السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب فضيلة د/ عبدالعزيز آل عبداللطيف مقالاً نافعا بعنوان
( عجـز الثقـة )*،
والمقال بالفوائد مثقال ، حري بالوقوف عنده وتأمله ، والأخذ بما فيه ، فإليكموه:
من عيون القصص التي أوردها القاضي عياض في كتابه «ترتيب المدارك»:
(أن رجلاً من أصحاب الإمام محمد بن سحنون (ت 256هـ) دخل بمصر حمّاماً، عليه رجل يهودي، فتناظر مع الرجل، فغلبه اليهوديُّ؛ لقلة معرفة الرجل، فلما حجَّ محمد بن سحنون صَحِبه الرجلُ؛ فلما دخل ابن سحنون مصر، قال له: امضِ بنا أصلحك الله إلى الحمام الذي عليه اليهودي؛ فلما دنا خروج محمد بن سحنون، سبقه الرجلُ، وأنشب المناظرة مع اليهودي، حتى حانت صلاة الظهر، فصلى محمد، ثم رجع معه إلى المناظرة، حتى كانت العصر، فصلاها، ثم كذلك المغرب، ثم إلى العشاء، ثم إلى الفجر، وقد اجتمع الناس، وشاع الخبر بمصر: الفقيه المغربي (ابن سحنون) يناظر اليهودي، فلما كانت صلاة الفجر، انقطع اليهودي، وتبيّن له الحق وأسلم، فكبّر الناس وعلت أصواتهم، فخرج محمد وهو يمسح العرق عـن وجـهـه وقال لصاحـبـه: لا جزاك الله خيراً، كاد أن يجري على يديك فتنة عظيمة، تناظر يهودياً، وأنت بضعف، فإن ظهر عليك اليهودي لضعفك، افتتن من قدّر الله فتنته)(1).
فما كان لهذا اليهودي أن يغلب ذاك الرجلَ إلا لقلة علم الرجل وضعف حجته ومناظرته.
والثقة بالله والطمأنينة إلى المنهج الصحيح لا بد أن يقترن بهما بذل الجهد والرسوخ في دين الله ومدافعة ما ينـافـيـه، وإلا فـإن أهـل البـاطـل لـهـم «علوم كثيرة وكتب وحجج، كما قال الله ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]..
«فالطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، والواجب أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحاً لك.. فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح»(2).
إن ضعف الحجة وغلبة الجهل يعقبه تسلط الخصوم، وظهور الباطل، وهوان أهل الحق.
وقد قرر ابن تيمية ـ في غير موطن ـ أن من أسباب ظهور البدع تقصير المنتسبين لأهل السنة في مواجهة تلك البدع.
ومن ذلك أن الحنابلة بمصر أصابهم سنة 705هـ إهانة عظيمة وكثيرة؛ وذلك بسبب أن قاضيهم قليل العلم مُزجى البضاعة، فلذلك نال الحنابلة ما نالهم(3).
وخصوم أهل السنة ـ في هذا الزمان ـ كثيرون جداً، وفيهم الكافر والمنافق، وفيهم أهل البدع والأهواء، ولديهم من الإمكانات والقدرات ما يفوق العدّ والحصر، وقد أجلبوا بباطلهم، وزيّنوه للدهماء، ونشروه في الآفاق، ونفّروا من الإسلام والسنة والفضيلة، ومع ذلك فإن لأهل الإسلام والسنة من رصيد الفطر السليمة والعقول الصريحة ما يعزز منهجهم وينشر معتقدهم.
وقد حكى ابن تيمية واقعة عجيبة في هذا الشأن فقال:
«حـدّثني بعـض أصـحابنا أن بعـض الفضـلاء الذين فيهم نوع من التَّجَهُّّم(4)، عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة، لما ظهر قول الإثبات في بلدهـم، بـعد أن كـان خفـياً، واستجاب له الـناس بعد أن كان المتكلم به عـندهم قـد جاء شيئاً فريّاً، فقال: (هذا إذا سمعه الناس قبـلوه وتلـقوه بالقـبول، وظهــر لـهـم أنه الحق الذي جاء به الرسول، ونحن إذا أخذنا الشخص فربّيناه وغذّيناه ثلاثين سنة، ثم أردنا أن نُنزِل قولنا في حَلْقِه، لم ينزل في حلقه إلا بكلفة).
وهو كما قال؛ فإن الله ـ تعالى ـ نَصَب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور، وبين الباطل والظلام، وجعـل فِطَـرَ عبـاده مسـتعدة لإدراك الحقـائـق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يكن النظر والاستدلال..»(5).
إن جملة أمور تستدعي الثقة التامة بالمنهج السلفي؛ فهو سبيل الفرقة الناجية، والذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وهو القائم على نصوص الوحيين، ففي القرآن ما يردّ على جميع الأهواء، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: «لو تدبّر إنسان القرآن كان فيه ما يردّ على كل مبتدع وبدعته»(6).
والسنَّة الصحيحة تبيّن القرآن وتدلّ عليه، كما أن المنهج السنيّ منهج مطّرد في مسائله ودلائله، فلا يلحقه التغيير، ولا يعتريه التذبذب والتبديل، وهو المنهج الوحيد الذي يزداد ظهوراً ونفوذاً عند وجود المعارضين، وإذا وُجد المرتدون، قامت جحافل العابدين المحبين لله ـ تعالى ـ والمجاهدين بالسنان والبيان، كما قال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وإذا استدل خصم لباطله بدليل نقلي صحيح أو دليل عقلي صريح؛ ففي هذا الدليل ما ينقض مذهبه وينقض استدلاله، فإن الدليل الحق لا يدل إلا على الحق.
ومع قناعتنا بما سبق، إلا أن المتعيّن علينا بذل الأسباب واستفراغ الوسع من أجل التفقه في هذا المنهج الرباني، ومقارعة الشبهات، ومعالجة النوازل والتحديات؛ فلقد اتسع الخرق على الراقع، وانفتح طوفان من الشبهات والإشكالات، ولا تزال الجهود القائمة من أهل السنة دون ضخامة هذه القضايا الشائكة.
وهذا يوجب السعي إلى إنشاء مؤسسات علمية تربوية مستقلة لتأهيل علماء الشريعة، وتحقيق ذلك عبر برنامج علمي شرعي عميق، وخلال سنوات طويلة، ومن خلال مهارات عملية وبرامج تطبيقية من أجل تنمية مَلَكة الفقه والاستنباط، وسبل المناظرة والحوار، وقدرات وآليات في إعداد البحث العلمي وصياغته.
فلقد استحوذ الجهل في هذا العصر، وصارت البلاد موحشة وقفرة من غياب العلماء الربانيين، وانهمك طوائف من الإسلاميين بالبرامج الإغاثية والمؤسسات الإدارية التدريبية ونحوها، فلنتدارك هذا الحال قبل أن يغلب الجهال فيكونوا هم العلماء، فيَضلون ويُضلون، ويُفسدون ولا يُصلحون.
ـــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
كتب فضيلة د/ عبدالعزيز آل عبداللطيف مقالاً نافعا بعنوان
( عجـز الثقـة )*،
والمقال بالفوائد مثقال ، حري بالوقوف عنده وتأمله ، والأخذ بما فيه ، فإليكموه:
من عيون القصص التي أوردها القاضي عياض في كتابه «ترتيب المدارك»:
(أن رجلاً من أصحاب الإمام محمد بن سحنون (ت 256هـ) دخل بمصر حمّاماً، عليه رجل يهودي، فتناظر مع الرجل، فغلبه اليهوديُّ؛ لقلة معرفة الرجل، فلما حجَّ محمد بن سحنون صَحِبه الرجلُ؛ فلما دخل ابن سحنون مصر، قال له: امضِ بنا أصلحك الله إلى الحمام الذي عليه اليهودي؛ فلما دنا خروج محمد بن سحنون، سبقه الرجلُ، وأنشب المناظرة مع اليهودي، حتى حانت صلاة الظهر، فصلى محمد، ثم رجع معه إلى المناظرة، حتى كانت العصر، فصلاها، ثم كذلك المغرب، ثم إلى العشاء، ثم إلى الفجر، وقد اجتمع الناس، وشاع الخبر بمصر: الفقيه المغربي (ابن سحنون) يناظر اليهودي، فلما كانت صلاة الفجر، انقطع اليهودي، وتبيّن له الحق وأسلم، فكبّر الناس وعلت أصواتهم، فخرج محمد وهو يمسح العرق عـن وجـهـه وقال لصاحـبـه: لا جزاك الله خيراً، كاد أن يجري على يديك فتنة عظيمة، تناظر يهودياً، وأنت بضعف، فإن ظهر عليك اليهودي لضعفك، افتتن من قدّر الله فتنته)(1).
فما كان لهذا اليهودي أن يغلب ذاك الرجلَ إلا لقلة علم الرجل وضعف حجته ومناظرته.
والثقة بالله والطمأنينة إلى المنهج الصحيح لا بد أن يقترن بهما بذل الجهد والرسوخ في دين الله ومدافعة ما ينـافـيـه، وإلا فـإن أهـل البـاطـل لـهـم «علوم كثيرة وكتب وحجج، كما قال الله ـ تعالى ـ: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُم مِّنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83]..
«فالطريق إلى الله لا بد له من أعداء قاعدين عليه، أهل فصاحة وعلم وحجج، والواجب أن تتعلم من دين الله ما يصير سلاحاً لك.. فجند الله هم الغالبون بالحجة واللسان، كما أنهم الغالبون بالسيف والسنان، وإنما الخوف على الموحد الذي يسلك الطريق وليس معه سلاح»(2).
إن ضعف الحجة وغلبة الجهل يعقبه تسلط الخصوم، وظهور الباطل، وهوان أهل الحق.
وقد قرر ابن تيمية ـ في غير موطن ـ أن من أسباب ظهور البدع تقصير المنتسبين لأهل السنة في مواجهة تلك البدع.
ومن ذلك أن الحنابلة بمصر أصابهم سنة 705هـ إهانة عظيمة وكثيرة؛ وذلك بسبب أن قاضيهم قليل العلم مُزجى البضاعة، فلذلك نال الحنابلة ما نالهم(3).
وخصوم أهل السنة ـ في هذا الزمان ـ كثيرون جداً، وفيهم الكافر والمنافق، وفيهم أهل البدع والأهواء، ولديهم من الإمكانات والقدرات ما يفوق العدّ والحصر، وقد أجلبوا بباطلهم، وزيّنوه للدهماء، ونشروه في الآفاق، ونفّروا من الإسلام والسنة والفضيلة، ومع ذلك فإن لأهل الإسلام والسنة من رصيد الفطر السليمة والعقول الصريحة ما يعزز منهجهم وينشر معتقدهم.
وقد حكى ابن تيمية واقعة عجيبة في هذا الشأن فقال:
«حـدّثني بعـض أصـحابنا أن بعـض الفضـلاء الذين فيهم نوع من التَّجَهُّّم(4)، عاتبه بعض أصحابه على إمساكه عن الانتصار لأقوال النفاة، لما ظهر قول الإثبات في بلدهـم، بـعد أن كـان خفـياً، واستجاب له الـناس بعد أن كان المتكلم به عـندهم قـد جاء شيئاً فريّاً، فقال: (هذا إذا سمعه الناس قبـلوه وتلـقوه بالقـبول، وظهــر لـهـم أنه الحق الذي جاء به الرسول، ونحن إذا أخذنا الشخص فربّيناه وغذّيناه ثلاثين سنة، ثم أردنا أن نُنزِل قولنا في حَلْقِه، لم ينزل في حلقه إلا بكلفة).
وهو كما قال؛ فإن الله ـ تعالى ـ نَصَب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة بين الحق والنور، وبين الباطل والظلام، وجعـل فِطَـرَ عبـاده مسـتعدة لإدراك الحقـائـق ومعرفتها، ولولا ما في القلوب من الاستعداد لمعرفة الحقائق، لم يكن النظر والاستدلال..»(5).
إن جملة أمور تستدعي الثقة التامة بالمنهج السلفي؛ فهو سبيل الفرقة الناجية، والذي كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابة الكرام ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ وهو القائم على نصوص الوحيين، ففي القرآن ما يردّ على جميع الأهواء، كما قال الإمام أحمد بن حنبل: «لو تدبّر إنسان القرآن كان فيه ما يردّ على كل مبتدع وبدعته»(6).
والسنَّة الصحيحة تبيّن القرآن وتدلّ عليه، كما أن المنهج السنيّ منهج مطّرد في مسائله ودلائله، فلا يلحقه التغيير، ولا يعتريه التذبذب والتبديل، وهو المنهج الوحيد الذي يزداد ظهوراً ونفوذاً عند وجود المعارضين، وإذا وُجد المرتدون، قامت جحافل العابدين المحبين لله ـ تعالى ـ والمجاهدين بالسنان والبيان، كما قال ـ سبحانه ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْـمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
وإذا استدل خصم لباطله بدليل نقلي صحيح أو دليل عقلي صريح؛ ففي هذا الدليل ما ينقض مذهبه وينقض استدلاله، فإن الدليل الحق لا يدل إلا على الحق.
ومع قناعتنا بما سبق، إلا أن المتعيّن علينا بذل الأسباب واستفراغ الوسع من أجل التفقه في هذا المنهج الرباني، ومقارعة الشبهات، ومعالجة النوازل والتحديات؛ فلقد اتسع الخرق على الراقع، وانفتح طوفان من الشبهات والإشكالات، ولا تزال الجهود القائمة من أهل السنة دون ضخامة هذه القضايا الشائكة.
وهذا يوجب السعي إلى إنشاء مؤسسات علمية تربوية مستقلة لتأهيل علماء الشريعة، وتحقيق ذلك عبر برنامج علمي شرعي عميق، وخلال سنوات طويلة، ومن خلال مهارات عملية وبرامج تطبيقية من أجل تنمية مَلَكة الفقه والاستنباط، وسبل المناظرة والحوار، وقدرات وآليات في إعداد البحث العلمي وصياغته.
فلقد استحوذ الجهل في هذا العصر، وصارت البلاد موحشة وقفرة من غياب العلماء الربانيين، وانهمك طوائف من الإسلاميين بالبرامج الإغاثية والمؤسسات الإدارية التدريبية ونحوها، فلنتدارك هذا الحال قبل أن يغلب الجهال فيكونوا هم العلماء، فيَضلون ويُضلون، ويُفسدون ولا يُصلحون.
ـــــــــــــــــ
(*) مجلة البيان.
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك (1/429 ـ 430).
(2) كشف الشبهات، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 38 ـ 39.
(3) انظر: البداية، لابن كثير، 14/40.
(4) يعني بالتجهم: نفي صفات الله تعالى.
(5) الدرء: 5/61 ـ 62.
(6) أخرجه الخلاَّل في السنَّة: 1/547.
(1) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك (1/429 ـ 430).
(2) كشف الشبهات، للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 38 ـ 39.
(3) انظر: البداية، لابن كثير، 14/40.
(4) يعني بالتجهم: نفي صفات الله تعالى.
(5) الدرء: 5/61 ـ 62.
(6) أخرجه الخلاَّل في السنَّة: 1/547.
تعليق