الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه وسلم،
أما بعد..
فـهـــذا نـــــداء تَــذْكِـيــــر
..
أُوَجِّهَهُ إلى نفسي أولا، ثم إلى كل من يقرأ معي هذه الكلمات
فالتذكير واجب على كل مسلم ومسلمة، والتذكير واجب يُؤدِّيه المؤمنين فيما بينهم، كما قال تعالى:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} التوبة: 71
لأنَّ التذكير والموعظة ينتفع بهما أهل القلوب المؤمنة، والتذكير يرسُخُ في الأذهان، ويُحدِثُ نشاطًا وهِمَّة تُوجِبُ للمؤمنين الانتفاع والارتفاع.
ومن باب هذا الواجب أبدأ معكم بهذا النداء..
أيها المُقصِّر في حق الله العلي الكبير! هل تحزن على شعورك بهذا التقصير؟!!
أيها العبد المُقصِّر الفقير! كما تتواصل عبر الأثير؛ فكم تتواصل مع ربك السِتِّير؟!!
أيها المُقصِّر الأسير!
إلى متى ستظل أسيرًا لمُا يلهيك ويبعدك عن قربك للمولى النَّصير؟!!
لا شك أننا كلنا مقصرون، ومهما ازددنا من العبادات والطاعات سنظل مقصرين!!
ولـكـِــنْ، وعلى سبيل المثال؛ كم منَّا يظل أوقاتًا طويلة ولساعات عديدة عبر الأثير،
يتواصل مع هذا وذاك في مواقع التواصل الإجتماعيّ،
ويؤجل تواصله وتقربه إلى الله الغفور الودود العليّ!!
ففي عصر السموات المفتوحة؛ ونحن نتواصل في ثوان معدودة، تتقارب لنا الأقطار البعيدة؛
بالله عليكم.. بعَدَدِ هذا التواصل الذي لا يتوقف ولا ينقطع، كم رفعنا أيدينا لخالقنا ندعوه،
وقَدْ أخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
" يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ:
مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ " [1]
وكم بالله عليكم قرأنا قوله تعالى:
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة: 186
وقوله تعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} غافر: 60
ولم نحافظ على هذه الصلة العظيمة، إلَّا من رحم ربي.
لماذا نحرم أنفسنا من صلةٍ بالله العزيز الرَّحيم، ومن تواصلٍ أعلى في الغاياتِ نأمله يستديم..
لمــــاذا هذا التقصير في حق الله العليِّ الكبير؟!!
أيها العبد المُقصِّر الفقير! كما تتواصل عبر الأثير؛ فكم تتواصل مع ربك السِتِّير؟!!
بالله عليك..
بعَدَدِ هذا التواصل الذي لا يتوقف ولا ينقطع، وقد يمتد بك إلى منتصف الليل وما بعده، أو إلى قُرب صلاة الفجر!!
هل تحرص على إحياء لياليك بالتواصل مع رب العالمين؟!!
لماذا تحرم نفسك من شرف عظيم، لا يناله إلا من يحافظ على قيام الليل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" شَرَفُ الْمُؤْمِنِ صَلاتُهُ بِاللَّيْلِ ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ " [2]
لماذا يُقصِّر أغلبنا في أداء الصلاة، ولا أتكلم عن الصلاة المكتوبة، إنما عن صلاة النافلة،
فكم منَّا يحرص على التزود في اليوم والليلة بصلاة النوافل والمحافظة عليها؛ كالسنن الرواتب التابعة للصلوات الخمس المفروضات،
وصلاة الضحى، وصلاة التهجد ليلًا والناس نيام...
كم منا يعمل بقول الله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة - الآية 153
أين نحن من المستعينين بالصبر والصلاة؟
أين نحن من الفائزين بمعية الله؟
أين نحن من الصـــابــريــــن:
الصابرين على طاعة الله حتى يؤدونها، وعن معصية الله حتى يتركونها، وعلى أقدار الله المؤلمة فلا يتسخطونها.
فلماذا كل هذا التقصير في حق الله العليِّ الكبير؟!!
وهل جميعنا يحزن على الشعور بهذا التقصير؟!!
فمن معانى كلمة التقْصِير: الـتَّـهـَــاوُن
ومن مرادفات كلمة التقْصِير: التَفْرِيط , التَكَاسُل , الفُتُور , التَضْيِيع
اقرأوا معي قول الله عزَّ جلَّ:
{أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} الزمر: 56
ولنتدبر معًا في المعنى، كما ذكره الإمام الطبري في تفسيره:
{عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ}
قَالَ الْحَسَنُ : فِي طَاعَةِ اللَّهِ .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ : أَيْ : فِي ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ . قَالَ : يَعْنِي الْقُرْآنَ وَالْعَمَلَ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : فِي جَنْبِ اللَّهِ أَيْ : فِي ثَوَابِ اللَّهِ .
وَقَالَ الْفَرَّاءُ : الْجَنْبُ الْقُرْبُ وَالْجِوَارُ ، يُقَالُ : فُلَانُ يَعِيشُ فِي جَنْبِ فُلَانٍ أَيْ : فِي جِوَارِهِ أَيْ : مَا فَرَّطْتُ فِي طَلَبِ جِوَارِهِ وَقُرْبِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ : أَيْ : عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ طَرِيقُ اللَّهِ الَّذِي دَعَانِي إِلَيْهِ .
وَقِيلَ : فِي جَنْبِ اللَّهِ أَيْ : فِي الْجَانِبِ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى رِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَثَوَابِهِ ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ ، أَيْ : ضَيَّعْتُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. أ.هـ
الكرام الأفاضل أعزَّكم الله جميعًا بالإسلام
وقبل حسرتنا يوم الحساب عياذًا بالله، فلا بد من شعورنا المستديم بالتقصير في حق الله،
هذا الشعور الذي نتوسم فيه الخير لنا بإذن الله؛ إذا داومنا على الأعمال الصالحة.
مع يقيننا التام بأنه مهما فعلنا من الأعمال، فلن نوفِّي الله عزَّ وجلَّ حقَّه، وسنظلُّ مقصرين.
وندائي السابق هو عرض لجزء يسير من كثير التقصير في حق الله العلي الكبير؛ فحياتنا كلها يغلب عليها التقصير؛
ألَّا من رحم ربي.
فلنسعى دائما ونجتهد بكل ما لدينا من طاقة وعزم وعزيمة على تحقيق قوله تعالى فينا:
{أُولَٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} المؤمنون: 61
أى: أولئك الموصوفون بتلك الصفات -المؤمنون المذكور صفاتهم بالآيات (57- 60)-،
يبادرون برغبة وسرعة إلى فعل الخيرات، وإلى الوصول إلى ما يُرضِى الله تعالى،
وَهُمْ لَها أى: لهذه الخيرات وما يترتب عليها من فوز وفلاح سابِقُونَ لغيرهم.
والمسارعة في الخيرات والتسابق إليها يسير على من يسَّر الله له ذلك؛ بشرط الإخلاص في العمل،
وترك الدنيا وراء ظهورنا، وجعل الآخرة هي كل همِّنا.
فالله المستعان وحده
نسأله سبحانه أن يرزقنا وإياكم شعورًا متواصلًا بالتقصير في حقِّه؛ ليدفعنا ذلك دائما إلى التقرب إليه دومًا بخصال الخير،
ونعوذ به سبحانه أن يتحول هذا الشعور إلى واقع أليم من التفريط، أو التكاسل، أو الفتور، أو التضييع،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أسألكم الدعاء.. بارك الله فيكم جميعا وحفظكم،
ودمـتـــم
___________________
المراجع:
تفسير الإمام السعدي رحمه الله.
تفسير الوسيط، للشيخ طنطاوي رحمه الله.
الهوامش:
[1] رواه الإمام البخاري (1145)
[2] حسنه الإمام الألباني في: السلسلة الصحيحة (1903)
تعليق