كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن عليها الثناء فذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة فقلت : هل كانت إلا عجوزا قد أخلف الله لك خيرا منها ؟ قالت :
فغضب حتى اهتز مقدم شعره من الغضب ، ثم قال : لا والله ما أخلف الله لي خيرا منها ،
لقد آمنت إذ كفر الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ،
ورزقني الله عز وجل أولادها إذ حرمني أولاد النساء . قالت : فقلت بيني وبين نفسي:
لا أذكرها بسوء أبدا . رواه أحمد ومسلم .
والشاهد من حديثنا مكانة خديجة رضي الله عنها عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ودورها الذي كان له أبلغ الأثر في تقوية جأش النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد -
الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء ،
فجاءه الملك فقال : اقرأ . قال : ما أنا بقارئ .
قال : فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ، ثم أرسلني فقال :
اقرأ . قلت : ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ،
ثم أرسلني فقال : اقرأ . فقلت :
ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة ثم أرسلني فقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿١﴾خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿٢﴾ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ } . فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد رضي الله تعالى عنها فقال :
زملوني زملوني . فزملوه حتى ذهب عنه الروع . فقال لخديجة وأخبرها الخبر :
لقد خشيت على نفسي . فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ،
إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكل ، وتكسب المعدوم ،
وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق . فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ،
وكان امرأ تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبراني ، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ،
وكان شيخا كبيرا قد عمي ، فقالت له خديجة : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك .
فقال له ورقة : يا ابن أخي ماذا ترى . فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رأى .
فقال له ورقة : هذا الناموس الذي نزل الله على موسى ، يا ليتني فيها جذعا ،
ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ مُخْرِجِيَّ هم ؟!
قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي ،
وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي . رواه البخاري .
إن المرأة عنصر مكمل للرجل في كثير من مناحي الحياة ، لا جرم جعل الله السكنية الكاملة في التقائهما ومعاشرة أحدهما للآخر
ومظهر البطولة في حياة خديجة أنها كانت أول من آمن به وأسلم من النساء ، والحق أنها أول من آمن من البشر بالنبي صلى الله عليه وسلم . يدل عليه حديث عائشة السابق ، وكانت أول من أيد ونصر وثبّت ، ثم كانت أول من بذلت مالها وبيتها وحياتها لدين الله تبارك وتعالى .
وإذا تقررت هذه المعاني ، فإننا نستطيع أن نفهم : كيف يمكن للمرأة أن تكون أداة لخدمة دين الله تبارك وتعالى .
إن الدعوة الإسلامية للأسف لم تستطع حتى الآن أن توجد المعادلة الصائبة لتقوم المرأة بدورها في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى .
ومن خلال تجربتي الدعوة أيقنت أن المرأة في كثير من الأحوال أقدر على إصلاح الأسرة من الرجل ، ودورها في إصلاح العوج والمعونة عليه في معظم الأحوال – إذا كان في نطاق الأسرة – أعظم من دور الرجل .
وقد علمت أسرا ينقلب حالها من الجاهلية إلى الالتزام بأحكام الدين عندما تبدأ الزوجة في النسك والتوبة ، وكم رأيت من أولاد صغار أينعت في قلوبهم شجرة الإيمان لأن الغرس قد طاب بطيب أصله ، وتلقى السقيا المباركة ممن حوله ، فاستوى على سوقه واشتد عود الخلق الإسلامي الأصيل في أعماقه ، فصار أرضا خصبة للفضائل ، تغرس ما شئت فيها من الخير والحكمة .
إن الخطاب الدعوي يجب أن يهتم بالمرأة من باب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فهاهو صلوات ربي وسلامه عليه يخص النساء بالموعظة ، فعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه بلال ، فظن أنه لم يسمع فوعظهن وأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي القرط والخاتم وبلال يأخذ في طرف ثوبه . ويبوب لذلك الإمام البخاري في كتاب العلم من صحيحه قائلا : باب عظة الإمام النساء وتعليمهن ، وبعد بابين يعقد بابا خاصا لهذه المسألة فيقول : باب : هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم ؟
ويورد حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قالت النساء للنبي صلى الله عليه وسلم : غلبنا عليك الرجال ،
فاجعل لنا يوما من نفسك ، فوعدهن يوما ، لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن ،
فكان فيما قال لهن : ( ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان حجابا من النار) فقالت امرأة :
واثنين ؟ فقال : ( واثنين ) .
ثم عقد بابا آخر في كتاب الصلاة من صحيحه ، فقال : باب موعظة الإمام النساء يوم العيد ثم أورد فيه حديث جابر بن عبد الله قال قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى ، فبدأ بالصلاة ثم خطب فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال ، وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة ، قلت لعطاء : زكاة يوم الفطر ؟
قال : لا ، ولكن صدقة يتصدقن ،
حينئذ تلقي فتخها ويلقين ، قلت : أترى حقا على الإمام ذلك يأتيهن ويذكرهن ؟
قال : إنه لحق عليهم وما لهم لا يفعلونه ؟!
قال ابن حجر رحمه الله : وفي هذا الحديث من الفوائد أيضا استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام ، وتذكيرهن بما يجب عليهن ، ويستحب حثهن على الصدقة ، وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد ، ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة . أهـ
وهذا كالنص في ضرورة الاهتمام بتعليم النساء وتثقيفهن في أمور الدين ، فلزم أن تهتم الدعوة بتوفير الدروس الخاصة التي تعنى بفقه النساء ، من حيض ونفاس ونكاح وتربية أولاد على منهاج الشرع ، بل إن هذا الزمان قد احتاج فيه النساء لمن يعلمهن أحكام الحجاب ، بعد أن ضيعه الكثير وتساهل فيه منهن كثرى .
وأمام الحملة الشرسة التي يقودها الطابور الخامس في المجتمع المسلم ضد الحجاب والعفة ، لزم أن يتصدى الدعاة لها بتحصين المرأة المسلمة من محاولات التشكيك في أحكام الشرع المطهر ، وحرصه على طهارة المرأة وعفتها ، وصيانتها من الابتذال والامتهان .
وكثير من النساء يحتجن أكثر ما يحتجن إلى أحكام النكاح ، وكيفية معاملة الزوج بمقتضى الشرع ، وكيفية تربية الأولاد تربية إسلامية صحيحة ، وكيفية المحافظة على أحكام الشرع طبع المنزل بطابع الإسلام والإيمان .
وليس خافيا أن هناك الكثير من الأسر الملتزمة بدين الله تعالى في الظاهر ، ولكنها تفتقد المعرفة الكافية بأحكام الشرع ، ومع انتشار الصحوة على مستوى كل الشرائح الاجتماعية صرنا نرى ركاما هائلا من المظاهر الإسلامية الطيبة كالحجاب والنقاب واللحية والمصلين ، ولكن هذه المظاهر تفتقد الجوهر الإسلامي النقي ، والتطبيق المتكامل – ولا أقول :
الكامل – لشرع الله تبارك وتعالى .
وقد شاهدت بنفسي بعض المحجبات حجابا شرعيا كاملا يسرن في الطرقات مع بعض الشباب الفاجر بمشية خليعة لا تتناسب مع وقار الحجاب ، فعلمت أن مثل هذه النماذج تنشأ من انتشار الدعوة كما لا كيفا ، حيث يطغى المظهر على حساب الجوهر .
وكل هذه الملاحظات تملي علينا أن نعيد الحسابات في الدور التربوي الذي يجب أن نحمّله للمرأة كأمانة تقوم بها في ملكوتها ، وهو بيتها وبيت زوجها .
وقد أتت إلي امرأة تعمل موجهة في وزارة التربية والتعليم (!) ، تشكو إلي فساد ابنها وإدمانه المخدرات وأنها فعلت المستطاع في سبيل درء الفساد عنه .
ولسوء حظ هذه المرأة أن ابنها قد سبقها يشكو سوء معاملة أبيه وأمه ، وتفريقهما في المعاملة بينه وبين اخوته ، وأن أباه يسبه كثيرا بأقذع السباب ، وأمه ليس لها دور مؤثر في البيت ، مع أنه يحبها ويقدرها ، وشكا إلي أنه عندما كان يحرص على الصلاة في المسجد وجد أسرته في موقف المستنكر عليه لأن أخاه على وشك الحصول على ترقية في مركز حساس ، وأن من شأن صلاته في المسجد أن تؤثر على هذه الترقية .
فأخبرت تلك الأم بجلية الأمر ، وأن الجاني في الحقيقة ليس الابن ، بل الأسرة ،
بل الأم في المقام الأول ، وأن الأولاد هم ضحية جهل الأسرة بأحكام الشرع ، وضحية بلادة الأم في رعاية أبنائها وفق شرع الله تبارك وتعالى .
وأنا أتصور حجم الخسائر التي تقع في مجتمعنا الإسلامي كل يوم بسبب هذا الإهمال ، كما أتصور ما يمكن أن نجنيه من نجاح تربوي هائل ، وفتح دعوي كاسح إذا كان للمرأة مساحة مناسبة من الخطاب الدعوي ، بل الأم بالدرجة الأهم ، ونحن نظن أن دعوة النساء مقصورة على أمرهن بالحجاب وطاعة الزوج ، ولعمري ليس هذا كل الدين في حق المرأة ، فإنها تحمل من أمانة التربية في بيتها ما لا يحمله الرجل ، لا جرم جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مسئولية البيت للمرأة ، أي القيام بأمر الأبناء ورعاية شئونهم وتلقينهم مبادئ الدين والأخلاق .
وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( كلكم راع ومسؤول عن رعيته الإمام راع ومسؤول عن رعيته ، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها ، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته ،
وكلكم راع ومسؤول عن رعيته) . رواه البخاري ومسلم .
وتأمل كيف جعل مسئولية الرجل رعاية أهله ، إذ القوامة في يده ، كما قال تعالى :
{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} . وجعل مسئولية المرأة رعاية البيت ، وبيت المرأة يشمل نشأها الذين أنجبتهم وأمرت بالقيام بأمرهم وتأديبهم ورعايتهم .
والجانب الذي يلاحظ في نساء عصرنا أنهن يملن للدعة والخمول أكثر من نساء الأزمنة الغابرة ، فبينما كنا نسمع ونقرأ عن الأديبات والفقيهات والمقرئات والمحدثات ، وبينما كانت سلسلة الإسناد لأي محدث لا تخلو من ( شيخة ) ، فإننا نرى نساء عصرنا – حتى اللواتي تنسكن – ينتشر بينهم الخوض أعراض الناس ، والغيبة والنميمة ، والشكوى من الأزواج والأولاد ،
وإفشاء أسرار الأسرة إلى الغرباء ، وتضييع الأوقات في الزيارات غير المفيدة ، وإثقال كاهل الزوج بالطلبات الكثيرة المضنية .
ويندر أن تسمع عن امرأة حفظت القرآن ، أو اشتهرت بفقه أو حديث أو غير ذلك من العلوم ، ومن تخصصت في علم من العلوم فإنك ستجدها لا محالة في المرتبة الدنيا من متخصصي ذلك العلم
وبعد.. فإن ما نحنن بصدد التنبيه عليه ليس دورا دعويا عاديا يقوم به أي إنسان، بل هو دور مصيري، ويحتاج إلى شخصيات فذة تدرك عظم المسئولية التي قال عنها الأستاذ سيد قطب: "إن المسألة ليست هي النصر، إنما تربية الجماعة المسلمة،
التي تعد لتتسلم قيادة البشرية.. البشرية بكل ضعفها ونقصها، وبكل شهواتها ونزواتها، وبكل جاهليتها وانحرافها..
وقيادتها قيادة راشدة تقتضي استعدادا عاليا من القادة، وأول ما تقتضيه صلابة في الخلق، وثبات على الحق،
وصبر على المعاناة، ومعرفة بمواطن الضعف ومواطن القوة في النفس البشرية، وخبرة بمواطن الزلل ودواعي الانحراف ووسائل العلاج..
ثم صبر على الرخاء كالصبر على الشدة.. وصبر على الشدة بعد الرخاء وطعمها يومئذ لاذع مرير. وهذه التربية هي التي يأخذ الله بها الجماعة المسلمة حين يأذن بتسليمها مقاليد القيادة ليعدها بهذه التربية للدور العظيم الهائل الشاق الذي ينوطه بها في هذه الأرض، وقد شاء سبحانه ان يجعل هذا الدوور من نصيب الإنسان الذي استخلفه في هذا الملك العريض
المصدر:
30 طريقة لخدمة الدين
في ظلال القرآن
تعليق