الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فكان لحوار النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة أهداف متعددة ومتنوعة.
أسلوب الحوار
كان النبي صلى الله عليه وسلم يخنم حواره مع المرأة بجزالة القول، وفصاحة اللفظ، وقلة التكلف، وإيجاز العبارة مع جمالها، وحسن التعليل وإصابة الغرض، وتحريك العواطف، مما كان له الواقع الحسن في نفس المرأة.
ومن أمثلة ذلك ختم النبي صلى الله عليه وسلم للحوار الذي دار بينه وبين المرأة التي تقدم لخطبتها بقوله: "يَرحمُكِ اللهُ إنَّ خيرَ نساءٍ رَكَبْنَ أَعجازَ الإبلِ صالحُ نساءِ قُريشٍ أَحْناهُ على ولدٍ في صغرٍ وأرعاهُ على بَعْلٍ بذات يدٍ" رواه أحمد في مسنده. فعن عبد الله بن عباس، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطب امرأةً من قومِه يُقالُ لها سَودةُ وكانت مُصْبِيةً كان لها خمسةُ صِبْيةٍ أو سِتَّةٌ من بَعْلٍ لها مات فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : ما يَمنعُكِ مِنِّي قالت : واللهِ يا نَبيَّ اللهِ ما يَمنَعُني منكَ أنْ لا تكونَ أَحَبَّ البَرِيَّةِ إليَّ ولكنِّي أُكْرِمُك أن يَضغوَ هؤلاءِ الصِّبْيةُ عندَ رأسِك بُكرةً وعَشِيَّةً قال : فهل منعكِ منِّي شيٌء غيرَ ذلك قالت : لا واللهِ قال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : يَرحمُكِ اللهُ إنَّ خيرَ نساءٍ رَكَبْنَ أَعجازَ الإبلِ صالحُ نساءِ قُريشٍ أَحْناهُ على ولدٍ في صغرٍ وأرعاهُ على بَعْلٍ بذات يدٍ" فختم الحوار بأوجز عبارة وأجملها.
لقد حاور النبي صلى الله عليه وسلم تلك المرأة في شأنها الخاص وشأن أبنائها من أجل أن يتزوج منها ليتحمل معها تربية أبنائها ويقوم على شؤونهم وأمرها، فمثل هذه في الغالب لا يرغب فيها الرجال بسبب كثرة أبنائها لكنها تأبى وتبين انه أحب البرية إليها ولكنها كرهت أن تؤذي رسول الله بإزعاج الصبية، فيختم النبي صلى الله عليه وسلم حواره معها بثنائه عليها وعلى نساء عشيرتها.
وختم النبي صلى الله عليه وسلم حواره مع المرأة التي جاءت تستشيره في أن تنتقل إلى بيت اهلها لقضاء عدتها، ويحاورها النبي صلى الله عليه وسلم ويختم حواره بأجزل عبارة، وأوجز لفظ، بقوله: "امكُثي في بيتكِ حتَّى يبلغَ الكتابُ أجلَه"، مما كان له أكبر الأثر في سرعة الاستجابة، وعدم الجدال، فعن زينب بنت كعب بن عجرة، أن الفُرَيعَةِ بنتِ مالِكِ بنِ سِنانٍ وهي أختُ أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ أنَّها جاءَتْ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تسأَلُه أنْ تَرجِعَ إلى أهلِها في بني خُدرَةَ ، وأنَّ زَوجَها خرَج في طلَبِ أعبُدٍ له أَبَقوا حتى إذا كان بطَرفِ القَدُّومِ لَحِقَهم فقتَلوه قالَتْ: فسأَلْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ أرجِعَ إلى أهلي ، فإنَّ زَوجي لم يَترُكْ لي مَسكَنًا يَملِكُه ولا نَفَقَةً ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نَعَمْ. قالَتْ: فانصرَفتُ حتى إذا كنتُ في الحُجرَةِ –أو في المسجِدِ - ناداني رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم –أو أمَر بي فنودِيتُ له - فقال: كيفَ قلتِ ؟ قالَتْ: فردَّدتُ عليه القصَّةَ التي ذكَرتُ له مِن شأنِ زَوجي ، قال: امكُثي في بيتِكِ حتى يَبلُغَ الكتابُ أجلَه. قالَتْ: فاعتَدَدتُ فيه أربعةَ أشهُرٍ وعَشْرًا رواه الترمذي في سننه.
وختم النبي صلى الله عليه وسلم الحوار مع أم سليم رضي الله عنها بقوله: "يا أمَّ سُليمٍ إنَّ اللهَ قد كفى وأحسَن" لما أشارت عليه بقتل الطلقاء الذين فروا من غزوة حنين وتخلوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة الشدة والكرب، فعن أنس رضي الله عنه، 4 - أنَّ أمَّ سُليمٍ اتخذت يومَ حُنينٍ خنجرًا . فكان معها . فرآها أبو طلحةَ . فقال : يا رسولَ اللهِ ! هذه أمُّ سُلَيمٍ معها خِنجرٌ . فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ( ما هذا الخِنجرُ ؟ ) قالت : اتخذتُه . إن دنا مني أحدٌ من المشركين بقَرْتُ به بطنَه . فجعل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يضحك . قالت : يا رسولَ اللهِ ! اقتُلْ من بعدنا من الطلقاءِ انهزموا بك . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ( يا أُمَّ سُلَيمٍ ! إنَّ اللهَ قد كفى وأحسن ) . صحيح مسلم. وفي حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة رضي الله عنهما زوجة أبي سفيان رضي الله عنه ختمه بقوله: "خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروفِ" رواه البخاري.
والأمثلة كثيرة وكلها تدلل على أن النبي صلى الله عليه وسلم ختم الحوار مع المرأة بجمال العبارة وحسن التعليل وإصابة الغرض، وتحريك العواطف، مما كان له الواقع الحسن في نفسها.
إن أساليبه صلى الله عليه وسلم كانت من أهم أسباب نجاح حواره، يجدر بكل محاور ناجح أن يسلك طريقته لإنجاح حواره، وجني الثمرة المرجوة منه.
إن قبول أفكار المحاور تكون أدعى إلى القبول إذا كان ذا أسلوب مناسب في عرض الفكرة وطرحها، فإذا عرضت بأسلوب بارع وقعت في نفس المحاور موقعها حتى وكأنها معان لأول مرة يسمعها، فتكون معان جديدة، جديرة بالاحترام والتقدير والقبول.
وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم الأسلوب الأمثل في حواره، واستخدم أفضل الأساليب وأحسنها في الإقناع والتأثير، وراعى مقتضى حال المرأة، ورحم الله القاضي عياض حين قال: "وأما فصاحة الليان، وبلاغة القول، فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك بالمحل الأفضل، والموضع الذي لا يجهل، سلاسة طبعن وبراعة منزع، وإيجاز مقطع، ونصاعة لفظ، وجزالة قول، وصحة معان، وقلة تكلف. أوتي جوامع الكلم، وخص ببدائع الحكم، وعلم ألسنة العرب، فكان يخاطب كل أمة منها بلسانها، ويحاورها بلغتها، ويباريها في منزع بلاغتها"
قوة الحجة
قوة الحجة في الحوار أدعى إلى قبول المحاور للحوار، فهي تبلغ في قلب المحاور كل مبلغ، وتأسر قلبه وإحساسه، وقد استخدم النبي صلى الله عليه وسلم قوة الحجة في حواره مع المرأة، ولقد ظهر هذا في أمثلة كثيرة. وأيضا ظهر ذلك عند تحذيره النساء من كفران نعم الله بعد أن رزقهن الله الزوج بعد طول مكث، والولد بعد طول حرمان، وقرة العين بعد طول فقدان. فعن أسماء بنت يزيد الأنصارية، قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر في المسجد يوما، وعصبة من النساء قعود، فأولى بيده إليهن بالسلام، قال: " إياكنَّ و كفرانَ المُنَعَّمِينَ ، إياكن و كفرانَ المُنَعَّمِينَ قالت إحداهنَّ : يا رسول الله، أعوذُ باللهِ يا نبيَّ اللهِ من كفرانِ نِعَمِ اللهِ ، قال : بلى إنَّ إحداكنَّ تطولُ أيمتُهَا، ويطول تعنيسها، ثم يزوجها الله البعل، ويفيدها الولد، وقرة العين، ثم تغضبُ الغضبةَ فتقسم باللهِ ما رأتُ منه ساعةً خيرًا قط ، فذلك من كفرانُ نِعَمِ اللهِ عز وجل، و ذلك من كفرانُ المُنَعَّمِينَ رواه أحمد في مسنده
وحوار النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة التي جاءت لتسأل عن قضاء نذر نذرته أمها على نفسها لكن أتتها المنية قبل الوفاء به، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بقوة الحجة " نعم، حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دينٌ أكنتِ قاضيتِة ؟" ليكون أشد إقناعا، وأتم في الحوار البناء الإيجابي، فعن ابن عباس أنَّ امرأةً جاءت إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقالت : إن أمي نذرت أن تحجَّ، فماتت قبل أن تحج، أفأحجُّ عنها ؟ قال : نعم، حجي عنها، أرأيتِ لو كان على أمكِ دينٌ أكنتِ قاضيتِة ؟ . قال: نعم، فقال: اقضوا اللهَ الذي له، فإن اللهُ أحقُّ بالوفاءِ . رواه البخاري
وتأتي قوة الحجة في حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع تلك المرأة التي جاءت لتحاوره في نزع زوجها لولدها منها بالقوة، وكانتن قوة حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي يقرها كل عاقل بأنها الأحق به بشرط عدم زواجها من الآخر، فعن عبد الله بن عمرو، أنَّ امرأةً قالت يا رسولَ اللهِ إنَّ ابني هذا كان بطني له وِعاءً وثديي له سقاءً وحِجري له حِواءً وإنَّ أباه طلَّقَني وأراد أن ينتزعَه منِّي فقال لها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنتِ أحقُّ به ما لم تَنكِحي رواه أبو داود في سننه
وأم حبيبة تحاورالنبي صلى الله عليه وسلم في الزواج من أختها، ويرد عليها النبي صلى الله عليه وسلم بقوة حجة أنها لا تحل له، فتخبره بأنه بلغها أنه سيخطب بنت أم سلمة فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم بالدليل القاطع والحجة البينة التي لا تقبل الشك أنها لا تحل له، لسببين، أنها: ربيبته، أي أمها تحته، والثانية، أنه أخ أبيها في الرضاعةن فعن أم حبيبة، قالت: قلتُ : يا رسولَ اللهِ ، هل لك في بنت أبي سفيان ؟ قال : فأفعلُ ماذا ؟ قلتُ : تَنْكِحُ . قال : أُتُحِبِينَ . قلتُ : لستُ لك بمُخْلِيَةٍ ، وأحبُّ مَنْ شَرَكَنِي فيك أختي . قال : إنها لا تحِلُّ لي . قلتُ : بلَغَنِي أنك تَخْطِبُ . قال : ابنةُ أمِّ سَلَمَةَ . قلتُ : نعم . قال : لو لم تَكُنْ رِبيبّتِي ما حَلَّتْ لي ، أَرْضَعَتْنِي وأَباهَا ثُوَيْبَةُ ، فلا تَعْرِضْنَ عليَّ بناتِكُنَّ ولا أَخَوَاتِكُن َّ. رواه البخاري.
وفي حواره صلى الله عليه وسلم مع من أتت لتسأل عن النفقة على زوجها ألها أجر فبين النبي صلى الله عليه وسلم في حواره معهن بقوة الحجة، أنهن لهن أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة، فكأنه صلى الله عليه وسلم يقول: أليست إذا أنفقت نفقة في سبيل الله تأخذ الأجر المضاعف على تلك الصدقة، ففعلها نفقة، وأليست إذا أحسنت إلى أقرابها اخذت أجر صلة الرحم، ففعلها صلة. فعن هشام بن عروةة، عن أبيه قال: كانت زينب امرأة عبد الله بن مسعود صناع اليدين تصنع الشيء ثم تبيعهن ولم يكن لعبد الله مال ولا لولده فقالت امرأته: ستعلمون أن أتصدق، فقال عبد اللهك مأحب إن لم يكن لك أجر فيما تنفقين أن تفعلي، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصت عليه القصة، فقال: "أنفقي عليهم فلك أجر فيما أنفقت عليهم" رواه أحمد في مسنده. وعن زينب، امرأة عبد الله قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تصدقن، يا معشر النساء، ولو من حليكن" قالت: فرجعت إلى عبد الله فقلت: إنك رجل خفيف ذات اليدن وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمرنا بالصدقة، فأته فاسأله، فإن كان ذلك يجزي عني وإلا صرفتها إلى غيركم، قالت: فقال لي عبد الله: بل ائتيه أنت، قال: فانطلقت، فذا امرأة من الأنصار بباب رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجتي حاجتها، قالت: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ألقيت عليه المهابة، فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: اتجزئ الصدقة عنهما، على أزواجهما، وعلى أيتام في حجورهما؟ ولا تخبره من نحن، قالت: فدخل بلال على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من هما؟" فقال: امرأة من الأنصار وزينب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أي الزيانب؟" قالك امرأة عبد الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لهما أجران: أجر القرابة، وأجر الصدقة" رواه البخاري. وقوله لأم سلمة لما حاورته في النفقة على أقاربها: فلك أجر ما أنفقت عليهم، فعن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله، ألي أجر أن أنفق عل بني أبي سسلمة، إنما هم بني؟؟ فقال: "أنفقي عليهم، فلك أجر ما أنفقت عليهم" رواه البخاري.
فقوة الحجة من الأساليب التي تجذب انتباه المحاورن وتبعد الغفلة وشرود الذهن وتهيأ المتعلمن وتكون أدعى للاستجابة.
تعليق