الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فما زالت الدعوة الإسلامية تخطو خطوات وئيدة في نشر الدين على مستوى الشعوب، فلو ارتضينا المقارنة بين ترجمات معاني القرآن وترجمات الإنجيل، لوجدنا أن الفاتيكان قد قام بترجمة الإنجيل المعتمد لديه إلى كل اللغات الحية تقريبا، وكان ذلك قبل ان تبدأ حركة ترجمة معاني القرآن لدى المسلمين بصورة منظمة ذات أثر.
أما إذا أتينا لنقارن بين صراع نشر ثقافة الحضارات لوجدنا أن المسلمين لا يعدون أن تكون حضارتهم مثل حضارة الهند والصين اللتان ينتقي منهما الغرب ما شاء ليترجمه دون أن تكون تلكما الحضارتان ذاتي ثقافة غازية.
والواقع أن الحضارة الإسلامية عريقة العلوم والمعارف أصيلة المثل والقيم، بهرت العالم كله بمنومتها المعرفية، وأقامت للبششرية صرحا من المعارف والعلوم ما زال شاخصا شامخا في الضمير الإنساني.
ومثل هذه الحضارة الشماء لا يليق بها أن تتوارى عن أعين الخلق، وتتشرنق مستترة عن احتياجات الإنسانية بزعم اعتزازها باللغة العربية الأصلية، أو بزعم أنها غنية بنفسها، أو بزعم عدم قدرتها على منافسة الزحف الحضاري الغربي.
فلقد اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- ترجمانا هو (زيد بن ثابت) أمره أن يتعلم السريانية، فتعلمها في بضعة عشر يوما، واستطاع القرآن أن يكون كتاب البشرية الأول في خلال عشر سنين عندما استقر في وجدان الشعوب التي فتح بلادها المسلمون الأول.
وكان ترجمة التراث العربي هو السلاح الثاني في الفتوح الإسلامية حتى غدت اللغة العربية هي لغة الثقافة والمعرفة، لأنها صارت اللغة الوسيطة بين كل الشعوب لنوال العلوم الراقية.
وبدأ الضعف يدب في أوصال الثقافة الإسلامية، يوم انتدب بعض ضعاف النفوس أنفسهم لترجمة علوم الحضارات الأخرى إلى اللغة العربية، واشتغلت الحركة الثقافية بهذا الزخم الفارغ، الذي كان نفعه في ميزان الحضارات الأخرى، إذ جعلت المعايير الفلسفية اليونانية هي الحاكمة على الحق المطلق في النظام المعرفي الإسلامي.
وصار القرآن نفسه يحاكم إلى منطق أرسطو وأفلاطون، وشغل المسلمون دهورا بالنزاع بين الإشراقيين والرواقيين، وكان الجاهل بعلوم تلك الحضارات الوافدة معدودا فيمن لا يوثق بعلمه أصلا وإن كان إماما من أئمة الدين.
وكل ذلك حينما انعكس الدور الأصيل الذي كانت تقوم به الفتوحات الإسلامية ألا وهو غزو العقول والقلوب بإيصال معاني هذا الدين المتين.
وقد فطن الاستعمار (وإن شئت فقلك الاستخراب) لدور الترجمة في توطين الثقافة الغازية، فأسس بجوار الترسانات العسكرية الجرارة هيئات علمية راقية المستوى كانت مهمتها مساعدة الزحف العسكري عبر استعراض ثقافة المستعمر بلغة الدولة المغزوة، وعندما ظهر الفرق جليا بين تخلف الدول المغزوة وإمكانيات الدول الاستعمارية في المجال الاقتصادي والعسكري، وفي المجالات المدنية المتنوعة تقبل الناس الهزيمة باقتناع وراحت نفسية الهزيمة تتغلغل في جذور الضمير، حتى مسخت الأفئدة، ووجدنا من أفراد الأمة اإسلامية من ينادي بكتابة اللغة العربية بحروف لاتينية، ومن يطلب الكفران بكل ما هو منتم إلى الإسلام.
تلك الهيئات العلمية هي المحافل الاستشراقية التي كانت تلعب دورا لا يقل خطورة عن الدور التنصيري الذي صاحب الاستعمار في مراحله المختلفة.
والغربي أن جل الباحثين لم يفهموا أو لم يحاولوا أن يتفهمواا أسباب قيام المحافل الاستشراقية بترجمة كثير من المراجع العربية إلى لغاتهم اللاتينية على اختلافها، فبلغت سذاجة البعض إلى الزعم أن المستشرقين قد انبهروا بالثقافة العربية، فكانوا خداما في محرابها وسدنة في معبدها هياما بجمالها وعظمتها.
ونحن لا ننكر وجود المستشرقين المنصفين لكن عددهم أو انتماءاتهم لا تمت بصلة للدور الجمعي الذي كان يقوم به جل المستشرقين، ألا وهو القيام بحركة ترجمة واسعة النطاق من وإلى اللغة العربية، بغرض أن يتخصصوا هم في اللغة العربية فيحتلوا مرجعيتها دون علماء المسلمين أنفسهم.
وفي غضون بضعة عقود أواخر القرن التاسع عشر كانت الأكاديميات الغربية موئلا لكثير ممن الباحثين العرب والمسلمين لدراسة اللغة العربية، والإسلام نفسه، وصارت دكتوراه السوربون أو دكتوراه الدولة من فرنسا، واكسفورد، وهارفورد من إنجلترا تهيئ صاحبها لتبوء أعلى المناصب العلمية في جامعات بلاده.
وصار بعض الأكاديميين يتفاخرون أنهم درسوا آداب اللغة العربية في أروقة جامعات أوروبا، والأنكى أن منهم من يزهو أنه درس الحديث أو التاريخ الإسلامي أو سيرة الخلفاء على يد أساتذة الكراسي في الجامعات المسيحية.
لكن المشاهد لكل ذي لب أن الدراسات العربية والإسلامية في تلك الجامعات لا تتم باللغة العربية، كما ندرس مثلا الأدب الإنجليزي باللغة الإنجليزية، لا لشيء إلا لأن المشرفين أعاجم، والمراجع التي يطالب الباحث العربي والمسلم بالرجوع إليها جلها كتبه المستشرقون بلغاتهم الأعجمية.
تعليق