال: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِب ﴾، فزعم أن الانتقال من دليل إلى دليلٍ آخَرَ أوضحَ منه جائزٌ للمستدل"[11].

        وعلى هذا القول، فإن في المناظرة تدرُّجًا من دليل إلى دليل أوضح وأكثر إلجامًا للخصم، كما أنه كذلك استدراج للخصم؛ ليقيم عليه الحجة، ويلزمه الإقرار بالحقيقة التي لا مفر منها ولا محيد عنها، "﴿ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ﴾؛ أي: فبقي مغلوبًا لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جوابًا"[12]، ﴿ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].

        وبيانًا لسنة التدريج؛ نجد أن إبراهيم بدأ بأبيه وقومه ودعاهم بالحجة واللين، ثم بالتهديد، ثم تكسير الأصنام، ثم تحمُّل الأذى والاضطهاد في سبيل الله عز وجل، ثم في النهاية كان قرار الهجرة وترك موطن الكفر وأرض الباطل؛ للبحث عن منطلق جديد للدعوة، وبداية مرحلة جديدة.


        3- دعوة أهل حرَّان بالشام ومناظرة عبدة الكواكب:
        إن الهدف من التدرُّج هو حصول اليقين، أو الانتقال من الشك إلى اليقين، واليقين علمٌ يحصل بعد زوال الشبهة؛ بسبب التأمل وكثرة الدلائل وتنوُّعها وتدرجها، وإبراهيم عليه السلام آتاه الله الحُجة على قومه، قال تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنعام: 83].


        يقول الرازي:
        "إن العبد كلما كان تدبُّره في مراتب مخلوقات الله تعالى أكثر، كان شروق نور المعرفة والتوحيد أجلى، إلا أن الفرق بين شمس العلم وبين شمس العالَم، أن شمس العالَم الجسماني لها في الارتقاء والتصاعد حدٌّ معين لا يمكن أن يزاد عليه في الصعود، وأما شمس المعرفة والتوحيد، فلا نهاية لتصاعدها، ولا غاية لازديادها، فقوله تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 75]، إشارة إلى مراتب الدلائل والبينات، وقوله تعالى: ﴿ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ إشارة إلى درجات أنوار التجلي وشروق شمس المعرفة والتوحيد"[13].


        يقول الله - عز وجل -: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 75 - 79].

        وأختصر القول في هذه المناظرة مستخلِصًا العِبرَ منها، وموضحًا المنهجَ الدعوي من خلالها؛ ليكون درسًا للدعاة والمصلحين إلى يوم الدين، فقد أمرنا الله - عز وجل - بذلك فقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]:

        1- إن مَن دعا غيره إلى الله تعالى، فإنه يُقدِّم الرفق على العنف، واللين على الغلظة، ولا يخوض في التعنيف والتغليظ إلا بعد المدة المديدة واليأس التام، وهكذا فعل إبراهيم عليه السلام في بداية دعوته لأبيه وقومه، حتى عنَّفهم بعد ذلك وكسر آلهتهم.

        2- إن هذه المناظرة إنما هي مناظرة استدراجية، فإنه لو صرَّح بالدعوة إلى الله أولاً، لم يقبلوا منه، ولو اصطدم بأفكارهم ومعتقدهم من أول الأمر، ما استطاع أن يجاريهم، ولكنه أظهر موافقتهم على ما هم عليه - مع رفضه التام وكفره بآلهتهم المصنوعة - ولكنه مال إلى استدراجهم إلى استماع حجته، وليتمكن من ذكر الأدلة على بطلان ما هم عليه، وذلك في قوله: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾.

        3- وأرد إبراهيم عليه السلام كذلك بدايةً أن يُزحزِحَهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، وشكَّكهم أولاً فيما يعتقدونه، ثم ينقلُهم بعد ذلك إلى ما يريدُه منهم، وهو الإيمان بالله والكفر بالكواكب، لكنه يتمهل معهم؛ كي يصلوا هم بأنفسِهم إلى النتيجة والحقيقة، إنه أراد أن يقول لهم ويفهمهم ما يلي:

        إن أفولَ الكواكب يدل على كونها عاجزةً عن الخلق والإيجاد، وبالتالي فلا يجوز عبادتها.
        إن أفول الكواكب يدل على حدوثها، وثبت في بداهةِ العقول أن كل ما كان محدَثًا، فإنه يكون محتاجًا إلى غيره، ومَن كان محتاجًا إلى غيره يستحيل أن يكون إلهًا معبودًا.
        وفي قوله: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾ قصد إبراهيم عليه السلام حكاية قول الخصم، وافتراض الباطل؛ استدراجًا للخصم لا اعتقادًا أو إقرارًا بقوله، ونجده ذكر عقيبه ما يدل على فساده، وهو قوله: ﴿ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾.
        وفي قوله: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾؛ أي: في زعمكم، وأنا معكم فيما تقولون، لكنه أفل،

        فهل نعبد إلهًا يغيب ويأفل؟
        والقول في الكواكب هو القول في القمر، وهو القول في الشمس، كل ذلك يغيب ويأفل، وربنا الأحق بالعبادة لا يغيب ولا يأفل ولا يشبه الحوادث، فربنا خالق، والخالق أحق بالعبادة.


        4- إن هذه الآيات تدل على أن الدين إنما يكون مبنيًّا على الدليل لا على التقليد، وإلا لم يكن لهذا الاستدلال فائدة ألبتة، كما تدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته؛ إذ لو أمكن تحصليها بطريق آخر، لَمَا عدل إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة"[14].

        5- إن قانون التدرج واضح جليٌّ منذ بداية المناظرة إلى نهايتها، فهي مناظرة استدراجية، يستدرج القوم ويزحزحهم عن موقفهم شيئًا فشيئًا، ويترقَّى بهم في الأدلة، كما قال ابن كثير - رحمه الله تعالى -: "فبيَّن لهم أولاً عدم صلاحية الكواكب للعبادة، فبدأ بالزهرة، ثم ترقَّى منها إلى القمر، الذي هو أضوأ منها وأبقى من حسنها، ثم ترقَّى إلى الشمس، التي هي أشد الأجرام المشاهدة ضياءً وسناءً وبهاءً، فبيَّن أنها مُسخَّرة مسيَّرة مقدَّرة، مربوبة"[15].


        ويقول الدكتور عبدالوهاب عبدالعاطي عبدالله معلقًا على ذلك:
        "ولو واجههم إبراهيم عليه السلام من أول الأمر بأن عبادتهم للكواكب باطلة، لوقفوا في وجهه من أول وهلة لسماع كلامه، ورفضوا رفضًا باتًّا ما يدعوهم إليه، ولكنه كان حاذقًا في أسلوب الاستدراج، ماهرًا في استمالة أذهانهم للوصول إلى الحق…"[16].


        وخلاصة القول أن سنة التدرج سنةٌ ثابتة في دعوة إبراهيم عليه السلام، وتجلى ذلك فيما يلي:
        1- البَدْء بالأهم، وهو الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، وكان ذلك بالبراهين والأدلة، والمناظرات العقلية، ومجادلة الخصم واستدراجه؛ لتظهر له الأدلة واضحة جلية فيقف في حيرة من أمره، لا يجد حيلة ولا حجة، فينهار داخليًّا، ويخر ساقطًا، ولو ظل واقفًا في أعين الناس.

        2- البَدْء بالأقربين، وقد تمثَّل ذلك في البدء بدعوة أبيه، وقد كان صانعًا للتماثيل، وبهذا يستطيع إبراهيم عليه السلام أن يجتثَّ جذور الشرك، بالقضاء عليه من منابعه، ثم كانت دعوته لقومه.
        3- لقد ابتعد إبراهيم عليه السلام عن أسلوب الصدام المباشر، فقد كان يقر الخصم على سبيل الافتراض أو الجدال؛ ليستدرجه بعد ذلك لما يريد.
        4- الترقي في استعمال الأدلة كما حدث في مناظرة عبدة الكواكب؛ حيث بدأ بالكواكب ثم القمر ثم الشمس.


        [1] مفاتيح الغيب ص 375 جزء 6.
        [2] كما جاء في سورة التوبة آية 113، 114.
        [3] مناهج أولي العزم من الرسل د. عبدالوهاب عبدالعاطي عبدالله طبعة أولى 1412هـ 1991م ص 81.
        [4] مفاتيح الغيب ص 473 جزء 10.
        [5] تفسير القرطبي، طبعة أولى دار الشعب، ص4337 جزء 6.
        [6] قصص الأنبياء ص 98، مكتبة الصفا، طبعة أولى 2001
        [7] تفسير القرطبي ص 43 جزء 6
        [8] تفسير القرطبي ص 1053 جزء 2
        [9] تفسير القرطبي ص 1094 جزء 2
        [10] مفاتيح الغيب ص 563 جزء 3
        [11] مفاتيح الغيب ص 566 جزء 3.
        [12] تفسير القرطبي ص 1053 جزء 2.
        [13] مفاتيح الغيب 390 جزء 6.
        [14] مفاتيح الغيب ص 395 - 403 بتصرف جزء 6
        [15] قصص الأنبياء ص 94 مكتبة الصفا 2001.
        [16] مناهج أولي العزم من الرسل ص 100.





        "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
        وتولني فيمن توليت"

        "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

        تعليق


        • #5

          (4) فقه التدرج في دعوة نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-


          تمهـيد
          من خصائص دعوة خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم أنها دعوة عالَمية إلى الناس كافة؛ ولهذا لم تكن معجزتُه صلى الله عليه وسلم معجزةً حسية وقتية كمعجزات الأنبياء السابقين، ولكنها كانت معجزة عقلية، تخاطب العقل وتغذي الروح، وتتفق مع فطرة الإنسان، وتأخذ بيده، وتنير له الطريق، وتفتح له مجالات الفكر والتأمل كي يرقى بنفسه، ويحرر ضميره فلا يعبد إلا الإله الحق سبحانه وتعالى.

          لقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هناك من مشركي العرب مَن يعبد أصنامًا صنعها بيده، وهو يعلم في حقيقة نفسه أنها لا تضر ولا تنفع، ولا تحمي نفسها ولا عابدها، ولكنهم يظنون ظن الجاهلية أنها تقرِّبهم إلى الله تعالى.
          كان أحدهم إذا وقع في شدة لم يلجأ إلى هذه الأصنام ولكن يلجأ إلى الذي في السماء، ولم يقرُّوا لهذه الأصنام بصفة الربوبية، ولكنه الجهل والجحود والاستكبار.
          نعم كانوا يعبدون الله - في زعمهم - على بقايا من دين إبراهيم عليه السلام، ولكنهم حرَّفوا وغيَّروا، وتركوا كما فعل من كان قبلهم من اليهود والنصارى.
          وبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكان هناك مَن يعتقد أن عيسى ابن الله أو أنه إله أو ثالث ثلاثة، وفي الحقيقة أن كثيرًا منهم لم يجدوا لإنجيل عيسى عليه السلام أثرًا بعد رفعه، ومعاداة اليهود والرومان له، فألَّفوا لأنفسهم دينًا أشبه ما يكون بما عليه عباد بوذا، واقتبسوا مما كان عليه الرومان والديانة المصرية القديمة، فكانوا أشد كفرًا وضلالاً، وفي هذا يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [التوبة: 30].


          وكان اليهود - وقد علموا أن هذا الزمان هو زمان بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يعرفون صفتَه كما يعرفون أبناءهم، كما أنهم كانوا يعلمون مكان بعثته، فذهبوا إلى المدينة المنوَّرة ينتظرون قدومه أو خروجه، فلما بعث الله تعالى محمدًا صلى الله عليه وسلم - كانوا أول المنكرين له، وفي هذا يقول الله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 89].

          وكانت حادثة أصحاب الأخدود التي ذكرها كتَّاب السير كابن هشام في السيرة النبوية[1]، والمفسرون كابن كثير في تفسير سورة البروج[2]، أنَّهم قوم خُيِّروا بين القتل وبين الرجوع عن دينهم، فاختاروا الثباتَ على العقيدة والقتل، فحرقوا بالنار؛ يقول عز وجل: ﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾ [البروج: 4 - 8].

          وكانت حادثة خروج أَبْرَهة لهدم الكعبة، وكان لسان الحال والمقال هو ما قاله عبدالمطلب لأبرهة لما طلب منه الإبل: (إني أنا رب الإبل، وإن للبيت ربًّا سيمنعه، قال أبرهة: ما كان ليمتنع مني، قال: عبدالمطلب: أنت وذاك)[3].

          وإذا كان هذا هو الحال، فإنه قد آن الأوان لدعوة إبراهيم عليه السلام أن تتحقق، ويستجيب الله عز وجل، فكانت بعثةُ خاتم الأنبياء والمرسلين، دعوة إبراهيم عليه السلام وبشارة عيسى عليه السلام.

          بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترةٍ من الرسل، ليكمل مسيرة إخوانه من الأنبياء والمرسلين؛ ليجدِّد الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، ونَبْذ الشرك وترك عبادة الأصنام والأنداد، وليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور.

          وحسب سنة التدرج، فقد بدأ النبي صلى الله عليه وسلم دعوته إلى توحيد الله عز وجل، فهو الأساس والأهم، كما وجَّه دعوته عليه الصلاة والسلام إلى أهله وأقربائه أولاً، ثم دعا قومه وعشيرته، ثم أرسل الرسل والبعوث إلى ملوك الأرض يدعوهم إلى الإسلام، ويأمرهم بعبادة الله وحده وإلى مكارم الأخلاق.
          ولكن قومه كذبوه وعاندوه وآذَوه، ولكنه صبر وتحمل، وظل يدعو قومه وينشد لهم الهداية؛ فهو الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، واشتد به الأذى وبأصحابه، وحوصروا حصارًا شديدًا إلى أن أذِن الله تعالى لهم بالهجرة فأقاموا دولة الإسلام.
          وبعدما كانوا يؤمرون بالصبر وتحمل الأذى، وبعد أن أصبحت لهم دولة وعندهم القوة، أمروا بالقتال.


          وتتجلى سنة التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في أمور، أذكر منها:
          1- نزول القرآن منجَّمًا حسب الوقائع والأحداث
          2- البَدْء بالدعوة إلى توحيد الله عز وجل.
          3- البَدْء بدعوة الأقربين.
          4- الدعوة السرية في بداية الأمر، ثم الدعوة جهرًا.
          5- الصبر وتحمل الأذى، ثم رد العدوان، ثم القتال.
          6- بناء جيل الصفوة على الإيمان بالله واليوم الآخر في فترة المرحلة المكية.
          7- عدم الأمر بالتكاليف الشرعية من عبادات ومعاملات في مكة، ثم الأمر بالتكاليف والأوامر الشرعية بالمدينة المنورة.
          8- لم يفرض الجهاد إلا بعد قيام الدولة.
          9- لم تفرض التكاليف الشرعية دفعة واحدة، وإنما فرضت بتدرج.
          10- قَبول بعض أمور الجاهلية حتى تستقر العقيدة وتتهيأ النفوس للتخلِّي عنها.


          وبعد:
          فإن الله تعالى أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، وقد اختاره واصطفاه ليكون صاحب الرسالة الخاتمة، وأتم به النعمة؛ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، فقد وصفه الله تعالى بخمس صفات:

          الأولى: ﴿ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ﴾؛ أي: من العرب؛ أي من عشيرتكم ومن أفضلكم وأشرفكم[4]
          الثانية: ﴿ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾؛ أي: اشتد عليه ما يشق عليكم من مكاره، وأَوْلَى المكاره بالدفع مكروه عقاب الله، وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه[5].
          الثالثة: ﴿ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ ﴾، والمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدنيا والآخرة[6].
          الرابعة والخامسة: ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾، وخصه الله تعالى بصفتين عظيمتين[7].


          أثنى عليه ربه تبارك وتعالى في مواضع كثيرة، وأمرنا باتباعه، والعمل بما جاء به، والاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].
          وكيف لا نقتدي به ونسلك سبيله، وقد شهِد له مَن على غير دين الإسلام وأقر - حسب دراسة أجريت - أن رسولنا محمدًا صلى الله عليه وسلم هو أعظم شخصية في التاريخ الإنساني.


          ومؤلف كتاب: (الخالدون مائة، أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم)، هو عالِم فلكي رياضي، يعمل في هيئة الفضاء الأمريكية، ومتعته الأولى دراسة التاريخ، اسمه: (مايكل هارت)، وقد وضع دراسته على عدة أسس؛ منها:
          أن تكون الشخصية حقيقية وليست وهمية أو أسطورية.
          أن يكون الشخص عميق الأثر في الآخرين.
          وهذا الأثر لا بد أن يكون أثرًا عالَميًّا وليس محليًّا.

          وعلى هذه الأسس وغيرها اختار الباحثُ رسولَ الله وخاتم النبيين محمدًا صلى الله عليه وسلم على رأس القائمة، وأنقل فقرات من كتابه الذي ترجمه الصحفي (أنيس منصور)[8].

          يقول: (لقد اخترت محمدًا صلى الله عليه وسلم في أول هذه القائمة، ولا بد أن يندهش كثيرون لهذا الاختيار، ومعهم حق في ذلك، ولكن محمدًا عليه السلام هو الإنسان الوحيد في التاريخ الذي نجح نجاحًا مطلقًا على المستوى الديني والدنيوي)[9].

          ويقول: (وهو قد دعا إلى الإسلام ونشره كواحد من أعظم الديانات، وأصبح قائدًا سياسيًّا وعسكريًّا ودينيًّا، وبعد ثلاثة عشر قرنًا من وفاته، فإن أثر محمد عليه السلام ما يزال قويًّا متجددًا)[10].

          ويقول: (.. وربما بدا شيئًا غريبًا حقًّا أن يكون الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في رأس هذه القائمة، رغم أن عدد المسيحيين ضعف عدد المسلمين، وربما بدا غريبًا أن يكون الرسول عليه السلام هو رقم واحد في هذه القائمة، بينما عيسى عليه السلام هو رقم 3، وموسى عليه السلام رقم 16، ولكن لذلك أسباب:

          من بينها أن الرسول محمدًا صلى الله عليه وسلم قد كان دوره أعظم وأخطر في نشر الإسلام وتدعيمه وإرساء قواعد شريعته أكثر مما كان لعيسى عليه السلام)[11].


          ووددتُ أن أنقل كلام الرجل المنصِف عن رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولكني كرجل مسلم أعبر عن نفسي بما عبر عنه الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: (فأنا رجل مسلم عن علم، أعرف لماذا آمنت بالله رب العالمين؟ ولِمَ صدقت بنبوة محمد؟ ولماذا اتبعت الكتاب الذي جاء به؟ بل لماذا أدعو الآخرين إلى الإيمان بما سكنت إليه نفسي من هذا كله)[12]، فإني كقاطف زهرة من بستان كله روعة وجمال.

          ولا أدعي أنني أكتب عن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ولست أهلاً لذلك، ولكني تتبعت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الكتب القديمة والحديثة كي أستخرج منها ما يخص موضوع البحث، وهو التدرج في دعوة النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام لتكون نبراسًا للدعاة، ومعالِمَ على الطريق؛ كي يهتدي بها السائرون على الدرب، مستحضرًا في ذهني ونفسي قول الحق تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108]، فأسأل الله تعالى أن يرزقَنا البصيرة وحُسن الاتباع.


          وعلى غرار ما سبق في هذا البحث - خصوصًا في باب التدرج في دعوة الأنبياء - فإن دعوة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم قد مرت بمراحل متعددة ومتدرجة:
          فالإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر في كتابه زاد المعاد خمس مراتب للدعوة؛ وهي:
          المرتبة الأولى: النبوة.
          المرتبة الثانية: إنذار عشيرته الأقربين.
          المرتبة الثالثة: إنذار قومه (مشركي مكة).
          المرتبة الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله، وهم العرب قاطبة.
          المرتبة الخامسة: إنذار مَن بلغته دعوتُه من الجن والإنس إلى آخر الدهر[13].

          ولكنني أقدم تقسيمًا آخر، مع أن التقسيمات كلها تتفق وسنة التدرج التي سارت عليها دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسارت عليها دعوات جميع الأنبياء والمرسلين صلى الله عليهم أجمعين، غير أن التقسيم الذي أقدمه يرتكِزُ على منظور دعويٍّ لاستخلاص المنهج الذي يسير على أساسه الدعاة، وللتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهو سيد الدعاة وإمامُهم وقدوتهم إلى آخر الزمان، وهذا التقسيم كما يلي:

          المرحلة الأولى: الإعداد للرسالة ونزول الوحي.
          المرحلة الثانية: الدعوة سرًّا، وتشتمل على: بماذا بدأ وبمن؟
          المرحلة الثالثة: الجهر بالدعوة وردود الأفعال من الملأ، وبداية الاضطهاد والمساومة، ومحاولة الفرار من الاضطهاد والتعذيب (الهجرة إلى الحبشة).
          المرحلة الرابعة: الهجرة إلى المدينة وما سبقها من إعداد ومقدمات.
          المرحلة الخامسة: إقامة الدولة الجديدة بالمدينة وإرساء قواعدها.
          المرحلة السادسة: الانطلاق لنشر الدعوة وفرض التشريعات، ومنها الجهاد.

          المرحلة الأولى: الإعداد للرسالة ونزول الوحي:
          1- وكان البدء: الاختيار والاصطفاء، ﴿ وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [القصص: 68].

          يقول ابن القيم رحمه الله:
          (وكما خلق السموات سبعًا، فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من الملائكة، واختصها بالقرب من كرسيِّه ومن عرشه، وكما اختار سبحانه من الملائكة المصطَفَيْن منهم على سائرهم؛ كجبريل وميكائيل وإسرافيل، وكذا اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم، واختياره الرسل منهم، واختياره أولي العزم منهم وهم خمسة، فاختار منهم محمدًا صلى الله عليه وسلم)[14].


          فسبحانه وتعالى له الخلق والاختيار، وهو أعلم سبحانه حيث يجعل رسالته، وليس الاختيار لأحد من الخلق؛ لأن الكفار اقترحوا أن تكون الرسالة لرجل غير محمد، وحكى الله تعالى عنهم ذلك في قوله: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [الزخرف: 31، 32].


          يقول ابن القيم رحمه الله:
          (فالله عز وجل هو الذي يقسِّم فضله بين أهل الفضل حسب علمه بمواقع الاختيار، ومن يصلح له ممن لا يصلح، وهو الذي رفع بعضهم فوق بعض درجات، وقسم بينهم معايشهم ودرجات التفضيل، وهو سبحانه أعلم بمواقع اختياره؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]؛ أي: (أعلم بالمحل الذي يصلح لاصطفائه، وكرامته وتخصيصه بالرسالة والنبوة دون غيره)[15]، فكان الاختيار والاصطفاء لخير أهل الأرض وأكرمهم وأشرفهم صلى الله عليه وسلم.

          2- وكانت إرادة الله تعالى أن ينشأ - عليه الصلاة والسلام - يتيمًا لتكون تربيتُه خالصةً على عناية الله تعالى وحده؛ قال تعالى: ﴿ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ﴾ [الضحى: 6]، وهذا أيضًا من الإعداد للرسالة.

          3- وكانت معجزة شق الصدر الواردة في كتب السيرة، وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1][16].

          4- الخَلوة في الغار للتحنُّث وبدء الوحي:
          روى البخاري رحمه الله تعالى عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: (أول ما بُدِئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء فيتحنَّث فيه - وهو التعبد اللياليَ ذوات العدد - قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء)[17].


          يقول ابن حجر في الفتح:
          ومعنى يتحنث: يتحنَّف؛ أي: يتبع الحنيفية، وهي دين إبراهيم عليه السلام[18].

          ويقول رحمه الله:
          (والله عز وجل فطر محمدًا على التوحيد، وبغَّض إليه الأوثان، ووهب له أسباب النبوة، وهي الرؤيا الصالحة، وحبَّب إليه خِلالَ الخير، ولزوم الوحدة؛ فرارًا من قرناء السوء)[19].


          قلت: والتدرج هنا واضح جلي؛ فالوحي لم ينزل عليه فجأة، بل كانت الرؤيا الصادقة أولاً، ثم حبب إليه الخلوة في الغار، وفيها صفاء القلب، ونقاء الروح، والاقتراب من الحق، والابتعاد عن الباطل وصخب الحياة، حتى جاءه الحق ونزل عليه الوحي.

          والخلوة مع النفس بعيدًا عن الخلق لها أهمية خاصة في حياة المسلم عامة، والداعي بصفة خاصة؛ ففيها محاسبة النفس، ومراقبة الله عز وجل، والتفكر، والتدريب على التخلص من الكِبْر والعُجْب والحسد والرياء، وحب الدنيا وحب السمعة والمدح، فتلك آفات قاتلة تضيع الأجر، ولا تجعل في الدعوة بركة ولا ثمرة

          نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ففي حديث عائشة رضي الله عنها الذي ذكرته آنفًا تقول: (فجاءه الملك، فقال: اقرأ...)، وفتر الوحي، وقال صلى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي -: ((بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فرعبت منه، فرجعت فقلت: زمِّلوني، فأنزل الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ ﴾ [المدثر: 1، 2] إلى قوله: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5]، فحَمِيَ الوحي وتتابع)[20].


          ويحدثنا ابن القيم رحمه الله تعالى عن مراتب الوحي، فيقول:
          إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه صلى الله عليه وسلم.
          الثانية: ما كان يلقيه الملك في رُوعه وقلبه من غير أن يراه.
          الثالثة: كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعيَ عنه ما يقول له.
          الرابعة: أن يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه.
          الخامسة: أن يرى الملك في صورته التي خُلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله.
          السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السموات ليلة المعراج.
          السابعة: كلام الله له بغير واسطة مَلَك...)[21].


          المرحلة الثانية الدعوة سرًّا:
          بماذا بدأ دعوته؟
          لا شك أن دعوة النبيِّ محمد صلى الله عليه وسلم كانت كدعوة سائر الأنبياء السابقين، وهي الدعوة إلى توحيد الله عز وجل؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 25].
          وظل يدعو - عليه الصلاة والسلام - أقربَ الناس إليه إلى الإسلام ثلاث سنوات سرًّا، إلى أن أمره الله تعالى بالجهر بالدعوة.


          يقول ابن القيم رحمه الله:
          (وأقام صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه مستخفيًا، ثم نزل عليه: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الحجر: 94]، فأعلن صلى الله عليه وسلم بالدعوة وجاهر قومه بالعداوة، واشتد الأذى عليه وعلى المسلمين حتى أذن لهم بالهجرتين)[22].

          لقد بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته بعد نزول الوحي عليه بين المقرَّبين إليه؛ كزوجته وابن عمه وصديقه، وكان ذلك سرًّا، والسرية هنا أمر مرحلي لا بد منه؛ لأنه مع القلة الاستضعاف، ومع الاستضعاف لا بد من الكتمان والتلطُّف والحذر، فقد يكتم المرء إيمانه ويخفي إسلامه خوفًا من بطش المتربِّصين به، وقد حكى لنا القرآن أمثلة كثيرة؛ أذكر منها:

          1- مؤمن آل فرعون؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ... ﴾ [غافر: 28]
          2- وهذا موسى عليه السلام حين تآمر عليه الملأ، خرج من المدينة خائفًا يترقب؛ قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 21].
          3- في سورة الكهف، يحكي القرآن عن الفتية الذين آمنوا بربهم؛ أنهم لجؤوا إلى الكهف فرارًا بدينهم وخوفًا على إيمانهم أن يفتنهم قومهم، ولَمَّا بعثهم الله تعالى مرة ثانية بعد سنين طويلة، وبعثوا أحدهم إلى المدينة لينظر أيها أزكى طعامًا فقالوا له كما حكى الله تعالى عنهم، فقال: ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 19، 20].

          ففي هذه المرحلة بدأ صلى الله عليه وسلم الدعوة إلى الإسلام الذي هو الاستسلام والإذعان والخضوع لله الواحد القهار، الذي له الخَلْق والأمر والاختيار، الإسلام الذي أمر الله تعالى به إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [البقرة: 131]، والذي أوصى به يعقوب عليه السلام أبناءه عند موته، ﴿ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 133].

          فالإسلام هو توحيد الله عز وجل، وهو ما بدأ به صلى الله عليه وسلم.

          أما بمن بدأ؟
          فقد بدأ بأقرب الأقربين والمقربين إليه، وهذا من باب التدرج: البدء بالأهم وبالأقرب.



          المرحلة الثالثة: الجهر بالدعوة:
          بدأت هذه المرحلة بأمر الله تعالى له صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214].

          يقول الرازي:
          (وذلك لأنه تعالى بدأ بالرسول فتوعَّده إن دعا مع الله إلهًا آخر، ثم أمره بدعوة الأقرب فالأقرب؛ وذلك لأنه إذا تشدَّد على نفسه أولاً، ثم بالأقرب فالأقرب ثانيًا، لم يكن لأحد فيه طعن ألبتة، وكان قوله أنفع، وكلامه أنجح)[23]؛ حيث كان الأمر قبل هذه الآية: ﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ ﴾ [الشعراء: 213].

          وما أروعَ هذا الكلام، وهو يؤكد لنا ويجلي قيمة التدرج في الدعوة كي يستنَّ به الدعاة، فيحددوا منطلق الدعوة بماذا يكون البَدْء؟ وبمن؟

          واستجاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر ربه، ودعا قومه، وجمعهم حسب ما جاء في كتب السيرة والتفاسير وكتب السنة، ويعلق على ذلك ابن كثير رحمه الله تعالى، فيقول:
          (واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تعالى ليلاً ونهارًا، وسرًّا وجهارًا، لا يصرفه عن ذلك صارف، ولا يرده عن ذلك رادٌّ، ولا يصدُّه عن ذلك صادٌّ، يتبع الناس في أنديتهم ومجامعهم ومحافلهم، وفي المواسم ومواقف الحج، وتسلَّط عليه وعلى مَن تبعه من آحاد الناس من ضعفائهم الأشداءُ الأقوياء من مشركي قريش بالأذية القولية والفعلية، وكان من أشدهم عليه عمه أبو لهب وامرأته أم جميل)[24].


          ولكن إلامَ يدعو الناس؟
          وما هي أهداف الدعوة الإسلامية عمومًا، وفي هذه المرحلة على وجه الخصوص؟


          والإجابة إنما تكون في تتبع الآيات والسور التي نزلت بمكة في أوائل الوحي، ولعل الهدف الأول والأهم كان هو:
          تربية الجماعة الأولى على مبادئ الإسلام[25]، والمقصود بناء الجيل الفريد، جيل الصفوة، جيل القيادة؛ قيادة الناس إلى الخير، وإلى ما فيه صلاحهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، تحت زعامة سيد الخَلْق وإمام النبيين وخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم.


          ولكن ما هو الأساس الذي قامت عليه الدعوة وتربى عليه هذا الجيل؟
          لقد بُعِث النبي محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل لتزكية النفوس وإصلاح الفطرة، وتصحيح العقيدة والعودة بالناس إلى الحنيفية السمحة، إلى توحيد الله عز وجل، ولِمَ لا وقد كانت بعثته صلى الله عليه وسلم استجابةً لدعوة إبراهيم عليه السلام حين توجَّه إلى الله تعالى بهذا الدعاء: ﴿ رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 129]؟

          ومن هنا أستطيع القول: إن الأسس التي قامت عليها الدعوة هي[26]:

          1- الوحدانية المطلَقة لله عز وجل.
          2- إثبات البعث واليوم الآخر.
          3- إثبات الرسالة.


          وقد أفرزت هذه الأسس نتائجَ في غاية الأهمية، تعد أهدافًا منشودة في حد ذاتها؛ ومنها:
          1- الأخوة في الله، والحب في الله، والموالاة، وكان من ثمرة ذلك: حفظ كيان الجماعة المسلمة، وجعلها قوة إيمانية هائلة متماسكة.
          2- تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله، وقد أثمر ذلك حفظ كرامة الإنسان، ورفع شأنه، وإثبات حرمة نفسه وعِرضه وماله، والمحافظة عليها.
          3- المساواة بين البشر، فالمنشأ واحد، والأب واحد، والكل من تراب، ولا تفاضل إلا بالتقوى والعلم النافع والعمل الصالح.
          4- مسؤولية كلِّ مسلِمٍ عن هذا الدين ونشر تعاليمه بين الناس، وتحمل الأعباء والتضحيات من أجله.
          5- إحياء الضمير الذي يراقب الله عز وجل ويحذره ويخاف عقابه.
          وتتكرر المشاهد، وتتشابه المواقف.

          لَمَّا أمرهم بعبادة الله وحده والإسلام له سبحانه وتعالى، انبرى القوم يكذِّبونه ويعادونه ويتهمونه، كما فعل أمثالُهم مع أنبيائهم الكرام، وأستعِينُ بالله تعالى وبكلامه:
          ففي سورة ص: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ * أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ ﴾ [ص: 4 - 8].

          وفي سورة الأنعام آيات كثيرة تحكي وتصِف هذه الفترة العصبية والسنين العجاف التي مر بها المسلمون الأوائل، ومعهم وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم، والسورة الكريمة حافلة بالآيات التي تصور تلك الحِقبة، فيقول عز وجل: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ * وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ * وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأنعام: 33 - 35].

          وفي سورة الإسراء مشهدٌ آخر يُصوِّر محاولاتِ الفتنة في الدين والإخراج من الديار، وتلك الضغوط الرهيبة والمحنة الشديدة التي تعرض لها النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا * وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا * سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا ﴾ [الإسراء: 73 - 77].

          والآيات والمواقف كثيرة، لكن الذي أنبه عليه أن ما حدث مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو نفسُ ما حدث لسائر الأنبياء من قبله، يبدأ الرسول دعوته إلى قومه ويأمرهم بعبادة الله وحده، فإذا بالملأ - الكبراء منهم والسادة - يتطاولون عليه ويكذِّبونه ويحذِّرون الناس منه، وقد فعل ذلك أبو لهب عمُّه[27].

          وتعرَّض النبي صلى الله عليه وسلم لسلسلة من المفاوضات أو المساومات ليتنازل عن دعوته، أو ليختار حلاًّ وسَطًا مع قومه، فيعبد آلهتهم يومًا ويعبدون إلهه يومًا كما تحكي سورة الكافرون[28]، وذلك لتخفيف الحصار أو الاضطهاد عنه وعن أصحابه، فرفض المساومة.

          وطلبوا منه الآيات الحسيَّة، كما طلبها السابقون من الكافرين، ولكن القضية ليست كما يريدون أو يظنون أو يطلبون، ويردُّ عليهم القرآن حين طلبوا أن تكون له جناتٌ من نخيل وأعناب، وتفجر له الأنهار، أو يستعجل لهم العذاب، أو يكون له بيت من زخرف، أو غير ذلك، ولكن القضية ليست في تحقق هذه الآيات ووقوعها، ولكن القضية في الجحود والعناد والاستكبار؛ قال تعالى: ﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
          ويقول الله تعالى: ﴿ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ [الأنعام: 58]، ولكنها سنَّة الإنظار والإمهال.

          عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل:

          قال ابن إسحاق:
          وحدثني حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس قال: سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبي قال: (إني لَغلامٌ شاب مع أبي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي، وتمنعوني، وتصدِّقوا بي حتى أبيِّن عن الله ما بعثني به.

          قال: وخلفه رجل أحول وضيء، له غديرتان، عليه حلة حديثة، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه، قال ذلك الرجل: يا بني فلان، إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم، وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن قيس... إلى ما جاء به من البدعة والضلالة، فلا تطيعوه، ولا تسمعوا منه، قال: فقلت لأبي: من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول؟ قال: هذا عمه أبو لهب...)[29].

          ما أقسى أن يكون العدوُّ اللدود هو أقربَ الأقربين، وما أشد أن تكون العداوة من الداخل، إن العدوَّ الخارجي لا نستبعد منه العداوة واللدد، ولكن هذا هو قدر الدعوة تنال من الداخل ما تنال من الخارج، وما أشدها من حيرة حينما يكون العدو الداخلي يعمل لحساب العدو الخارجي، خصوصًا إذا كان هذا الداخلي يتسمى بأسماء المسلمين، ويدَّعي أنه هو وحده الذي يفهم، وفهمه هو الصحيح، وما عداه باطل وغريب، وتلك آفة أهل الزمان! فليوطن الداعي نفسه، ويرتِّب أوراقه، ويجهز عدته ليقف صابرًا واثقًا صُلبًا في وجه تلك التيارات المعادية للدعوة إلى الله تعالى، يفندها ويرد عليها بذكاء، ويبطلها بعلم، ويواجهها بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل الآخر بالتي هي أحسن.



          المرحلة الرابعة الهجرة إلى المدينة:
          وكلما ضاقت واشتدت واستحكمت كان الفرَجُ قريبًا، ومهما طال الليل فلا بد من طلوع الفجر، وكان المنتظر أو المتوقع أن تكون الثمرة في مهد الدعوة وأرضها، ولكن العجيب أن الثمرة كانت حيث أراد الله تعالى لها، كانت في يثربَ أرضِ الخير والبركة، أرض الكرم والنصرة؛ لنعلم أن على الداعية أن يعمل ويدعو، ويبذل الجهد، ويقدم التضحيات، ويأخذ بكل أنواع الأسباب والأساليب، والنتائج لا يملِكها إلا الله عز وجل، ونحن لسنا إلا دعاة وأداة ومجاهدين من أجل الدعوة، أما الهداية والفتح فبِيَدِ الله وحده، وهذا درس للدعاة إلى آخر الزمان.

          ولم تأتِ الهجرة من فراغ، بل سبقها أمور، كان منها: لقاءات النفر من الأنصار، وكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، ويُهمني أن ألقي الضوء وأنبِّه إلى مسألة هامة، بل في غاية الأهمية ليضعها الدعاة بل المسلمون عامة نُصب أعينهم، وهي: ما الذي يرجوه المسلم من إسلامه؟

          وما الذي يسعى إليه الداعية وينتظره من وراء دعوته؟
          والجواب: إنه شيء واحد، وهدف واحد، الجنة، ولا شيء إلا الجنة.

          ذكر ابن إسحاق أن العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري قال: يا معشر الخزرج، هل تدرون علامَ تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم، قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس، قالوا: فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفَّينا؟ قال: ((الجنة))، قالوا: ابسط يدك، فبسط يده فبايعوه[30]، إنها البيعة على الجنة.

          قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 111]

          وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه، واستقبلهم الأنصار خير استقبال، وولدت الدولة الجديدة، وأقيمت دعائمها، وأسست على أركان، ولكن ما هي؟

          ما يلي:

          المرحلة الخامسة: إقامة الدولة، وإرساء قواعدها:

          أركان الدولة الجديدة في المدينة:
          قامت أول دولة إسلامية على الأسس الآتية:

          الأساس الأول: بناء المسجد.
          الأساس الثاني: المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار.
          الأساس الثالث: كتابة وثيقة تُحدِّد نظام تعامل المسلمين فيما بينهم وفيما بينهم وبين غيرهم.
          وكانت المرحلة السادسة هي الانطلاق لعالمية الإسلام وانتشاره في أرجاء الجزيرة وخارجها.

          وهكذا بدأت الدعوة برسول الله صلى الله عليه وسلم وحده ، ثم آمنت به زوجته خديجة رضي الله عنها، ثم صديقه الوفي أبو بكر رضي الله تعالى عنه، ثم ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه؛ لنعلم من أين يبدأ الداعية، وأن الدعوة تنطلق من الداخل إلى الخارج.

          ثم إنه صلى الله عليه وسلم ظل يدعو قومه وعشيرته إلى توحيد الله عز وجل، وكان القرآن المكي ينزلُ لبناء جيل الصفوة على العقيدة الصافية وإثبات التوحيد والبعث والرسالة

          ثم تعرَّض المسلمون الأوائل إلى سلسة من المحن والابتلاءات، ولكنهم صبروا وتحملوا، واختاروا الدين على الأرض والوطن، حتى جعل الله تعالى لهم فرَجًا ومخرجًا ومنطلقًا جديدًا للدعوة، وكتب الله تعالى لهم العزة والقوة والتمكين في الأرض، ويذكِّر الله تعالى عباده بذلك، فيقول: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [الأنفال: 26].

          ثم كتب الله عليهم بعد ذلك القتال من أجل إعلاء كلمه الله عز وجل، ولحماية الدعوة، وتأديب مَن يقف في طريقها ليحول بين الناس وبين الإيمان بالله عز وجل، ولبيان الرشد من الغي لتحقيق قاعدة: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾ [البقرة: 256].

          وهكذا تتجلَّى مظاهر التدرج في دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، والتي مرت بالمراحل السابقة، وبدأت بالاستضعاف، وانتهت بالتمكين في الأرض، وألخصها في النقاط الآتية:

          1- البدء بالأقربين.
          2- البدء بالتوحيد.
          3- إرساء قواعد العقيدة قَبْل الأمر بالتكاليف؛ حيث بدأ الأمر بالتكاليف في المدينة بعد إقامة الدولة وتمكين الإيمان في القلوب.
          4- الدعوة باللِّين وبالحكمة والموعظة الحَسَنة، وتحمُّل مشاقِّ الدعوة، والصبر على ذلك، ثم تحمل أذى المعارضين، خصوصًا في مرحلة الاستضعاف.
          5- عرض الدعوة على جميع الناس؛ الفقراء والأغنياء، القريب والبعيد، وإقامة الحجة على الناس، وطلب النصرة.
          6- استعمال القوة لحماية الدعوة عند الاستطاعة.
          7- الالتزام الشرعي بالأحكام في كل مرحلة من مراحل الدعوة، وعدم تغليب الأهواء، وترويض النفس على قَبول حكم الله عز وجل، حتى لو كان شاقًّا على النفس؛ حيث لم يؤمَرِ المسلمون بالقتال أو ردِّ العدوان بمكة وقد كانوا أهل شَكيمة وعزة.

          وخلاصة القول:
          1- استعمال التدرج في الدعوة إلى الله تعالى، والهدف من ذلك هو استغلاظ أمر الدعوة؛ ففي مهدها وبدايتها قد تكون للسرية أهميتها، ثم إذا صار للمسلمين منعة وقوة، فلهم بعد ذلك أن يدافعوا عن دينهم وأنفسهم.

          2- أن النتائج لا يملِكها الدعاة؛ لأنها بيد الله وحده، فالتوفيق إلى الإيمان لا يملكه إلا الله تعالى وحده، أما نحن فعلينا أن نبذل الجهد ونستفرغ الوسع في تبليغ الدعوة والجهاد بالكلمة، وبالتي هي أحسن للتي هي أقوم، أما الثمرة فقد تكون في أرض الدعوة أو في خارجها، ولنعلم أن النصر والتمكين إنما هو هبة من الله تعالى وفضل منه ومنَّة، يؤتيه مَن يشاء، ويمن به على مَن يشاء، وقتما يشاء أينما يشاء سبحانه.

          3- أن الدين أغلى من الأرض ومن الحياة، وأن الدعوة إلى الله تعالى أسمى رسالة، وأعظم ما ينشغل به المسلم، ويُفني فيها حياته.

          4- أن سنة الابتلاء ملازِمة للمؤمنين عامة، وللدعاة إلى الله تعالى خاصة، فليوطن الدعاة أنفسهم على ذلك؛ فهم حملة لواء هذا الدين والمحافظون عليه، والمدافعون عنه ضد حملات المشككين والمعارضين للدعوة في كل زمان ومكان.

          [1] جزء 1 ص 36
          [2] جزء 4 ص 492.
          [3] السيرة النبوية لابن هشام جزء 1 ص 51
          [4] مفاتيح الغيب جزء 8 ص 231.
          [5] المرجع السابق.
          [6] المرجع السابق ص 232
          [7] المرجع نفسه.
          [8] الخالدون مائة، المكتب المصري الحديث، الطبعة السابعة 1986.
          [9] المرجع السابق ص 13.
          [10] المرجع السابق ص 13.
          [11] المرجع السابق ص 17.
          [12] فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الحديثة، الطبعة السابعة 1976، ص 3.
          [13] زاد المعاد، ابن القيم، جزء1 ص20 المطبعة المصرية.
          [14] زاد المعاد ص 6 جزء 1 - المطبعة المصرية.
          [15] زاد المعاد ص 6 جزء 1.
          [16] 1 انظر: فتح الباري ص 365 جزء 1، وانظر: تفسير ابن كثير ص 524، جزء 4، مكتبة التراث الإسلامي، حلب 1980م.
          [17] فتح الباري، ص 18، جزء 1.
          [18] المرجع السابق.
          [19] المرجع السابق ص 7 جزء 1.
          [20] فتح الباري ص 23 جزء 1.
          [21] زاد المعاد ص 18 جزء 1.
          [22] زاد المعاد ص 20، جزء 1.
          [23] مفاتيح الغيب ص 175 جزء 12
          [24] البداية والنهاية ص 40 جزء 3، مكتبة المعارف، بيروت، الطبعة الرابعة 1982م.
          [25] معالم الدعوة الإسلامية في عهدها المكي أ.د. خليفة العسال، الطبعة الثانية 2001م، ص90.
          [26] راجع: فقه السيرة للشيخ محمد الغزالي ص 97، ومعالِم الدعوة أ.د. خليفة العسال ص 90.
          [27] انظر: تفسير ابن كثير ص 563، جزء 4 - مكتب التراث.
          [28] انظر: تفسير ابن كثير ص 560، جزء 4 - مكتبة التراث.
          [29] السيرة النبوية لابن هشام جزء 2 ص 24.
          [30] السيرة النبوية لابن هشام، جزء 2 ص 43.


          "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
          وتولني فيمن توليت"

          "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

          تعليق


          • #6

            (5) الأثر الدعوي لخصيصة التدرج


            تمهيد:
            لقد بات واضحًا أن التدرج سنة ربانية، وقانون إلهي، ونظام كوني، يتفق مع خصائص الأشياء وطبائع المخلوقات، كما ينسجم مع الفطرة التي فطر الله تعالى عليها كل شيء.


            فالله - عز وجل - هو خالق المخلوقات، وأهمها الإنسان، وقد أعمل الله تعالى فيه قانون التدرج، فسبحان الذي خلق من الماء والطين بشرًا، والذي جعل من النطفة والعلقة طفلاً، ثم شابًّا قويًّا، ثم شيخًا، وكل ذلك على مراحل متدرِّجة، كذلك فإن خلق السموات والأرض، الذي هو أكبر من خلق الناس، كان كذلك على مراحل وفترات زمنية لا يعلم مداها إلا الله عز وجل، مع أنه سبحانه قادر على خلق الشيء من العدم بكلمة واحدة، فقدرته مطلقة، ومشيئته نافذة، لكنه سبحانه يُعلِّمنا أنه ما من بناءٍ محكم إلا ويراعَى فيه التدرج، والبدء بالأهم والأساس، فكان البَدْء بخلق الأرض؛ لأنها مركز الكون ومحل التكليف، ثم كانت المرحلة التالية وهي إعداد الأرض لحياة الإنسان، وتقدير الأقوات، ثم خلق السموات، ثم دحي الأرض، فكان هذا الخلق المعجز، والبناء المحكم، الذي لا يزول ولا يختلُّ، وقد أقسم - سبحانه وتعالى - بهذا في قوله: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾ [الشمس: 5].



            وتأمَّل معي ما يوحي به هذا التعبير القرآني المعجز، فهل هناك من بناءٍ إلا ويبنَى على التدرُّج؟
            وهل هناك بناءٌ يقام في لحظة أو دفعة واحدة؟


            إنه ما من بناء إلا ويقام على قواعد وأساس، ثم تقام الأعمدة، ثم الأركان، ثم يحسن بعد ذلك بكل أنواع التحسينات والتكميلات، وكما أن الكون قد أُحكِم بناؤه وتركيبه، فكذلك الدين قام على الحكمة والإحكام، فالقرآن الكريم قد أُحكمت آياته، وحسن نظمه وترتيبه، ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم قد مُلِئ قلبه حكمة، فينابيعُ الحكمة تتفجَّر من لسانه، وقد قيل في الحكمة: إنها السنة، كذلك فللدين أساس وأعمدة وأركان؛ فأساسه التوحيد، وعماده الصلاة، ولكل من الإسلام والإيمان أركان، وكما جاء في القَسَم: ﴿ وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ﴾ [الشمس: 5]، جاء لفظ الحديث: ((بُنِي الإسلام على خمس...))[1]، فتأمَّل.


            ومع التدريج التمهل والتأني والعمل الدائب، وبناء لَبِنة فوق لَبِنة، ثم الترقِّي في البناء، بناء العقيدة السليمة الصافية، بناء الفرد المسلم الصالح المصلح، بناء العبد الرباني، وبناء الداعي القدوة، القدوة بعمله وسلوكه قبل قوله ولسانه، ثم بناء المجتمع الإسلامي، ثم بناء الأمة الإسلامية.


            وإذا أخذنا بسنة التدرج، فسوف يكون لذلك أثرٌ عظيم وفائدة تعود علينا بالخير الكثير، وسوف نجنِي ثمارًا طيبة في مجالات الدعوة:
            لقد نزل القرآن منجمًا، وكان لذلك أثرٌ عظيم في تربية الجيل الأول وإعداده إعدادًا أهَّله لتحمل أمانة الدين وشرف الدعوة إلى الله تعالى، لقد كان القرآن المكي من أوله يُؤسِّس العقيدة ويبني رجالاً لم يرَ التاريخ الإنساني مثلَهم، فإذا أردنا أن نبني جيلاً، فلنأخذ بترتيب النزول؛ حيث الاهتمام بترسيخ الإيمان، وتهذيب الأخلاق، وترويض النفوس، وضبط الأهواء وتوجيهها حسب منهج الله تعالى.


            وإن من التنبيهات المسلَّم بها، والأولويات في العمل الدعوي، وفي المقام الأول: إعداد الداعي؛ لأنه حجر الزاوية، والركن الأساس في قضية الدعوة، ولا أتحدَّث هنا عمَّا يجب أن يكون عليه الداعية من إخلاص، وفطنة، وصبر، ولين جانب، وحرص، وغير ذلك، لكن أُنبِّه على بعض الأخطاء - أو قل: الأمراض - التي يقع فيها أو يصاب بها الداعية دون أن يشعر أو يشعر؛ ومنها:
            1- الغرور والعجب، فكلاهما محبط للعمل.
            2- التعالي على الناس أو احتقارهم، فهذا مما ينفر الناس.
            3- الجبن الذي قد يدفعه إلى كتمان الحق.
            4- المداهنة، فقَبولها يعني أن يتخلَّى عن مبادئه.
            5- طلب الدنيا ومزاحمة أهلها، وطلب الرياسة والمكانة أو المنصب، فيجب عليه الترفع عن ذلك.
            6- التقصير أو الإهمال في الارتقاء بنفسه علميًّا وتربويًّا، وكذا التقصير في إعداد الخطب أو القضايا التي يعالجها.
            7- الانعزالية أو العزلة، فقد يحدث أن يكون الداعي بعيدًا عن واقع الناس، وبعيدًا عن اهتماماتهم، وما يحتاجون إليه، فقد يفتعلُ قضايا وهميةً، ويعالج قضايا ليست مطروحة أو ملحة.

            إن تفاعل الداعي مع بيئته ومَن يتصدى لإصلاحهم يحتاج إلى حاسة خاصة، أو حاسة سادسة، يتحلَّى بها الداعي ويكتسبها من خلال الممارسة، وأرى أن الداعي الناجح هو الذي يكتسب ودَّ مدعويه، وينال حبهم، وأن يكون بينه وبينهم رباط وجداني ومشاعر متبادلة، فحينئذٍ سيقبَلون دعوته.

            وهذه أول درجة من درجات الدعوة، وهي التحبُّب إلى المدعوِّين قبل الكلام والوعظ.

            أثر البدء بالتوحيد:
            أعود فأقول: لقد كان للبَدْء بالتوحيد عظيمُ الأثر في قَبول التكاليف؛ وذلك لأنهم أصبحوا يتحرَّجون من كل فعل كانوا يأتونه في الجاهلية، فدفعهم إيمانُهم وحبهم لله وتعظيمهم له أنهم صاروا يسألون ويبادرون بالسؤال: ماذا يريد الله منا؟ ما حكم الله في كذا؟ ماذا نفعل في كذا؟ أنفعل كذا؟ أندع كذا؟ وهي ظاهرة ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾، خصوصًا في سورة البقرة، وهي من أوائل السور التي نزلت بالمدينة بعد الهجرة.

            يقول صاحب الظلال:
            "(يسألونك عن الأهلة، يسألونك ماذا ينفقون، يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه، يسألونك عن الخمر والميسر، يسألونك عن المحيض)، وهذه الأسئلة ذات دلالات شتى، فهي أولاً دليل على تفتُّح وحيوية ونمو في صور الحياة وعَلاقاتها، وبروز أوضاع جديدة في المجتمع الذي جعل يأخذ شخصيته الخاصة، ويتعلق به الأفراد تعلقًا وثيقًا، فلم يعودوا أولئك الأفرادَ المبعثرين، ولا تلك القبائل المتناثرة؛ إنما عادوا أمةً لها كيان، ولها نظام، ولها وضع يشد الجميع إليه، ويهتم كل فرد فيه أن يعرف خطوطه وارتباطاته، وهي حالة جديدة أنشأها الإسلام بتصوُّره ونظامه وقيادته على السواء، حالة نمو فكري واجتماعي وشعوري وإنساني بوجه عام.

            وهي ثانيًا: دليل على يقظة الحس الديني، وتغلغل العقيدة الجديدة وسيطرتها على النفوس؛ مما جعل كلَّ أحدٍ يتحرَّج أن يأتي أمرًا في حياته اليومية قبل أن يستوثق من رأي العقيدة الجديدة فيه، فلم تعدَّ لهم مقررات سابقة في الحياة يرجعون إليها، وقد انخلعت قلوبهم من كل مألوفاتهم في الجاهلية، وفقدوا ثقتهم بها، ووقفوا ينتظرون التعليمات الجديدة في كل أمر من أمور الحياة، وهذه الحالة الشعورية هي الحالة التي يُنشِئها الإيمان الحق"[2].


            قلت: وهل هناك من أثر أعظم من هذا الأثر الذي تدل عليه ظاهرة: (ويسألونك)؟ وقد تمثل في ما يلي:
            1- إيجاد المرجعية الإسلامية بدل المرجعية الجاهلية.
            2- الاستجابة الفورية والرغبة القوية في تنفيذ أوامر الله.
            3- التحول الفكري والاجتماعي والعقدي.
            4- انتشار الإسلام، ودخول الناس في دين الله أفواجًا؛ وذلك لسهولة تعاليمه وتطابقه مع الفطرة، ووضوح مبادئه وشموله، وتكريمه للإنسان، وحفظ حقوقه وكيانه وعِرْضه.

            ولقد كان للتدرُّج في التشريع أثرٌ بالغ في استقرار الأحكام وقَبولها، بل وسيادتها، فصار الحكم لله وحده، والمرجع في أي أمر أو قضية أو خلاف إنما هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان التدرج من الحكمة.



            [1] صحيح مسلم بشرح النووي، باب أركان الإسلام، جزء 1، ص 150.
            [2] في ظلال القرآن؛ الشيخ/ سيد قطب، ص 179، جزء 2، طبعة 11/1982م/ 1402هـ دار الشروق.









            "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
            وتولني فيمن توليت"

            "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

            تعليق


            • #7
              وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
              جزاكم الله خيرًا ونفع بكم

              تعليق


              • #8
                جزاكم الله خيرًا

                تعليق


                • #9
                  جزاكم الله خيرًا ونفع بكم
                  [CENTER][B][URL="https://forums.way2allah.com/forum/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85/%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8/4455003-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%B4%D8%A8%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%8A"][COLOR=#FF0000][SIZE=36px][FONT=times new roman]مشروع تحفيظ القرآن الكريم للشباب بشبكة الطريق إلى الله[/FONT][/SIZE][/COLOR][/URL][/B][/CENTER]
                  [CENTER][B][URL="https://forums.way2allah.com/forum/%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85/%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8/4455003-%D9%85%D8%B4%D8%B1%D9%88%D8%B9-%D8%AA%D8%AD%D9%81%D9%8A%D8%B8-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D9%8A%D9%85-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A8%D8%A7%D8%A8-%D8%A8%D8%B4%D8%A8%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2%D9%86-%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%AA%D9%8A"][COLOR=#0000CD][SIZE=36px][FONT=times new roman](القرآن حياتي)[/FONT][/SIZE][/COLOR][/URL][/B][/CENTER]

                  تعليق


                  • #10
                    المشاركة الأصلية بواسطة عطر الفجر مشاهدة المشاركة
                    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
                    جزاكم الله خيرًا ونفع بكم
                    المشاركة الأصلية بواسطة دكتور أشرف مشاهدة المشاركة
                    جزاكم الله خيرًا
                    المشاركة الأصلية بواسطة أبومصعب محمود ابراهيم مشاهدة المشاركة
                    جزاكم الله خيرًا ونفع بكم
                    اللهم آمين وإياكم

                    "اللهم إني أمتك بنت أمتك بنت عبدك فلا تنساني
                    وتولني فيمن توليت"

                    "وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ"الشورى:36

                    تعليق

                    يعمل...
                    X